القاعــدةُ الخامســـةُ
قولُه:
القاعدةُ الخامسةُ أنَّا نَعلمُ ما أَخْبَرَنا به من وجهٍ دونَ وجهٍ فإن اللهَ قالَ: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} وقالَ: {أَفَلَمْ يَدَّبَرُوا الْقَوْلَ} وقالَ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} وقالَ: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} فأَمَرَ بتدَبُّرِ الكتابِ كلِّه. وقد قالَ تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الْأَلْبَابِ}.
الشرْحُ:
يقولُ الشيخُ: إننا نَعلمُ ما خَاطبَنا اللهُ به في كتابِه وعلى لسانِ رسولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونَفْهَمُ من ذلك ما أَرادَ اللهُ منا فَهْمَه، ولكن نَفهمُه ونَعلمُه من جهةٍ دونَ جهةٍ. نَفهمُه من جهةِ المعنى ونَجهلُه من جهةِ الكيفيَّاتِ وتفاصيلِ الأمورِ التي لم يَرِدْ تفصيلُها في النصوصِ. واستَدلَّ على الأوَّلِ بكونِ اللهِ سبحانَه قد حَثَّ على تدبُّرِ القرآنِ وتعقُّلِه واتِّباعِه في غيرِ موضِعٍ, ومن ذلك قولُه سبحانَه في آيةِ النساءِ: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} وقولُه في آيةِ المؤمنون: {أَفَلَمْ يَدَّبَرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ } وقالَ في آيةِ ص: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} وقالَ في سورةِ القِتالِ: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}.
فإذا كان قد حَضَّ الكفَّارَ والمنافقين على تدبُّرِه عُلِمَ أن معانيَه مما يُمكِنُ للكفَّارِ والمنافقين فهمُها ومعرفتُها. فكيف لا يكونُ ذلك ممكِناً للمؤمنين؟ وهذا يُبيِّنُ أن مَعَانيَه كانت بيِّنةً لهم؛ فقد بيَّنَ سبحانَه أنه أَنزلَه عربيًّا ليُعقَلَ، والعقلُ لا يكونُ إلا مع العلْمِ بمعانيه كما قالَ تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقد ذَمَّ اللهُ من لا يَفْهَمُه كما قالَ جَلَّ وَعَلا: {فَمَا لِهَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} وذمَّ مَن لم يكنْ حظُّه من السماعِ إلا سماعَ الصوتِ دونَ فهْمِ المعنى واتِّباعِه فقالَ تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} وقالَ تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} فلو كان المؤمنون لا يَفْقَهون أيضاً لكانوا مشاركين للكفَّارِ والمنافقين فيما ذمَّهم اللهُ تعالى به. فالسابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصارِ، والتابعون لهم بإحسانٍ يَعلمون معانيَ القرآنِ.
إذا تبيَّنَ هذا فقد وَجَبَ على كلِّ مسلِمٍ التصديقُ بما أُخْبرَ به عن اللهِ تعالى من أسمائِه وصفاتِه مما جاءَ في القرآنِ وفي السنَّةِ الثابتةِ عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كما كان عليه السابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصارِ والذين اتَّبعوهم بإحسانٍ، الذين رَضِيَ اللهُ عنهم ورَضُوا عنه فإن هؤلاءِ هم الذين تَلَقَّوْا عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآنَ والسنَّةَ, وكانوا يَتَلقَّون عنه ما في ذلك من العلْمِ والعملِ كما قالَ أبو عبدِ الرحمنِ السُّلَمِيُّ: (لقد حدَّثَنا الذين كانوا يُقْرِؤُنَنَا القرآنَ كعثمانَ بنِ عفَّانَ وعبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ وغيرِهما أنهم كانوا إذا تَعلَّموا من النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشْرَ آياتٍ لم يُجاوِزُوها حتى يَتعلَّموا ما فيها من العلْمِ والعمَلِ جميعاً). وقد قام عبدُ اللهِ بنُ عمرَ, وهو من أصاغرِ الصحابةِ في تَعلُّمِ البقرةِ ثمانَ سنينَ, وإنما ذلك لأجْلِ الفهْمِ والمعرفَةِ، وكان ابنُ مسعودٍ يقولُ: لو أَعلمُ أحداً أعْلَمَ بكتابِ اللهِ مِنِّي تَبْلُغُه الإبلُ لأتيتُه. وكلُّ واحدٍ من أصحابِ ابنِ مسعودٍ وابنِ عبَّاسٍ نُقِلَ عنه من التفسيرِ ما لا يُحْصِيه إلا اللهُ, والنقولُ بذلك عن الصحابةِ والتابعين ثابتةٌ معروفةٌ عندَ أهلِ العلْمِ بها.
واستَدلَّ على الثاني بآيةِ آلِ عِمرانَ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ} بالوقْفِ على لفظِ الجلالةِ. وبقولِ ابنِ عبَّاسٍ: (وتأويلُ لا يَعلمُه إلا اللهُ من ادَّعَى عِلمَه فهو كاذبٌ) كما سيأتي.
والهمزةُ في قولِه: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ } للإنكارِ, والفاءُ للعطْفِ على مقدَّرٍ, أي: أيُعْرِضُون عن القرآنِ فلا يَتَدَبَّرونه. والتدبُّرُ: التأمُّلُ والتفكُّرُ، يُقالُ: تدبَّرْتُ الشيءَ تفكَّرْتُ في عاقبتِه وتأمَّلْتُه، ثم اسْتُعْمِلَ فى كلِّ تأمُّلٍ، فدَلَّت الآياتُ على وجودِ التدبُّرِ للقرآنِ ليُعرفَ معناه.
وقولُه في آيةِ آلِ عِمرانَ: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أي: أصلُه الذي يُعتمَدُ عليه ويُرَدُّ ما خالفَه إليه وهذه الجملةُ صفةٌ لما قبلَها (والْمُحْكَمَاتُ) اسمُ مفعولٍ من أَحْكَمَ (والإحكامُ): الإتقانُ ولا شكَّ في أن ما كان واضحَ المعنى لا إشكالَ فيه إنما يكونُ كذلك لوضوحِ مفرداتِ كلماتِه وإتقانِ تركيبِها. وقولُه سبحانَه: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} وصْفٌ لمحذوفٍ مقدَّرٍ أي: وآياتٌ أُخَرُ متشابهاتٌ (والزَّيْغُ): الْمَيْلُ, ومنه زَاغَت الشمسُ وزَاغَت الأبصارُ يُقالُ: زَاغَ يَزِيغُ زَيْغاً إذا تَرَكَ القَصْدَ، ومنه قولُه تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ} ومعنى قولِه: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} أي: طلباً منهم لفتنةِ الناسِ في دينِهم والتلبيسِ عليهم وإفسادِ ذاتِ بينِهم { وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } أي: طلباً لتأويلِه على الوجهِ الذي يُرِيدونه ويُوافقُ مذاهبَهم الفاسدةَ. وأصلُ الرسوخِ في لغةِ العربِ الثُّبوتُ في الشيءِ وكلُّ ثابتٍ راسخٌ, وأصلُه في الأجرامِ أن تَرسَخَ أقدامُ الخيلِ أو الشجرِ في الأرضِ, وهؤلاءِ ثَبَتُوا في امتثالِ ما جاءَهم عن اللهِ من ترْكِ اتِّبَاعِ المتشابِهِ وإرجاعِ عِلمِه إلى اللهِ سبحانَه.
