الدرس التاسع: دلالات الصيغ الصرفية للمفردات القرآنية
الدرس التاسع: دلالات الصيغ الصرفية للمفردات القرآنية عناصر الدرس: ● ثالثاً: دلالات الصيغ الصرفية للمفردات القرآنية ●القسم الأول: المشترك الصرفي ... الصنف الأول: ما يحتمل المصدرية واسم المفعول ...الصنف الثاني: ما يحتمل المصدرية واسم المكان أو الزمان ...الصنف الثالث: ما يحتمل أن يراد به الفاعل والمفعول ...الصنف الرابع: ما يحتمل الفعل الماضي والمضارع ...تنبيه ● القسم الثاني: دلالات الصيغ الصرفية .الصنف الأول: معاني صيغ الأفعال باعتبار دلالتها على الزمن الصنف الثاني: معاني أبنية الأفعال الصنف الثالث: إفادة الاسم للثبات والدوام والتمكن الصنف الرابع: معاني صيغ المبالغة الصنف الخامس: معاني صيغ الجموع دلالة زيادة المبنى على زيادة المعنى ● أمثلة من أقوال المفسّرين ● التطبيقات |
ثالثاً: دلالة الصيغة الصرفية
من الدلائل المهمة للمفردات القرآنية دلالة الصيغة الصرفية، وهي على قسمين: القسم الأول: المشترك الصرفي، وهو أن تحتمل المفردة صيغتين صرفيتين أو أكثر. والقسم الثاني: دلالات الصيغ الصرفية على المعاني المطرّدة أو الأغلبية لمفرداتها، وحكم الإتيان بالمفردات القرآنية في تلك الصيغ الصرفية. والتفكر في هذين القسمين وإعطاؤهما حقهما من النظر والتمعّن يفتح للمتدبّر باباً عظيم النفع من أبواب فهم القرآن، ويُطلعه على لطائف عجيبة، وأوجه بديعة من التفسير البياني. |
القسم الأول: المشترك الصرفي
المشترك الصرفي أخصّ من المشترك اللفظي، إذ المراد به أن تحتمل الصيغة الصرفية معنيين أو أكثر. ولهذا القسم أمثلة كثيرة يمكن تصنيفها إلى أصناف، منها: الصنف الأول: ما يحتمل المصدرية واسم المفعول الصنف الثاني: ما يحتمل المصدرية واسم المكان أو الزمان الصنف الثالث: ما يحتمل أن يراد به الفاعل والمفعول الصنف الرابع: ما يحتمل الفعل الماضي والمضارع |
الصنف الأول: ما يحتمل المصدرية واسم المفعول
قد تأتي المفردة بصيغة تحتمل المصدرية واسم المفعول، وهذا كما تقول: "هذا أكلي"، فيحتمل قولُك أن تريد به وصف فعلك، وكيف تأكل، ويحتمل أن تريد الإشارة إلى الطعام الذي تأكله. وفي القرآن له أمثلة كثيرة منها: 1: الرزق في قول الله تعالى: {إِنَّ هَاذَا لَرِزْقُنَا} فالرّزق هنا يُحتمل أن يراد به المصدر وهو الاسم الذي يدلّ على فعل الرزق، ويُحتمل أن يُراد به المرزوق به. 2. القصص، في قول الله تعالى: {نحن نقصّ عليك أحسن القصص} فالقصص بفتح القاف تصلح أن تكون اسماً للمصدر، فتعني الإتيان بالخبر على أحسن وجهٍ وأتمّه نفعاً وبياناً. وتصلح أن تكون اسماً لما يُقصّ، وليست جمع قِصَّة |
الصنف الثاني: ما يحتمل المصدرية واسم المكان أو الزمان
ولذلك أمثلة منها: 1. الموطئ في قول الله تعالى: {ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار} يحتمل أن يكون قوله تعالى: {موطئا} مصدراً ميمياً جيء به للبيان، ونكّر ليعمّ أيّ موطئ، فيُعرب مفعولاً مطلقاً، ويُحتمل أن يراد به اسم المكان فيُعرب مفعولاً به. 2. مجراها ومرساها في قول الله تعالى: {وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها} يحتمل أن يُراد بكل كلمة منهما ثلاثة معانٍ: - المصدر الميمي، من أجريتُ السفينةَ مُجرى، وأرسيتُها مُرسى. - ويُحتمل أن يراد به اسم المكان، فيكون مجراها المكان الذي تُجرى فيه، ومُرساها المكان الذي تُرسى فيه، كما تقول إذا رأيت أثر رجل مارّ : هذا ممَرّ فلان. - ويُحتمل أن يراد به اسم الزمان، أي الوقت الذي تُجرى فيه، والوقت الذي تُرسَى فيه. وكلّ هذه المعاني صحيحة لغة، وتحتملها دلالة الآية. 3: المساجد في قول الله: {وَأَنَّ المَسَاجدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً}). تحتمل ثلاثة معان: الأول: جمع اسم المكان، أي المساجد التي يُصلَّى فيها؛ فهي مبنيّة لله تعالى؛ فلا يجوز أن يشرك مع الله فيها أحد، وهذا قول جمهور المفسرين، لأنه المعنى المتبادر لهذا اللفظ والمعهود في القرآن. والثاني: المساجد مصدر كالمضارب فهي بمعنى السجود، يقال: سجدت سجوداً ومسجداً ومساجد، وهذا قول ابن قتيبة رحمه الله. والثالث: المساجد جمع مسجَد بفتح الجيم، وهي مواضع السجود من جسد الإنسان؛ لأنها المساجد التي يسجد بها، وهي (لله) لأن الله هو الذي خلقها فلا يجوز أن تعبد هذه المساجد إلا الله، وهذا القول مروي عن سعيد بن جبير والربيع بن أنس البكري وذكره الفراء وجهاً في التفسير، وقال به الزجاج. 4. مدخل ومخرج في قول الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)} يُحتمل أن يُراد به المصدر، ويُحتمل أيراد به المكان الذي يدخل فيه والذي يخرج منه، ويحتمل أن يراد به الزمان الذي يدخل ويخرج فيه. وكلها معانٍ صحيحة تحتملها هذه الصيغة الصرفية للمفردة، وما ذكره المفسرون من دخوله صلى الله عليه وسلم المدينة، وخروجه من مكة، وغير ذلك من الأقوال كلها من باب التمثيل، وقد بقي النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء بعد ما هاجر حتى توفاه الله عزّ وجلّ، والخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وسلم أصالة، وللمؤمنين بالتبع، فهو دعاء صالح لكلّ مسلم ما دامت الحياة الدنيا. - قال ابن القيّم رحمه الله تعالى: (فمدخل الصدق ومخرج الصدق: أن يكون دخوله وخروجه حقا ثابتا، بالله ولله، وفي مرضاته، متصلا بالظفر بالبغية، وحصول المطلوب، ضد مخرج الكذب ومدخله، الذي لا غاية له يوصل إليها، ولا له ساق ثابتة يقوم عليها، كمخرج أعدائه يوم بدر، ومخرج الصدق: كمخرجه صلّى الله عليه وسلّم هو وأصحابه في تلك الغزوة. وكذلك مدخله المدينة كان مدخل صدق بالله، ولله، وابتغاء مرضاة الله؛ فاتصل به التأييد والظفر والنصر، وإدراك ما طلبه في الدنيا والآخرة، بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب؛ فإنه لم يكن لله، ولا بالله، بل كان محادة لله ولرسوله؛ فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار. وكذلك مدخل من دَخَل من اليهود والمحاربين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حصن بني قريظة فإنه لما كان مدخل كذب أصابهم معه ما أصابهم. فكل مدخل ومخرج كان بالله ولله وابتغاه مرضاة الله؛ فصاحبه ضامن على الله، فهو مدخل صدق ومخرج صدق، وكان بعض السلف إذا خرج من داره رفع رأسه إلى السماء وقال: "اللهم إني أعوذ بك أن أخرج مخرجا لا أكون فيه ضامنا عليك". يريد أن لا يكون المخرج مخرج صدق، ولذلك فُسّر مدخل الصدق ومخرجه: بخروجه صلّى الله عليه وسلّم من مكة، ودخوله المدينة، ولا ريب أن هذا على سبيل التمثيل؛ فإن هذا المدخل والمخرج من أجلّ مداخله ومخارجه صلّى الله عليه وسلّم، وإلا فمداخله ومخارجه كلها مداخل صدق ومخارج صدق، إذ هي لله وبالله وبأمره، ولابتغاء مرضاته. وما خرج أحد من بيته ودخل سوقه أو أي مدخل آخر إلا بصدق أو بكذب؛ فمخرج كل واحد ومدخله لا يعدو الصدق والكذب. والله المستعان)ا.هـ. |
الصنف الثالث: أن تأتي المفردة بصيغة تحتمل أن يراد بها الفاعل والمفعول
وهذه تكون غالباً في المفردات التي تأتي على وزن "فعيل" و "فعول"، ومن أمثلتها: 1. حفيظ في قوله تعالى: {وعندنا كتاب حفيظ} - يحتمل أن يكون وصف مبالغة من حافظ أي يحفظ على العباد أقوالهم وأعمالهم لا يُغادر منها شيئاً، ولا يذهب منه شيء على طول الزمان. - ويحتمل أن يكون بمعنى محفوظ، أي قد حفظه الله فلا يمكن لأحد أن يغيّر فيه شيئاً أو يبدّله. والمعنيان صحيحان، فتحمل الآية عليهما. 2. طهور في قول الله تعالى: {وسقاهم ربّهم شراباً طهورا} - يحتمل أن يكون بمعنى الفاعل أي مطهِّراً. - ويحتمل أن يكون بمعنى المفعول أي مطهَّراً. وهما معنيان صحيحان يجتمعان ولا يتعارضان. 3. السعير في قول الله تعالى: {وكفى بجهنّم سعيرا} - يحتمل أن يكون "السعير" بمعنى اسم الفاعل أي مستعِرةٌ على أهلها، وهذا معنى قول من قال من المفسرين: تتقد عليهم اتّقاداً، والمبالغة على معنى شدة الاستعار، أو ديمومته أو عليهما. - ويحتمل أن تكون بمعنى اسم المفعول أي التي سُعّرت حتى اشتدّت حرارتها وعظمت. والمعنيان يجتمعان في وصف جهنّم والعياذ بالله منها. 4. الرجيم في وصف الشيطان الرجيم - يحتمل أن يكون بمعنى مرجوم، كما يقال: لَعِين بمعنى ملعون، وقتيل بمعنى مقتول. - ويحتمل أن يكون بمعنى راجم، أي يرجم الناس بالوساوس والربائث، وما يثبّطهم عن الطاعات. وفي سنن أبي داوود من حديث عطاء الخراساني عن مولى امرأته أمّ عثمان قال: سمعت علياً رضي الله عنه على منبر الكوفة يقول: (إذا كان يوم الجمعة غدت الشياطين براياتها إلى الأسواق؛ فيرمون الناس بالترابيث أو الربائث ويثبطونهم عن الجمعة). وفي بعض المواضع تكون دلالة المفردة على اسم الفاعل أو المفعول مستفادة من لازم المعنى لا من دلالة الصيغة الصرفية في الأصل، ولذلك أمثلة منها: 1. عاصم في قول الله تعالى: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} هذا اللفظ ظاهر الدلالة على معنى اسم الفاعل أي لا يعصِم أحدٌ أحداً من أمر الله إلا أن يرحمه الله فيعصمه، وذكر بعض أهل العلم أنه يأتي بمعنى المفعول أي لا معصوم من أمر الله إلا من رحم. وهذا المعنى وإن كان صحيحاً في نفسه إلا أنّ الأظهر عندي أن دلالة اسم الفاعل في هذا الموضع على اسم المفعول مستفادة من لازم المعنى لا من دلالة الصيغة الصرفية. 2. مُسَحَّر في قول الله تعالى: {قالوا إنما أنت من المسحَّرين} فسرها بعض أهل العلم بمعنى اسم الفاعل أي من الساحرين، وفسرها بعضهم بمعنى اسم المفعول أي من المسحورين. لكنَّ هذين المعنيين مدلول عليهما بلازم المعنى وليس بدلالة الصيغة الصرفية، ولذلك احتيج فيهما إلى التخريج اللغوي الذي يصحّ به المعنيان: - فيأتي المسحَّر بمعنى الساحر إذا أريد به المتَّهم بالسحر، أو الذي عُلّم السحرَ حتى صار ساحراً. - ويأتي بمعنى المسحور إذا أريد به من تكرَّر سَحْرُه مرّة بعد مرّة، كما يقال في المغلَّب الذي يُغلب مرة بعد مرّة، والمفجَّع للذي يُفجع مرة بعد مرة، والمُرزَّأ الذي يُرزأ بالمصيبة تلو المصيبة. |
