الصنف الأول: معاني صيغ الأفعال باعتبار دلالتها على الزمن
مما هو معلوم متقرر أن الفعل ينقسم باعتبار دلالته على الزمن إلى ماضٍ ومضارع وأمر.
- فالفعل الماضي ما دلّت صيغته على حصول الفعل في الزمن الماضي، كقام، وقعد، وأتى.
- والمضارع ما دلّ على الزمن الحاضر أو المستقبل، كيقوم، ويقعد، وسيأتي.
- والأمر هو طلب حصول الفعل بعد زمن التكلم، كقمْ، واقعدْ وائتِ.
وهذا التقسيم وأمثلته إنما يراد بها تقريب التصور الأولي، وإلا فهي مشتملة على دلالات كثيرة متداخلة تدلّ على سعة اللسان العربي، وثراء مفرداته وتنوع استعمالاتها.
أ: فأما الفعل الماضي فإنه يؤتى به للدلالة على انقضاء الفعل حقيقة أو حكماً، وقد يأتي لإفادة معنى الثبات.
- فالانقضاء الحقيقي أن يكون الفعل قد وقع وانقطع، كما في قوله تعالى: {فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله}.
- والانقضاء الحُكمي هو الإخبار عن فعل لم يقع بعدُ بصيغة الماضي للدلالة على قرب وقوعه، أو الجزم بوقوعه، أو الدعاء بوقوعه، كما في قول الله تعالى: {ونزعنا ما في صدورهم من غلّ تجري من تحتهم الأنهار}، وقوله تعالى: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه}، وقوله تعالى: {ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر}، وقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله}.
وقد يدلّ الفعل الماضي على الثبوت والاستقرار كما في قوله تعالى: {واستغنى الله}، وقوله تعالى: {يؤفك عنه من أفِك}، وقوله تعالى: {أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا} ، وقوله تعالى عن زكريا عليه السلام أنه قال: {إني وهن العظم مني} ، وقوله تعالى عن إبليس أنه يقول يوم القيامة: {إني كفرتُ بما أشركتمونِ من قبل} ، وقوله تعالى: {تبّت يدا أبي لهب وتبّ}
وهذا إنما يكون في الأفعال التي إذا وقعت ثبتَ حكمُها عادةً فلا يُنقض؛ كما إذا قيل: "مات فلان" ؛ فهو إخبارٌ عن حَدَثٍ يثبت وصفه من حين موته، وليس الموت حدثاً يحتاج إلى تجدد في إثبات وصفه؛ فلا يُتصوَّر أن يريد القائل أنّ فلاناً مات موتة واحدة في الماضي وأنه الآن حيّ، بخلاف أكل وشرب فإنها أحداث لا تدلّ على ثبات الوصف.
وهذا النوع يَخرج منه ما يردِ في الكلام دلالةٌ على انتقاض الحكم فيه، كما في قول الله تعالى: { وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)}
فهم كانوا مستبصرين ثم صدّهم الشيطان بما زيَّن لهم؛ فذهب عنهم أثر الاستبصار، وهذا على أحد الوجهين في التفسير، وهو أن يراد بالاستبصار أصل البصيرة التي هي مقتضى الفطرة.
وعلى الوجه الآخر: وهو أن يراد بالاستبصار المعرفة النظرية التي هي حُجّة على صاحبها كما في قول الله تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} فيكون الحكم ثابتاً، ويكون هذا الاستبصار غير نافع لهم، بل هو زيادة في الحجة عليهم.
والأحكام الثابتة إذا صيغ منها مثالُ مبالغة ودخلت عليها كان؛ أفادت قوة المعنى والاستغراق في الزمن الماضي والمستقبل:
- فإن كان في حقّ الله تعالى أفادت الاستغراق في الأولية والآخرية، كما في قول الله تعالى: {وكان الله غفوراً رحيماً} وقوله: {وكان ربك قديراً}، وقوله تعالى: {وكان الله بكلّ شيء عليماً} فهي في معنى كان كذلك في الأزل ثم لم يزل كذلك.
- وإن كانت في حق المخلوقين أفادت من الديمومة والثبات ما يناسب أحوالهم وأزمانهم كما في قول الله تعالى: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} وقوله: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً}، وقوله: {إن كيد الشيطان كان ضعيفاً}، وقوله: {إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا}، أي هذا هو الشأن.
وقال الشنفرى:
وإن مُدّت الأيدي إلى الزاد لم أكن ... بأعجلهم إذ أجشعُ القوم أعجلُ
وما ذاك إلا بسطة عن تفضّل ... عليهم وكان الأفضلَ المتفضلُ
أي أن المتفضل هو الأفضل في الماضي ولا يزال كذلك؛ فهو إخبار عن حكم مستقر علل به فعله في تفضله عليهم ليكون هو الأفضل وليس ذلك عن خوف منه ولا ضَعَة.