قولُه:
وجمهورُ سَلَفِ الأمَّةِ وخَلَفُها على أن الوقْفَ على قولِه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ} وهذا هو المأثورُ عن أُبَيِّ بنِ كعبٍ، وابنِ مسعودٍ، وابنِ عبَّاسٍ وغيرِهم. ورُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ أنه قالَ: التفسيرُ على أربعةِ أَوجُهٍ: تفسيرٌ تَعْرِفُه العربُ من كلامِها، وتفسيرٌ لا يُعْذَرُ أحدٌ بجَهالتِه، وتفسيرٌ يَعْلَمُه العلماءُ، وتفسيرٌ لا يَعْلَمُه إلا اللهُ، من ادَّعَى عِلمَه فهو كاذبٌ. وقد رُوِيَ عن مجاهدٍ وطائفةٍ أن الراسخين في العلْمِ يَعلَمُون تأويلَه. وقد قالَ مجاهدٌ: (عرَضْتُ المصحفَ على ابنِ عبَّاسٍ من فاتحتِه إلى خاتِمتِه، أَقِفُه عندَ كلِّ آيةٍ وأسألُه عن تفسيرِها).
الشرْحُ:
بعدَ أن اسْتَشْهَدَ المؤلِّفُ بآيةِ آلِ عِمرانَ على أن من القرآنِ ما لا يَعلمُه إلا اللهُ، بيَّنَ خلافَ علماءِ الأمَّةِ في الوقْفِ في الآيةِ. فذَكَرَ أن الأكثرَ على القولِ بأن الوقْفَ على لفظِ الجلالةِ، ومن هؤلاءِ أُبَيُّ بنُ كعبٍ، وابنُ مسعوٍد، وابنُ عبَّاسٍ، وقولُه: (وغيرُهم) يعني: كابنِ عمرَ، وعائشةَ، وعُروةَ بنِ الزبيرِ، وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ. وحكاه ابنُ جريرٍ الطبريُّ عن مالكٍ واختاره. ومن القائلين بأن الوقْفَ على العلْمِ من قولِه: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } طائفةٌ على رأسِهم مجاهدٌ، ومنهم الربيعُ ومُحَمَّدُ بنُ جعفرِ بنِ الزبيرِ، والقاسمُ بنُ مُحَمَّدٍ, ورُوِيَ هذا القولُ أيضاً عن ابنِ عبَّاسٍ فعلى القولِ الأوَّلِ (الواو) في قولِه: {وَالرَّاسِخُونَ} للاستئنافِ, والراسخون، مبتدأٌ خبرُه يقولون. وعلى الثاني فالواوُ للعطْفِ ويقولون حالٌ، واستَدلَّ الأوَّلون بمثْلِ ما رواه الحاكمُ في مستَدرَكِه عن ابنِ عبَّاسٍ أنه كان يَقرأُ:{ وما يَعلَمُ تأويلَه إلا اللهُ}. ويقولُ الراسِخون في العلْمِ آمنَّا به. وبقراءةِ ابنِ مسعودٍ: (وإنْ تأويلُه إلا عندَ اللهِ، والراسِخون في العلْمِ يقولون آمنَّا به)، وبما دَلَّتْ عليه الآيةُ من ذَمِّ متَّبِعِي المُتَشابِهِ ووصْفِهم بالزَّيْغِ وابتغاءِ الفتنةِ. فقد أَخرجَ الشيخان وغيرُهما عن عائشةَ قالتْ: تلا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآيةَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} إلى قولِه تعالى: { أُولُو الْأَلْبَابِ} قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ).
ومن جُملةِ ما استَدلَّ به القائلون بالعطْفِ أن اللهَ سبحانَه مدَحَهُم بالرسوخِ في العلْمِ فكيف يَمْدَحُهم وهم لا يَعلمون ذلك.
والتفسيرُ الذي تَعرِفُه العربُ من كلامِها هو تفسيرُ مفرداتِ اللغةِ كمعرفةِ معنى القُرْءِ والنَّمارقِ والكهفِ ونحوِها. وأما الذي لا يُعذَرُ أحدٌ بجهالتِه فهو الأمورُ المكلَّفُ بها اعتقاداً وعملاً كمعرفةِ اللهِ بأسمائِه وصفاتِه واليومِ الآخِرِ، والطهارةِ والصلاةِ والزكاةِ وغيرِها، وأما الذي يَعلمُه العلماءُ فهو الذي يَخْفَى على غيرِهم مما يُمكِنُ الوصولُ إلى معرفتِه كمعرفةِ أسبابِ النزولِ، والناسخِ والمنسوخِ، والعامِّ والخاصِّ، والمُحْكَمِ والمُتَشابِهِ، ونحوَ ذلك. وأما الذي لا يَعلَمُه إلا اللهُ فهو حقائقُ ما أَخبرَ اللهُ به عن نفسِه وعن اليومِ الآخرِ؛ فإن هذه الأشياءَ نَفهمُ معناها، لكننا لا نُدرِكُ حقيقةَ ما هي عليه في الواقعِ، مثالُ ذلك: أننا نَفهمُ معنى استواءِ اللهِ على عرشِه, ولكنَّنا لا نَدْرِي الكيفيَّةَ التي هي حقيقةُ ما هو عليه في نفسِ الأمرِ. وكذلك نَفهمُ معنى الفاكهةِ والعسلِ واللبنِ والماءِ وغيرِها مما أَخبرَ اللهُ في الجنَّةِ، لكن لا نُدرِكُ حقيقتَه في الواقعِ، كما قالَ تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}.
وإذا جازَ أن يكونَ في المخلوقاتِ ما يُعْرَفُ معناه دونَ إدراكِ حقيقتِه ففي صفاتِ اللهِ أَوْلى، والشاهِدُ من كلامِ ابنِ عبَّاسٍ قولُه – رَضِيَ اللهُ عنه -: (وتفسيرٌ لا يَعلَمُه إلا اللهُ من ادَّعَى علْمَه فهو كاذبٌ) وقد سبَقَت الإشارةُ إلى ذلك، ووجْهُ الدلالةِ من قولِ مجاهدٍ – رَضِيَ اللهُ عنه -: (عرَضْتُ المُصْحَفَ على ابنِ عبَّاسٍ من فاتحتِه إلى خاتِمتِه, أَقِفُه عندَ كلِّ آيةٍ وأسألُه عن تفسيرِها: أن الراسخين في العِلْمِ يَعْلَمون معانيَ القرآنِ.