الصنف الرابع: أن تأتي المفردة بصيغة فعلِ تحتمل الماضي والمضارع أو الاستقبال
ومثال ذلك: "تولّوا" في قول الله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} فإن كانت للماضي فتاء الخطاب التي في أوّل الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم. وإن كانت للاستقبال فتاء الخطاب للكافرين، وأصل الفعل تتولّوا، لكن حذفت إحدى التاءَين. |
تنبيه:
وليُتنبَّه إلى أنه ليس كلّ ما تحتمله الصيغة الصرفية للمفردة في اللغة من المعاني تُفسّر به في القرآن؛ وإنما يؤخذ من تلك المعاني ما يدلّ عليه السياق، ويناسب مقصد الآية، ولا يعارض نصاً صحيحاً، ولا إجماعاً. |
والقسم الثاني: دلالات الصيغ الصرفية
للصيغ الصرفية دلالات على معانٍ مطرّدة أو أغلبية في مفرداتها، وبين هذه المعاني العامة للصيغ الصرفية وبين المعاني الخاصة لمفرداتها تناسب يستفيد به المفسّر بعض الأوجه التفسيرية، ويطلعه على حِكَم الإتيان ببعض المفردات القرآنية في صيغها الصرفية التي وردت فيها. وتنوّع الصيغ الصرفية للمفردات القرآنية باب لطيف من أبواب التفسير البياني يستدعي لطافة ذهن، ومعرفة حسنة بالصرف والبلاغة، وسأذكر في هذا الدرس خلاصات نافعة مصنفة إلى أصناف ألخص فيها ما وقفت عليه مما يكثر استعماله لدى المفسرين المعتنين بالتفسير البياني، أرجو أن تكفي اللبيب في أخذ تصور حسن لأنواع تلك المسائل وتنبهه على ما ورائها مما لم يذكر؛ فإنّ هذه الأصناف غير حاصرة لدلالات الصيغ الصرفية. |
الصنف الأول: معاني صيغ الأفعال باعتبار دلالتها على الزمن
مما هو معلوم متقرر أن الفعل ينقسم باعتبار دلالته على الزمن إلى ماضٍ ومضارع وأمر. - فالفعل الماضي ما دلّت صيغته على حصول الفعل في الزمن الماضي، كقام، وقعد، وأتى. - والمضارع ما دلّ على الزمن الحاضر أو المستقبل، كيقوم، ويقعد، وسيأتي. - والأمر هو طلب حصول الفعل بعد زمن التكلم، كقمْ، واقعدْ وائتِ. وهذا التقسيم وأمثلته إنما يراد بها تقريب التصور الأولي، وإلا فهي مشتملة على دلالات كثيرة متداخلة تدلّ على سعة اللسان العربي، وثراء مفرداته وتنوع استعمالاتها. أ: فأما الفعل الماضي فإنه يؤتى به للدلالة على انقضاء الفعل حقيقة أو حكماً، وقد يأتي لإفادة معنى الثبات. - فالانقضاء الحقيقي أن يكون الفعل قد وقع وانقطع، كما في قوله تعالى: {فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله}. - والانقضاء الحُكمي هو الإخبار عن فعل لم يقع بعدُ بصيغة الماضي للدلالة على قرب وقوعه، أو الجزم بوقوعه، أو الدعاء بوقوعه، كما في قول الله تعالى: {ونزعنا ما في صدورهم من غلّ تجري من تحتهم الأنهار}، وقوله تعالى: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه}، وقوله تعالى: {ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر}، وقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله}. وقد يدلّ الفعل الماضي على الثبوت والاستقرار كما في قوله تعالى: {واستغنى الله}، وقوله تعالى: {يؤفك عنه من أفِك}، وقوله تعالى: {أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا} ، وقوله تعالى عن زكريا عليه السلام أنه قال: {إني وهن العظم مني} ، وقوله تعالى عن إبليس أنه يقول يوم القيامة: {إني كفرتُ بما أشركتمونِ من قبل} ، وقوله تعالى: {تبّت يدا أبي لهب وتبّ} وهذا إنما يكون في الأفعال التي إذا وقعت ثبتَ حكمُها عادةً فلا يُنقض؛ كما إذا قيل: "مات فلان" ؛ فهو إخبارٌ عن حَدَثٍ يثبت وصفه من حين موته، وليس الموت حدثاً يحتاج إلى تجدد في إثبات وصفه؛ فلا يُتصوَّر أن يريد القائل أنّ فلاناً مات موتة واحدة في الماضي وأنه الآن حيّ، بخلاف أكل وشرب فإنها أحداث لا تدلّ على ثبات الوصف. وهذا النوع يَخرج منه ما يردِ في الكلام دلالةٌ على انتقاض الحكم فيه، كما في قول الله تعالى: { وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)} فهم كانوا مستبصرين ثم صدّهم الشيطان بما زيَّن لهم؛ فذهب عنهم أثر الاستبصار، وهذا على أحد الوجهين في التفسير، وهو أن يراد بالاستبصار أصل البصيرة التي هي مقتضى الفطرة. وعلى الوجه الآخر: وهو أن يراد بالاستبصار المعرفة النظرية التي هي حُجّة على صاحبها كما في قول الله تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} فيكون الحكم ثابتاً، ويكون هذا الاستبصار غير نافع لهم، بل هو زيادة في الحجة عليهم. والأحكام الثابتة إذا صيغ منها مثالُ مبالغة ودخلت عليها كان؛ أفادت قوة المعنى والاستغراق في الزمن الماضي والمستقبل: - فإن كان في حقّ الله تعالى أفادت الاستغراق في الأولية والآخرية، كما في قول الله تعالى: {وكان الله غفوراً رحيماً} وقوله: {وكان ربك قديراً}، وقوله تعالى: {وكان الله بكلّ شيء عليماً} فهي في معنى كان كذلك في الأزل ثم لم يزل كذلك. - وإن كانت في حق المخلوقين أفادت من الديمومة والثبات ما يناسب أحوالهم وأزمانهم كما في قول الله تعالى: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} وقوله: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً}، وقوله: {إن كيد الشيطان كان ضعيفاً}، وقوله: {إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا}، أي هذا هو الشأن. وقال الشنفرى: وإن مُدّت الأيدي إلى الزاد لم أكن ... بأعجلهم إذ أجشعُ القوم أعجلُ أي أن المتفضل هو الأفضل في الماضي ولا يزال كذلك؛ فهو إخبار عن حكم مستقر علل به فعله في تفضله عليهم ليكون هو الأفضل وليس ذلك عن خوف منه ولا ضَعَة. وما ذاك إلا بسطة عن تفضّل ... عليهم وكان الأفضلَ المتفضلُ وقد تدخل "كان" بصيغة الماضي على الفعل الذي لم يقع بعدُ لإفادة قوة المعنى فيه، والجزم بتحققه؛ كما في قول الله تعالى: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)} فكلمة شركاء في قوله: {بشركائهم} مضاف يصدق على المشركين وعلى ما يدعونهم من دون الله، ويوم القيامة يكفر بعضهم ببعض، وجيء بكان للدلالة على شدة كفرهم بهم يوم القيامة، حتى كأنّهم أنزلوا أنفسهم منزلة من لم يؤمن بهم قط. ومنه قول الله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)} فهم في خسار من أول أمرهم إلا أنّ ظهور خسارهم يوم القيامة يبين لكلّ من في الموقف. ب: وأمّا الفعل المضارع فيدلّ على التجدد، وهذا التجدد قد يكون بتكرر الفعل، وقد يكون باستدامته حقيقة أو حكماً. - قال الله تعالى: {أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن} فالأصل في الطير كونها صافات، ولذلك جيء بهذا الوصف بصيغة اسم الفاعل الذي يدلّ على الثبات واللزوم، وعُطف عليه {يقبضن} بصيغة المضارع ليكون وصفاً طارئاً متجدداً بالتكرار كأنه يحكي فعل الطير بقبض أجنحتها مرة بعد مرة لأجل الطيران. و"صافات" اسم فاعل مشتق من الفعل "صفّ" ، وهو محتمل للزوم والتعدي. فإن كان لازماً فيفيد اصطفاف الطيور بعضها مع بعض. وإن كان متعدياً فيفيد صفَّ الطيورِ أجنحتَها عند الطيران. - وقال الله تعالى: {قل لا تُسألون عما أجرمنا ولا نُسأل عما تعملون} خالف بين الصيغة في {أجرمنا} و {تعملون}، وذلك – والله تعالى أعلم – لأن الكفار لمّا كانوا يتعلّقون في ذمّ المسلمين بأدنى ما قد يقع من بعض أفرادهم من أعمال يعدونها جرائم، وقد لا تكون كذلك، وبعضها ربما كان قبل إسلامهم ودعوتهم، أتي بصيغة الماضي لإفادة أنها مضت وانقضت، وحالهم الآن حال التائبين الصالحين الذي يعملون الصالحات، هذا على التنزل بأنّها جرائم. وأما أعداء الرسل فقيل في حقهم: {ولا نُسأل عما تعملون} فهم مقيمون على أعمال سيئة يعملونها وتتجدد منهم وهم مصرّون عليها؛ فأيّ الفريقين أحقّ باللوم والتشنيع؟!! وأيّهما أحقّ بالخوف من الحساب والجزاء لو كانوا يعقلون؟ّ!! وهذا في المحاجّة قوي الوقع على الخصم. وإذا أريد إفادة تجدد الفعل وتكرره في الزمن الماضي أتي بما يفيد استحضار الحالة باستعمال إذ، أو كان، أو بعض أفعال المقاربة، أو أُوقِع الفعل موقعَ الحال، ولذلك أمثلة في القرآن الكريم منها: 1. قول الله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} أفاد الإتيان بإذ، والفعل المضارع "يرفع" استحضار الحالة، وتصوير المشهد في ذهن القارئ. - قال ابن عاشور: (وخولف الأسلوب الذي يقتضيه الظاهر في حكاية الماضي أن يكون بالفعل الماضي بأن يقول: "وإذ رفع" إلى كونه بالمضارع لاستحضار الحالة وحكايتها كأنها مشاهدة؛ لأن المضارع دالٌّ على زمن الحال؛ فاستعماله هنا استعارة تبعية). 2. وقول الله تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم} الإتيان بالفعل المضارع مع "إذ" يفيد استحضار الحالة التي كانوا عليها ولزومهم للاستغاثة وتجددها منهم. {فاستجاب} بالماضي لإفادة وقوع الوعد وتحققه. 3. وقول الله تعالى حكاية عن مؤمني الجن أنهم قالوا: {وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا} فهذا فيه إفادة بأن أقوال سفهائهم كانت دائمة متجددة مما يدل على أنهم كانوا مصرّين عليها ويدعون إليها. ولو قيل: وأنه قال سفيهنا، لربما أفاد أنها إنما كانت كلمة قيلت وانقضت. 4. وقول الله تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به} {يحرفون} فعل مضارع أوقع موقع الحال للدلالة على أنّ هذا حالهم ودأبهم، وأن تحريفهم متجدد دائم. {ونسوا} بالماضي، فيه إشارة لشدة إعراضهم، وأنّ ما يكون منهم من نسيان لا يعقبه تذكّر؛ وهو هنا النسيان المذموم، وهو ما يكون بسبب الإهمال والإعراض، ولو أنهم كانوا يتذكّرون وينتفعون بالذكرى لكان نسيانهم متكرراً، لكنّه هنا نُزّل منزلة الفعل الثابت الذي وقع وثبت أثره. ج: وأما فعل الأمر فالأصل فيه طلبُ حدوث الفعل من المأمور على وجه الاستعلاء، وقد يخرج الأمر عن معناه الأصلي إلى معانٍ أخرى كالامتنان، والإباحة، والتخيير، والتسوية، والتعجيز، والتمني، والدعاء، وغيرها، ولكل تلك المعاني أمثلة في القرآن الكريم. |