وقد تدخل "كان" بصيغة الماضي على الفعل الذي لم يقع بعدُ لإفادة قوة المعنى فيه، والجزم بتحققه؛ كما في قول الله تعالى: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)}
فكلمة شركاء في قوله: {بشركائهم} مضاف يصدق على المشركين وعلى ما يدعونهم من دون الله، ويوم القيامة يكفر بعضهم ببعض، وجيء بكان للدلالة على شدة كفرهم بهم يوم القيامة، حتى كأنّهم أنزلوا أنفسهم منزلة من لم يؤمن بهم قط.
ومنه قول الله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)}
فهم في خسار من أول أمرهم إلا أنّ ظهور خسارهم يوم القيامة يبين لكلّ من في الموقف.
ب: وأمّا الفعل المضارع فيدلّ على التجدد، وهذا التجدد قد يكون بتكرر الفعل، وقد يكون باستدامته حقيقة أو حكماً.
- قال الله تعالى: {أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن}
فالأصل في الطير كونها صافات، ولذلك جيء بهذا الوصف بصيغة اسم الفاعل الذي يدلّ على الثبات واللزوم، وعُطف عليه {يقبضن} بصيغة المضارع ليكون وصفاً طارئاً متجدداً بالتكرار كأنه يحكي فعل الطير بقبض أجنحتها مرة بعد مرة لأجل الطيران.
و"صافات" اسم فاعل مشتق من الفعل "صفّ" ، وهو محتمل للزوم والتعدي.
فإن كان لازماً فيفيد اصطفاف الطيور بعضها مع بعض.
وإن كان متعدياً فيفيد صفَّ الطيورِ أجنحتَها عند الطيران.
- وقال الله تعالى: {قل لا تُسألون عما أجرمنا ولا نُسأل عما تعملون}
خالف بين الصيغة في {أجرمنا} و {تعملون}، وذلك – والله تعالى أعلم – لأن الكفار لمّا كانوا يتعلّقون في ذمّ المسلمين بأدنى ما قد يقع من بعض أفرادهم من أعمال يعدونها جرائم، وقد لا تكون كذلك، وبعضها ربما كان قبل إسلامهم ودعوتهم، أتي بصيغة الماضي لإفادة أنها مضت وانقضت، وحالهم الآن حال التائبين الصالحين الذي يعملون الصالحات، هذا على التنزل بأنّها جرائم.
وأما أعداء الرسل فقيل في حقهم: {ولا نُسأل عما تعملون} فهم مقيمون على أعمال سيئة يعملونها وتتجدد منهم وهم مصرّون عليها؛ فأيّ الفريقين أحقّ باللوم والتشنيع؟!! وأيّهما أحقّ بالخوف من الحساب والجزاء لو كانوا يعقلون؟ّ!!
وهذا في المحاجّة قوي الوقع على الخصم.
وإذا أريد إفادة تجدد الفعل وتكرره في الزمن الماضي أتي بما يفيد استحضار الحالة باستعمال إذ، أو كان، أو بعض أفعال المقاربة، أو أُوقِع الفعل موقعَ الحال، ولذلك أمثلة في القرآن الكريم منها:
1. قول الله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} أفاد الإتيان بإذ، والفعل المضارع "يرفع" استحضار الحالة، وتصوير المشهد في ذهن القارئ.
- قال ابن عاشور: (وخولف الأسلوب الذي يقتضيه الظاهر في حكاية الماضي أن يكون بالفعل الماضي بأن يقول: "وإذ رفع" إلى كونه بالمضارع لاستحضار الحالة وحكايتها كأنها مشاهدة؛ لأن المضارع دالٌّ على زمن الحال؛ فاستعماله هنا استعارة تبعية).
2. وقول الله تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم} الإتيان بالفعل المضارع مع "إذ" يفيد استحضار الحالة التي كانوا عليها ولزومهم للاستغاثة وتجددها منهم.
{فاستجاب} بالماضي لإفادة وقوع الوعد وتحققه.
3. وقول الله تعالى حكاية عن مؤمني الجن أنهم قالوا: {وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا} فهذا فيه إفادة بأن أقوال سفهائهم كانت دائمة متجددة مما يدل على أنهم كانوا مصرّين عليها ويدعون إليها.
ولو قيل: وأنه قال سفيهنا، لربما أفاد أنها إنما كانت كلمة قيلت وانقضت.
4. وقول الله تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به}
{يحرفون} فعل مضارع أوقع موقع الحال للدلالة على أنّ هذا حالهم ودأبهم، وأن تحريفهم متجدد دائم.
{ونسوا} بالماضي، فيه إشارة لشدة إعراضهم، وأنّ ما يكون منهم من نسيان لا يعقبه تذكّر؛ وهو هنا النسيان المذموم، وهو ما يكون بسبب الإهمال والإعراض، ولو أنهم كانوا يتذكّرون وينتفعون بالذكرى لكان نسيانهم متكرراً، لكنّه هنا نُزّل منزلة الفعل الثابت الذي وقع وثبت أثره.
ج: وأما فعل الأمر فالأصل فيه طلبُ حدوث الفعل من المأمور على وجه الاستعلاء، وقد يخرج الأمر عن معناه الأصلي إلى معانٍ أخرى كالامتنان، والإباحة، والتخيير، والتسوية، والتعجيز، والتمني، والدعاء، وغيرها، ولكل تلك المعاني أمثلة في القرآن الكريم.