وأُبَيٌّ هو ابنُ كعبِ بنِ قيسِ بنِ مُنْذِرٍ الأنصاريُّ الخَزْرَجيُّ، أَقْرَأُ الصحابةِ وسيِّدُ القُرَّاءِ، شَهِدَ بدراً والمشاهِدَ، وقرأَ القرآنَ على النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعَ الكثيرَ وجمَعَ بينَ العلْمِ والعمَلِ؛ ومناقبُه جَمَّةٌ. حدَّثَ عنه أبو أيوُّبَ الأنصاريُّ وابنُ عبَّاسٍ وأبو هريرةَ، ومن أقوالِه – رَضِيَ اللهُ عنه – ما رواه الربيعُ بنُ أنسٍ, عن أبي العاليةِ قالَ: (قالَ رجلٌ لِأُبَيِّ بنِ كعبٍ: أوْصِني، قالَ: اتَّخِذْ كتابَ اللهِ إماماً وارضَ به حَكَماً وقاضياً؛ فإنه الذي استَخْلَفَ فيكم رسولُكم، شفيعٌ مطاعٌ وشاهِدٌ لا يُتَّهَمُ، فيه ذِكرُكُم، وذِكْرُ مَن قبلَكم، وحُكْمُ ما بينَكم، وخبرُكم وخبرُ ما بعدَكم). تُوفِّيَ بالمدينةِ سنةَ تسعَ عشرةَ وقيلَ اثنتين وعشرين – رَضِيَ اللهُ عنه -.
وابنُ مسعودٍ هو أبو عبدِ الرحمنِ بنِ أُمِّ عبدٍ الْهُذَلِيُّ صاحبُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخادمُه وأحدُ السابقين الأوَّلين، ومن كبارِ البَدْرِيِّين، ومن نُبلاءِ الفقهاءِ والمُقْرِئِين، كان مِمَّن يَتَحَرَّى في الأداءِ ويُشدِّدُ في الروايةِ، ويَزْجُرُ تلاميذَه عن التهاوُنِ في ضبْطِ الألفاظِ، وحَفِظَ مِنْ فِي رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبعين سورةً, وتَسَمَّعَ عليه النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلةً وهو يَدعو، فقالَ: (سَلْ تُعْطَهْ). وقالَ: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ). وقالَ عمرُ بنُ الخطَّابِ في كتابٍ له: (إني قد بَعَثْتُ إليكم عمَّارَ بنَ ياسرٍ أميراً وعبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ مُعلِّماً ووزيراً وهما من النجباءِ من أصحابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أهلِ بدرٍ فاقْتَدُوا بهما واسْمَعوا, وقد آثَرْتُكُمْ بعبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ على نفسي) وقد نَظرَ عمرُ إلى ابن مسعودٍ وقد قامَ فقالَ: (كَنِيفٌ مُلِئَ عِلْماً) تُوُفِّيَ بالمدينةِ سنةَ اثنتين وثلاثين, وله نحوٌ من ستِّين سنةً.
ومجاهدٌ هو ابنُ جبْرٍ الإمامُ أبو الحجَّاجِ المخزوميُّ بالولاءِ المكِّيُّ المقرئُ، المفسِّرُ الحافظُ، سمِعَ من عائشةَ وأبي هريرةَ، وأمِّ هانئٍ، وعبدِ اللهِ بنِ عمرَ، وابنِ عبَّاسٍ، ولزِمَه مدَّةً وقَرأَ عليه القرآنَ، وكان أحدَ أوعيةِ العلْمِ، وروَى عنه قتادةُ وعمرُو بنُ دِينارٍ والأعمشُ وخَلْقٌ كثيرٌ. ومن أقوالِ مجاهدٍ – رَضِيَ اللهُ عنه – قولُه: (عرَضْتُ القرآنَ على ابنِ عبَّاسٍ ثلاثَ عَرَضَاتٍ أَقِفُه عندَ كلِّ آيةٍ أسألُه فيمَ نزَلَتْ وكيفَ كانت؟) قرأَ على مجاهدٍ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرِو بنُ العلاءِ. وقالَ الأعمشُ: (كنتَ إذا رأيتَ مجاهداً ازدَرَيْتَهُ مُبْتَذِلاً كأنَّه خرْبَنْدَجٌ قد ضَلَّ حِمارُه, وهو مُهتَمٌّ لذلك, فإذا نَطَقَ خَرَجَ من فيه اللؤلؤُ، توفِّيَ سنةَ مائةٍ وثلاثٍ.
قولُه:
ولا منافاةَ بينَ القولين عندَ التحقيقِ؛ فإن لفظَ (التأويلِ) قد صارَ بتعدُّدِ الاصطلاحاتِ مستعْمَلاً في ثلاثِ معانٍ:
(أحدُها): وهو اصطلاحُ كثيرٍ من المتأخِّرين من المتكلِّمين في الفقْهِ وأصولِه: أن التأويلَ هو صرفُ اللفظِ عن الاحتمالِ الراجحِ إلى الاحتمالِ المرجوحِ؛ لدليلٍ يَقتَرِنُ به، وهذا هو الذي عَناه أكثرُ مَن تكلَّمَ من المتأخِّرين في تأويلِ نصوصِ الصفاتِ، وتركِ تأويلِها؛ وهل ذلك محمودٌ أو مذمومٌ، أو حقٌّ أو باطلٌ؟.
(والثاني ): أن التأويلَ بمعنى التفسيرِ، وهذا هو الغالبُ على اصطلاحِ المفسِّرين للقرآنِ، كما يقولُ ابنُ جريرٍ وأمثالُه – من المصنِّفين في التفسيرِ -: (واختلَفَ علماءُ التأويلِ ) ومجاهِدٌ إمامُ المفسِّرين؛ قالَ الثوريُّ: إذا جاءَك التفسيرُ عن مجاهِدٍ فحسْبُكَ به، وعلى تفسيرِه يَعْتَمِدُ الشافعيُّ وأحمدُ والبخاريُّ وغيرُهم، فإذا ذَكَرَ أنه يَعلَمُ تأويلَ المُتَشابِهِ فالمرادُ به معرفةُ تفسيرِه.
(الثالثُ ): من معاني التأويلِ هو الحقيقةُ التي يَؤُولُ إليها الكلامُ، كما قالَ اللهُ تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ }. فتأَمَّلْ ما في القرآنِ من أَخبارِ المعادِ هو ما أَخبرَ اللهُ به فيه مما يكونُ من القيامةِ والحسابِ والجزاءِ والجنَّةِ والنارِ ونحوِ ذلك، كما قالَ اللهُ تعالى في قصَّةِ يوسفَ لَمَّا سجَدَ له أبواه وإخوتُه: {قَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} فجَعلَ عينَ ما وَجدَ في الخارجِ هو تأويلَ الرؤيا.