الصنف الثاني: معاني أبنية الأفعال
للأفعال أبنية مشتهرة في معانٍ عامّة، ومن ذلك: 1: فَعَل، يأتي لمعاني كثيرة يصعب تقصّيها، ومنها: المغالبة كسابقته فسبقته، والجمع: كجمع، وحشر، وحشد، والتفريق: كقسم، وفَرَق، والإعطاء، كمنح ونحل، والتحول: كصرف، ونقل، وغيرها كثير. 2: فَعِل، يكثر في العلل وحالات النفس، ومنه: فرِح، وحزِن، ومرِض، وسَقِم. 3: فَعُل، يأتي للدلالة على معانٍ منها: أ- ثبات الصفة، مثل: كمُل، وشرُف، وعظُم، ومنه قول الله تعالى: {فمن ثقلت موازينه}. ب- الطبائع والسجايا، ومنه قوله تعالى: {والذي خبُث لا يخرج إلا نكدا} ج- التعجب، ومنه قوله تعالى: {ضعف الطالب والمطلوب}، وقوله تعالى: {نعم الثواب وحسنت مرتفقا} د- التشنيع: ومنه قوله تعالى: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم}. وقول الله تعالى: {وحسن أولئك رفيقاً} يحتمل المدح وثبات الصفة. 4: أَفْعَل، وتأتي بمعانٍ أشهرها: أ: تعدية ما كان ثلاثياً، كما تقول: رضي فلانٌ وأرضيته، وسمع وأسمعته، وبَصُر وأبصَرْته، فالهمزة في هذه الأمثلة داخلة على أفعال ثلاثية فأكسبتها التعدية. وفي القرآن أمثلة كثيرة جداً لهذه الصيغة، منها قول الله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} وقوله تعالى: {وآتى المال} وقوله تعالى: {والوالدات يُرضعن أولادهن}، وقوله تعالى: {تُرهبون به عدو الله وعدوّكم}. ب: الدخول في الزمان، كأصبح وأمسى وأضحى. ج: الدلالة على اكتساب الصفة، كآمن، أي صار مؤمناً، وألحد أي صار ملحداً. د: الحكم على الشيء، نحو: أكبرته، وأجللته، وأبخلته، ومنه قوله تعالى: {فلمّا رأينه أكبرنه}. 5: تفاعَل، وتأتي لمعانٍ أشهرها: أ – المشاركة، مثل: تبايعتم، تداينتم، تناجيتم، يتحاجون، يتلاومون، يتساءلون، يتماسّا، يتراجعا، فتنادوا، تواصوا. ب- إفادة قوّة وقوع الفعل مثل: تعالى الله، وتبارك الله. ج- إفادة تدرّج وقوع الفعل، مثل: تعافى المريض، وتوافد القوم، وقال تعالى: {فتطاول عليهم العمر}، وقال تعالى: {حتى إذا ادّاركوا فيها جميعا} ، وقال تعالى: {بل ادّارك علمهم في الآخرة} ، وقال تعالى: {اثّاقلتم إلى الأرض}، وقال: {يتوارى من القوم}. وقال تعالى: {حتى توارت بالحجاب}. د- التكلف والاكتساب، ومنه: تناسى، وتعامى، قال تعالى: {فتعاطى فعقر}، وقال تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع}. ه- إفادة تكرر وقوع الفعل، قال تعالى: {فبأيّ آلاء ربّك تتمارى}، وقال تعالى: {ذلك يوم التغابن}. هو- إظهار خلاف الحقيقة، مثل: تمارض، وتماوت، وتغافل، وتعاظم. ى- مطاوعة فاعَل الذي بمعنى أفعل، مثل: ناولته فتناول، وباعدته فتباعد، وضاعفت الحساب فتضاعف. 6: فعَّل، وتأتي لمعانٍ أشهرها: أ- تعدية الثلاثي اللازم، كعلّم، ودرّس، وفهّم، وذّكر، ورضّى، وبرَّأ. ب- تأكيد الفعل أو تكثيره مثل: فتّح، وشقّق، وحرَّق، وفجَّر، ووصَّى، وبتَّك، وبذّر، {وغلّقت الأبواب}. ج- نسبة المفعول إلى أصل الفعل، مثل: صدّق، وكذّب، ووهَّى، وزكَّى، ودسَّى. د: اختصار حكاية المركّب، مثل: سبَّح أي قال: سبحان الله، وهلّل، وكبّر. 7: انفعل، وتأتي لمعانٍ منها: أ- للدلالة على المطاوعة، كما يقال: كسرته فانكسر، وزجرته فانزجر، وثنيته فانثنى، وفي القرآن: {إذا السماء انشقّت} وقوله تعالى: ب- التدرج، مثل: انهار، وانثال، وقال تعالى: {وإذا النجوم انكدرت} وقال تعالى: {فانبجست منه اثنتا عشرة عينا}، وقال تعالى: {فكانت هباء منبثّا} ج- المبادرة، مثل: انطلق، وانبعث، وانسلخ، وانصب. ويأتي بما يحتمل معنيين أو أكثر، مثل: انصرف يحتمل مطاوعة صرف، ويحتمل المبادرة. وكذلك: انفلق، وانفضّ. 8: افتعل، وتأتي لمعانِ منها: أ- المطاوعة، ومنه: جمعته فاجتمع، وسوّيته فاستوى، وعدّلته فاعتدل، ومنه: اهتدى، واحترق، والتفَت. ب- الاكتساب والتعمّل، وهو على نوعين: فمنه ما يجري مجرى الاجتهاد، ومنه ما هو تكلّف، ومن أمثلته: اكتسب، واجترح، واطّلع، وافترى، واغترف، واقتحم، واختان، واجتثّ، واتّبع، وارتضى، واصطبر، واجتنب. ج: الطلب، مثل: اكتتب، واعتصم، واقتبس. د- الاتخاذ، مثل: اتّقى، واختتم، واعتمّ أي اتخذ عمامة. هـ - الاختيار، مثل: اصطفى، وانتخب، واختار. و: المشاركة، مثل: اقتتل، واختصم، {واستبقا الباب} و{نبتهل} و[يصطرخون}، {فاختلط به نبات الأرض}. 9: افعَلّ، ويأتي للدلالة على اكتساب لون أو صفة مثل: اسودّ، وابيضَّ، وقال تعالى: {مدهامّتان} وقال تعالى: {فرأه مصفراً} ، وقال تعالى: {فتصبح الأرض مخضرّة} ، وقال تعالى: {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّيَّنت} ، وقال تعالى: {فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقضّ} 10: تفعَّل، وتأتي لمعانٍ منها: أ- مطاوعة الثلاثي المضعّف، مثل: قوّمته فتقوَّم، وعلّمته فتعلَّم، وفهّمته فتفهَّم، ومنه قوله تعالى: {إلا أن تقطّع قلوبهم}، وقوله تعالى: {تتقلّب فيه القلوب والأبصار}. ب- التعمّل والتكلّف، مثل: تشجَّع، وتكرَّم، وتطبَّب، وتمطَّى، ومنه قوله تعالى: {تسوَّروا المحراب} ، وقوله تعالى: {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا}، وقوله تعالى: {وتفقّد الطير}. ج- التدرّج، مثل: تخفَّف، وترقَّى، و{تفسّحوا في المجالس} ، {والصبح إذا تنفّس}، و{يتسللون}. د- الاتّخاذ، مثل: توسَّد، وتعمَّم، وتختَّم. هـ- التجنّب، مثل: تحرَّج ، وتأثّم، وتذمّم. 11: استفعل، وتأتي لمعانٍ منها: أ- الطلب صراحة أو تقديراً، ومنه: استغفر، واستعلم، واستفهم، واستدان، واستخرج. ب- التحول من حال إلى حال، مثل: استغنى، واستقام، واستقدم، واستأخر، واستبشر، واستحسر، واستنسر البغاث. ج- الحكم على الشيء، مثل: استصغرته، واستثقلته، واستسمنته. د- حكاية المركب، مثل: استرجع أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. 12: افعلَّل، وتأتي للدلالة على المبالغة في الصفة، مثل: اطمأنَّ، واشمأزّ، واقشعرَّ، أصلها: اطمأنن، واشمأزز. |
الصنف الثالث: إفادة الاسم للثبات والدوام والتمكن
يؤتى بالاسم المتضمن لوصف فعل لإفادة ثبوت الفعل ودوامه، أو تمكنه، أو الجزم بتحقق وقوعه في المستقبل. فمثال الأول: قول الله تعالى: {ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون (103)} فعل الشرط "آمنوا"، وعدل في جوابه عن صيغة الفعل "لأثيبوا" إلى الاسم "لمثوبة"، وهذا فيه إشعار بثبات الثواب ودوامه. - قال الزمخشري: (أوثرت الجملة الاسمية في جواب (لو) على الفعلية لما في ذلك من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها، كما عدل عن النصب إلى الرفع في {سلام عليكم} لذلك). - قال ابن عاشور: (ومراده أن تقدير الجواب "لأثيبوا مثوبة من الله خيرا لهم مما شروا به أنفسهم"، أو "لمثوبةً" بالنصب على أنه مصدر بدل من فعله، وكيفما كان فالفعل أو بدله يدلان على الحدوث فلا دلالة له على الدوام والثبات، ولما كان المقام يقتضي حصول المثوبة وثباتها وثبات الخيرية لها ليحصل مجموع معانٍ عُدِلَ عن النصب المؤذن بالفعل إلى الرفع لأن الجملة الاسمية لا تفيد الحدوث بل الثبوت، وينتقل من إفادتها الثبوت إلى إفادة الدوام والثبات). وكذلك قول الله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} فعدل عن أعرضوا إلى "وهم معرضون"، وهذا فيه إفادة لمعنى ثبات اتصافهم بهذا الوصف وإصرارهم عليه. ومثال التمكن قول الله تعالى: { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)} فعدل عن العطف بالمماثل فلم يقل واتكئوا، إلى الحال بصيغة اسم الفاعل "متكئين" وفي ذلك من الإشعار بالتمكّن ما لا تفيده الجملة الفعلية. ونظيره قول الله تعالى: {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنّين}، وقوله تعالى: {فلما رآه مستقرّا عنده}، وقوله تعالى: {يدعون فيها بكل فاكهة آمنين}. ومثال الجزم بالتحقق قول الله تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة} وقوله تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون}، وقوله: {إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً} وقوله: {إن الله مبتليكم بنهر}، وقوله: {ذلكم وأنّ الله موهن كيد الكافرين} وقوله: {قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون} فأفاد الإتيان بالاسم الجزمَ بتحقق وقوع الفعل وإن لم يكن قد حدث وقتَ الخطاب. وما قيل في الإثبات يقال نظيره في النفي كما في قول الله تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} ففيه إفادة قوة استبعاد العذاب ما داموا يستغفرون؛ وقد اجتمع في هذه الآية النفي باسم الفاعل ودخول كان الدالة على الاستبعاد في هذا الموضع. تقول: "لم أفعل" لنفي الفعل في الزمن الماضي، و"لا أفعل" لنفيه في الزمن الحاضر، و"لن أفعل" لنفيه في الزمن المستقبل، و"ما كنت لأفعل"، لاستبعاد وقوع الفعل في الماضي والحاضر والمستقبل. |
