السلام عليكم ورحمة الله
حياكِ الله وبارك في عملكِ الأخت الفاضلة / صفية
يرجى تنسيق هذا النص وإرساله في مشاركة في هذه الصفحة لمراجعته :
طريقة تنسيق المتون :
الآيات القرآنية بالأخضر
الأحاديث النبوية بالفيروزي
أقوال الصحابة والتابعين باللون الباذنجاني
المــتن (سواء في أول مشاركة أو وسط الشرح في المشاركات الباقية) بالكحـلي
العناوين الرئيسية بالعنابي
العناوين الفرعية والأرقام بالسماوي
- الأرقام ذات الشكل ([ ]) : تلون بالسماوي مع تصغير حجمها إلى 4
القَاعِدَةُ الخَامِسَةُ: في عِلْمِنَا بمَا أَخْبَرَ اللهُ تعالى بِهِ عنْ نَفْسِهِ
مَا أخْبَرَنَا اللهُ بِهِ عنْ نَفْسِهِ فَهُوَ مَعْلُومٌ لنَا مِنْ جِهَةٍ، ومجْهُولٌ مِنْ جِهَةٍ.
معلومٌ لنَا منْ جهةِ المعنى، ومجهولٌ لنَا منْ جهةِ الكيْفيَّةِ.
أما كونُهُ معلوماً لنَا منْ جهةِ المعنى فثابتٌ بدَلالةِ السَّمْعِ، والعقْلِ.
فمنْ أدلَّةِ السَّمْعِ قولُهُ تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)([1]). وقولُهُ: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً)([2]). وقولُهُ: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)([3]). وقولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ".
فحَثَّ اللهُ تعالى على تَدَبُّرِ القُرآنِ كلِّهِ ولَمْ يَسْتَثْنِ شيْئاً منْهُ، ووَبَّخَ منْ لمْ يَتَدبَّرْهُ، وبيَّنَ أنَّ الحِكْمَةَ مِنْ إنْزالِهِ أنْ يَتَدَبَّرَهُ الذِي أُنْزِلَ إليْهِمْ ويَتَّعِظَ بِهِ أصحابُ العقولِ، ولولاَ أنَّ لهُ معنًى يُعْلَمُ بالتَّدَبُّرِ لكانَ الْحَثُّ على تَدَبُّرِهِ منْ لَغْوِ القوْلِ، ولكانَ الاشْتِغَالُ بتدبُّرِهِ منْ إِضاعةِ الوقتِ، وَلَفَاتَتْ الحكمةُ منْ إنزالِهِ، ولمَا حَسُنَ التَّوبيخُ على تَرْكِهِ.
والْحَثُّ على تَدَبُّرِ القُرْآنِ شامِلٌ لتَدَبُّرِ جميعِ آياتِهِ الخبريَّةِ العِلْميَّةِ والحُكْمِيَّةِ العَمَلِيَّةِ، فكمَا أنَّنَا مأْمورونَ بتدبُّرِ آياتِ الأحكامِ لفَهْمِ معنَاهَا والعملِ بمقْتضَاهَا، إذْ لاَ يُمكِنُ العملُ بهَا بدونِ فهْمِ معنَاهَا، فكذلِكَ نحنُ مأمُورُونَ بتدبُّرِ آياتِ الأخْبَارِ لفَهْمِ معنَاهَا، واعتقادِ مقْتضَاهَا، والثَّناءِ على اللهِ تعالى بهَا، إذْ لاَ يُمكِنُ اعتقادُ مَا لمْ نَفْهَمْهُ، أوِ الثَّناءُ على اللهِ تعالى بهِ.
وأمَّا دَلالةُ العقلِ على فهْمِ معاني ما أَخْبَرَ اللهُ تعالى بهِ عنْ نفسِهِ فمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أنَّ مَا أَخْبَرَ اللهُ بهِ عنْ نفسِهِ أعْلى مراتبِ الأخْبارِ وأغْلى مطالِبِ الأَخْيارِ، فمِن المُحَالِ أنْ يكونَ مَا أخْبَرَ اللهُ بهِ عنْ نفسِهِ مجهولَ المعنى، ومَا أَخْبَرَ بهِ عنْ فرعونَ، وهامانَ، وقارونَ، وعنْ قومِ نوحٍ، وعادٍ، وثمودَ، والذينَ مِنْ بعدِهِمْ، معلومَ المعنى معَ أنَّ ضرورةَ الخَلْقِ لفَهْمِ معنى مَا أَخبَرَ اللهُ بهِ عنْ نفسِهِ أَعظَمُ وأَشَدُّ.
الوجْهُ الثَّاني: أنَّهُ مِنَ المُحَالِ أنْ يُنَزِّلَ اللهُ تعالى على عِبادِهِ كتاباً يُعَرِّفُهُمْ بهِ بأسمائِهِ، وصفاتِهِ، وأفعالِهِ، وأحكامِهِ، ويَصِفَهُ بأنَّهُ عليٌّ حكيمٌ([4])كريمٌ([5]) عظيمٌ([6]) مجيدٌ([7]) مبينٌ بلسانٍ عربيٍّ ليُعْقَلَ ويُفْهَمَ([8]).
ثمَّ تكونَ كلماتُهُ في أَعْظَمِ المطالبِ غيرَ معلومةِ المعنى، بمنْزِلَةِ الحروفِ الهجائيَّةِ الَّتي لا يَعْلَمُهَا النَّاسُ إلا أَمَانيَّ، وَلاَ يَخرجُونَ بعِلْمِهَا عنْ صِفَةِ الأمِّيَّةِ كمَا قالَ تعالى: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَ أَمَانِيَّ)([9]).
فإنْ قلتَ: مَا الجوابُ عنْ قولِهِ تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَ أُولُو الْأَلْبَابِ)([10]). فإنَّ هذَا يَقتَضِي أنَّ في القرآنِ آياتٍ متشابِهاتٍ لا يَعلَمُ تَأويلَهُنَّ إلا اللهُ.
قلْنَا: الجوابُ أنَّ لِلسَّلَفِ في الوقْفِ في هذهِ الآيةِ قوْلَيْنِ:
أحَدُهُمَا: الوقْفُ عندَ قولِهِ: (إِلاَ اللَّهُ) وَهُوَ قولُ جمهورِ السَّلَفِ والخَلَفِ وبناءً عليْهِ يكونُ المرادُ بالتأويلِ في قولِهِ: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَ اللَّهُ). الحقيقةَ الَّتِي يَؤُولُ الكلامُ إليْهَا، لا التَّفْسِيرَ الَّذي هوَ بيانُ المعنى فتأويلُ آياتِ الصِّفاتِ على هذَا هوَ حقيقةُ تلك الصِّفاتِ وكُنْهِهَا وهذَا منَ الأمورِ الغيْبيَّةِ الَّتي لاَ يُدْرِكُهَا العقلُ ولمْ يَرِدْ بهَا السَّمْعُ فلاَ يَعْلَمُهَا إلا اللهَ.
الثَّاني: الوَصْلُ فلاَ يَقِفُونَ على قولِهِ: (إِلاَ اللَّهُ) وهُوَ قولُ جماعةٍ منَ السَّلَفِ والخَلَفِ، وبِناءً عليْهِ يكونُ المرادُ بالتَّأويلِ في قولِهِ: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ([11]). التَّفْسِيرَ الَّذي هوَ بيانُ المَعْنى.
وهذَا معلومٌ للرَّاسخينَ في العِلْمِ كمَا قالَ ابنُ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنْهُمَا: "أَنَا مَنَ الرَّاسِخِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ". وقالَ مجاهدٌ: "عَرَضْتُ المُصْحَفَ على ابنِ عبَّاسٍ منْ فاتحتِهِ إلى خاتِمَتِهِ أَقِفُهُ عنْدَ كلِّ آيةٍ وأَسْأَلُهُ عنْ تَفْسِيرِهَا".
وبهذَا تَبَيَّنَ أنَّ الآيةَ لاَ تَدُلُّ على أنَّ في القرآنِ شيْئاً لا يَعْلَمُ معنَاهُ إلاَّ اللهَ تعالى، وإِنَّمَا تَدُلُّ على أنَّ في القُرْآنِ شيْئاً لا يَعْلَمُ حقيقتَهُ وكُنْهَهُ إلاَّ اللهَ، على قراءَةِ الوَقْفِ، وتَدُلُّ على أَنَّ الرَّاسِخِينَ في العِلْمِ يَعْلَمُونَ معنى المُتَشَابِهِ الَّذِي يَخْفَى على كثيرٍ منَ النَّاسِ على قراءَةِ الوَصْلِ، وعلى هذَا فلاَ تُعَارِضُ مَا ذكرنَاهُ منْ أنَّهُ ليسَ في القرآنِ شيْءٌ لاَ يُعْلَمُ مَعْنَاهُ.