الشرْحُ:
يعني أنه لا تَنافِيَ بينَ رأيِ من قالَ: إن الوقْفَ في الآيةِ على لفظِ الجلالةِ، وبينَ رأيِ من قالَ إن الوقْفَ على قولِه: { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} بل كلٌّ منهما حقٌّ وصوابٌ؛ فإن التأويلَ يُطلَقُ في القرآنِ ويُرادُ به شيئان: (أحدُهما) التأويلُ بمعنى حقيقةِ الشيءِ وما يَؤُولُ الأمرُ إليه، ومنه قولُه: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ} وقولُه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} أي حقيقةُ ما أُخبِرُوا به من أمْرِ الْمَعادِ، فإن أُريدَ بالتأويلِ هذا فالوقْفُ على لفظِ الجلالةِ؛ لأن حقائقَ الأمورِ وكُنْهَها لا يَعلَمُه إلا اللهُ عزَّ وجلَّ، وأما إن أريدَ بالتأويلِ المعنى الآخَرُ وهو التفسيرُ والبيانُ والتعبيرُ عن الشيءِ؛ كقولِه: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} أي بتفسيرِه فالوقْفُ على {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} لأنهم يَعلمون ويَفهمون ما خُوطِبوا به بهذا الاعتبارِ؛ وإن لم يُحِيطُوا علْماً بحقائقِ الأشياءِ على كُنْهِ ما هي عليه، فإن تَسميتَهم الراسخين تَقتضي أنهم يَعلمون أكْثَرَ من الْمُحْكَمِ الذي يَستوي في علْمِه جميعُ من يَفهمُ كلامَ العربِ؛ لكنَّ المتشابِهَ يَتنوَّعُ. فمنه ما لا يُعلَمُ البتَّةَ وهو ما استأثَرَ اللهُ بعِلْمِه، ومنه ما يَعلَمُه أهلُ الرسوخِ في العلْمِ وإن كان غامِضاً ومُشْكِلاً على غيرِهم، والحاصلُ أن الجميعَ متَّفقون على أن من القرآنِ ما لا يَعلَمُ تأويلَه إلا اللهُ، ومتَّفقون على تفسيرِ القرآنِ وأنه مفهومُ المعنى وبيِّنُ المرادِ.
وقولُه: (فإن لفظَ التأويلِ قد صارَ بتَعدُّدِ الاصطلاحاتِ مستعمَلاً في ثلاثِ معانٍ):
الأوَّلُ: معناه أن التأويلَ كما يُطلَقُ ويُرادُ به التفسيرُ ويُطلَقُ ويُرادُ به الحقيقةُ؛ فكذلك يُطلَقُ ويُرادُ به صرْفُ اللفظِ عن معناه الراجحِ إلى معناه المرجوحِ، لدَلالةٍ تُوجِبُ ذلك، وهذا هو اصطلاحُ طائفةٍ من المتأخِّرين من الفقهاءِ والأصوليِّين كما تَجِدُ ذلك في كلامِ صاحبِ (رَوْضةِ الناظرِ). وأمثالِه من الباحثين في الفقهِ وأصولِه, وليس هو عُرْفَ السَلَفِ من الصحابةِ والتابعين والأئمَّةِ الأربعةِ وغيرِهم، وإنما كان لفظُ التأويلِ في عُرْفِالسَلَفِ يُرادُ به التفسيرُ أو الحقيقةُ. أما هذا المعنى الاصطلاحيُّ فقد عَبَّرَ به المتأخِّرون من الفقهاءِ والأصوليِّين عن ترجيحِ المعنى الضعيفِ الخفِيِّ على المعنى الظاهِرِ؛ لدليلِ الكتابِ أو السنَّةِ اقْتَضَى ذلك الترجيحَ، ومن أمثلتِه عندَهم ما رواه البخاريُّ والتِّرمذيُّ وصحَّحَه من قولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ) فإنه ظاهِرٌ في ثبوتِ الشُّفْعَةِ للجارِ الملاصِقِ والمقابِلِ أيضاً مع احتمالِ أن المرادَ به الجارُ الشريكُ المخالِطُ إما حقيقةً أو مَجازاً، لكنَّ هذا الاحتمالَ ضعيفٌ بالنسبة إلى الظاهِرِ, فلمَّا نظَرْنا إلى قولِه عليه السلامُ: (إِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ) (رواه البخاريُّ وأبو داودَ والتِّرمذيُّ) صارَ هذا الحديثُ مُقَوِّيًا لهذا الاحتمالِ الضعيفِ في الحديثِ المتَقدِّمِ، حتى ترجَّحَ على ظاهِرِه فقدَّمْناه, وقلنا: لا شُفعةَ إلا للشريكِ المُقاسِمِ، وحمَلْنَا عليه الجارَ في الحديثِ الأوَّلِ.
وطوائفُ المبتدِعةُ قد استعمَلوا هذا المعنى الاصطلاحيَّ في نصوصِ الصفاتِ فقالَوا: (لابدَّ من صرْفِ النصِّ عن المعنى الذي هو مُقْتَضَى لفظِه إلى معنًى آخَرَ؛ لأن إثباتَ الصفاتِللهِيَقتضي مشابَهتَه لخلْقِه ) وأنت ترى أنهم لم يَصْرِفوا النصَّ عن معنًى راجحٍ إلى معنًى مرجوحٍ، لدليلٍ اقْتَرَنَ بذلك, وإنما حرَّفُوا الكلامَ عن مواضِعِه، وأَلْحَدوا في أسماءِ اللهِ وصفاتِه لشُبْهَةٍ فاسدةٍ، ورأيٍ كاسِدٍ لا سَنَدَ له من كتابٍ أو سنَّةٍ أو عقْلٍ سليمٍ وفِطرةٍ مستقيمةٍ. وهذا النوعُ من التأويلِ هو الذي عَناه من تَكلَّموا وبَحَثوا في صحَّةِ التأويلِ أو فسادِه وكونِه حقًّا أو باطلاً، وهل يُذَمُّ أو يُمْدَحُ؟ ولا شكَّ في فسادِه وبُطلانِه وذمِّه وتَبْدِيعِ أهلِه فإنه مخالِفٌ لصريحِ الكتابِ والسنَّةِ، إذ التأويلُ المقَبولُ هو ما دَلَّ على مرادِ المتكلِّمِ.