الصنف الرابع: معاني صيغ المبالغة
صيغ المبالغة الواردة في القرآن الكريم كثيرة ومنها: فاعل، وفاعلة، وفَعّال، وفَعِيل، وفَعُولٌ، وفعلان، وفِعّيل، وفَعُّول، وفُعُّول، وفَيْعُول، وفُعَّال، وفَعَلُوت، ومِفْعال، ومِفْعِيل، وفَعِل، وفُعَلة، وفُعُلّ، وفُعَّل. وتأتي المبالغة على معانٍ منها: كثرة تكرّر وقوع الفعل؛ وقوة الاتصاف بالصفة، والسعة والامتلاء، ودوام الفعل وطول مدّته، والإحاطة، وبلوغ الغاية. 1. ففاعل يؤتى به أحيانا للدلالة على المبالغة كما في قول الله تعالى: {وكان الله شاكراً عليماً} وقوله: {إن الله عالم غيب السموات والأرض} و{غافر الذنب وقابل التوب} و{إن الله بالغ أمره}. وفي غير صفات الله تعالى مثل: {إنا وجدنا صابرا} ، و{كان أبوهما صالحاً} 2. وفاعلة مثل: قارعة، وطاغية، وعاتية، وخافضة رافعة، وهو بناء يدلّ على بلوغ الغاية بتخصيص الصفة لما وصفت به. فالقارعة هي التي بلغت من هولها وشدّتها ما صحّ أن تنفرد باسمه، فكأنها هي التي تقرع ولا نسبة لقرع غيرها إليها. وقيل إن الهاء التي تدخل للمبالغة هي على معنى أن الموصوف يقوم مقامة جماعة، كما في علامة، وفهامة، وداعية، كأنّه في هذه الصفات يقوم مقام جماعة، ولذلك لا تدخل هذه الهاء في أسماء الله تعالى لأن الله واحد أحد. والمعنيان بينهما تقارب. 3. وفعّال من أكثر صيغ المبالغة وروداً في القرآن الكريم، وهي تدلّ على الكثرة والتجدد، ومن أمثلته في أسماء الله تعالى الواردة في القرآن: الوهّاب، والتواب، والخلاق، والفتاح، والقهّار، وفي صفاته تعالى: {إن ربك فعّال لما يريد}. وأما النفي في قوله تعالى: {وما ربّك بظلام للعبيد} فهو لإفادة قوة التنزه عن الظلم. ويأتي في غير صفات الله تعالى كما في: صبّار، وأوّاب، وأوّاه، وكفّار، وسَحّار، وخوّان، وحَلاف، وأفّاك، ومنّاع للخير، وبناء وغواص، و{سماعون للكذب أكّالون للسحت}، و{عينان نضّاختان} و{ماء ثجّاجا} ، و{سراجاً وهّاجا}، و{والوسواس الخناس} وغيرها. 4. وفَعيل يأتي في أسماء الله تعالى مثل: العليم والحكيم والعلي والعظيم والحميد والمجيد والكريم، والقوي والولي، وغيرها. ويأتي في غير أسماء الله مثل: بشير، ونذير، وبليغ، وأثيم، وعنيد، وحميم، وخصيم، وكظيم، وتقيّ، وغويّ، ونسيّ. وهو يدلّ على الكثرة والاستدامة. 5. وفَعول في أسماء الله مثل: غفور، وشكور، وودود، ورؤوف، وعفوّ. وفي غيرها على معنيين: أحدهما: المادّة التي يقع منها الفعل الذي اشتقّ منه الاسم، كالوَضوء اسم لما يُتوضَّأ به، والوَقود اسم لما يوقد به، والسَّحور اسم لما يُتسَحَّر به، والغسول اسم لما يُغسل به، وهكذا. والآخر: المبالغة بتشبيه الموصوف بمادّة الفعل لكثرة وقوعه منه، فالظلوم هو كثير الظلم حتى كأنّه مادّة للظلم، وكذلك الجهول، والكّنود، واليؤوس، والقنوط، والفخور، والهلوع، والمنوع، والشكور، والودود. والتوبة النَّصوح هي ظهر نصح صاحبها ولزمه وصفها حتى كأنّه مادّة للنصح، والنصح هنا ما جمع الصدق والإخلاص. 6. وفَعْلان، مثل رحمن في أسماء الله تعالى، وهو دالٌّ على السعة. ويأتي في مثل: حيران، وشبعان، وجوعان، وفرحان، وغضبان، وشيطان، فيوصف بها من كان كالممتلئ من هذه الصفات. 7. وفَعُّول مثل: قَدّوس في قراءة فتح القاف. 8. وفُعُّول، مثل قُدّوس. 9: وفيعول، مثل: قيوم. 10: وفاعول، مثل: فاروق، وماعون، وناقور، وناقوس، ويقال للرجل كثير الكلام: هاذور، ولشديد الحذر: حاذور، تنزيلاً له منزلة الآلة على وجه المبالغة. 11. وفِعّيل، لمن كثر منه الفعل حتى صار كالصفة اللازمة، مثل: صدّيق، وقسّيس، وسكّير، وخمّير. 12. وفُعَّال، مثل: كُبَّار، هو مبالغة من فُعَال بتخفيف العين، وفُعال مبالغة من فَعيل، فكأنّ فعَّال لما بلغ الغاية في الصفة. وقيل إنه تشبيه له بالآلة على جهة المبالغة كالكُلاب والنُّشَّاب. 13. وفَعَلُوت: مثل: جبروت، وملكوت، وهو في معنى بلوغ الغاية في الصفة. وطاغوت أصلها طغَوُوت، وهي تدلّ على بلوغ الغاية في الطغيان. 14: ومِفْعال، وهو بناء يدلّ على الديمومة حتى يُشبّه بالآلة، كالمفتاح، والمزلاج، وفي القرآن: مثقال، وهو ما يوزن به، ومحراب، وقال الراغب الأصفهاني: قيل: سمي بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والهوى. ومدرار، ومرصاد، ومنهاج، وميراث، وميقات، وميثاق. قال أبو حيّان: (مفعال للمذكر والمؤنث بغير تاء، وفيه معنى النسب، أي ذات رصد وكل ما جاء من الأسماء والصفات على معنى النسب في التكثير واللزوم). 15: ومِفْعِيل، وهو في معنى مفعال، مثل: مسكين، وهو الذي اعتاد المسكنة وكثرت منه حتى صارت كالصفة الدائمة له. 16: ومِفْعَل، مثل: مرفق. 17: وفَعِل، مثل خَصِم كما في قوله تعالى: {بل أنتم قوم خَصِمون} 18: وفُعَلة، مثل: همَزة، ولمَزة. 19: وفُعُلّ، مثل عتُلّ، وهو شديد الخصومة بالباطل. 20: وفُعَّل، مثل: خنَّس، وكنَّس. |
الصنف الخامس: معاني صيغ الجموع
ما يدلّ على الجمع في اللغة على أنواع: النوع الأول: جمع المذكر السالم وما يلحق به، ومنه: المسلمون، والقاسطون، والمصطفون، والأعلون. ومما يلحق به: ألفاظ العقود كعشرين وثلاثين، والعالَمين، والبنين، والأهلين، وأولي، وعليين، وعِزين، وعِضِين. والنوع الثاني: جمع المؤنث السالم وما يلحق به، كالمسلمات، والمؤمنات، والحجرات. ومنه: مفتريات، وخطوات، وحسرات. ومنه: محذوف اللام كبناتٍ، وثُبات. وما يلحق بجمع المؤنث السالم كأولات، وعرفات. ولجمع المؤنث السالم صيغ كثيرة. وجمع المذكر السالم والمؤنث السالم يقال لهما جمعا السلامة وجمعا التصحيح، وهما صالحان للقلة والكثرة، وذهب ابن مالك إلى أنّ الأصل فيهما الدلالة على القلّة ما لم تقترن بهما الألف واللام الدالة على الاستغراق، أو يضافا إلى ما يدل على الكثرة. والنوع الثالث: جمع التكسير، سمّي بذلك لاختلاف بنائه بعد الجمع عن بناء مفرده. ومنه جموع قلّة، وجموع كثرة. فأمّا جموع القلة: فلها أوزان مشتهرة جمعها ابن مالك في ألفيته بقوله: أفْعِلَةٌ أفْعُلٌ ثمَّ فِعْلَةٌ ... ثمَّتَ أفعالٌ جموع قلّة ومنه: أجنّة وأشحّة لأن الأصل أَجْنِنَة وأَشْحِحَة، وكذلك أعزة وأذلة وأئمة وأهلة وأكنة. ومنه آنية لأن أصلها أَأْنية. 2. وأَفْعُل، مثل: أنفس، وأبحر، وأشهر. 3. وفعْلة، مثل: إخوة، وفتية. 4. وأفعال مثل: أيام، وأزواج، وأسماء، وأجسام، وأفواه، وأسماع، وأبصار، وأثقال، وأوزار، وأحزاب، وأهواء، وآلاء، وآذان، وأجداث، وأبكار، وأتراب، وهي كثيرة في القرآن. وهذه الصيغ مشتهرة في القلة، وهي تدلّ عليها بشروط يأتي ذكرها إن شاء الله. وقد عُدّ من جموع القلة صيغ أخرى مثل: فُعَل، وفِعَل، وفِعَلة، وفَعَلة، وأفْعِلاء، والصحيح أنها جموع كثرة. - قال ابن أمّ قاسم المرادي: (وليس من أبنية القِلَّة فُعَل نحو ظُلَم، ولا فِعَل نحو نِعَم، ولا فِعَلة نحو قِرَدة خلافا للفراء، ولا فَعَلة نحو بَرَرة، خلافا لبعضهم، نقله عنه ابن الدهان، ولا أفعِلاء نحو أصدقاء خلافا لأبي زيد الأنصاري، نقله عنه أبو زكريا التبريزي، والصحيح أن هذه كلها من جموع الكثرة). وأمّا جموع الكثرة؛ فلها صيغ كثيرة، تزيد على ثلاثين صيغة منها: 1. أفعلاء: كأنبياء وأولياء، وأغنياء، وأدعياء، وأخلاء، وأحبّاء، وأشداء. 2. وفُعَلاء: كعُلَماء، وحنفاء، ورحماء، وخلفاء، وشهداء، وضعفاء، وفقراء، وشركاء، وخُلَطاء، وقرناء، وكبراء، وشعَراء، وسفهاء، وبرآء. 3. وفُعْل:كخُضر وحُمْر، وسود، وبيض، وعُمْيٌ وصمّ، وبكم. 4. وفُعَل:كغُرَف، وعُقَد، وشُعَب، وزُمر، وزُلَف، ونُهَى، وجُدَد، وأمم، وسُنن، وظُلَل، وقُوَى، وسُوَر، وصُوَر، وكُبَر، وعُلَى، وقُرى. 5. وفُعُل: كرُسُل، وصُحُف، وسُقُف، وجُدُر، وسُرُر، 6. وفِعَل: كَقِطَع، وكِسَف، ولِبَد، ونِعَم، وشِيَع، وحِجَج، وقِدَد. 7. وفَعَلَ، كحَرَس، ورَصَد. 8. وفَعَلة: كحفَظة، وخَزَنَة، وبَرَرَة، وسَفَرَة، وحَفَدَة، وورثة، وسحرة، وفجرة، وكفرة. 9. وفِعَلة: كقِرَدة وليس في القرآن غيرها على مثالها. 10: وفُعَلة: كسُقاة في قراءة تُروى عن أبي جعفر [ سُقَاة الحاج ] 11. وفِعَال: كجِبَال، وبحار، وجِفان، وصحاف، ورماح، ورجال، وعِشار، وبغال، وحبال، ورحال، ورهان، وعظام، وسياط، وفجاج، وجباه، وديار، ورقاب، دماء، وإماء، ورعاء، وقيام، وثقال، وخِفاف، وسراع، وكفات، وحِداد، وإناث، وعِجاف، وغيرها. 12. وفُعُول: كنُفُوس، ورُؤوس، وصُدُور، وقُلُوب، وَوُجُوه، وعُيُون، وظُهور، وبُطون، ولُحُوم، وفُرُوج، وَقُصُور، وعُرُوش، وكُنوز، وزُروع، وسُهول، وفُطور، وقُبُور، ووُحُوش، وأُجُور، وذُنُوب، ورُجُوم، وأُمُور، ونُذور، وعُقُود، وأُلُوف، وقُرون، وأصول، وحُدود، وظُنُون، وجُيوب، بُيوت، شيوخ، وبروج، وجروح، وجنود، وقروء، وُحليّ، وعُصيّ، وبُكيّ، وغُدوّ، وغيرها كثير. 13. وفَعَيل: كعَبيد ونَخيل، وحمير. 14. وفُعَّل:كرُكَّع، وخُشَّع، وسجَّد، وخُنَّس، وكنَّس، وشُرَّع، وقمَّل، وغُزَّى. 15. وفُعَّال: كحُكَّام، وزُرَّاع، وفجَّار، وكفار. 16. وفُعْلان:كرُكبان ورُهبان وذُكران، وعُميان. 17. وفِعْلان: كفِتيان وغِلْمان، وولدان، وإخوان، وصنوان، قنوان، وحيتان. 