الثاني: من معاني التأويلِ هو التفسيرُ، وكثيراً ما يُعَبِّرُ المفسِّرون عن التفسيرِ بالتأويلِ. وقد استَشْهَدَ المؤلِّفُ على ذلك بعبارةِ ابنِ جريرٍ الطبريِّ في تفسيرِه: (واختلَفَ علماءُ التأويلِ) يُريدُ علماءَ التفسيرِ ومن عباراتِه: القولُ في تأويلِ قولِه تعالى، يريدُ تفسيرَ قولِه تعالى. والشاهِدُ من قولِه: (ومجاهِدٌ إمامُ المفسِّرين فإذا ذَكَرَ أنه يَعلمُ تأويلَ المتشابِهِ فالمرادُ به معرفةُ تفسيرِه) استعمالُ مجاهِدٍ التأويلَ مُريداً به التفسيرَ. وما بيْنَ قولِه: (ومجاهدٌ إمامُ المفسِّرين) وقولِه: (فإذا ذَكَرَ) جملةٌ معترِضةٌ المرادُ منها بيانُ مكانةِ مجاهِدٍ العلميَّةِ، فإنه عُمدةٌ في التفسيرِ وقدوةٌ في العلْمِ, وحسْبُه علْماً وفِقْهاً أنه عَرَضَ المصحفَ من أوَّلِه إلى آخِرِه على حَبْرِ الأمَّةِ وتُرجُمَانِ القرآنِ، يَسْتَوْقِفُه عندَ كلِّ آيةٍ ويَسألُه عن معناها؛ فلا غَرْوَ أن يَعْتَمِدَ هؤلاءِ الأئمَّةُ وأمثالُهم على تفسيرِه.
الثالثُ: من معاني التأويلِ هو الحقيقةُ التي يَصيرُ إليها الأمرُ، وقد استشْهَدَ المؤلِّفُ على مجيءِ التأويلِ مُراداً به كُنْهُ الشيءِ وحقيقتُه بقولِه تعالى في سورةِ الأعرافِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلَهُ} أي: يومَ يَرَوْنَ ما يُوعَدون من البعْثِ والنشورِ والعذابِ. {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ} أي: تَرَكُوه {قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} يعني: قد رأَيْنا تأويلَ ما أَنْبَأَتْنَا به الرسُلُ. وكذلك استشْهَدَ على هذا النوعِ بقولِه سبحانَه عن يوسفَ: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} يعني: هذا حقيقةُ ما رأيتُ. فجَعَلَ نفْسَ ما وَجَدَ في الخارجِ, وهو سجودُ أبويه وإخوتِه, هو تأويلَ رؤياه.
وابنُ جريرٍ: هو أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بنُ جريرِ بنِ يزيدَ بنِ خالدٍ الطبريُّ صاحبُ التفسيرِ الكبيرِ والتاريخِ الشَّهيرِ، كان إماماً في فنونٍ كثيرةٍ، منها التفسيرُ والحديثُ والفقهُ والتاريخُ وغيرُ ذلك، وله مصنَّفاتٌ مَلِيحَةٌ في فنونٍ عديدةٍ تَدلُّ على سَعَةِ علْمِه وغَزارتِه وكان من الأئمَّةِ المجتَهِدِينَ لم يُقَلِّدْ أحداً، وكان ثقةً في نقلِه، وتاريخُه أصَحُّ التواريخِ، وكانت ولادتُه سنةَ أربعٍ وعشرين ومائتين بآمُلَ طَبَرِسْتَانَ، وتُوُفِّيَ يومَ السبتِ في السادسِ والعشرين من شوَّالٍ سنةَ عشْرٍ وثلاثِمائةٍ ببغدادَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
وسُفيانُ: هو ابنُ سعيدِ بنِ مَسْروقٍ (الإمامُ شيخُ الإسلامِ) سيِّدُ الحفَّاظِ أبو عبدِ اللهِ الثوريُّ؛ ثَوْرُ مُضَرَ لاَ ثَوْرُ هَمْدَانَ، الكوفيُّ الفقيهُ حدَّثَ عن أبيه، وحَبيبِ بنِ أبي ثابتٍ، والأسودِ بنِ قيسٍ، وحدَّثَ عنه ابنُ المبارَكِ، ويَحيَى القطَّانُ، وابنُ وَهْبٍ، ووكيعٌ وخَلائقُ كثيرون. وقالَ شعبةُ ويَحيى بنُ مَعِينٍ وجماعةٌ في حقِّه: (سفيانُ أميرُ المؤمنين في الحديثِ) وُلِدَ سفيانُ في سنةِ سبعٍ وتسعين، وطلَبَ العلْمَ وهو حَدَثٌ؛ فإن أباه كان من علماءِ الكوفةِ، وماتَ في البصرةِ، في الاختفاءِ من المهديِّ في شعبانَ سنةَ مائةٍ وإحدى وستين رَضِيَ اللهُ عنه.
والشافعيُّ: هو أبو عبدِ اللهِ الإمامُ مُحَمَّدُ بنُ إدريسَ بنِ العبَّاسِ بنِ عثمانَ بنِ شافعِ بنِ السائبِ بنِ عبيدِ بنِ عبدِ يزيدَ بنِ هاشمِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ بنِ عبدِ مَنافِ بنِ قُصَيِّ بنِ كِلابٍ القُرَشِيُّ المَطْلبِيُّ المكِّيُّ نَسيبُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وناصرُ سنَّتِه. وُلِدَ سنةَ خمسين ومائةٍ بغَزَّةَ، وحُمِل إلى مكَّةَ لَمَّا فُطِمَ؛ فنَشَأَ بها وأَقبلَ على العُلومِ. حدَّثَ عن عمِّهِ مُحَمَّدِ بنِ عليٍّ، وعبدِ العزيزِ بنِ الْمَاجِشُونِ، والإمامِ مالكٍ، وإسماعيلَ بنِ جعفرٍ، وخلقٍ كثيرٍ. وعنه أحمدُ، والحُمَيْدِيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وأُمَمٌ سِواهم، وكان قد بَرَعَ في الشعْرِ واللغةِ وأيَّامِ العربِ، ثم أَقبلَ على الفقهِ والحديثِ، وجَوَّدَ القرآنَ على إسماعيلَ بنِ قُسْطَنْطِينَ مُقْرِئِ مكَّةَ، ثم حفِظَ الموطأَ, وعرَضَه على مالكٍ، وأذِنَ له مسلِمُ بنُ خالدٍ في الفتوى وهو ابنُ عشرين سنةً أو دونَها، وتُوفِّيَ في أوَّلِ شعبانَ سنةَ أربعٍ ومائتين بمصرَ.
وأحمدُ: هو ابنُ مُحَمَّدِ بنِ حنبلِ بنِ هلالِ بنِ أسدٍ الذُّهْلِيُّ الشَّيْبانيُّ الْمَرْوَزِيُّ، ثم البَغداديُّ, وُلِدَ سنةَ مائةٍ وأربعٍ وستِّينَ، سَمِعَ من هُشَيْمٍ، وإبراهيمَ بنِ سعدٍ، وسفيانَ بنِ عيينةَ، ويَحيى بنِ أبي زائدٍ، وطبقتِهم، وعنه البخاريُّ، ومسلِمٌ، وأبو داودَ، وأبو زُرْعةَ، وعبدُ اللهِ بنُ أحمدَ، وأبو القاسمِ البَغَوِيُ، وخلْقٌ عظيمٌ. قالَ إبراهيمُ الحربيُّ: (رأيتُ أحمدَ كأن اللهَ قد جمَعَ له علْمَ الأوَّلين والآخِرين). وقالَ حَرْمَلَةُ: (سَمِعْتُ الشافعيَّ يقولُ: خَرَجْتُ من بَغدادَ فما خلَّفْتُ بها رجلاً أفضلَ ولا أعلَمَ ولا أفقَهَ من أحمدَ بنِ حنبلٍ). وقالَ عليُّ بنُ الْمَدِينيِّ: (إن اللهَ أيَّدَ هذا الدِّينَ بأبى بكرٍ الصدِّيقِ يومَ الرِّدَّةِ وبأحمدَ بنِ حنبلٍ يومَ الْمِحْنَةِ). تُوفِّيَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في يومِ الجمعةِ ثانيَ عشرَ ربيعٍ الأوَّلِ سنةَ إحدى وأربعين ومائتين, وله سبعٌ وسبعون سنةً.
والبخاريُّ: هو أبو عبدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ بنِ المغيرةِ بنِ بَرْدَزْبَةَ الجُعْفِيُّ بالولاءِ، صاحبُ الجامعِ الصحيحِ والتاريخِ، رحَلَ في طلَبِ الحديثِ إلى أكثرِ محدِّثِي الأمصارِ، وكتَبَ بخُراسانَ ومُدُنِ العراقِ والحجازِ والشامِ ومصرَ، وقدِمَ بغدادَ واجْتمعَ إليه أهلُها واعتَرَفوا بفضلِه، وشَهِدوا بتَفَرُّدِه في علْمِ الروايةِ والدِّرايةِ، ونقَلَ عنه مُحَمَّدُ بنُ يوسُفَ الْفَرَبْرِيُّ أنه قالَ: (ما وضَعْتُ في كتابِي الصحيحِ حديثاً إلا اغتَسَلْتُ قبلَ ذلك وصَلَّيْتُ ركعتين). وعنه أنه قالَ: (صنَّفْتُ كتابي الصحيحَ ستَّ عشرةَ سنةً، خرَّجْتُهُ من ستِّمائةِ ألْفِ حديثٍ، وجعلْتُه حُجَّةً فيما بيني وبينَ اللهِ). وكانت ولادتُه يومَ الجمعةِ بعد الصلاةِ لثلاثَ عشرةَ ليلةً خَلَتْ من شوَّالٍ سنةَ أربعٍ وتسعين ومائةٍ وتُوفِّيَ ليلةَ السبتِ بعدَ صلاةِ العشاءِ, وكانت ليلةَ عيدِ الفِطْرِ سنةَ مائتين وستَّةٍ وخمسين بخرتنكَ, قريةٍ من قُرَى سَمَرْقَنْدَ.
قولُه:
(فالتأويلُ الثاني) هو تفسيرُ الكلامِ، وهو الكلامُ الذي يُفسَّرُ به اللفظُ حتى يُفهَمَ معناه، أو تُعرفَ عِلَّتُه أو دليلُه.
(وهذا التأويلُ الثالثُ) هو عينُ ما هو موجودٌ في الخارجِ، ومنه قولُ عائشةَ: (كان النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ في ركوعِه وسجودِه: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي). يَتأوَّلُ القرآنَ يعني قولَه: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ}. وقولُ سفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ: (السنَّةُ هي تأويلُ الأمرِ والنهيِ)؛ فإن نفْسَ الفعلِ المأمورِ به هو تأويلُ الأمرِ به، ونفْسَ الموجودِ المخبَرِ عنه، هو تأويلُ الخبَرِ.
والكلامُ خبرٌ وأمْرٌ، ولهذا يقولُ أبو عبيدةَ وغيرُه: (الفقهاءُ أعلَمُ بالتأويلِ من أهلِ اللغةِ) كما ذَكَرُوا ذلك في تفسيرِ اشتمالِ الصَّمَّاءِ؛ لأن الفقهاءَ يَعلَمون تفسيرَ ما أُمِرَ به, ونُهِيَ عنه، لعِلْمِهم بمقاصدِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما يَعلمُ أتباعُ بُقراطَ وسِيبوَيْهِ ونحوِهما من مقاصدِهما ما لا يُعلَمُ بمجرَّدِ اللغةِ، ولكنَّ تأويلَ الأمرِ والنهيِ لابدَّ من معرفتِه، بخلافِ تأويلِ الخبَرِ.
الشرْحُ:
هذا رجوعٌ من الشيخِ إلى شرْحِ النوعِ الثاني والثالثِ، من أنواعِ التأويلِ لمزيدِ الإيضاِح، وكان السياقُ يَقتضي أن يكونَ الكلامُ: فالثاني هو تفسيرُ الكلامِ بالفاءِ؛ ولكن لعلَّها سقَطَتْ سهْواً من الناسخِ. وبعدَ أن ذَكَرَ أن النوعَ الثانيَ من أنواعِ التأويلِ هو التفسيرُ بيَّنَ معنى التفسيرِ بقولِه: (وهو الكلامُ الذي يُفَسَّرُ به اللفظُ) فالتفسيرُ إذاً هو إيضاحُ معنى الكلامِ وبيانُ المرادِ منه، أو الكشْفُ عما اشتَمَلَ عليه من حكْمَةٍ، أو ذكْرُ ما دَلَّ عليه من دليلٍ، أو بيانُ ما استُنْبِطَ منه من حُكْمٍ.
قالَ الزَّرْكَشِيُّ: (التفسيرُ علْمٌ يُفهمُ به كتابُ اللهِ المنَزَّلُ على نبيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبيانُ معانيه واستخراجُ أحكامِه وحِكَمِه، واستمدادُ ذلك من علْمِ اللغةِ والنحْوِ والصَّرْفِ وعِلْمِ البيانِ وأصولِ الفقهِ، ويَحتاجُ لمعرفةِ أسبابِ النزولِ، والناسخِ والمنسوخِ). ومن شواهِدِ مجيءِ التأويلِ مراداً به التفسيرُ قولُه سبحانَه في قصَّةِ يوسفَ: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وقولُه تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِه فَأَرْسِلُونِ}.
والنوعُ الثالثُ من أنواعِ التأويلِ: هو حقيقةُ الشيءِ وكُنْهُ ما هو عليه، وهذا معنى قولِ المؤلِّفِ: (هو عينُ ما هو موجودٌ في الخارجِ). وقد استشْهَدَ على هذا النوعِ بما رواه البخاريُّ ومسلِمٌ من حديثِ عائشةَ قالت: (كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَتأوَّلُ القرآنَ) يعني يُوجِدُ حقيقةَ ما أُمِرَ به بقولِه في الركوعِ والسجودِ: (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي). فيُشْرَعُ للمصلِّي أن يقولَ هذا الدعاءَ في ركوعِه وسجودِه، كما يُشْرَعُ له أن يقولَ في السجودِ: (سبحانَ ربِّيَ الأعلى) لما في الحديثِ الذي رَواه أهلُ السنَنِ. وفي حديثِ حذيفةَ الذي رواه مسلِمٌ أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلَّى بالليلِ صلاةً قرأَ فيها بالبقرةِ والنساءِ، وآلِ عِمرانَ ثم رَكَعَ، ثم سَجَدَ نحوَ قراءتِه، يقولُ في ركوعِه: (سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، وَفي سجودِه سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى). وفي الحديثِ: (وَأَمَّا السُّجُودُ فَأَكْثِرُوا فِيهِ مِنَ الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ) وذلك أن السجودَ غايةُ الخضوعِ والذُّلِّ من العبدِ، وغايةُ تَسفيلِه وتواضُعِه بأشرفِ شيءٍ فيه للهِ؛ وهو وجهُه بأن يَضَعَه على الترابِ فناسَبَ في غايةِ سُفولِه أن يَصِفَ ربَّه بأنه الأعلى.