18. وفَعْلى: كأَسْرَى، ومَرْضَى، وصَرْعَى، وقَتْلَى، وَمَوْتَى. 19- 50 صيغ منتهى الجموع، وهي كلّ جمع ثالثه ألِف بعدها حرفان كدراهم، أو بعدها ثلاثة أحرف أوسطها ساكن كدنانير. وما يجري هذا المجرى له صيغ كثيرة يتعسّر حصرها، لكن مما وقفت على ذكره منها في كتب شتّى: 19. فَوَاعِل: كجوارج، وخوالف، وكوافر، وكواعب، وصوامع، وصواعق، وفواحش، وجوابٍ، وغواش، ورواسي، ورواكد، ولواقح، وجَوَارٍ، وصوافّ، وفي قراءة ابن مسعود: "صوافن" 20. وفواعيل، كقوارير. 21. ومفاعل، كمساجد، ومناسك، ومجالس، ومواطن، ومواضع، ومواقع، ومنازل، ومساكن، ومضاجع، ومقابر، ومصانع، ومناكب، ومشارق، ومغارب، ومشارب، ومفاتح، ومقامع، ومعارج، ومراضع، ومآرب، ومنافع، ومعايش، ومثاني، ومرافق، ومغانم، وموالي. 22. ومفاعيل، كمحاريب، ومصابيح، ومعاذير، وموازين، ومواقيت، ومقاليد، ومساكين. 23. أفاعل، كأكابر، وأنامل، وأصابع، وأراذل. 24. وأفاعيل، كأقاويل، وأحاديث، وأباريق، وأبابيل، وأساطير، وأمانيّ. 25. وَفَعَالِل كدراهم، وسلاسل، وحناجر، وضفادع، ونمارق، وصياصي. 26. وفَعَالِيل كجلابيب، وغرابيب، وقراطيس، وسرابيل. 27. وفَعَالِن، كفراسِنْ. 28. وفعالين، كقرابين، وثعابين، وسلاطين. 29. وفعاعل، كسلالم. 30. وفعاعيل، كسلاليم، ودكاكين، وخفافيش. 31. وتفاعِل كتجارب. 32. وتفاعيل، كتماثيل، وتجاريب. 33. ويفاعل كيحامد. 34. ويفاعيل، كينابيع. 35. وَفَعَائل: كخزائن، ومدائن، وشعائر، وقلائد، وبصائر، وحدائق، وحلائل، وخلائف، وخبائث، وربائب، وسرائر، وطرائق، وقبائل، وكبائر، وأرائك، وبطائن، وترائب. 36. وفياعل، كقياصر، وصيارف، وحيايا، وسبايا. 37. وفياعيل، كشياطين، ودياجير. 38. وفعايل، كعثاير وحثايل. 39. وفعاييل، ككراييس. 40. وفعاول، كجداول وقساور. 41. وفعاويل، كقراويح. 42. وفناعل، كجنادب، وعناكب، وخنافس. 43. وفناعيل، كسنانير، وخنازير، وقناطير. 44. وفَعالَى: كيتامى، وأيامى، وخطايا، ونصارى. 45.وفُعَالَى: كأُسارى، وسُكارى، وفُرادى، وكُسالى. 46. وفَعَالِي،كتَراقي، وليال، وأهالي في قراءة شاذة. 47. وفَعَاليّ: كأناسيّ، وزرابيّ، وكراسيّ، وعند الوقف عليه يشبه ما قبله. 48: وفعاليت، كعفاريت، وسباريت. 49. وفعاويت، كطواغيت؛ لأن أصلها طغاويت. وهذه الصيغ غير حاصرة لجموع الكثرة، فتقصّيها متعسّر أو متعذّر، والغرض من ذكرها والتوسّع في التمثيل لها من القرآن تقريب الفائدة بجمع الأمثلة، وبيان أن الأصل فيها الدلالة على الكثرة أو تكثير القليل لغرض بلاغي. ومما يدلّ على أنّ الأصل في جموع الكثرة الدلالة على الكثرة أنها لا تُصغَّر. - قال ابن مالك: (ولا يصغَّر جمعٌ على مثال من أمثلة الكثرة؛ لأن بنيته تدلّ على الكثرة، وتصغيره يدل على القلَّة؛ فتنافيا). وذكر قولاً للكوفيين في جواز تصغير ما له نظير من أمثلة الآحاد وردّه ثم قال: (والحاصل أن من قصدَ تصغيرَ جمع من جموع الكثرة ردَّه إلى واحدِه وصغَّره ثم جمعه بالواو والنون إن كان لمذكر يعقل كقولك في "غلمان" "غليّمون"، وبالألف والتاء إن كان لمؤنثٍ، أو لمذكر لا يعقل، كقولك في "جوار" و"دراهم": "جويريات" و"دريهمات". وإن كان لما قصد تصغيره جمع قلةٍ جاز أن يردّ إليه مصغرًا كقولك في "فتيان": "فُتَيَّة")ا.هـ. والنوع الرابع: اسم الجمع وهو الاسم الدالّ على جماعة لا واحد لهم من لفظه، مثل: قوم، ونساء، وأهل، وذرية، وبشر، وبدو، وحزب، وجَمْع، وأمة، وثُلَّة، وشيعة، وطائفة، ورهط، ومعشر، وفئة، وفوج، وفصيلة، والأنام، والبرية، وخيل، وعَمَد، وغيرها. والنوع الخامس: اسم الجنس الجمعي وهو الذي يُفرّق بينه وبين واحده بالتاء أو الياء. فالتاء مثل: سحاب جمع سحابة، وشجر جمع شجرة، ونخل جمع نخلة، وسدر جمع سدرة، وثمر جمع ثمرة، وعنب جمع عنبة، وبقر جمع بقرة، ذباب جمع ذبابة، وحَبّ جمع حَبَّة. والياء مثل: عرب جمع عربي، وروم جمع رومي، وزنج جمع زنجي، وقبط جمع قبطي. والنوع السادس: اسم الجنس الإفرادي وهو الاسم الذي يدل على الجنس فيصدق على قليله وكثيره كالماء، والتراب، والهواء، والحليب، والعسل، والضوء، والدم. والنوع السابع: جمع الجمع ويُسمى: جمع الجميع، وجمع الجماعة، وجماعة الجماعة، وهو سماعي ليس له قياس مطّرد. ويأتي جمع الجمع على أنواع من الصيغ تأتلف في صورتها مع أنواع الجموع الأخرى فمنها: - جمع المذكر السالم كأهلين، جمع أهل، وأهل اسم جمع. - وجمع المؤنث السالم، كذريات جمع ذرية، ونفاثات جمع نفاثة، وعاديات جمع عادية. - وقد تأتي على بعض صيغ منتهى الجموع، كما في أقاويل، وأُسارى، وأساور. - وقد تأتي على بعض صيغ جمع القلة كأنعم، وأنصاب. وجمع الجمع دالّ على الكثرة الكاثرة وإن أتى في صيغة تأتلف مع صيغ جموع القلة. ومما جاء في القرآن الكريم من صيغ جمع الجمع: 1. فاعلات جمع فاعلة، كالعاديات جمع عادية، وهو اسم جمع لجماعة الخيل التي تعدو، ونافثات - في قراءة - جمع نافثة، ونافثة اسم جمع لجماعة تنفُث. 2. وفَعَّالات جمع فعّالة، كالنفّاثات جمع نفَّاثة كرجَّالة وخيَّالة وسيَّارة للجماعة. 3. وفِعَالات جمع فِعَالة، كجمالاتٌ جمع جِمَالة، والجِمَالة اسم جمع لطائفة من الإبل. 4. ومُفَعّلات جمع مُفَعّلَة، كمعقّبات جمع معقّبة، وهو اسم جمع. 5. وأفعلات جمع أَفْعِلة، كأمتعات - في قراءة - جمع أمتعة. 6. وفَعْلات جمع فَعْلَة، كسادات - في قراءة - جمع سادة. 7. وأفاعل جمع أفْعُل، كالأيادي جمع أيدٍ، وفي قراءة: [أولي الأيادي والأبصار]. 8. وأفاعل جمع أفْعِلَة، كأساور جمع أسورة، وأسورة جمع سِوَار. 9. وأفاعيل جمع أفعال، كأقاويل جمع أقوال. 10. وأفعل جمع فِعَل، كأنْعُم جمع نِعَم. 11. وأفعال جمع فُعُل، كآصال جمع أُصُل، وأنصاب جمع نُصُب. 12. وأفعال جمع فِعَل، كأشياع جمع شِيَع. 13. وفُعُل جمع فِعَال، ومنه: [فرُهُن مقبوضة] في قراءة، جمع رِهان، والرّهان جمع رَهْن. 14. وفُعُل جمع فَعِيل، ومنه: [عُبُدُ الطاغوت] في قراءة، جمع عَبِيد. 15. وفُعَل جمع فُعْلَة، كأمم جمع أمّة، والأمّة اسم جمع. 16. وفُعَالَى جمع فَعْلَى، كأُسارى جمع أَسْرَى. مسائل الجموع في التفسير البياني مسائل الجموع التي تُبحث في التفسير البياني على أنواع أذكر منها ثلاثة لغرض التعريف بتلك المسائل وطرق بحثها. النوع الأول: دلالة الجموع على القلة والكثرة من المسائل المهمة المتعلقة بصيغ الجموع دلالتها على القلة والكثرة، والأصل أنَّ جُموع الكثرة دالّة على الكثرة، وجُموع القلّة دالة على القلّة بما يحتمله السياق، ومن علماء اللغة كسيبويه وغيره من يعتبر القلّة ما بين الثلاثة إلى العشرة. وجموع القلّة تدلّ على القلّة ما لم تقترن بما يدلّ على الكثرة، ولذلك فإنّ ما يأتي على مثال من أمثلة جمع القلّة قد يفيد الكثرة في أحوال منها: 1. دخول تعريف الجنس الدالّ على الاستغراق كما في قول الله تعالى: {الله يتوفَّى الأنفس حين موتها}، وقوله تعالى: {يوم يخرجون من الأجداث}، وقوله تعالى: {ويعلم ما في الأرحام} فهذه الأمثلة وما جرى مجراها تفيد الكثرة لا القلّة. وأما تعريف العهد الذهني والذكري والحضوري فلا يفيد الكثرة، وهذا كما تقول: خذ هذه الأثواب، وانسخ هذه الأسطر؛ فهي باقية على معنى القلّة؛ لم تستفد بتعريف العهد دلالة على الكثرة. 2. أن تضاف إلى ما يفيد الكثرة، كما في قول الله تعالى: {فاقتلوا أنفسكم} ، وقوله تعالى: {وتحمل أثقالكم} ، وقوله تعالى: {فبأيّ آلاء ربكما تكذبان}، وقوله تعالى: {وذكّرهم بأيّام الله}، وقوله تعالى: [وقال لفتيته] في قراءة. فالنكرة المضافة تفيد العموم، فتخرج بذلك عن وصف القلّة إلى الكثرة. 3. أن تكون جَمْع جمْع أو جمع اسم مصدر مفيد للكثرة أو جمع اسم جمع، فإنّها تكون جمعاً لكثيرة فلا ترجع إلى القلّة، وإنما تدلّ على الكثرة الكاثرة، كما في "أنعم" في قول الله تعالى: {شاكراً لأنعمه} وقوله تعالى: {فكفرت بأنعم الله} فإنّها ليست جمع نعمة على الصحيح، وإنما هي جمع نِعَم، أو جمع نُعْمٍ على قولين؛ فهي دالة على الكثرة، وإضافتها دالّة على العموم. وقوله تعالى: {لابثين فيها أحقابا} الأحقاب جمع حُقُب، والحُقُب جمع حِقْبة؛ فالأحقاب جمع الجمع؛ فتفيد الكثرة. وقوله: {بالغدّو والآصال} فالآصال جمع أُصُل، والأصُل جمع أصيل؛ فالآصال جمع الجمع. 4. أن تنوَّن تنوين التفخيم المشعر بالتكثير، كما في قول الله تعالى: {فجعلناهنّ أبكاراً عرباً أتراباً لأصحاب اليمين} ، وقوله تعالى: {ولهم فيها أزواجٌ مطهّرة}، وقوله تعالى: {ويطاف عليهم بآنية من فضة} بخلاف التنوين الذي لا يُشعر بالتكثير كما في قول الله تعالى: {وقال نسوة} ، وقوله تعالى: {فلولا ألقي عليه أسورة}. 