والشاهِدُ من كلامِ سفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ مجيءُ التأويلِ في كلامِ السَلَفِ مراداً به الحقيقةُ، ومن أجْلِ أن التأويلَ يَرِدُ في كلامِ السَلَفِ مراداً به الحقيقةُ. يقولُ أبو عبيدةَ: (الفقهاءُ أعلَمُ بالتأويلِ من أهلِ اللغةِ). يعني: أعلَمُ بحقيقةِ ما أَرادَه اللهُ ورسولُه بكلامِهما، لمعرفتِهم النصوصَ، وعلْمِهم بقواعدِ الشرعِ العامَّةِ، وخِبْرَتُهُم بذلك أكثرُ من مجرَّدِ العلْمِ بالمعنى اللُّغويِّ للنصِّ. ومثَّلَ المؤلِّفُ لذلك باختلافِ الفقهاءِ واللغويِّين في تفسيرِ اشتمالِ الصَّمَّاءِ الواردةِ في الحديثِ الذي رواه مسلِمٌ من حديثِ أبى سعيدٍ – رَضِيَ اللهُ عنه – قالَ: (نَهَى رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صومِ يومين: الفِطْرِ والنَّحْرِ، وعن الصَّمَّاءِ، وأن يَحْتَبِيَ الرجلُ في الثوبِ الواحدِ، وعن الصلاةِ بعدَ الصبحِ والعصرِ). وتفسيرُ اشتمالِ الصَّمَّاءِ عندَ الفقهاءِ: هو أن يَشْتَمِلَ الإنسانُ بثوبٍ, ويَرْفَعَه من أحدِ جانبيه فيضَعَه على مَنكِبَيْه , فالنهيُ عنه؛ لأنه يؤدِّي إلى التكَشُّفِ وظهورِ العورةِ.
وأما تفسيرُ أهلِ اللغةِ فقالَ الأَصمعيُّ: هو أن يَشتمِلَ بالثوبِ, فيَسْتُرَ به جميعَ جسدِه بحيثُ لا يَتْرُكُ فُرْجَةً يُخْرِجُ منها يدَه، واللفظُ مطابِقٌ لهذا المعنى. والنهيُ عنه يَحتملُ وجهين: أحدُهما أنه يُخافُ معه أن يَدفعَ إلى حالةٍ سادَّةٍ لِمُتَنَفَّسِهِ فيَهْلِكَ غمًّا تحتَه إذا لم تكنْ فيه فُرْجَةٌ، والآخرُ أنه إذا تَجَلَّلَ به فلا يَتَمَكَّنُ من الاحتراسِ والاحتراكِ إن أصابَه شيءٌ؛ أو نابَه مُؤْذٍ ولا يُمْكِنُه أن يَتَّقِيَه بيديه لإدخالِه إياهما تحتَ الثوبِ الذي اشْتَمَلَ به.
قالَ عبدُ الغافرِ الفارسيُّ بعد حكايتِه لتفسيرِ الفقهاءِ: وهذا التفسيرُ لا يُشْعِرُ به لفظُ الصَّمَّاءِ. قالَ الصنعانيُّ مؤيِّداً قولَ الفارسيِّ، قولُه لا يُشعِرُ به لفظُ الصَّمَّاِء أقولُ: لأنه مأخوذٌ من الصَّمَمِ وهو انسدادُ الأُذُنِ، وهذا المعنى الذي ذَكَروا ليس فيه انسدادٌ. وفي القاموسِ اشتمالُ الصَّمَّاءِ أن يَرُدَّ الكِسَاءَ من قِبَلِ مَيْمَنَتِهَ على يدِه اليُسرى وعاتِقِه الأيسرِ، ثم يَرُدُّه ثانيةً من خلْفِه على يَدِه اليُمنى وعاتقِه الأيمنِ فيُغَطِّيهما، أو الاشتمالُ بثوبٍ واحدٍ ليس عليه غيرُه، ثم يَضَعُه على أحدِ جانبيه فيَضَعُه على مَنكِبَيْه فيَبْدو منه فَرْجُه.
وقولُه: (لأن الفقهاءَ يَعلَمون تفسيرَ ما أُمِرَ به ونُهِي عنه، لعِلمِهم بمقاصدِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما يَعلَمُ أتباعُ بُقراطَ وسِيبَوَيْهِ) إلخ. معناه أن أهلَ العنايةِ بعلْمِ الرسولِ، العالِمين بالقرآنِ وتفسيرِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابةِ والتابعين لهم بإحسانٍ، عندَهم من العُلومِ الضروريَّةِ بمقاصدِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومرادِه أكثرُ مما يَعلَمُه علماءُ اللغةِ؛ كما أن أهلَ العلْمِ بمذهبِ بُقراطَ في الطِّبِّ، وأهلَ العلمِ بمذهبِ سيبويْهِ في النحوِ، وما قَعَّدَا من قَواعدَ ورَسَمَا من ضوابطَ أكثرُ معرفةً بمقاصدِهما وشرْحِ كلامِهما من مجرَّدِ معرفةِ المعنى اللغويِّ. وقولُه: (ونحوِهما) يعني كرؤساءِ أهلِ الكلامِ والفلسفةِ.
وتأويلُ الخبرِ هو نفْسُ وقوعِ المُخْبَرِ به وعينُ وجودِه، كما أن تأويلَ الأمرِ هو نفْسُ فعْلِ المأمورِ به، ولكنَّ تأويلَ الأمْرِ لابدَّ من العلْمِ به لامتثالِ المأمورِ وترْكِ المحذورِ. أما تأويلُ الخبرِ فيكفي فيه الإيمانُ به, وما ظَهرَ للإنسانِ من معناه فهو من تعليمِ اللهِ له، وما لم يَظْهَرْ له وُكِّلَ علْمُه إلى قائلِه، كما أن الكيفيَّاتِ وحقيقةَ الأمرِ على ما هو عليه مما لا يَعلمُه إلا اللهُ سبحانَه وتعالى. ويَصلُحُ أن يُسْتَشْهَدَ بكلامِ أبي عُبَيْدَةَ على مجيءِ التأويلِ في كلامِ السَلَفِ مراداً به التفسيرُ.
وعائشةُ: هي أمُّ عبدِ اللهِ حبيبةُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بنتُ خليفةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ – رَضِيَ اللهُ عنه – من أكبرِ فقهاءِ الصحابةِ، بَنَى بها النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شوَّالٍ بعدَ وَقْعةِ بدْرٍ فأقامتْ في صُحْبَتِه ثمانيةَ أعوامٍ وخمسةَ أشهرٍ، فكانت أحبَّ نسائِه، ونزَلَت الآياتُ في تَبْرِئَتِها مما رَمَاها به أهلُ الإفْكِ، وعاشتْ خمساً وستِّين سنةً، حدَّثَ عنها جماعةٌ من الصحابةِ، ومسروقٌ، والأسودُ، وابنُ المسيِّبِ، وعروةُ، والقاسمُ، والشَّعبيُّ، وعطاءٌ، وابنُ أبي مُلَيْكَةَ، ومجاهِدٌ، وعكرمةُ، ومُعَاذةُ العَدَويَّةُ، ونافعٌ مولى ابنِ عمرَ، وخلْقٌ كثيرٌ. وكانت غَزيرةَ العلْمِ بحيث إن عروةَ يقولُ: (ما رأيْتُ أحداً أعلَمَ منها بالطِّبِّ) وكانت عالِمَةً بالقرآنِ، وبالفَريضةِ، وبالحلالِ والحرامِ، والشِّعْرِ وكلامِ العربِ والنَّسَبِ، - رَضِيَ اللهُ عنها – تُوُفِّيَتْ سنةَ سبعٍ وخمسين.
وسفيانُ: هو ابنُ عُيَيْنَةَ بنِ ميمونٍ، العلاَّمةُ الحافظُ، شيخُ الإسلامِ أبو مُحَمَّدٍ الهلاليُّ الكوفيُّ، محدِّثُ الحرَمِ مولى مُحَمَّدِ بنِ مُزَاحِمٍ، أخي الضحَّاكِ بنِ مزاحِمٍ، وُلِدَ سنةَ سبعٍ ومائةٍ، وطلَبَ العلْمِ في صِغَرِه، سَمِعَ عمرَو بنَ دينارٍ والزهريَّ، وأبا إسحاقَ، والأسودَ بنَ قيسٍ، وأُمَماً سِواهم. وحدَّثَ عنه الأعمشُ، وابنُ جُرَيْحٍ، وشُعبةُ، وخلْقٌ لا يُحْصَوْنَ؛ فقد كان خلْقٌ كثيرٌ يَحُجُّونَ, والباعثُ لهم لُقْيَا ابنِ عُيَيْنَةَ فيَزدَحِمون عليه في أيَّامِ الحجِّ. وكان إماماً حُجَّةً، حافظاً، واسعَ العلْمِ، كبيرَ القدْرِ. قالَ الشافعيُّ: (لولا مالكٌ وسفيانُ لذهَبَ علْمُ الحجازِ).
وقالَ حَرْمَلةُ: (سَمِعْتُ الشافعيَّ يقولُ: ما رأيْتُ أحداً فيه من آلةِ العلْمِ ما في سفيانَ وما رأيتُ أحداً أكَفَّ عن الفتيا منه, وما رأيتُ أحداً أحسنَ لتفسيرِ الحديثِ منه). مات في جُمَادى الآخرةِ سنةَ ثمانٍ وتسعينَ ومائةٍ.
وأبو عبيدةَ: هو مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى البصريُّ، اللُّغويُّ الحافظُ، صاحبُ التصانيفِ الكثيرةِ, روَى عن هشامِ بنِ عروةَ، وأبي عمرِو بنِ العَلاءِ، وروَى عنه عليُّ بنُ المَدِينيِّ، وأبو عثمانَ المازِنيُّ وغيرُهم. قالَ الجاحظُ: لم يكنْ في الأرضِ خارجيٌّ ولا جماعيٌّ أعلَمَ بجميعِ العُلومِ من أبي عُبَيْدَةَ) ماتَ سنةَ عشرٍ بعد المائتين وقيلَ غيرُ ذلك.
وبُقراطُ: هو أبو الطبِّ المشهورُ, وُلِدَ بجزيرةِ كوسَ سنةَ أربعِمائةٍ وستين قبلَ الميلادِ، من أشرَفِ بيتٍ من أسرةِ فريسامسَ الْمَلِكِ، وتَعلَّمَ صناعةَ الطبِّ من أبيه إيرقليدسَ، ورأَى أن صناعةَ الطبِّ كادت أن تَبِيدَ فأحَبَّ أن يُذِيعَها في جميعِ الأرضِ ويَنقُلَها إلى سائرِ الناسِ، ويُعَلِّمَها مُسْتَحِقِّيها، حتى لا تَبيدَ؛ إذ كانت صناعةُ الطبِّ قبلَه كَنْزاً أو ذخيرةً يَكْنِزُها الآباءُ ويدَّخِرونها للأبناءِ من الملوكِ والزُّهَّادِ فقط، يَقْصِدون به الإحسانَ إلى الناس بالمجَّانِ، ولم يَزَلْ كذلك، إلى أن نشأَ بقراطُ وتَعلَّمَ. وهو أوَّلُ من دوَّنَ صناعةَ الطبِّ وشَهَرَهَا وأَظْهَرَها، وله من المؤلِّفاتِ في ذلك نحوٌ من ثلاثين كتاباً. وقد تُوُفِّيَ سنةَ ثلاثِمائةٍ وخمسٍ وستين قبلَ الميلادِ.
وسيبوَيْهِ: هو أستاذُ النحاةِ أبو بِشرٍ عمرُو بنُ عثمانَ بنِ قُنَبْرٍ، مولى ابنِ الحارثِ بنِ كعبٍ. ولُقِّبَ سيبويهِ لجمالِه وحُمرةِ وَجْنَتَيْهِ، حتى كانتا كالتُّفاحتَيْنِ، فسِيبويْهِ في لغةِ فارسَ رائحةُ التفاحِ. هو الإمامُ العلاَّمةُ شيخُ النُّحاةِ، فالناسُ عِيالٌ على كتابِه المشهورِ في هذا الفنِّ, وقد شُرِحَ بشروحٍ كثيرةٍ. أَخذَ سيبويهِ العلْمَ عن الخليلِ بنِ أحمدَ ولازَمَه. وأخذَ أيضاً عن عيسى بنِ عمرَ، ويونُسَ بنِ حَبيبٍ، وأبي زيدٍ الأنصاريِّ، وأبي الخطَّابِ الأخفشِ الكبيرِ، وغيرِهم. قدِمَ من البصرةِ أيَّامَ كان الكِسائيُّ يؤدِّبُ الأمينَ بنَ الرشيدِ، ورَحَلَ عن بغدادَ فماتَ ببلادِ شِيرازَ في قريةٍ يُقالُ لها البيضاءُ، سنةَ مائتين وثمانين وقد نَافَ على الأربعين سنةً.