5. أن تؤكّد بما يدلّ على الكثرة، كما في قول الله تعالى: {فيضاعفه له أضعافاً كثيرة}. وقد ترد بمعنى الكثرة لأسباب منها ما يتعلق بالأغراض البلاغية كما في قول الله تعالى: {إنما المؤمنون إخوةٌ} فالتنوين في إخوة محتمل للتكثير، ويُحتمل أن تكون صيغة التقليل أقرب إلى الائتلاف والتقريب، والله تعالى أعلم. وقد اختلف العلماء فيما وضعت له جموع القلة وجموع الكثرة على قولين: القول الأول: جموع القلة موضوعة لما بين الثلاثة إلى العشرة، وجموع الكثرة فيما زاد على ذلك إلى ما لا نهاية له من العدد. والقول الثاني: جموع القلة موضوعة لما بين الثلاثة إلى العشرة، وجموع الكثرة لما بين الثلاثة إلى ما لا نهاية له من العدد. ثم اختلفوا أيضاً فيما إذا وردت جمُوع القلة في سياق يراد به الكثرة، ووردت جموع الكثرة في سياق يراد به القلّة على أقوال: القول الأول: التعاقب، وهو أنّ جموع القلة تنوب عن الكثرة، والعكس صحيح، وهذا جواب ابن مالك وجماعة من العلماء. - قال ابن مالك في شرح الكافية: (وقد يستغنى ببعض أبنية القلة عن بعض أبنية الكثرة، وببعض أبنية الكثرة عن بعض أبنية القلة). - وقال أبو البقاء العكبري: (وجموعُ القلَّة جمعُ التَّصْحِيح وَأَرْبَعَة من التكسير وَهِي (أفْعُل وأفعال وأفْعِلَة وفِعْلة) وَمَا جَاءَ فِيهِ من جموع الْكَثْرَة فعلى خلاف الأَصْل). والقول الثاني: أن ذلك لإفادة غرض بلاغي، كتعظيم القليل، وتحقير الكثير. والأقرب أن ما يرد من ذلك في كلام العرب فقد يصحّ القول في بعضه بالتعاقب لاتساع لسان العرب وتجوّزهم في العبارة، وكذلك ما يرد في الشعر قد يصحّ القول في بعضه بضرورة الوزن، لكن ما كان من ذلك في القرآن الكريم وفي صحيح كلام النبي صلى الله عليه وسلم فينبغي أن تُلتمس الأغراض البلاغية فيه. وقد تشتبه صيغة جمع القلة ببعض صيغ جمع الجمع، وجمع الجمع دالّ على الكثرة. ولكل ذلك أمثلة ذكرت بعضها لغرض البيان والتطبيق على مسائل التفسير. النوع الثاني: دلالات تنوع صيغ الجمع من دلائل سعة اللسان العربي تنوّع دلالات صيغ الجمع، فتجد لكثير من المفردات أنواعاً من الجموع تتفاوت في أداء المعنى، فيختار البليغ في كلّ موضع ما يناسبه من الجموع. وما ورد في القرآن الكريم من اختيار بعض الجموع على بعض له دلالات بلاغية عُني بها أصحاب التفسير البياني، واجتهدوا في تعرّف حكم ذلك الاختيار، وما وراءها من أسرار البيان. وتنوّع الجموع أمر ظاهر في القرآن الكريم؛ إذ نجد جمع راسية على رواسي في تسعة مواضع في القرآن الكريم كلها في وصف الجبال، وجاء في موضع: {وقدور راسيات} ولم يقل: رواسي. وقال تعالى: {وإنّ عليكم لحافظين} وقال تعالى: {ويرسل عليكم حفظة} وتنوّع جَمْع كافر على كفار وكفرة وكافرين، وجمع ميّت على موتى وأموات وميتين، وجمع ساحر على سحرة وساحرين، وجمع خازن على خزنة وخازنين. وقال تعالى: {وله ذرية ضعفاء} وقال في موضع آخر: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم}. ومثل هذا التنوّع أيضاً في شيع وأشياع، وخلفاء وخلائف، وفتية وفتيان، وإخوة وإخوان، وعباد وعبيد، وبحار وأبحر، وشهور وأشهر، ونفوس وأنفس، وخطايا وخطيئات، وسنابل وسنبلات، وغيرها كثير. والذي تلخّص لي مما اطّلعت عليه من أقوال العلماء في مسائل التفسير ومحاولة جمع الأشباه والنظائر والموازنة بينهما أنّ هذا التنوّع له أسباب منها ما هو ظاهر بيّن، ومنها ما هو لطيف المأخذ. فمن ذلك: التفريق بين القلّة والكثرة؛ كما في قول الله تعالى: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} وقوله تعالى: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله} فالأربعة أقل من العشرة ولذلك جمعت جمع قلة. ومثله قول الله تعالى: {ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} وقوله تعالى: {وإذا البحار فجّرت} فالبحار لما كانت تفجّر كلّها بحيث لا يبقى منها بحر صغير ولا كبير إلا فجّر جُمعت جمع كثرة. والأبحر لما كانت سبعة في العدد جمعت جمع قلة، وهي وإن كانت جمع قلة إلا أنّها لما كانت مداداً كانت كثيرة جداً؛ فإن المداد اسم لما يستمدّ منه القلم ما يكتب به، والقارورة الصغيرة يكتب بها كلام كثير جداً؛ فكيف إذا كان المداد بحراً ؟!! ثم كيف يكون الحال إذا كان هذا البحر يمدّه من بعده سبعة أبحر !! فاستغني بسعة دلالة المعدود عن الإتيان بجمع الكثرة. على أنّ لفظ السبعة ليس بنصّ على الحصر؛ فإنّه قد يرد بمعنى التكثير أيضاً. ومن ذلك: التفريق باعتبار الاستعمال القرآني، وهذا مسلك سلكه جماعة من أهل العلم؛ فقد نظروا في جمع عين في القرآن الكريم فوجدوا أنها جمعت على عيون في عشر مواضع كلها في عيون الماء الجارية. وجُمعت على أعين في واحد وعشرين موضعاً كلها في العيون التي يُرى بها. وهذا القول لا يستقلّ بالجواب لأنه لا يعدو أن يكون رصداً للاستعمال القرآني، وما يحصل به الجواب هو التعليل الصحيح لذلك، ولصعوبة ذلك أحجم عنه بعض أهل العلم، كما قال الألوسي في تفسيره: (أنا أظن أنه اختير الأعين جمعاً للعين الباصرة، والعيون جمعاً للعين الجارية في جميع القرآن الكريم، ويخطر لي في وجه ذلك شيء لا أظنه وجيها، ولعلك تفوز بما يغنيك عن ذكره). والكلام في هذه المسائل يستدعي لطافة ذهن، وجودة نظر، ومعرفة بالأصول التي يُرجع إليها في بحث تلك المسائل، ولا يُنال ذلك كله إلا بتوفيق من الله تعالى وفتح من عنده، فنسأل الله أن يهب لنا من ذلك خير ما وهب لصالحي عباده. والذي يظهر لي في جواب هذه المسألة أنّ مرجعها إلى ما يقتضيه السياق؛ فإنا إذا تأمّلنا المواضع التي فيها ذكر العيون الجارية وجدناها سيقت مساق الامتنان؛ فكان جمعها جمعَ كثرة على فُعول هو الأحسن في الدلالة على الكثرة، مع ما يفيده جرس اللفظ وتوالي المضمومات فيه ومدّ الواو بعدها من حكاية معنى الكثرة. وأما جمع العين المبصرة على أعين فله في كلّ موضع سبب اقتضى اختيار جمع القلة حقيقة أو لغرض البلاغي. ومن ذلك: أن جمع السلامة أقرب للمح الفعل وحكاية معناه وتصويره في نفس السامع من جمع التكسير، ثمّ جموع التكسير على درجات متفاوتة في ذلك؛ فمنها ما هو أقرب إلى جمع الصحة ومنها ما هو أغرق في الاسمية. ولتوضيح هذا المعنى انظر الفرق بين قَتَلَة وقَاتِلين، وأكلة وآكلين، وقرأة وقارئين، ونظائرها. تجد أن قَتَلَة وأَكَلَة وقَرَأَة أسماء لأصناف من الناس تكثر منهم هذه الأفعال. وأنّ قاتلين وآكلين وقارئين وإن كانت أسماء إلا أنّ فيها إلماحاً إلى الفعل وحكاية له في نفس السامع. ثم أمعن النظر في قول الله تعالى: {وإنّ عليكم لحافظين} تجده يبعث في نفسك شهود فعل الحفظ منهم، وملازمتهم له، ومداومتهم عليه. بينما إذا نظرت في قول الله تعالى: {ويرسل عليكم حفظة} وجدت هذا الاسم يدلّ على الفئة الحافظة التي تختص بهذا الفعل ويكثر منها. فإذا جيء بجمع التكسير على فَعَلة أفاد اسم صنف أو طائفة مختصة بهذا الوصف. وإذا جيء بجمع السلامة أفاد لمح وقوع الفعل منهم وإشعاراً بمداومتهم عليه. وتأمّل على هذا النحو قول الله تعالى: {قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون} ولم يقل السحرة؛ فهذا مع ما فيه من موافقة فواصل الآي، فإنه يفيد تبكيتهم بتسميتهم بما يفيد لمح فعلهم ويشعر بمداومتهم عليه. وتأمّل قول الله تعالى: {وألقي السحرة ساجدين} فإنّ فيه نوعين من الجمع؛ فأما السحرة فذكرهم باسم الطائفة لأن المقصود هنا ليس التشنيع عليهم ولا تبكيتهم، وإنما ذكرهم بالاسم الجامع الذي يجمع طائفتهم لإسناد الفعل إليهم، ولما ذكر السجود في موضع الحال قال: {ساجدين} وهذا فيه تصوير لمشهد سجودهم ظاهراً وباطناً. وجمع التكسير على وزن فُعُول أقرب للمح الفعل من فعَّل كما بيّن ذلك أبو القاسم السهيلي رحمه الله في كتابه "نتائج الفكر" عند حديثه عن التفريق بين السجَّد والسجود؛ فقال: (فإن قيل: فلم قال: (السجود) على وزن فُعُول، ولم يقل السُّجَّد كما قال الرُّكَّع، وكما قال في آية أخرى: (رُكَّعًا سُجَّدًا)؟ وما الحكمة في جمع ساجد على سجود، ولم يجمع راكع على ركوع؟ فالجواب: أن السجود - في أصل موضوعه - عبارة عن الفعل، وهو في معنى الخشوع والخضوع، وهو يتناول السجود الظاهر والباطن، ولو قال: " السُّجَّد " جمع ساجد لم يتناول إلا المعنى الظاهر. وكذلك الرُّكَّع، ألا تراه يقول: (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا): يعني رؤية العين، وهي لا تتعلق إلا بالظاهر، والمقصود هاهنا الركوع الظاهر لعطفه على ما قبله مما يراد به قصد البيت، والبيت لا يتوجه إليه إلا بالعمل الظاهر، وأما الخشوع والخضوع الدي يتناوله لفظ الركوع، دون لفظ الركَّع فليس مشروطاً بالتوجه إلى البيت. وأما السجود فمن حيث أنبأ عن المعنى الباطن، جعل وصفاً للركع ومتمماً لمعناه، إذ لا يصح الركوع الظاهر إلا بالسجود الباطن، ومن حيث تناول لفظه أيضاً السجود الظاهر الذي يشترط فيه التوجه إلى البيت، حسن انتظامه أيضاً بما قبله، مما هو معطوف على الطائفين الدين ذكرهم بذكر البيت، فمن لحظ هذه المعاني بقلبه، وتدبر هذا النظم البديع بلُبِّه، ترفَّع في معرفة الإعجاز عن التقليد، وأبصر بعين اليقين أنه تنزيل من حكيم حميد). - قال ابن القيم رحمه الله معلّقاً: (وقد تولَّج رحمه الله مضائق تضايق عنها أن تولَّجها الإِبَر، وأتى بأشياء حسنة، وبأشياء غيرها أحسن منها). ومن أجمع من وجدتُه تكلّم في هذا الباب الدكتور فاضل السامرائي في كتابه القيّم "معاني الأبنية" فقد ذكر أمثلة كثير للجموع المختلفة في القرآن الكريم واجتهد في توجيهها ولولا خشية الإطالة لأكثرت من ذكر الأمثلة التي أوردها واجتهاده في توجيهها. والنوع الثالث: الإسناد إلى مثنى اسم الجمع، ووقوع الجمع موقع المثنى. من المسائل المتعلقة بالجموع أنّ اسم الجمع إذا ثُنّي جاز الإسناد إليه بالجمع كما في قول الله تعالى: {هذان خصمان اختصموا} فالخصمان مثنى الخصم، وهو اسم جمع، فلذلك صحّ أن يقال: اختصموا. ويجوز أن يُجمع الخصمان اسم جمع على الخصم كما قال تعالى: { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} وقال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا}. وقال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} ويجوز أن يسند إلى المجموعين بضمير المثنى كما في قول الله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} ، وقد قرئ {وليّهم}. وقد يقع الجمع في موقع المثنّى، ومن ذلك تثنية آحاد ما في الجسد. - قال ابن الشجري في أماليه: (تثنية آحاد ما في الجسد كالأنف والوجه والبطن والظهر، تقول: ضربت رؤوس الرجلين، وشققت بطون الحَمَلين، ورأيت ظهوركما، وحيّا الله وجوهكما، فتجمع وأنت تريد: رأسين وبطنين وظهرين ووجهين، ومن ذلك في التنزيل قوله جل ثناؤه: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما} وجروا على هذا السّنن في المنفصل عن الجسد، فقالوا: مدّ الله في أعماركما، ونسأ الله في آجالكما). - وقال أيضاً: (ما في الجسد منه اثنان، فتثنيته إذا ثنّيت المضاف إليه واجبة، تقول: فقأت عينيهما، وقطعت أذنيهما، لأنك لو قلت: أعينهما وآذانهما، لالتبس بأنك أوقعت الفعل بالأربع. فإن قيل: فقد جاء في القرآن: {وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما} فجمع اليد، وفى الجسد يدان، فهذا يوجب بظاهر اللفظ إيقاع القطع بالأربع. الجواب: أن المراد: فاقطعوا أيمانهما، وكذلك هي في مصحف عبد الله؛ فلما علم بالدليل الشرعىّ أن القطع محلّه اليمين، وليس في الجسد إلاّ يمين واحدة جرت مجرى آحاد الجسد فجمعت كما جمع الوجه والظهر والقلب). |
دلالة زيادة المبنى على زيادة المعنى
الأصل أن زيادة المبنى تدلّ على زيادة المعنى، وقد عُدَّت من قواعد التفسير، والقواعد اللغوية. - قال ابن عاشور: (وهي قاعدة أغلبية لا تتخلف إلا في زيادات معروفة موضوعة لزيادة معنى جديد دون زيادة في أصل معنى المادة، مثل زيادة ياء التصغير؛ فقد أفادت معنى زائداً على أصل المادة وليس زيادة في معنى المادة، وأما نحو حذر الذي هو من أمثلة المبالغة وهو أقلّ حروفا من حاذر فهو من مستثنيات القاعدة لأنها أغلبية). وزيادة الألفاظ في الكلام البليغ تزيد المعنى قوّة؛ لأن الزيادة فيه لا تكون حشواً ولا لغواً بل لإفادة معنى جديد أو توكيده. - قال أبو الفتح ابن جني في الخصائص: (باب في قوة اللفظ لقوة المعنى: هذا فصل من العربية حسن. منه قولهم: خشن واخشوشن. فمعنى خشن دون معنى اخشوشن). إلى أن قال: (فإذا كانت الألفاظ أدلة المعاني ثم زيد فيها شيء أوجبت القسمة له زيادة المعنى به، وكذلك إن انحرف به عن سَمته وهديه كان ذلك دليلًا على حادث متجدد له، وأكثر ذلك أن يكون ما حدث له زائدًا فيه لا منتقصًا منه). - وقال الزركشي: (واعلم أن اللفظ إذا كان على وزن من الأوزان ثم نقل إلى وزن آخر أعلى منه فلا بد أن يتضمن من المعنى أكثر مما تضمنه أولا لأن الألفاظ أدلة على المعاني فإذا زيدت في الألفاظ وجب زيادة المعاني ضرورة. ومنه قوله تعالى: {فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر}، فهو أبلغ من [قادر] لدلالته على أنه قادر متمكن القدرة لا يرد شيء عن اقتضاء قدرته، ويسمى هذا قوة اللفظ لقوة المعنى). ولهذه القاعدة تطبيقات كثيرة في الجمَل والكلمات: فأما الزيادة في الكلمات فتكون في الأسماء والأفعال والحروف: - فأمّا الأسماء: فمثل رضا ورضوان، كلاهما يدلّ على الرضا إلا أنّ زيادة المبنى دلّت على زيادة في المعنى؛ فالرضوان يدلّ بناؤه على سعة وامتلاء فهو أبلغ من رضا. وعلى هذا النحو: فرق وفرقان، ورأفة ورآفة في قراءة، وبيان وتبيان، وحرّ وحرور. وكذلك صيغ المبالغة عامّتها فيها زيادة في المبنى تدلّ على زيادة في المعنى كما في صابر وصبَّار، وكبير وكُبَّار، وفاعل وفعَّال، وغيرها. - وأما الأفعال: فمثل قَطَع وقطَّع، وقتل وقتَّل، وجرَح وجرّح، وفتح وفتّح، وأغلق وغلَّق، وأوعد وتوعَّد، وأذن وتأذّن، ورقب وارتقب، وقرب واقترب، وزُجرَ وازدُجر، واسطاع واستطاع، وأجاب واستجاب، وحسر واستحسر، وهزئ واستهزأ، وكُبُّوا وكُبكبُوا. فهذه الزيادات في المباني دالة على زيادات في المعاني. - وأما الحروف فكما في السين وسوف، ورُبَما وربَّما. والزيادة في الكلمات تكون بتضعيف بعض الحروف أو زيادة حروف أخرى. وأما الزيادة في الجُمل فتكون بإضافة كلمات أو حروف إليها لتؤدي قوّة المعنى والزيادة فيه. والزيادات في الجمل على أنواع: - فمنها المؤكدات المعنوية كمافي قول الله تعالى: {فسجد الملائكة كلّهم أجمعون}، وقوله تعالى: {قل إنَّ الأمر كلَّه لله}. - ومنها المؤكدات اللفظية: وهي ما يكون بتكرار اللفظ أو مرادفه أو توكيد الفعل بمصدره أو توكيد الضمير بمنفصل عنه أو تكرار الجملة. = فتكرار اللفظ مثل قول الله تعالى: {كلا إذا دكت الأرض دكاً دكاً . وجاء ربك والملك صفا صفا} وقوله تعالى: {فمهل الكافرين أمهلهم رويدا} وفي قراءة {مهّلهم} وقوله تعالى: {هيهات هيهات لما توعدون} = وتوكيد اللفظ بمرادفه مثل قول الله تعالى: {وغرابيب سود} وقوله تعالى: {فجاجاً سبلاً}. = وتوكيد الفعل بمصدره مثل قول الله تعالى: {وكلم الله موسى تكليماً}، وقوله تعالى: {يوم تمور السماء موراً}. = وتوكيد الضمير كما في قول الله تعالى: {كنت أنت الرقيب عليهم} ، وقوله تعالى: {إنه هو التواب الرحيم} وقوله تعالى: {قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى} = والتوكيد بتكرار الجملة كما في قول الله تعالى: {فإنّ مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً} وقوله تعالى: {كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون} - ومنها زيادة مفردات في الجملة لزيادة المعنى أو توكيده كما في قول الله تعالى: {إن الله كان عليماً حكيماً} وقوله تعالى: {وإنَّ كلاً لما ليوفينّهم ربّك أعمالهم} - ومنها زيادة حروف لتضمين أفعال تزيد المعنى، كما في قول الله تعالى: {وأمرت لأعدل بينكم} وقوله تعالى: {وأخبتوا إلى ربهم} وقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة}. وقوله تعالى: {واطمس على أموالهم} وقوله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}. وكلما ازدادت المؤكدات في الجملة زاد المعنى بحسبها، كما في قول الله تعالى: {قل إن هدى الله هو الهدى} ، وقوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده}، وقوله تعالى: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه}، وقوله تعالى: {وهو الذي إليه تحشرون} ، وقوله تعالى: {وإنّ منكم لمن ليبطّئنّ}. |
أمثلة من أقوال المفسرين قال الله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ}- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (و{أَحْسَنَ الْقَصَصِ} قيل: إنه مصدر، وقيل: إنه مفعول به. قيل المعنى: نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص، كما يقال: نكلمك أحسن التكليم، ونبين لك أحسن البيان. قال الزجاج: "نحن نبين لك أحسن البيان، والقَاصُّ: الذي يأتي بالقصة على حقيقتها". قال: "وقوله: {بِمَا أَوْحَيْنَا إليكَ هَـذَا الْقُرْآنَ} أي: بوحينا إليك هذا القرآن". ومن قال هذا قال: {بِمَا أَوْحَيْنَا إليكَ هَـذَا الْقُرْآنَ}، وعلى هذا القول فهو كقوله: نقرأ عليك أحسن القراءة، ونتلو عليك أحسن التلاوة. والثاني: أن المعنى نقصّ عليك أحسن ما يُقص، أي: أحسن الأخبار المقصوصات، كما قال في السورة الأخرى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}، وقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً}، ويدل على ذلك قوله في قصة موسى: {فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عليه الْقَصَصَ}، وقوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأولى الأَلْباب}. المراد: خبرهم ونبأهم وحديثهم، ليس المراد مجرد المصدر. والقولان متلازمان في المعنى ـ كما سنبينه ـ ولهذا يجوز أن يكون هذا المنصوب قد جمع معنى المصدر ومعنى المفعول به؛ لأن فيه كلا المعنيين، بخلاف المواضع التي يباينُ فيها الفعلُ المفعولَ به، فإنه إذا انتصب بهذا المعنى، امتنع المعنى الآخر. ومن رجح الأول من النحاة ـ كالزجاج وغيره ـ قالوا: القصص مصدر، يقال: قص أثره يقصه قَصَصًا، ومنه قوله تعالى: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} وكذلك اقتص أثره وتقصص، وقد اقتصصت الحديث: رويته على وجهه، وقد اقتصَّ عليه الخبر قَصصًا. وليس القَصَصُ ـ بالفتح ـ جمع قصة كما يظنه بعض العامة، فإنَّ ذلك يقال في قِصَصٍ ـ بالكسر ـ واحدُهُ قصة، والقِصَّة: هي الأمر والحديث الذي يُقَصّ، فِعْلَة بمعنى مفعول، وجمعه قِصَصٍ بالكسر. وقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عليكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} بالفتح لم يقل: أحسن القِصَصُ بالكسر، ولكن بعض الناس ظنوا أن المراد: أحسن القِصَص بالكسر، وأن تلك القصة قصة يوسف، وذكر هذا طائفة من المفسرين). قال الله تعالى: {ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح} - قال أبو حيان الأندلسي: (النيل مصدر؛ فاحتمل أن يبقى على موضوعه، واحتمل أن يراد به المَنيل، وأطلق {نيلا} ليعمّ القليل والكثير مما يسوءُهم قتلاً وأسراً وغنيمةً وهزيمةً، وليست الياء في نَيْلٍ بدلا من واو خلافا لزاعم ذلك، بل "نال" مادتان: إحداهما من ذوات الواو نلته أنوله نولا ونوالا من العطية، ومنه التناول. والأخرى: هذه من ذوات الياء، نلتُه أناله نيلاً، إذا أصابه وأدركه). قال الله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض} - قال أبو حيَّان الأندلسي: (المحيض: مفعل من الحيض يصلح للمصدر والمكان والزمان، تقول. حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا). قال الله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} - قال ابن عاشور: (والولي: الناصر والحليف والصديق، مشتق من الولي مصدر ولي بوزن علم. وكلٌ من فاعل الوَلْيِ ومفعوله وَلِيٌّ؛ لأن الولاية نسبة تستدعي طرفين، ولذلك كان الولي فعيلاً صالحا لمعنى فاعل ولمعنى مفعول. فيقع اسم الولي على الموالي بكسر اللام وعلى الموالى بفتحها وقد ورد بالمعنيين في القرآن وكلام العرب كثيرا). - قلت: دلالة لفظ "الولي" على الناصر والحليف والصديق وغيرها مستفادة من الوضع اللغوي للمفردة، ودلالته على الموالِي والموالَى مستفادة من الصيغة الصرفية وهي المقصودة في الدرس. قال الله تعالى: {واعلموا أن الله غني حميد} - قال ابن عثيمين: ({حميد} : يحتمل أن تكون بمعنى حامد؛ وبمعنى محمود؛ وكلاهما صحيح؛ لأن «فعيلاً» تأتي بمعنى فاعل؛ وبمعنى مفعول؛ إتيانها بمعنى فاعل مثل: «رحيم» بمعنى راحم؛ و «سميع» بمعنى سامع؛ وإتيانها بمعنى مفعول مثل: «قتيل» ، و «جريح» ، و «ذبيح» ، وما أشبه ذلك؛ وهنا {حميد} تصح أن تكون بمعنى حامد، وبمعنى محمود؛ أما كون الله محموداً فظاهر؛ وأما كونه حامداً فلأنه سبحانه وتعالى يَحمَد من يستحق الحمد من عباده؛ ولهذا أثنى على أنبيائه، ورسله، والصالحين من عباده؛ وهذا يدل على أنه عز وجل حامد لمن يستحق الحمد). قال الله تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) } - قال ابن عاشور: (وقد أجريت هذه الصفات للثناء على الذين آمنوا بعد الإشراك بأن كان رائدهم إلى الإيمان هو التقوى والنظر في العاقبة، ولذلك وصفهم بقوله: {يؤمنون بالغيب} أي بعد أن كانوا يكفرون بالبعث والمعاد كما حكى عنهم القرآن في آيات كثيرة، ولذلك اجتلبت في الإخبار عنهم بهذه الصلات الثلاث صيغة المضارع الدالة على التجدد إيذانا بتجدد إيمانهم بالغيب، وتجدد إقامتهم الصلاة والإنفاق، إذ لم يكونوا متصفين بذلك إلا بعد أن جاءهم هدى القرآن). قال الله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} - قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الفعل المضارع هو في اللغة يتناول الزمن الدائم سوى الماضي؛ فيعمّ الحاضر والمستقبل كما قال سيبويه: "وبنوه لما مضى من الزمان، ولما هو دائم لم ينقطع، ولما لم يأت بمعنى الماضي والمضارع وفعل الأمر". فجعل المضارع لما هو من الزمان دائما لم ينقطع، وقد يتناول الحاضر والمستقبل. فقوله {لا أعبد} يتناول نفي عبادته لمعبودهم في الزمان الحاضر والزمان المستقبل. وقوله {ما تعبدون} يتناول ما يعبدونه في الحاضر والمستقبل كلاهما مضارع. وقال في الجملة الثانية عن نفسه {ولا أنا عابد ما عبدتم}؛ فلم يقل: " لا أعبد " بل قال: {ولا أنا عابد}، ولم يقل "ما تعبدون" بل قال: {ما عبدتم}؛ فاللفظ في فعله وفعلهم مغاير للفظ في الجملة الأولى، والنفي بهذه الجملة الثانية أعمّ من النفي بالأولى؛ فإنه قال: {ولا أنا عابد ما عبدتم}بصيغة الماضي؛ فهو يتناول ما عبدوه في الزمن الماضي لأن المشركين يعبدون آلهة شتى، وليس معبودهم في كل وقت هو المعبود في الوقت الآخر، كما أنَّ كلَّ طائفة لها معبود سوى معبود الطائفة الأخرى. فقوله: {ولا أنا عابدٌ ما عبدتم} براءة من كل ما عبدوه في الأزمنة الماضية كما تبرأ أولاً مما عبدوه في الحال والاستقبال. فتضمنت الجملتان البراءة من كل ما يعبده المشركون والكافرون في كل زمان ماضٍ وحاضر ومستقبل). قال الله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)} - قال ابن القيم رحمه الله: (قال الله تعالى: {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا} والتبتل الانقطاع، وهو تفعل من البتل وهو القطع، وسميت مريم عليها السلام البتول لانقطاعها عن الأزواج، وعن أن يكون لها نظراء من نساء زمانها. ففاقت نساء الزمان شرفا وفضلا، وقطعت منهن. ومصدر بتَّل تبتّلا كالتعلم والتفهم، ولكن جاء على التفعيل - مصدر تفعل - لسر لطيف؛ فإن في هذا الفعل إيذانا بالتدريج والتكلف والتعمّل والتكثر والمبالغة. فأتى بالفعل الدال على أحدهما، وبالمصدر الدال على الآخر؛ فكأنه قيل: بتل نفسك إلى الله تبتيلا، وتبتل إليه تبتلا؛ ففُهم المعنيان من الفعل ومصدره. وهذا كثير في القرآن، وهو من أحسن الاختصار والإيجاز). قال الله تعالى: {إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون (95)} - قال ابن عاشور: (جيء بجملة: يخرج الحي من الميت فعلية للدلالة على أن هذا الفعل يتجدَّد ويتكرر في كل آن، فهو مراد معلوم وليس على سبيل المصادفة والاتفاق. وجيء في قوله: ومخرج الميت من الحي اسما للدلالة على الدوام والثبات، فحصل بمجموع ذلك أن كلا الفعلين متجدد وثابت، أي كثير وذاتي، وذلك لأن أحد الإخراجين ليس أولى بالحكم من قرينه فكان في الأسلوب شبه الاحتباك). قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)} - قال محمد الأمين الشنقيطي: (وقوله: {فاقتلوا أنفسكم} {أنفسكم} جمع قلة؛ لأن "الأفعل" من صيغ جموع القلة، وما يزعمه بعض النحويين والمفسرين من أن مثل هذه الآية جيء فيه بجمع القلة موضع جمع الكثرة فهو خلاف التحقيق؛ لأن {أنفسكم} أضيف إلى معرفة، واسم الجنس مفردا كان أو جمعا إذا أضيف إلى معرفة اكتسب العموم، والشيء الذي يعم جميع الأفراد لا يعقل أن يقال فيه: إنه جمع قلة؛ لأن جمع القلة لا يتعدى العشرة، وهو بعمومه يشمل آلاف الأفراد، فالتحقيق ما حرره علماء الأصول في مبحث التخصيص من أن جموع القلة وجموع الكثرة لا يكون الفرق بينها ألبتة إلا في التنكير، أما في التعريف فإنَّ الألف واللام تفيد العموم، والإضافة إلى المعارف تفيد العموم، وما صار عاما استحال أن يقال هو جمع قلة؛ لأن العموم يستغرق جميع الأفراد. هذا هو التحقيق. وهذا معنى قوله: {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم}). قال الله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} - قال أبو القاسم السهيلي: (ومما يليق ذكره بهذا الباب ما تضمنه قوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} من الحكم الباهرة، والفوائد الباطنة والظاهرة، فإنه تعالى بدأ بالطائفين للرتبة والقرب من البيت المأمور بتطهيره من أجل الطوافين، وجمعهم جمع السلامة، لأن جمع السلامة أدلُّ على لفظ الفعل الذي هو علَّة يتعلَّق بها حكم التطهير، ولو قال مكان الطائفين: الطُّوَّاف، لم يكن في هذا اللفظ من بيان قصد الفعل ما في قوله: {الطائفين}. ألا ترى أنك تقول: يطوفون، كما تقول: طائفون، فاللفظ مضارع للفظ. فإن قيل: فهلا أتي بلفظ الفعل بعينه فيكون أبين، فيقول: طهر بيتي للذين يطوفون؟. فالجواب: أن الحكم معلَّل بالفعل لا بذوات الأشخاص. ولفظ (الذين) ينبئ عن الشخص والذات، ولفظ "الطُّوَّاف" يُخفي معنى الفعل ولا يبيّنه، فكان لفظ (الطائفين) أولى بهذا الموطن. ثم يليه في الترتيب (القائمين) لأنه في معنى العاكفين، وهو في معنى قوله تعالى: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} أي: مثابراً ملازماً، وهو كالطائفين في تعلّق حكم التطهير به، ثم يليه بالرتبة لفظ الركع، لأن المستقبلين البيت بالركوع لا يختصّون بما قرب منه كالطائفين والعاكفين، ولذلك لم يتعلق حكم التطهير بهذا الفعل الذي هو الركوع، وأنه لا يلزم أن يكون في البيت ولا عنده، فلذلك لم يجئ بلفظ الجمع المسلَّم، إذ لا يحتاج فيه إلى بيان لفظ الفعل كما احتيج فيما قبله. ثم وصف الركَّع بالسُّجُود، ولم يعطف بالواو كما عطف ما قبله، لأن الركع هم السجود، والشيء لا يعطف بالواو على نفسه، ولفائدة أخرى، وهي أن " السجود " في الأغلب عبارة عن المصدر، والمراد به هاهنا الجمع، فلو عطفت بالواو لتوَّهم أنه يريد السجود الذي هو المصدر دون الاسم الذي هو النعت. وفائدة ثالثة: وهي أن الراكع إن لم يسجد فليس براكع في حكم الشريعة، فلو عطفت بالواو لتُوُهِّم أن الركوع حكم يجري على حياله). قال الله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير (120)} - قال ابن عاشور: (وقد اشتملت جملة ولئن اتبعت أهواءهم إلى آخرها على تحذير من الطمع في استدناء اليهود أو النصارى بشيء من استرضائهم طمعا في إسلامهم بتألف قلوبهم فأكد ذلك التحذير بعشرة مؤكدات وهي القسم المدلول عليه باللام الموطئة للقسم. وتأكيد جملة الجزاء بإن وبلام الابتداء في خبرها. واسمية جملة الجزاء وهي ما لك من الله من ولي ولا نصير. وتأكيد النفي بمن في قوله من ولي. والإجمال ثم التفصيل بذكر اسم الموصول وتبيينه بقوله من العلم. وجعل الذي جاء (أي أنزل إليه) هو العلم كله لعدم الاعتداد بغيره لنقصانه. وتأكيد من ولي بعطف ولا نصير الذي هو آيل إلى معناه وإن اختلف مفهومه، فهو كالتأكيد بالمرادف). |
التطبيقات
استخرج دلالات الصيغة الصرفية مما يأتي: 1: "مزيد" في قوله تعالى: {يوم نقول لجهنّم هل امتلأت وتقول هل من مزيد} 2: "مُنزل" في قول الله تعالى: {وقل رب أنزلنا مُنزلا مباركاً وأنت خير المنزلين} 3. دلالات صيغ الأفعال في قول الله تعالى: { فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)} 4: دلالات الجمل الاسمية في قول الله تعالى: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون (75) قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون (76)} 5. دلالة اسم الفاعل في قول الله تعالى: {إنّ الله بالغ أمره} 6. دلالة صيغة الجمع في قول الله تعالى: { وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ} 7. دلالة زيادة المبنى في قول الله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)} |
الساعة الآن 01:45 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir