دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > متون التفسير وعلوم القرآن الكريم > التفسير وأصوله > مقدمة التفسير

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 11 ذو القعدة 1429هـ/9-11-2008م, 11:38 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي المراسيل في التفسير

والْمَرَاسِيلُ إِذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهَا وَخَلَتْ عَنِ الْمُوَاطَأَةِ قَصْدًا أَو اتِّفَاقًا بِغَيْرِ قَصْدٍ كانَتْ صَحِيحةً قَطْعًا؛ فَإِنَّ النَّقلَ إمَّا أَنْ يَكُونَ صِدْقًا مُطَابِقًا لِلْخَبَرِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَذِبًا تَعَمَّدَ صَاحِبُهُ الْكَذِبَ أَوْ أَخْطَأَ فِيهِ ، فَمَتَى سَلِمَ من الْكَذِبِ العَمْدِ وَالْخَطَأ كَانَ صِدْقًا بِلاَ رَيْبٍ .
فإِذَا كانَ الْحَدِيثُ جَاءَ منْ جِهَتَيْنِ أَوْ جِهَاتٍ ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُخْبِرِينَ لَمْ يَتَوَاطَؤُوا عَلَى اخْتِلاقِهِ ، وَعُلِمَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لاَ تَقَعُ الْمُوَافَقَةُ فِيهِ اتِّفاقًا بِلاَ قَصْدٍ ، عُلِمَ أنَّهُ صَحِيحٌ ، مِثْلُ : شَخْصٍ يُحَدِّثُ عَنْ وَاقِعَةٍ جَرَتْ ، وَيَذْكُرُ تَفَاصِيلَ مَا فِيهَا من الأَقْوَالِ وَالأفْعَالِ ، وَيَأْتي شَخصٌ آخَرُ قَدْ عُلِمَ أنَّهُ لَمْ يُوَاطِئ الأَوَّلَ فَيَذْكُرُ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ الأَوَّلُ منْ تَفَاصِيلِ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ ، فيُعلَمُ قَطْعًا أَنَّ تِلْكَ الوَاقِعَةَ حَقٌّ في الجُملَةِ ، فَإنَّهُ لَوْ كَانَ كُلٌّ منْهُمَا كَذَبَ بِهَا عَمْدًا أَوْ أَخْطَأَ, لَمْ يَتَّفِقْ في العَادَةِ أَنْ يَأْتِيَ كُلٌّ منْهُمَا بِتِلْكَ التَّفاصيلِ الَّتِي تَمْنَعُ العَادَةُ اتِّفَاقَ الاثْنَيْنِ عَلَيْهَا بِلاَ مُوَاطَأَةٍ منْ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ ، فَإِنَّ الرَّجلَ قَدْ يتَّفِقُ أَنْ يَنْظِمَ بَيْتًا ، وَيَنْظِمُ الآخَرُ مِثْلَهُ ، أَوْ يَكْذِبَ كَذِبَةً ، وَيَكْذِبُ الآخرُ مثلَهَا ، أَمَّا إِذَا أَنْشَأَ قَصِيدَةً طَوِيلةً ذَاتَ فُنُونٍ عَلَى قَافِيَةٍ وَرَوِيٍّ ، فلَمْ تَجْرِ العَادَةُ بِأَنَّ غَيْرَهُ يُنْشِِئُ مِثْلَهَا لَفْظًا وَمَعْنًى ، مَعَ الطُّولِ الْمُفْرِطِ ، بَلْ يُعْلَمُ بِالْعَادَةِ أَنَّهُ أَخَذَهَا منْهُ .
وَكَذلِكَ إِذَا حدَّثَ حَدِيثًا طَوِيلاً فِيهِ فُنُونٌ وَحَدَّثَ آخَرُ بِمثلِهِ ، فَإنَّهُ إمَّا أنْ يكُونَ وَاطَأَهُ عَلَيهِ ، أَوْ أَخَذَهُ منْهُ , أَوْ يَكُونَ الحديثُ صِدْقًا .
وَبِهَذِهِ الطَّريقِ يُعْلَمُ صِدْقُ عَامَّةِ مَا تَتَعَدَّدُ جِهَاتُهُ المخْتَلِفَةُ عَلَى هَذَا الوَجْهِ منَ المنْقُولاتِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا كَافِيًا إمَّا لإرْسَالِهِ وَإمَّا لِضَعْفِ نَاقِلِهِ .
لَكِنَّ مِثْلَ هَذَا لا تُضْبَطُ بِهِ الأَلْفَاظُ وَالدَّقَائِقُ الَّتِي لا تُعْلَمُ بِهَذِهِ الطَّريقِ بَلْ يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى طَرِيقٍ يَثْبُتُ بِِهَا مِثْلُ تِلْكَ الأَلْفَاظِ والدَّقائقِ .
ولهَذَا ثبَتَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ بِالتَّواترِ ، وأنَّهَا قبْلَ أُحُدٍ ، بَلْ يُعْلَمُ قطعًا أنَّ حمزةَ وعليًّا وَأَبَا عُبيدةَ بَرَزُوا إِلَى عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَالوَلِيدِ ، وَأَنَّ عَليًّا قَتَلَ الوَلِيدَ ، وَأَنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ قِرْنَهُ ، ثُمَّ يُشَكُّ في قِرْنِهِ : هَلْ هُوَ عُتْبَةُ أَمْ شَيْبَةُ ؟
وَهَذَا الأَصْلُ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ ، فَإنَّهُ أَصْلٌ نَافِعٌ في الجَزْمِ بِكَثِيرٍ مِن المنْقولاتِ في الْحَدِيثِ ، والتَّفسيرِ ، وَالْمَغَازِي ، وَمَا يُنْقَلُ مِنْ أَقْوَالِ النَّاسِ وَأَفْعَالِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
ولِهَذَا إِذَا رُوِيَ الْحَدِيثُ الَّذِي يَتَأتَّى فِيهِ ذَلِكَ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْهَيْنِ - معَ العِلْمِ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَمْ يَأْخُذْهُ عَن الآخَرِ - جُزِمَ بِأَنَّهُ حَقٌّ .
لا سِيَّمَا إِذَا عُلِمَ أَنَّ نَقَلَتَهُ لَيْسُوا مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الكَذِبَ ، وَإنَّمَا يُخَافُ على أَحَدِهِم النِّسيانُ وَالغَلَطُ ؛ فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ الصَّحابةَ كابْنِ مَسْعُودٍ وأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وابنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَِبي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمْ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ الوَاحِدَ مِنْ هَؤُلاَءِ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الكَذِبَ علَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضْلاً عمَّنْ هوَ فَوْقَهُمْ ، كَمَا يُعْلَمُ الرَّجلُ مِنْ حَالِ مَنْ جَرَّبَهُ وَخَبِرَهُ خِبْرَةً بَاطِنَةً طَويلَةً أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَسْرِقُ أَمْوَالَ النَّاسِ ، وَيَقْطَعُ الطَّريقَ ، وَيَشْهَدُ بِالزُّورِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ .
وكَذَلِكَ التَّابعُونَ بِالْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ وَالبَصْرَةِ ، فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ مِثْلَ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ ، وَالأَعْرَجِ ، وَسُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ ، وَزَيْدِ بنِ أَسْلَمَ ، وَأَمْثَالِهِمْ ؛ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الكَذِبَ في الحدِيثِ .
فَضْلاً عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُمْ مِثْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ، وَالقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، أَوْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، أَوْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ أَوْ عَلْقَمَةَ ، أَو الأَسْوَدِ أَوْ نَحْوِهِمْ .
وَإنَّمَا يُخَافُ عَلَى الوَاحِدِ مِن الغَلَطِ فَإِنَّ الغَلَطَ والنِّسيانَ كَثِيرًا مَا يَعْرِضُ لِلإِنْسَانِ ، وَمِن الحُفَّاظِ مَنْ قَدْ عَرَفَ النَّاسُ بُعدَهُ عَنْ ذَلِكَ جِدًّا ، كَما عَرَفُوا حَالَ الشَّعبيِّ ، والزُّهريِّ وَعُرْوَةَ وَقَتَادَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَمْثَالِهِمْ .
لا سِيَّمَا الزُّهريَّ فِي زَمَانِهِ وَالثَّوْرِيَّ فِي زَمَانِهِ .
فَإنَّهُ قَدْ يَقُولُ القَائِلُ : إِنَّ ابنَ شِهَابٍ الزُّهريَّ لا يُعْرَفُ لَهُ غَلَطٌ مَعَ كَثْرَةِ حَدِيثِهِ وَسَعَةِ حِفْظِِهِ .
وَالمقْصُودُ أَنَّ الحَدِيثَ الطَّويلَ إِذَا رُوِيَ مَثَلاً مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ امْتَنَعَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ غَلَطًا كَمَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا ، فَإِنَّ الغَلَطَ لاَ يَكُونُ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ مُتَنَوِّعَةٍ ، وَإنَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضِِهَا ، فَإِذَا رَوَى هَذَا قصَّةً طَوِيلَةً مُتَنَوِّعَةً ، وَرَوَاهَا الآخَرُ مِثْلَمَا رَوَاهَا الأَوَّلُ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ ؛ امْتَنَعَ الغَلَطُ فِي جَمِيعِهَا ، كَمَا امْتَنَعَ الكذِبُ فِي جَمِيعِهَا مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ .
وَلِهَذَا إنَّمَا يَقَعُ في مِثْلِ ذَلكَ غَلَطٌ فِي بَعْضِ مَا جَرَى في القِصَّةِ ؛ مِثْلُ حَدِيثِ اشْتِرَاءِ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البَعِيرَ مِنْ جَابِرٍ ؛ فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ طُرُقَهُ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ ، وَإِنْْ كَانُوا قَد اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ . وَقَدْ بيَّنَ ذلِكَ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ .
فَإِنَّ جُمْهُورَ مَا فِي البُخَارِيِّ ومُسْلِمٍ ممَّا يُقطَعُ بِأَنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ ، لأَنَّ غَالِبَهُ مِنْ هَذَا النَّحْوِ ؛ وَلأنَّهُ قَدْ تَلَقَّاهُ أَهْلُ العِلْمِ بِالقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ . وَالأُمَّةُ لاَ تَجْتَمِعُ عَلَى خَطَإٍ ، فلَوْ كَانَ الحَدِيثُ كَذِبًا فِي نَفْسِ الأَمْرِ ، وَالأُمَّةُ مُصَدِّقةٌ لَهُ قَابِلَةٌ لَه ، لَكَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَصْدِيقِ مَا هُوَ فِي نَفْسِ الأَمْرِ كَذِبٌ ، وَهَذَا إِجْمَاعٌ عَلَى الْخَطَإِ ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ ، وَإنْ كنَّا نحنُ بِدُونِ الإِجْمَاعِ ، نُجَوِّزُ الخطأَ أَو الكَذِبَ عَلَى الخَبَرِ ، فَهُوَ كَتَجْوِيزِنَا قَبْلَ أن نعلمَ الإجماعَ على العِلْمِ الَّذِي ثبَتَ بظاهرٍ أَوْ قِيَاسٍ ظَنِّيٍّ : أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي البَاطِنِ بِخِلافِ مَا اعتقدْنَاهُ ، فَإِذَا أَجْمَعُوا عَلَى الْحُكْمِ جَزَمْنَا بِأَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ بَاطِنًا وَظاَهِرًا.


  #2  
قديم 20 ذو القعدة 1429هـ/18-11-2008م, 01:37 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح مقدمة التفسير للشيخ: محمد بن صالح العثيمين (مفرغ)

القارئ:
"المراسيل إذا تعددت طرقها وخلت عن المواقعة قصدا أو الاتفاق بغير قصد كانت صحيحة قطعاً , فإن النقل إما أن يكون صدقاً مطابقاً للخبر وإما أن يكون كذبا تعمد صاحبه الكذب أو أخطأ فيه , فمتى سلم من الكذب العمد والخطأ كان صدقاً بلا ريب , فإذا كان...".
الشيخ:
..انتبه الآن للكلام هذا , المراسيل هل تكون صدقاً أو هل تكون صحيحة أم لا , ونحن نعرف مما سبق أن المراسيل هي التي رفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم من لم يسمع منه إما من تابعي وهو لم يسمع منه أو صحابي , فالمرسل هو ما رفعه التابعي أو الصحابي الذي لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم , فلو روى محمد بن أبي بكر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم سميناه مرسلاً؛ لأنه لم يسمع منه قطعاً , محمد بن أبي بكر ولد في عام حجة الوداع لكن مع ذلك قال أهل العلم: إن مراسيل الصحابة حجة , وأما مرسل التابعي فالتابعون يختلفون فمنهم من يقبل مرسله ومنهم من لا يقبل , فالذين تتبعوا وعرفوا أنهم لا يرسلون إلا عن صحابي مثل سعيد بن المسيب فإنه قد قيل إنه لا يرسل إلا عن أبي هريرة فيكون مرسله صحيح , والذين ليسوا على هذه الحال ينظر في المرسل نفسه إذا تعدد الطرق وتلقته الأمة بالقبول فإنه يكون صحيحاً , وقد مر علينا مثال من ذلك في حديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتاباً فيه ذكر الديات والزكاة ومنه ألا يمس القرآن إلا طاهر.نعم أعد العبارة والمراسيل...
القارئ:
"والمراسيل إذا تعددت طرقها وخلت عن المواقعة قصدا أو الاتفاق بغير قصد كانت صحيحة قطعاً , فإن النقل إما أن يكون صدقاً مطابقاً للخبر , وإما أن يكون كذباً تعمد صاحبه الكذب أو أخطأ فيه فمتى سلم من الكذب العمد والخطأ كان صدقاً بلا ريب.
فإذا كان الحديث جاء من جهتين أو جهات , وقد علم أن المخبرين لم يتواطئوا على اختلاقه وعلم أن مثل ذلك لا تقع الموافقة فيه اتفاقاً بلا قصد علم أنه صحيح مثل شخص يحدث عن واقعة جرت ويذكر تفاصيل ما فيها من الأقوال والأفعال , ويأتي شخص آخر قد علم أنه لم يواطئ الأول فيذكر مثل ما ذكره الأول من تفاصيل الأقوال والأفعال فيعلم قطعاً أن تلك الواقعة حق في الجملة.
فإنه لو كان كل منهما كذب بها عمداً أو خطأ لم يتفق في العادة أن يأتي كل منهما بتلك التفاصيل التي تمنع العادة اتفاق الاثنين عليها بلا مواطئة من أحدهما لصاحبه , فإن الرجل قد يتفق أن ينظم بيتاً وينظم الآخر مثله أو يكذب كذبة ويكذب الآخر مثلها , أما إذا أنشأ قصيدة طويلة لا تكونون على قافية وروي فلم تجر العادة بأن غيره ينشأ مثلها لفظاً ومعنى مع الطول المفرط , بل يعلم بالعادة أنه أخذها منه.
وكذلك إذا حدث حديثاً طويلاً فيه فنون وحدث آخر بمثله فإنه إما أن يكون واطأه عليه أو أخذه منه أو يكون الحديث صدقا , وبهذه الطريق يعلم صدق عامة ما تعدد جهاته المختلفة على هذا الوجه من المنقولات و إن لم يكن أحدها كافيا إما لإرساله وإما لضعف ناقله , لكن مثل هذا...".
الشيخ:
(غير مسموع ) فهمتم من الكلام هذا , القطعة هذه مفهومه , التوضيح رحمه الله يقول إن المراسيل إذا تعددت طرقها وليس فيها اتفاق أو مواطأة عليها فإنه يعلم بأنها صحيحة , ثم ضرب مثلاً لو أن رجلاً أخبرك بخبر عن واقعة وفصل ما فيها تفصيلاً كاملاً عن كل ما جرى فيها من قول وفعل وإن زدت فقل ومن حضور ثم جاء آخر وهذا الرجل ضعيف عندك ما تثق بخبره لكن جاءك رجل آخر حدثك بنفس الحديث وأنت تعلم أنه ما حصل بينه وبين الأول مواطأة ولا اتفاق , ثم جاء ثالث ورابع و هكذا , وإن كان هؤلاء كلهم ضعاف ولكن كون كل واحد منهم يذكر القصه على وجه مطابق للآخر مع طولها هذا يبعد أن يكون الخبر مختلقاً.
لكن لو كان في القضية واقعة صغيره مثلاً وجاء إنسان وحدث بها ثم آخر و هكذا وكلهم ضعاف فإنها قد لاتصل إلى العلم وإلى الجزم بأنها حق؛ لأن مثل الكذبة الواحدة نعم قد تقع قد يقولها قائل ثم يقولها الثاني ثم يقولها الثالث وهي ما لها أصل نعم مثل أن يكون أناس يريدون أن يروعوا الناس فقالوا: إنه سقطت مثلاً قذيفة في مكان ولكن ما وصفوها وجاء آخر وهكذا , ربما يكون هؤلاء قصدوا بذلك نعم الترويع وكذبوا في هذا لكن يأتون يحكون لنا قصة بتفاصيلها القولية والفعلية هذا يبعد أن يكون ذلك على سبيل الكذب إلا إذا علمنا أن بينهم اتفاقا أو مواطأة على ذلك.
هذا هو حاصل ما ذكره المؤلف رحمه الله , وكل ذلك يريد به أن يؤيد أن المراسيل إذا تعددت طرقها وعلم أنه ليس هناك مواطأة ولا اتفاق فإنه تكون صحيحة. نعم
ردا على سؤال غير مسوع: نعم لأن كل منهم يذكرونها عن الرسول عليه الصلاة والسلام وكونهم يتفقون على هذا من طرق متعددة يدل على أن لها أصلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يبعد في العادة أن مثل هؤلاء كلهم ينسبونها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بدون أن تصل إليهم من طريق موثوق نعم.
القارئ:
"لكن مثل هذا لا ثم ".
الشيخ:
ذكر أيضاً أن المؤلف رحمه الله يقول العادة , العادة ح لأن مثل هذه المسائل الخبرية كما قال ابن حجر لا مدخل للعقل فيها ولو أننا أخذنا بكل احتمال عقلي ما بقى علينا خبر يمكن صدقه ولا حكم يمكن إثباته؛ لأنه في المجادلة كل إنسان يجادلك احتمال يقول يحتمل كذا وكذا أي نعم.
القارئ:
"لكن مثل هذا لا تضبط به الألفاظ والدقائق التي لا تعلم بهذه الطريق بل يحتاج ذلك إلى طريق يثبت بها مثل تلك الألفاظ والدقائق"
الشيخ:
نعم المعنى إن هذا اللي ذكره المؤلف رحمه الله إنه ما يمكن أن تثبت به الألفاظ والدقائق التي لا تعلم بهذه الطريق يعني فيه دقائق ثانية غير مثلاً المجمل (اللي) اتفقوا عليه فهذه الدقائق ما تثبت بمثل هذا الطريق , بل يحتاج إلى طريق آخر أصح منها , نعم , هؤلاء لن يتفقوا على الحادثة , هو الآن يتكلم ما هو عن المراسيل، يتكلم عن هذه الحادثة (اللي) وقعت وحصل فيها التفصيل , في دقائق مثلاً تفصيلية من هذه الحادثة قد لا تثبت بهذه الطريق بل تحتاج إلى نقل صحيح يعتمد عليه لإثباتها؛ لأن هذه الدقائق في ضمن الحادثة ونحن نتكلم عن الحادثة عموماً , فالحادثة عموماً تثبت بهذه الطريق التي تواطئوا فيها لكن الدقائق والتفاصيل ما تثبت إلا بطريق يثبت به مثل هذه الدقائق والتفاصيل. نعم (غير مسموع ) تواطئوا.
القارئ:
"بل يحتاج ذلك إلى طريق يثبت بها مثل تلك الألفاظ والدقائق , ولهذا ثبتت غزوة بدر بالتواتر وأنها قبل أحد , بل يعلم قطعاً أن حمزة وعلياً وعبيدة خرجوا إلى عتبة وشيبة والوليد وأن علياً قتل الوليد وأن حمزة قتل قرنة ثم يشك في قرنه هل هو عتبة أم شيبة؟ وهذا الأصل ينبغي أن يعرف فإنه أصل نافع في الجزم بكثير من المنقولات في الحديث والتفسير والمغازي , وما ينقل من أفواه الناس وأفعالهم وغير ذلك.
ولهذا إذا روي الحديث الذي يتأتى فيه ذلك ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجهين مع العلم بأن أحدهما لم يأخذه عن الآخر جزم بأنه حق لاسيما إذا علم أن نقلته ليسو ممن يتعمدوا الكذب وإنما يخاف على أحدهم النسيان والغلط , فإن من عرف الصحابة كابن مسعود وأبي بن كعب وابن عمر وجابر وأبي سعيد وأبي هريرة وغيرهم علم يقيناً أن الواحد من هؤلاء لم يكن ممن يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلاً عمن هو فوقهم كما يعلم الرجل من حال من جربه وخبره خبرة باطنة طويلة أنه ليس ممن يسرق أموال الناس ويقطع الطريق ويشهد بالزور ونحو ذلك.
وكذلك التابعون بالمدينة ومكة والشام والبصرة فإن من عرف مثل أبي صالح السمان والأعرج وسليمان بن يسار وزيد بن أسلم وأمثالهم علم قطعاً أنهم لم يكونوا ممن يتعمد الكذب في الحديث فضلاً عمن هو فوقهم".
الشيخ:
مثلاً عندي أبو صالح بن السمان هو والأكوامي المدني أخذ عن بعض الصحابة وشهد الدار وسمع منه الأعمش ألف حديث , قال أحمد: ثقة ثقة توفي سنة مائة وواحد.
والأعرج عبد الرحمن بن هرمز المدني القاري أخذ عن بعض الصحابة وأخذ عنه الزهري وأبو زبير محمد بن مسلم المكي وأبو الزناد المدني , قال البخاري: أصح الأسانيد أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة توفي الأعرج في الأسكندرية سنة مائة وسبعة عشر.
وسليمان بن يسار المدني مولى ميمونة أحد الفقهاء السبعة أخذ عن بعض الصحابة وأخذ عنه قتادة والزهري وعمرو بن شعيب حفيد عبد الله بن عمرو بن العاص توفي سنة مائة أو بعدها عن ثلاث وسبعين سنة. وزيد بن أسلم تقدم التعريف به. نعم (غير مسموع).
القارئ:
"فضلاً عمن هو فوقهم مثل محمد بن سيرين وأبو قاسم بن محمد أو سعيد بن المسيب".
الشيخ:
علم قطعا أنهم لم يكون ممن يتعمد الكذب في الحديث فضلا عمن هو فوقهم مثل محمد بن سيرين البصري مولى أنس ومن أقران الحسن بن أبي الحسن أخذ عن بعض الصحابة وأخذ عنه طائفة من أئمة التابعين قال ابن سعد: كان ثقة مأموناً عالياً رفيعاً فقيهاً إماماً كثير العلم توفي سنة مائة وعشرة.
والقاسم بن محمد حفيد أبي بكر الصديق وأحد الفقهاء السبعة أخذ عن بعض الصحابة وأخذ عنه طائفة من أعلام التابعين قال أبو الزناد: ما رأيت أحد أعلم بالسنة من القاسم توفي سنة مائة وستة.
وسعيد المسيب المخزومي المدني رأس علماء التابعين وفرضهم وفاضلهم وفقيههم قال عبد الله بن عمر: هو والله أحد المقتدى بهم , وقال أبو حاتم: هو أثبت التابعين عن أبي هريرة؛ لأنه كان صهره ولد سنة خمسة عشر وتوفي سنة ثلاث وتسعين.
وعبيد بن عمرو السلماني من قبائل المراد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الطريق إليه , أخذ عن علي وابن مسعود وأخذ عنه الشعبي والنخعي وابن سيرين كان يوازي شريحاً في القضاء والعلم توفي سنة مائة وسبعين.
وعلقمة وابن قيس النحعي الكوفي أحد الأعلام روى عن الخلفاء الراشدين الأربعة وطبقتهم وأخذ عنه الأئمة كإبراهيم النخعي و الشعبي توفي سنة اثنين وستين عن تسعين سنة.
والأسود هو ابن يزيد بن قيس النخعي الكوفي أخذ عن ابن مسعود وعائشة وأبي موسى وأخذ عنه إبراهيم النخعي وطبقته كان يختم في كل ليلتين , وحج ثمانين حجة وتوفي سنة أربعة وسبعين , الله أكبر (غير مسموع ) نعم.
القارئ:
"وإنما يخاف على الواحد من الغلط , فإن الغلط والنسيان كثيراً ما يعرج للإنسان , ومن الحفاظ من قد عرف الناس بعده عن ذلك جداً كما عرفوا حال الشعبي والزهري وعروة وقتادة والثوري وأمثالهم لاسيما الزهري في زمانه والثوري في زمانه".
الشيخ:
هو عندي قتادة بن دعامة السدوسي البصري الأكمه أحد الأئمة الأعلام و(إيش) معنى الأكمه؟ ولد أعمى سبحان الله , أحد الأئمة الأعلام روى عن أنس وسعيد بن المسيب وابن سيرين وروى عنه الحفاظ والأئمة واحتج به أصحاب الصحاح , توفي سنة مائة وسبعة عشر.
وسفيان الثوري من بني ثور بن عبد منات بن قد بن طابخة كوفي من أعلام الأئمة الحفاظ المتميزين بالمعرفة والزهد والورع , ولد سنه سبع وسبعين وتوفي بالبصرة سنة مائة وواحد وستين متى ولد؟....
القارئ:
"لاسيما الزهري في زمانه والثوري في زمانه فإنه قد يقول القائل: إن ابن شهاب الزهري لا يعرف له غلط مع كثرة حديثه وسعة حفظه , والمقصود أن الحديث الطويل إذا روي مثلاً من وجهين مختلفين من غير مواطئة امتنع عليه أن يكون غلطاً , فما امتنع أن يكون كذباً".
الشيخ:
يقول عندي مع كثرة حديثه وسعة حفظه في سيرة عمر بن عبد العزيز رحمه الله لابن الجوزي صفحة ثمان وعشرين عن الليث بن سعد إمام أهل مصر أن إبراهيم بن عمر بن عبد العزيز حدّث أنه سمع أباه يقول لابن شهاب الزهري: ما أعلمك تعرض علي شيئاً -أي من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم- إلا شيئاً قد مر على مسامعي - الله أكبر (اللي) يقوله من؟ عمر بن عبد العزيز مع إنه عام في الحديث رضي الله عنه- إلا شيئاً قد مر على مسامعي إلا أنك أوعى له مني , وروى مثله عن معمر عن الزهري عن عمر بن عبد العزيز , الله اكبر , رحمة الله عليه. نعم.
القارئ:
"فإن الغلط لا يكون في قصة طويلة متنوعة وإنما هو".
الشيخ:
والمقصود...
القارئ:
"والمقصود أن الحديث الطويل إذا روي مثلا من وجهين مختلفين من غير مواطأة امتنع عليه أن يكون غلطا كما امتنع أن يكون كذبا , فإن الغلط لا يكون في قصة طويلة متنوعة وإنما يكون في بعضها , فإذا روى هذا قصة طويلة متنوعة ورواها الآخر مثلما رواها الأول من غير مواطأة امتنع الغلط في جميعها كما امتنع الكذب في جميعها من غير مواطأة , ولهذا إنما يقع في مثل ذلك غلط في بعض ما جرى في القصة , مثل حديث اشتراء النبي صلى الله عليه وسلم البعير من جابر فإن من تأمل طرقه علم قطعاً أن الحديث صحيح وإن كانوا..".
الشيخ:
هذا هو (اللي) قلنا قبل قليل إذا كانت في القصة شيء من الدقائق ما يكفي هذا النقل بل لابد من طريق آخر يثبت به نعم.
القارئ:
"وإن كانوا قد اختلفوا في مقدار الثمن , وقد بين ذلك البخاري في صحيحه فإن جمهور ما في البخاري ومسلم مما يُقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله؛ لأن غالبهم من هذا ولأنه قد تلقاه أهل العلم بالقبول والتصديق , والأمة لا تجتمع على خطأ , فلو كان الحديث كذباً في نفس الأمر والأمة مصدقة له قابلة له لكانوا قد أجمعوا على تصديق ما هو في نفس الأمر كذب , وهذا إجماع على الخطأ وذلك ممتنع , وإن كنا نحن بدون إجماع نجوز الخطأ أو الكذب على الخبر فهو كتجويزنا قبل أن نعلم الإجماع على العلم الذي ثبت بظاهر أو قياس ظني أن يكون الحق في الباطل بخلاف ما اعتقدناه فإذا أجمعوا على الحكم جزمنا بأن الحكم ثابت باطناً وظاهراً , ولهذا كان جمهور أهل العلم".
الشيخ:
وهذا واضح أحياناً يمر عليك الحديث وتعلم أن معناه كذا وكذا , لكن فيه احتمال أن يكون خلاف ذلك أن يكون معناه الباطن (اللي) هو خلاف الظاهر على خلاف ما فهمت , فإذا انعقد الإجماع على يقتضيه ظاهر الحديث علمنا بأنه لا يحتمل الباطن.. المعنى الباطن الذي نقدره فى أذهاننا لأن الأمة لا تجتمع على خطأ، طيب اختلاف الرواة في مقدار ثمن جمل جابر يجعله مضطرباً , لا السبب لأنه هذا الاضطراب لا يعود إلى أصل الحديث , وإنما يعود إلى مسألة جزئية فيه وهو لا يضر , وكذلك اختلافهم في حديث طلالة بن عبيد في قيمة القلادة هل هي اثنى عشر ديناراً أو أقل أو أكثر , هذا أيضاً لا يضر؛ لأن هذا الاختلاف ليس في أصل القصة أي نعم.

  #3  
قديم 20 ذو القعدة 1429هـ/18-11-2008م, 01:40 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح مقدمة التفسير للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (مفرغ)

(والمراسيلُ إذا تَعَدَّدَتْ طُرُقُها، وخَلَتْ عن الْمُواطأةِ قَصْداً، أو الاتِّفاقِ بغيرِ قَصْدٍ؛ كانتْ صحيحةً قَطْعاً).
أكثرُ التفاسيرِ مَراسيلُ أوْ مقطوعةٌ مِنْ كلامِ التابعينَ، فتُعْتَبَرُ مقبولةً إذا تَعَدَّدَت الطرُقُ؛ بأنْ رُوِيَ إسنادٌ عنْ مُجاهِدٍ، ورُوِيَ إسنادٌ عنْ قتادةَ، وآخَرُ عنْ عَلقمةَ، وآخَرُ عنْ ثابتٍ، وآخَرُ عنْ عطاءٍ، لا شَكَّ أنَّها معَ تَبايُنِهم - بعضُهم في مَكَّةَ، وبعضُهم في الكُوفةِ، وبعضُهم في الشامِ، وبعضُهم في مِصرَ- إذا تَعَدَّدَت الطرُقُ، وصارتْ قِصَّةً واحدةً، دَلَّ على أنَّ لتلكَ القِصَّةِ أَصْلاً.
قولُه: (إذا تَعَدَّدَت طُرُقُها، وخَلَتْ عن الْمُوَاطأةِ قَصْداً، أو الاتِّفاقِ بغيرِ قَصْدٍ؛ كانتْ صحيحةً قَطْعاً).
أمَّا إذا قُدِّرَ أنَّهُم تَوَاطَئُوا ثمَّ حَدَّثُوا بحَدِيثٍ؛ يَظهرُ أنَّهُم قَالُوهُ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهم، فلا يكونُ صحيحاً.
قولُه: (فإنَّ النقْلَ إمَّا أنْ يكونَ صِدْقاً مُطابِقاً للخَبَرِ). يعني: في نفْسِ الأمرِ، (وإمَّا أنْ يكونَ كَذِباً، تَعَمَّدَ صاحبُهُ الكذِبَ أوْ أَخطأَ فيهِ، فمَتى سَلِمَ مِن الكذِبِ العمْدِ والخطأِ كانَ صدِقاً بلا رَيبٍ) تَعَمُّدُ الكذِبِ حرامٌ، ولكنْ يُوجَدُ كثيرٌ يُفَسِّرُونَ القرآنَ بآرائِهم، فيكونُ قولُهم خَطَأً؛ لأنَّهُم لمْ يَعْتَمِدُوا فيهِ على النقْلِ، ويوجَدُ أيضاً آخَرونَ يَتَعَمَّدونَ الكذِبَ، والغالبُ أنَّهُم مِن المنافقينَ والزنادقةِ الذين يُريدونَ أنْ يُفْسِدُوا على الأُمَّةِ.
ويُمْكِنُ أنْ يكونَ كثيرٌ منهم مِن القُصَّاصِ والوُعَّاظِ الذينَ يُريدونَ أنْ يَسْمَعَ الناسُ إلى كلامِهم، ويَأْتُونَ بأشياءَ غَرِيبَةٍ لا يأتي بها غَيْرُهم؛ فيَكْثُرُ الذينَ يَتَوَافَدُونَ عليهم.
(إذا كانَ الحديثُ جاءَ مِنْ جهتَيْنِ أوْ مِنْ جِهاتٍ مُتعدِّدَةٍ، وقدْ عُلِمَ أنَّ المُخْبِرَيْنِ لمْ يَتَوَاطَآ على اختلاقِهِ)، يعني: جاءَ بإسنادٍ كُلُّهم مَدَنِيُّونَ، وجاءَ بإسنادٍ آخَرَ كلُّهم مِصْريُّونَ، فكيفَ يَتَّفقانِ على اختلاقِ هذا الحديثِ معَ تَبايُنِ وتَباعُدِ ما بينَهم؟ (وعُلِمَ أنَّ مِثلَ ذلكَ لا تَقَعُ المُوَافقة فيهِ اتِّفاقاً بلا قَصْدٍ، عُلِمَ أنَّهُ صحيحٌ) فإنه جاءَ مِنْ طَرِيقَيْنِ عنْ صَحَابِيَّيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ.
(مثالُهُ: شَخْصٌ يُحَدِّثُ عنْ واقعةٍ جَرَتْ، ويَذكُرُ تفاصيلَ ما فيها مِن الأقوالِ والأفعالِ، ويَأْتِي شَخْصٌ آخَرُ قدْ عُلِمَ أنَّهُ لمْ يُواطِئ الأَوَّلَ، فيَذكرُ مِثلَ ما ذَكَرَهُ الأوَّلُ مِنْ تفاصيلِ الأقوالِ والأفعالِ، فيُعلَمُ قَطْعاً أنَّ تلكَ الواقعةَ حَقٌّ في الجُمْلَةِ). فإذا حَدَّثُوا مِثْلاً عنْ وَاقِعَةٍ في غَزوةٍ.
فتْحُ دِمَشْق َمثلاً، واحدٌ منهم مِنْ أهلِ مصرَ، وواحدٌ مِنْ أهلِ مَكَّةَ، تلاميذُ هؤلاءِ مَكِّيُّونَ، وتلاميذُ هذا مِصْرِيُّونَ، وأَخْبَروا بالقِصَّةِ، وقالوا مَثلاً: إنَّهُ لَمَّا حُصِرَتْ هذهِ المدينةُ، شَدَّدُوا الْحِصَارَ عليها، وأنَّ بعضاً مِن الصحابةِ دَخلوا مِنْ جِهةٍ عَنْوَةً، وبعضٌ منهم دَخَلوا مِنْ جِهةٍ صُلحاً، وأخبَرُوا بقِصَّةٍ طويلةٍ، وكان هذا خَبَرُهُ مُطَابِقٌ لهذا؛ فكيفَ يُقالُ: إنَّهُما تَوافَقَا على اختلاقِ هذهِ القِصَّةِ.
هذا يُبَيِّنُ أنَّ القِصَّةَ واقعيَّةٌ، وأنَّها صحيحةٌ، (فإنَّهُ لوْ كانَ كلٌّ منهما كَذَبَها عَمْداً أوْ خَطَأً؛ لمْ يَتَّفِقْ في العادةِ أنْ يأتيَ كُلٌّ منهما بتفاصيلِ تلكَ القصَّةِ، تلكَ التفاصيلُ التي تَمْنَعُ العادةُ اتِّفاقَ اثنَيْنِ عليها، بلا مُواطأةٍ مِنْ أحدِهما لصاحبِهِ).
أي أنها: لوْ كانتْ كَذِباً استُبْعِدَ أنْ يَتَّفِقَ عليها اثنانِ، يَرويهَا هذا الْمِصريُّ سَوَاءً بسَوَاءٍ، ثمَّ يَروِيها المكِّيُّ سواءً بسواءٍ، لا يَزيدُ هذا على هذا شيئاً؛ وإن اخْتَلَفَا في التعبيرِ، ولكنَّ المعنى واحدٌ، فكيفَ يَتَّفِقَانِ على اختلاقِ هذهِ القِصَّةِ الطويلةِ؟!
قولُه: (الرجلُ قدْ يَتَّفِقُ أنْ يَنْظِمَ بيتاً؛ ويَنظمَ الآخرُ مِثْلَهُ).
يعني: إذا حَدَّثَ مثلاً أنَّ معنَى مِن المعاني خَطَرَ ببالِ هذا فنَظَمَ فيهِ بيتاً، ونَظَمَ هذا فيهِ بيتاً؛ قدْ يَتقارَبُ البَيْتَانِ، وقدْ يكونُ المعنى مُتَّفِقاً وإن اختلَفَ اللفظُ، أما (إذا أَنشأَ قصيدةً طويلةً ذاتَ فُنونٍ، على قافيَةٍ ورَوِيٍّ، لمْ تَجْرِ العادةُ بأنَّ غيرَهُ يُنْشِئُ مِثْلَها لَفْظاً ومعنًى، معَ الطولِ الْمُفْرِطِ، بلْ يُعلَمُ بالعادةِ أنَّهُ أَخَذَها منهُ).
ًفإذا أَنْشَأَ هذا قصيدةً قَدْرُها مِائَةُ بَيْتٍ مثلاً، ثمَّ جاءَ بها آخَرُ على لفظِها وعلى معْنَاها، تَحَقَّقْنا أنَّ هذا الثانيَ سَرَقَها مِن الأوَّلِ، وأنَّهُ أَخَذَها منهُ، فلا يُمْكِنُ أنَّ هذا نَظَمَها، وهذا نَظَمَها واتَّفَقَا في الرَّوِيِّ واتَّفَقَا في المعنى واتَّفَقَا في القافيَةِ.
هذا شيءٌ مُسْتَبْعَدٌ عادةً، وإنْ كانَ بعضُهم قدْ يَفعلُ ذلكَ، ولكنَّ الظاهرَ أنَّ هذا تمثيلُ الحَريريِّ في المقاماتِ. فهو عادةً يَضْرِبُ أمثالاً، فذَكَرَ قِصَّةَ مثلاً: أنَّ اثنَيْنِ جَاءَا إليهِ، كلُّ واحدٍ منهما نَظَمَ قَصيدةً، وقالَ الآخَرُ: إنَّهُ سَرَقَها مِنِّي، فقالَ الآخَرُ: إنِّي ما سَرَقْتُها، ولكنْ نَظَمْتُ كما تَيَسَّرَ لي، وكانَ أحدُهما نَظْمُهُ سُداسِيًّا والآخَرُ رُباعيًّا. وهي القصيدةُ التي يقولُ فيها:


إيَّاكَ والدُّنيا الدَّنيَّةَ إنَّها = شرْكُ الرَّدَى وجَلائِلُ الأخطارِ
دارٌ متى ما أَضْحَكَتْ في يَوْمِها = أَبـْكَتْ غَداً بُعْداً لها مِنْ دارِ
آفاتُها لا تَنقضِي وأسيرُها = لا يُفـْتَدَى بجلائلِ الأخطارِ
قَلَبَتْ لهُ ظَهْرَ الـْمِجَنِّ وأَوْلَغَتْ = فيهِ المُدَى ومضتْ لأَخْذِ الثَّار
ِفيقولُ: إنَّ ابنَهُ أوْ قَريبَهُ نَظَمَ قَصيدةً مِثْلَها، إلاَّ أنَّهُ قَطَعَ شَطْرَها أوْ ثُلُثَها؛ بقولِهِ:

إيَّاكَ والدُّنيا الدنيَّةَ إنَّها = شَرْكُ الرَّدَى
دارٌ متى ما أضْحَكَتْ في يومِها = أَبْكَتْ غَدَا
آفاتُها لا تَنقضِي وأسيرُها = لا يُفتَدَى
قَلَبَتْ لهُ ظَهْرَ الْمِجَنِّ وأَوْلـَغَتْ = فيهِ المُدَى
أي أنه: حَذَفَ منها ثُلُثَها، ثمَّ أَمَرَهما أنْ يُنْشِدَا شِعْراً في المعنى، فتَقارَبَا في المعنى ولمْ يَتقارَبَا في اللفظِ. وهناكَ قِصصٌ تَتقاربُ، كما ذَكَروا أنَّ هارونَ الرشيدَ قالَ لبعضِ الشعراءِ حولَهُ: مَنْ يُنْشِدُنِي شِعْراً يَتضمَّنُ قولَهُ (كلامُ الليلِ يَمْحُوهُ النهارُ)؟ فكلُّ واحدٍ منهم أَنْشَأَ ثلاثةَ أبياتٍ مختومةٍ بقولِ: كلامُ الليلِ يَمحوهُ النهارُ، ولكنْ معَ ذلكَ تَفاوَتَت الكلماتُ. والقصصُ كثيرةٌ.
قولُه: (وكذلكَ إذا حَدَّثَ هذا حديثاً طويلاً، فيهِ فُنُونٌ، وحدَّثَ آخَرُ بِمِثْلِهِ؛ فإنَّهُ إمَّا أنْ يكونَ وَاطأَهُ عليهِ، أوْ أَخَذَهُ منهُ، أوْ يكونَ الحديثُ صِدْقاً).
يَكْثُرُ في المتأخِّرينَ سَرِقَةُ الحديثِ، فيقالُ: هذا سَرَقَ حديثَ فُلانٍ، معَ أنَّهُ أتى بهِ- يعني: بلفظِهِ -، ممَّا يَدُلُّ على أنَّهُ سَرَقَهُ، سيَّما إذا كانَ هذانِ اللذان حَدَّثَا بهذا الحديثِ عنْ فُلانٍ الثقةِ ضَعِيفَيْنِ ؛ فبهذا عُلِمَ أنَّ أحدَهما سَرَقَ الحديثَ عن الآخَرِ. وكثيراً ما يُقَالُ: فلانٌ معروفٌ بسَرقةِ الحديثِ.
قولُه: (وبهذهِ الطريقِ يُعْلَمُ صِدْقُ عامَّةِ ما تَتَعَدَّدُ جِهاتُهُ المختلِفَةُ، على هذا الوجهِ مِن المنقولاتِ) . إذا كانتْ مُتَعَدِّدَةَ الطرُقِ، ومُتعدِّدَةَ الأسانيدِ؛ فإنَّهُ يُعْلَمُ صِدْقُها على هذا الوجهِ مِن المنقولاتِ، (وإنْ لمْ يكُنْ أحدُها كافياً)، يعني: لوْ كانَ إسناداً واحداً لمْ يكُنْ كافياً؛ (لأنَّهُ قدْ يكونُ مُرْسَلاً، وقدْ يكونُ فيهِ ضَعيفٌ، لكنْ مثلُ هذا لا تُضْبَطُ بهِ الألفاظُ والدقائقُ التي تُعْلَمُ بهذهِ الطَّرِيقِ، بل يَحتاجُ ذلكَ إلى طريقٍ يَثْبُتُ بها مِثلُ تلكَ الألفاظِ والدقائق)ِ، فإذا كانَ حديثُ الفرْدِ لا يُقْبَلُ، فسببُ ذلكَ أنْ يُقَالَ: إنَّ فيهِ سَقْطاً، أوْ فيهِ إِرْسَالاً، أوفيهِ ضعِيفاً؛ لأنَّ الطَّعْنَ إمَّا أنْ يكونَ بسَقْطٍ أوْ بطَعْنٍ.
قولُه: (ولهذا ثَبَتَتْ بالتواتُرِ غَزوةُ بَدْرٍ، وأنَّها قبلَ غَزوةِ أُحُدٍ) ثَبَتَتْ، وإنْ لمْ تَكُن الأسانيدُ واضحةً، لأنه لَمَّا نَقَلَها هؤلاءِ الكثيرونَ عَلِمْنَا صِدْقَها وحقيقتَها، وقيل هذا كله أشير إليها في القرآنِ.
قولهُ: (بلْ يُعلَمُ قَطْعاً أنَّ حمزةَ وعَلِيًّا وعُبيدةَ بَرَزُوا إلى عُتبةَ وشيبةَ والوليدِ) ذَكَرَ ذلكَ عَلِيٌّ في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ} قالَ: أَنَا أوَّلُ مَنْ يَجْثُو بينَ يَدَي اللهِ تعالى، الخصامةُ نَزلتْ فيَّ وفي حَمزةَ وعُبيدةَ بنِ الحارثِ ؛ ذلكَ لأنَّهُ بَرَزَ ثلاثةٌ مِن المشركينَ: عُتبةُ بنُ ربيعةَ، وشيبةُ بنُ ربيعةَ، والوليدُ بنُ عتبةَ؛ فقالوا: مَنْ يَبْرُزُ لنا؟ فبَرَزَ لهم ثلاثةٌ مِن الأنصارِ، فقالوا: أَكْفَاءٌ كِرامٌ، إنَّما نُريدُ قَوْمَنا، فبَرَزَ لهم حَمزةُ وعَلِيٌّ وعُبيدَةُ، فقَتَلَ (عَلِيٌّ الوليدَ، وحمزةُ قَتَلَ قِرْنَهُ)، وأمَّا عُبيدةُ وقِرنُهُ فاختلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فضَرَبَ كلٌّ منهما الآخَرَ فأَرْدَاهُ، ثمَّ إنَّ عليًّا وحمزةَ جاءَا إلى عُبيدةَ وقتلا قِرْنَهُ.
ما ذُكِرَ هنا أنَّ عَلِيًّا قَتَلَهُ، يعني: أَجْهَزَ عليهِ بعدَما جَرَحَهُ عُبيدةُ، (وحمزةُ يُشَكُّ في قِرنِهِ: هلْ هوَ عُتبةُ أمْ شيبةُ؟ )
قوله: (وهذا الأصلُ يَنبغِي أنْ يُعْرَفَ أنَّهُ أصلٌ نافعٌ في الجزْمِ بكثيرٍ مِن المنقولاتِ؛ في الحديثِ والتفسيرِ والمغازي)، يعني بذلك: أنْ يُعْرَفَ متى يُقْبَلُ الحديثُ، ومتى يُقبَلُ التفسيرُ والمغازي، فَيُقَالُ: إذا جَاءَتْ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ. (وما يُنقَلُ مِنْ أقوالِ الناسِ وأفعالِهم)؛ كذلك تُقْبَلُ إذا جَاءَتْ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وعُلِمَ أنَّ أحَدَ الطريقَيْنِ غيرُ الطريقِ الآخَرِ، وأنَّ هذا لم يأُخِذَ مِنْ هذا.
قولُه: (ولهذا إذا رُوِيَ الحديثُ الذي يَتَأَتَّى فيهِ ذلكَ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِنْ وجْهَيْنِ)، يعني: رواهُ اثْنَانِ مِن الصحابةِ أوْ ثلاثةٌ، ورُوِيَ كلُّ حديثٍ عنْ طُرُقٍ، (معَ العلْمِ بأنَّ أحَدَهما لم يأَخَذَهُ عن الآخَرِ؛ جُزِمَ بأنَّهُ حَقٌّ).
يَحْدُثُ هذا كثيراً، ومثاله قِصَّةُ المرأةِ التي حَبَسَتْ هِرَّةً، رواها ثلاثةٌ مِن الصحابةِ، كلٌّ منهم في جِهةٍ، فعُلِمَ بأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حَدَّثَ بها يَقيناً؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ مِن الصحابةِ ما أَخَذَها عن الآخَرِ.
وكذلكَ قِصَصٌ كثيرةٌ، (إذا عُلِمَ أنَّ نَقَلَتَهُ ليْسُوا مِمَّنْ يَتعمَّدُونَ الكَذِبَ، وإنَّما يُخافُ على أحدِهم النسيانُ والغَلَطُ، فإنَّ مَنْ عَرَفَ الصحابةَ؛ كابنِ مسعودٍ، وأُبيِّ بنِ كعبٍ، وابنِ عمرَ، وجابرٍ وأبي سعيدٍ، وأبي هُريرةَ، وغيرِهم؛ عَلِمَ يَقيناً أنَّ الواحدَ مِنْ هؤلاءِ لم يكن ممن يَتعمَّدُ الكذِبَ على النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ)، وقدْ سَمِعُوهُ يقولُ: ((مَنْ كَذِبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ))، (فَضْلاً عمَّنْ هوَ فوقَهم)، كالخُلَفَاءِ الراشدينَ.
قوله: (كما يَعْلَمُ الرجُلُ مِنْ حَالِ مَنْ جَرَّبَهُ وخَبَرَهُ خِبرةً باطنةً طويلةً؛ أنَّهُ ليسَ ممَّنْ يَسْرِقُ أموالَ الناسِ، يَقْطَعُ الطريقَ، يَشهَدُ بالزُّورِ ونحو ذلك).
أنتَ إذا صَحِبْتَ إنساناً، وعَرَفْتَ تُقاهُ ووَرَعَهُ، وعَرَفْتَ ثِقَتَهُ وعَدَالَتَهُ وأمانتَهُ، وطُلِبَ منكَ أنْ تُزَكِّيَهُ عندَ القاضي، فإنَّكَ تُزَكِّيهِ بطُولِ المعرفةِ، فتقولُ: خَبَرْتُهُ وصَحِبْتُهُ وجاوَرْتُهُ وعامَلْتُهُ عِدَّةَ سِنينَ، فأُزَكِّيهِ؛ لأنِّي لا أَعلَمُ عليهِ إلاَّ خَيْراً، فتَشهَدُ بأنَّهُ ليسَ ممَّنْ يَتَعَمَّدُ الكَذِبَ، ولا ممَّنْ يَشْهَدُ بالزورِ، ولا ممَّنْ يَسْرِقُ أموالَ الناسِ، فهذا بالنسبةِ إلى خِبْرَتِكَ وتَجرِبَتِكَ، فكذلكَ نقولُ: إنَّنا إذا تَحَقَّقْنَا أنَّ هؤلاءِ الصحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم أهلُ عِلْمٍ وأهلُ وَرَعٍ وأهلُ دِيانةٍ وأمانةٍ، تَحَقَّقْنَا أنَّ أَحَداً منهم لا يَتعمَّدُ الكذِبَ على النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، (وكذلكَ أيضاً علماءُ التابعينَ، سواءٌ بمَكَّةَ أو المدينةِ أو الشامِ أو البصرةِ - في هذهِ البلادِ كلِّها، كَثِيرٌ مِن التابعينَ الذينَ اهْتَمُّوا بالحديثِ -، فمَنْ عَرَفَ مثلَ أبي صالحٍ السَّمَّانِ)، تلميذِ أبي هُريرةَ -، واسمُهُ ذَكْوَانُ، ويُقالُ لهُ أيضاً: زَيَّاتٌ -، فدائماً يقال : عنْ أبي صالحٍ، عنْ أبي هُريرةَ، وكذلكَ تلميذُهُ الآخَرُ، الذي هوَ: (الأعْرَجُ)، واسمُهُ: عبدُ الرحمنِ بنُ هُرْمُزٍ، دائماً يُقَالُ: عن الأعرجِ، عنْ أبي هُريرةَ، وكذلكَ تلميذُهُ (سُلَيْمَانُ بنُ يَسَارٍ)، وهوَ أحَدُ الفقهاءِ السَّبْعَةِ.
والفقهاءُ السبعةُ - هم فُقهاءُ المَدِينةِ السَّبْعَةُ - نَظَمَهم الناظِمُ بقولِهِ:
إذا قيلَ مـَنْ في العلْمِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ رِوَايـاتُهم لَيـْسَتْ عن العلْمِ خارِجَهْ
فـقـُلْ هُمْ: عُبَيْدُ اللهِ، عُروةُ، قـاسِمٌ سعيدٌ، أبو بكرٍ، سُليمانُ، خارِجَهْ
فسليمانُ هذا مِن الفقهاءِ السبعةِ، (وزيدُ بنُ أَسلمَ)، وهوَ تلميذٌ للصحابةِ، وأبوهُ أَسْلَمُ مَوْلًى لعمرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، (وأمثالُهم، عَلِمَ قَطْعاً أنَّهُم لمْ يكُونُوا مِمَّنْ يَتَعَمَّدُون الكذِبَ في الحديثِ)؛ وذلكَ لفَضْلِهم، (فَضْلاً عمَّنْ هوَ فوقهم، كمُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ، والقاسمِ بنِ مُحَمَّدٍ).
مُحَمَّدُ بنِ سِيرِينَ: سيرينُ مَوْلًى لأَنَسٍ، أَعْتَقَهُ، ثمَّ كانَ لهُ أولادٌ أكثرُهم عُلماءُ، ْ حتَّى أُخْتُهُم حفصةُ بنتُ سِيرينَ مِنْ رواةِ الحديثِ، ولكنَّ أشهرَهم مُحَمَّدٌ، ثمَّ أنسُ بنُ سِيرِينَ.
القاسمُ بنُ مُحَمَّدٍ، هوَ أَحَدُ الفقهاءِ السبعةِ الذينَ ذَكَرَهم الناظمُ، وجَدُّهُ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ، وعَمَّتُهُ عائشةُ، كذلكَ (سعيدُ بنُ المسيِّبِ)، هوَ مِن الفقهاءِ السبعةِ، (عَبيدةُ السلمانيُّ ) مِنْ تلاميذِ ابنِ مسعودٍ، (وعَلقمةُ والأسودُ)، كذلك مِنْ تلاميذِ ابنِ مسعودٍ.
وايضاً الأسودُ النَّخَعِيُّ اشْتُهِرَ بالروايَةِ عن ابنِ مسعودٍ، فهؤلاء عُلماءُ وحُفاظٌ، نُنَزِّهُهُم أنْ يَتَعَمَّدَ أحدٌ منهم الكَذِبَ، (لكنْ يُخافُ على الواحدِ مِن الغلَطِ) والنسيانِ.
فالإنسانُ ما سُمِّيَ بالإنسانِ إلاَّ لِنَسْيِهِ، ولا القلبُ إلاَّ أنَّهُ يَتَقَلَّبُ، (والغَلَطُ والنسيانُ كثيراً ما يَعْرِضُ للإنسانِ).
يقولُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي))، يعني: في الصلاةِ.
قوله:(مِن الْحُفَّاظِ مَنْ قدْ عَرَفَ الناسُ بُعْدَهُ عنْ ذلكَ جِدًّا)، يعني: بُعْدَهُ عن الغلَطِ، (كما عَرَفُوا حالَ الشَّعبيِّ).
الشَّعْبِيُّ: عامرُ بنُ شُرَحْبِيلٍ؛ ذَكَرُوا عنهُ أنَّهُ يقولُ: ما كَتَبْتُ سَوْدَاءَ في بيضاءَ فنَسِيتُهُ، يعني: لِمَا أُعْطِيَهُ مِن الحفْظِ.
أمَّا (الزُّهريُّ) فإنَّهُ كَتَبَ الأحاديثَ، وكانَ الذي أشارَ عليهِ بكِتَابَتِها الوليدُ بنُ عبدِ الْمَلِكِ، ثمَّ لَمَّا كتَبَها حَفِظَها، فكانَ يُحَدِّثُ مِنْ حِفْظِهِ كثيراً، وكانَ غيرُهُ مِن المُحَدِّثينَ يَأتونَ إليهِ فيَنقُلونَ عنهُ الأحاديثَ، ونَفَعَ اللهُ تعالى بهِ.
(عُروةُ بنُ الزبيرِ) مِن الفقهاءِ السبعةِ، روى عنْ عائشةَ كثيراً، وَحَفِظَ عنها وعنْ غيرِها.
(قتادةُ بنُ دعامةَ) مِنْ حُفَّاظِ التابعينَ، وكان أَعْمَى، إلا أن عندَهُ مِن الذكاءِ والحفْظِ ما لا يُوجَدُ عندَ الْمُبْصِرِينَ.
(الثوريُّ): سفيانُ بنُ سعيدِ بنِ مسروقٍ، عالمُ العراقِ، مِن الْحُفَّاظِ أيضاً، (وأمثالُهم، لا سيَّما الزهريُّ في زمانِهِ)، تُوُفِّيَ سنةَ مائةٍ وسِتٍّ وعشرينَ، (والثوريُّ في زَمانِهِ)، تُوُفِّيَ سنةَ مائةٍ وإحدى وسِتِّينَ، وهذا ممَّا يَدُلُّ على أنَّهُم في زمانِهم صارُوا مَرْجِعاً.
(فإنَّهُ قدْ يقولُ القائلُ: إنَّ ابنَ شهابٍ الزهريَّ لا يُعرَفُ لهُ غَلَطٌ معَ كثرةِ حديثِهِ وسَعَةِ حفْظِهِ)، لكنْ ذَكَرَ مسلمٌ في صحيحِهِ: أنَّ الزهريَّ نُقِلَ عنهُ نحوُ تسعينَ حديثاً، انْفَرَدَ بهِ، ولمْ يَقُلْ مسلمٌ أنَّهُ غَلِطَ، لكنْ يقولُ: تَفَرَّدَ بهِ، أو لا يُرْوَى إلاَّ مِنْ طريقِهِ، ولكنَّ ذلكَ دليلُ سَعَةِ حِفْظِهِ.
(والمقصودُ أنَّ الحديثَ الطويلَ إذا رُوِيَ مَثَلاً مِنْ وَجهَيْنِ مُختلِفَيْنِ مِنْ غيرِ مُواطأةٍ؛ امْتَنَعَ أنْ يكونَ غَلَطاً)، إذا رُوِيَ مِنْ طريقٍ كلُّهُم مِصريُّونَ، ومِنْ طريقٍ كلُّهم خُراسانِيُّونَ، والحديثُ واحدٌ بألفاظِهِ؛ عُلِمَ أنَّهُما لمْ يَتَوَاطَآ على كَذِبِهِ، (امْتَنَعَ أنْ يكونَ غَلَطاً، كما امْتَنَعَ أنْ يكونَ كَذِباً؛ فإنَّ الغَلَطَ لا يكونُ في قِصَّةٍ طويلةٍ مُتَنَوِّعَةٍ)، لا يُمْكِنُ أنْ تكونَ هذهِ القِصَّةُ التي رُوِيَتْ معَ تَباعُدِ الجهتيْنِ أنْ تكونَ غَلَطاً، قدْ يكونُ الغلَطُ في فَرْدٍ مِنْ أفرادِها، أوْ كلمةٍ مِنْ كلماتِها، (فإذا رَوَى هذا قِصَّةً طويلةً مُتَنَوِّعَةً، ورَواها الآخَرُ مثلَ ما رَوَاها الأولُ من غير مؤاطاة، عُلِمَ أنَّهُما لمْ يكُونا مُتواطئَيْنِ- امْتَنَعَ الغلَطُ في جَمِيعِها- وفي جُمْلَتِها- كما امْتَنَعَ الكَذِبُ في جميعِها مِنْ غيرِ مُواطأةٍ).
أمَّا إذا خِيفَ أنَّهُما مُتواطئانِ؛ فإنَّهُ لا يُقْبَلُ. ومِنْ أمثلةِ ما يكونُ فيهِ التواطؤُ أو السرقةُ: حديثُ صلاةِ التسبيحِ، صَحَّحَهُ بعضُ المتأخِّرِينَ لطُرُقِهِ، ولكنْ يَظهَرُ أنَّ هذهِ الطُّرُقَ بعضُها مأخوذٌ عنْ بعضٍ، وأنَّ بعضَهم سَرَقَهُ عن الآخَرِ، ولهذا لم يروهُ الإمامُ أحمدُ في مُسْنَدِهِ، معَ استيفائِهِ للأحاديثِ، ولا عَمِلَ بهِ أَحَدٌ مِن الأئمَّةِ الأربعةِ، فيَدُلُّ على أنَّ المتأخِّرِينَ سَرَقَهُ بعضُهم عنْ بعضٍ.
(ولهذا إنَّما يَقَعُ في مِثْلِ ذلكَ غَلَطٌ في بعضِ ما جرى في القِصَّةِ)، أي: يكونُ الغلَطُ في أثناءِ القِصَّةِ، (مثلُ حديثِ اشتراءِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ البعيرَ مِنْ جابرٍ؛ فإنَّ مَنْ تأمَّلَ طُرُقَهُ عَلِمَ قَطْعاً أنَّ الحديثَ صحيحٌ -، وأنَّ الواقعةَ صحيحةٌ -، ولكنْ وَقَعَ اختلافٌ في مِقدارِ الثمَنِ)، ووَقَعَ اختلافٌ: هلْ جابرٌ اسْتَثْنَى حِملانَهُ، أو اشتَرَطَهُ؟ أي:هلْ هوَ شَرْطٌ، أو استثناءٌ؟ وذلكَ لا يَقْدَحُ في صِحَّةِ الحديثِ، فقد اختلَفُوا في مِقدارِ الثمَنِ.
اختارَ البخاريُّ في صحيحِهِ: مِقدارَ الثمَنِ مِن الأحاديثِ.
(وجمهورُ ما في البخاريِّ ومسلمٍ ممَّا يَقْطَعُ بأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قالَهُ).
إذا اتَّفَقَ البخاريُّ ومسلمٌ على حديثٍ بلفظِهِ، عُرِفَ بذلكَ ثبوتُهُ وقطْعِيَّتُهُ؛ (لأنَّ غَالِبَهُ مِنْ هذا النحوِ)، يعني: ممَّا رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ مُتعدِّدَةٍ، ولأنَّ بينَهما أيضاً تبايُناً، وإنْ كانَ مسلِمٌ قدْ رَوَى عن البخاريِّ، (ولأنَّهُ قدْ تَلَقَّاهُما أهلُ العلْمِ بالقَبولِ والتصديقِ.
والأُمَّةُ لا تَجتمِعُ على خَطأٍ، فلوْ كانَ الحديثُ كَذِباً في نفْسِ الأمرِ والأمَّةُ مصدقة له قابلة له؛ لكانوا أَجْمَعُوا على تصديقِ ما هوَ في نَفْسِ الأمرِ كَذِبٌ، وهذا إجماعٌ على الخطأِ، وهوَ مُمْتَنِعٌ): ((لا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلاَلَةٍ)).
(وإنْ كُنَّا نحنُ بدونِ الإجماعِ نُجَوِّزُ الخطأَ أو الكَذِبَ على الخبَرِ)، يعني: نُجَوِّزُ أنَّ الواحدَ يَقَعُ في غَلَطٍ، في كلمةٍ أوْ نحْوِها، (كَتَجْوِيزِنا - قبلَ أنْ نَعلَمَ الإجماعَ على العِلْمِ الذي ثَبَتَ بظاهِرٍ أوْ قياسٍ ظَنِّيٍّ- أنْ يكونَ الحقُّ في الباطنِ بخِلافِ ما اعتَقَدْنَاهُ)، يعني: قبلَ أنْ نَعلمَ الإجماعَ على العلْمِ الذي ثَبَتَ بظاهِرٍ أوْ قِياسٍ؛ يَجوزُ أنْ يكونَ الحقُّ في الباطنِ بخِلافِ ما اعْتَقَدْنَاهُ، (فإذا أَجْمَعُوا على الحكْمِ؛ جَزَمْنَا بأنَّ الحكْمَ ثابتٌ باطناً وظاهراً)، مُعْتَمَدُنا هوَ الإجماعُ، فإجماعُ الأمَّةِ على تَلَقِّي الكتابَيْنِ: البخاريِّ ومسلمٍ بالقَبولِ، دليلٌ على ثُبوتِ ما فيهما، إلاَّ ما اسْتُثْنِيَ.


  #4  
قديم 22 ذو القعدة 1429هـ/20-11-2008م, 09:48 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح مقدمة التفسير لمعالي الشيخ: صالح بن عبد العزيز آل الشيخ (مفرغ)

الشيخ:
. . . يقول: إن هذا كله من الأقوال لمنقولة وهذه كلها ليست بمرفوعة وإنما أكثرها يكون موقوفاً أو إذا كان مرفوعاً كان مرسلاً وإذا كان كذلك فليس مجيء الحديث والأسانيد على هذا النحو ليس موجباً لكي نقول إنها ليست بصدق؛ لأن النقل صحيح لا يقبل إلا إذا كان نقلاً صَدَقَ فيه صاحبه أو القول كان قولاً حققه صاحبه وهنا تكلم عن الصدق كيف نحصل على الصدق في النقل الصدق في الإسناد فذكر أن الصدق يكون بتحقيق أمرين معاً:
1- ألا يكون صاحبه تعمد الكذب فيه.
2- أن يكون صاحبه لم يخطئ فيه.
لأنه إذا لم يتعمد الكذب ولم يخطئ فليس ثم إلا الثالث وهو أن يكون صادقاً فيه.
ثم قال: إن الصدق بهذا المعنى يمكن أن يكون بالنقل المتعدد الذي تكون أفراده غير كافية لإثبات الصدق ومثل له بالروايات المرسلة مثلاً رواية في التفسير أو في الحديث أو في الأحكام تكون مرسلة يرسلها سعيد بن المسيب ويأتي رواية أخرى مثلاً في الأحكام يرسلها عامر بن شراحيل الشعبي ثم تأتي رواية ثالثة في الأحكام يرسلها قتادة ونحو هؤلاء فهؤلاء ينظر فيهم هل يقال إنهم تواطأوا جميعاً على هذا يعني اجتمعوا وأخرجوا هذه الرواية جميعاً فإذا كان تواطأوا عليها هذا يحتمل أن يكون ثمّ خطأٌ أو كذب في ذلك.
وإما أن يقال إنهم لم يتواطؤوا عليها وهذا هو الظن بهم ولذلك تكون رواية الشعبي مثلاً عاضدة لرواية سعيد ابن المسيب ورواية قتادة عاضدة لرواية الشعبي ورواية سعيد فيكون الجميع من تحصيل هذه المراسيل العلم أن النقل هذا نقل صحيح مصدق لأنه يستحيل أن يتواطؤوا على الكذب ويستحيل أيضاً أن يجتمعوا على الخطأ إلا إذا قيل إن الثلاثة أخذوا من شخص واحد فهذا يكون من الخطأ لأنهم أخذوا من شخص واحد لكن إن كان مأخذهم متعدد مثل الأمثلة التي ذكرت فإن سعيد بن المسيب في المدينة وعامر بن شراحيل الشعبي في الكوفة وقتادة في البصرة فيبعد أن يأخذ هذا عن هذا أو يأخذ الجميع عن شخص واحد فمعنى ذلك أنه يشعر بالتعدد بأن النقل مصدق.
وغالب ما يكون في التفسير لا تكون أسانيد بتلك القوة فتجد الأسانيد ضعيفة مثلاً الذي ينظر مثل ما ذكرت لكم من قبل لا ينظر إلى أسانيد التفسير من جنس النظر في أسانيد الحديث؛ لأن أسانيد التفسير مبناها على المسامحة وأن بعضها يعضد بعضاً إذا ترجح عند الناظر أن النقل ليس فيه خطأ ولا تعمد كذب فإن نجد رواية عن ابن عباس بإسناد ضعيف أو مجهول ورواية أخرى عن ابن عباس بإسناد ضعيف أو مجهول فنحمل هذه على هذه سيما إذا تعددت المخارج عن ابن عباس وكانت الطرق إليها غير صحيحة فإنه يعضد هذا هذا.
وكذلك عن التابعين بل أعظم عن النبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم إذا كانت مرسلة ومرسلة من وجه آخر فإننا نعضد هذه بتلك يعني إن التفسير فيه مسامحة والفقهاء كثير منهم يجعلون المراسيل يقوي بعضها بعضاً إذا تعددت مخارجها فبعضها يقوي بعضاً وهذا هو الصحيح الذي عليه عمل الفقهاء وعمل الأئمة الذين احتاجوا إلى الروايات المرسلة في الأحكام والاستنباط.
إذاً فهذا هو القسم الأول وهو أن يكون النقل عن معصوم يكون النقل مصدقاً، إذا كان النقل مصدقاً صح والنقل المصدق لا تنظر إليه كنظرك إلى النقل المصدق في الحديث لا؛ التفسير فيه نوع تساهل لأنه يكفي فيه ما ذكر ما يظن عدم تعمد الكذب أو عدم وقوع الخطأ ولا يتشدد فيه التشدد في الأحكام وهذا باب واسع.

القارئ:
لكن مثل هذا لا تضبط به الألفاظ والدقائق التي لا تعلم بهذه الطريق، بل يحتاج ذلك إلى طريق يثبت بها مثل تلك الألفاظ والدقائق، ولهذا ثبتت غزوة بدر بالتواتر، وأنها قبل أحد؛ بل يعلم قطعاً أن حمزة وعلياً وعبيدة برزوا إلى عتبة وشيبة والوليد، وأن علياً قتل الوليد، وأن حمزة قتل قرنه، ثم يشك في قرنه هل هو عتبة أو شيبة؟
وهذا الأصل ينبغي أن يعرف فإنه أصل نافع في الجزم بكثير من المنقولات في الحديث والتفسير والمغازي، وما ينقل من أقوال الناس وأفعالهم وغير ذلك.
ولهذا إذا رُوى الحديث الذي يتأتى فيه ذلك عن النبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم من وجهين مع العلم بأن أحدهما لم يأخذه عن الآخر، جزم بأنه حق لاسيما إذا علم أن نقلته ليسوا ممن يتعمد الكذب وإنما يخاف على أحدهم النسيان والغلط، فإن من عرف الصحابة كابن مسعود، وأبي بن كعب، وابن عمر، وجابر، وأبي سعيد، وأبي هريرة وغيرهم علم علماً يقيناً أن الواحد من هؤلاء لم يكن يتعمد الكذب على رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم فضلاً عمن هو فوقهم كما يعلم الرجل من حال من جربه وخبره خبرة باطنة طويلة أنه ليس ممن يسرق أموال الناس ويقطع الطريق ويشهد الزور ونحو ذلك.
وكذلك التابعون بالمدينة، ومكة، والشام، والبصرة، فإن من عرف مثل أبي صالح السمان، والأعرج، وسليمان بن يسار، وزيد بن أسلم، وأمثالهم علم قطعاً أنهم لم يكونوا ممن يتعمد الكذب في الحديث، فضلاً عمن هو فوقهم مثل محمد بن سيرين أو القاسم بن محمد، أو سعيد بن المسيب، أو عبيدة السلماني، أو علقمة أو الأسود أو نحوهم. وإنما يخاف على الواحد من الغلط، فإن الغلط والنسيان كثيراً ما يعرض للإنسان، ومن الحفاظ من قد عرف الناس بعده عن ذلك جداً كما عرفوا حال الشعبي الزهري وعروة وقتادة والثوري وأمثالهم لاسيما الزهري في زمانه والثوري في زمانه فإنه قد يقول القائل: إن ابن شهاب الزهري لا يعرف له غلط مع كثرة حديثه وسعة حفظه.
والمقصود: أن الحديث الطويل إذا روي مثلاً من وجهين مختلفين من غير مواطأة امتنع عليه أن يكون غلطاً كما امتنع أن يكون كذباً، فإن الغلط لا يكون في قصة طويلة متنوعة، وإنما يكون في بعضها، فإذا روى هذا قصة طويلة متنوعة ورواها الآخر مثلما رواها الأول من غير مواطأة امتنع الغلط في جميعها كما امتنع الكذب في جميعها من غير مواطأة.
ولهذا إنما يقع في مثل ذلك غلط في بعض ما جرى في القصة؛ مثل حديث اشتراء النبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم البعير من جابر فإن من تأمل طرقه علم قطعاً أن الحديث صحيح وإن كانوا قد اختلفوا في مقدار الثمن وقد بيّن ذلك البخاري ذلك في صحيحه، فإن جمهور ما في البخاري ومسلم مما يقطع بأن النبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم قاله، لأن غالبه من هذا النحو؛ ولأنه قد تلقاه أهل العلم بالقبول والتصديق والأمة لا تجتمع على خطأ فلو كان الحديث كذباً في نفس الأمر والأمة مصدقة له قابلة له لكانوا قد اجتمعوا على تصديق ما هو في نفس الأمر كذب.

الشيخ:
هذا بحث استطرادي ليس بذي صلة قوية في أصول التفسير وإنما يريد منه تقرير ما ذكر سابقاً من معنى النقل المصدق؛ لأنه قد يعرض على النقل المصدق الخطأ يعني أن احتمال الخطأ في رواية الراوي الذي يروي التفسير لا يعني أن تفسيره غير مقبول لأن الذي يرد أن يكون ممن تعمد الكذب وأكثر الذين يروون التفسير فإنهم لا يتعمدون الكذب خاصةً من الصحابة فالتابعين وكثير ممن تبع التابعين هؤلاء لا يتعمدون الكذب.
أما الخطأ فقد يجوز على أحدهم أن يخطئ والخطأ والنسيان عرضة لابن آدم لكن هذا الخطأ والنسيان في القصص الطوال إذا نقل التابعي قصة طويلة في التفسير أو صحابي نقلها ثم نقلها الآخر فإن العلم بحصول أصل هذه القصة يحصل من اتفاق النقلين لكن قد تختلف ألفاظ هذا وألفاظ هذا فيكون البحث في بعض الألفاظ من جهة الترجيح يعني هل يرجح هذا على هذا إذا اختلفت الروايتان أما أصل القصة فقد اجتمعوا عليه.
مثل ما ذكر من المثال في قصة بيع جابر جمله على النبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم وهذه الرواية وما فيها من الاختلاف من حيث الشروط والألفاظ بعضها مطولة وبعضها مختصرة عند أهل العلم هذه الحادثة معلومة يقيناً أن جابراً باع جمله على النبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم بثمن وأن النبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم لما ذهب إلى المدينة رد عليه الجمل والثمن وهذا علم حصر لأنه نقله الكثير، تفاصيل القصة اختلفوا فيه فإذاً يريد أن الاختلاف في بعض الألفاظ في الأحاديث الطوال لا يعني أن أصل القصة غير صحيح بل كثير من القصص الطوال إذا اجتمع عليها أكثر من واحد في النقل في التفسير وفي غيره فهذا يشعر بأن أصل القصة واقع صحيح لأنهم لا يجتمعون على الكذب بيقين ثم إن الخطأ يبعد أن يتفق اثنان في خطأ لم يتواطأا عليه ولم يجتمعا عليه، هذا يخطئ وهذا يخطئ في نفس المسألة في نفس اللفظة هذا بعيد قصة كاملة هذا يخطئ فيها وهذا يخطئ من أصلها قد يخطئ بعضهم في بعض الألفاظ هذا وارد ولهذا يؤخذ بما اجتمعوا عليه وأما ما اختلفوا فيه فيطلب ترجيحه من جهة أخرى وهذا كثير من جهة النقل.

الأسـئلة:
س: هنا سؤال يقول: حبذا لو كان درس التفسير متأخر عن درس الأصول، أصول التفسير متقدم؟

ج: هذا يرجع إلى القارئ موافق، إذاً إن شاء الله من الأسبوع القادم يكون درس أصول التفسير هو الأول ويكون درس التفسير بعده وذلك لاقتراح ورد لأن ما بين الأذان والإقامة يكثر من يريدون سماع التفسير وأما أصول التفسير فهو للمتخصصين كما ذكر وهو اقتراح وجيه بارك الله في الجميع.

س: هنا سؤال يقول: ما الفرق بين الأحكام والتفسير مع أن التفسير يحتوى على مسائل الاعتقاد والأحكام نأمل مزيد من الإيضاح؟

ج: لا، المقصود من التفسير إذا أطلق ما لا يدخل فيه الأحكام لأن استنباط الأحكام من الآيات هذا ليس داخلاً في مطلق التفسير يعني إذا أطلقنا التفسير فلا نريد منه فقط آيات الأحكام، آيات الأحكام أو آيات العقائد النقل فيها يحتاج إلى النقل المتبع المعروف في الأحكام وفي العقائد ولكن أكثر التفسير يكون تفسيراً للألفاظ ليس تفسيراً للأحكام أو تفسيراً للعقائد تفسير للألفاظ هذا التفسير للألفاظ ما مرجعه؟ أقوى مرجع له النقل، اللغة مرجع نعم، والنقل نقل الصحابة أو نقل التابعين الذين هم أولى الناس بمعرفة اللغة لأجل عدم فشو اللحن بينهم وقبل فشو اللحن هذا هو المعتمد هنا في هذه التفاسير، ما الراجح؟ مثل ما مر معنا من خلافهم في القرية هل هي أنطاكية أم غيرها؟
هل المرسلون ممن أرسلهم المسيح؟ أم أرسلهم الله – جل وعلا -؟ هذا خلاف بين السلف في التفسير هذا الخلاف هو الذي نتكلم عليه لأن يرجع إلى دلالة اللفظ دلالة ألفاظ القرآن أما آيات الأحكام، فلا شك أن استنباط الأحكام من الآيات أو استنباط العقائد من آيات العقائد هذا إما أن يؤخذ بظاهرها يعني بدون ضميمة أدلة أخرى من السنة، أو تكون محتاجة أو تكون محتاجة لبيانها بأدلة من السنة وهذا لابد فيه من رعاية قواعد الأسانيد في العقيدة والأحكام.

س: سؤال غير واضح؟

ج: المغازي والتفسير والملاحم، التفسير معروف والمغازي ما حصل من غزوات للنبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم وللصحابة من الفتوح وغيرها.
والملاحم ما يكون في آخر الزمان أو ما يكون في الأزمنة المتوالية من حصول المقاتل العظيمة هذه جاءت فيها أحاديث كثيرة لكن أكثرها ليس لها أصول من جهة التسمع في النقل. نكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

القارئ:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين بنينا محمد عليه الصلاة وأزكى وأتم التسليم... أما بـعـد:
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
(ولهذا إنما يقع في مثل ذلك غلط في بعض ما جرى في القصة؛ مثل حديث اشتراء النبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم البعير من جابر، فإن من تأمل طرقه علم قطعاً أن الحديث صحيح وإن كانوا اختلفوا في مقدار الثمن، وقد بيّن ذلك البخاري في صحيحه فإن جمهور ما في البخاري ومسلم مما يقطع بأن النبي صَلّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم قاله؛ لأن غالبه من هذا النحو، ولأنه قد تلقاه أهل العلم بالقبول والتصديق، والأمة لا تجتمع على خطأ فلو كان الحديث كذباً في نفس الأمر، والأمة مصدقة له، قابلة له لكانوا قد اجمعوا على تصديق ما هو في نفس الأمر كذب، وهذا إجماع على الخطأ وذلك ممتنع، وإن كنا نحن بدون الإجماع نجوز الخطأ أو الكذب على الخبر فهو كتجويزنا قبل أن نعلم الإجماع على العلم الذي ثبت بظاهر أو قياس ظني أن يكون الحق في الباطن بخلاف ما اعتقدناه فإذا أجمعوا على الحكم جزمنا بأن الحكم ثابت باطناً وظاهراً.

  #5  
قديم 22 ذو القعدة 1429هـ/20-11-2008م, 09:51 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح مقدمة التفسير للشيخ: مساعد بن سليمان الطيار

قولُه: (والْمَرَاسِيلُ إِذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهَا وَخَلَتْ عَن الْمُوَاطَأَةِ قَصْدًا أَو اتِّفَاقًا بِغَيْرِ قَصْدٍ كانَتْ صَحِيحةً قَطْعًا، فَإِنَّ النَّقلَ إمَّا أَنْ يَكُونَ صِدْقًا مُطَابِقًا لِلْخَبَرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَذِبًا تَعَمَّدَ صَاحِبُهُ الْكَذِبَ أَوْ أَخْطَأَ فِيهِ، فَمَتَى سَلِمَ من الْكَذِبِ العَمْدِ وَالْخَطَإِ كَانَ صِدْقًا بِلاَ رَيْبٍ.
فإِذَا كانَ الْحَدِيثُ جَاءَ منْ جِهَتَيْنِ أَوْ جِهَاتٍ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُخْبِرِينَ لَمْ يَتَوَاطَأُوا عَلَى اخْتِلاقِهِ، وَعُلِمَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لاَ تَقَعُ الْمُوَافَقَةُ فِيهِ اتِّفاقًا بِلاَ قَصْدٍ، عُلِمَ أنَّهُ صَحِيحٌ، مِثْلَ: شَخْصٍ يُحَدِّثُ عَنْ وَاقِعَةٍ جَرَتْ، وَيَذْكُرُ تَفَاصِيلَ مَا فِيهَا من الأَقْوَالِ وَالأفْعَالِ، وَيَأْتي شَخصٌ آخَرُ قَدْ عُلِمَ أنَّهُ لَمْ يُوَاطِئ الأَوَّلَ فَيَذْكُرُ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ الأَوَّلُ منْ تَفَاصِيلِ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ، فيُعلَمُ قَطْعًا أَنَّ تِلْكَ الوَاقِعَةَ حَقٌّ في الجُملَةِ، فَإنَّهُ لَوْ كَانَ كُلٌّ منْهُمَا كَذَبَ بِهَا عَمْدًا أَوْ أَخْطَأَ, لَمْ يَتَّفِقْ في العَادَةِ أَنْ يَأْتِيَ كُلٌّ منْهُمَا بِتِلْكَ التَّفاصيلِ الَّتِي تَمْنَعُ العَادَةُ اتِّفَاقَ الاثْنَيْنِ عَلَيْهَا بِلاَ مُوَاطَأَةٍ منْ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ، فَإِنَّ الرَّجلَ قَدْ يتَّفِقُ أَنْ يَنْظِمَ بَيْتًا، وَيَنْظِمَ الآخَرُ مِثْلَهُ، أَوْ يَكْذِبَ كَذْبَةً، وَيَكْذِبَ الآخرُ مثلَهَا، أَمَّا إِذَا أَنْشَأَ قَصِيدَةً طَوِيلةً ذَاتَ فُنُونٍ عَلَى قَافِيَةٍ وَرَوِيٍّ، فلَمْ تَجْرِ العَادَةُ بِأَنَّ غَيْرَهُ يُنْشِِئُ مِثْلَهَا لَفْظًا وَمَعْنًى، مَعَ الطُّولِ الْمُفْرِطِ، بَلْ يُعْلَمُ بِالْعَادَةِ أَنَّهُ أَخَذَهَا منْهُ، وَكَذلِكَ إِذَا حدَّثَ حَدِيثًا طَوِيلاً فِيهِ فُنُونٌ وَحَدَّثَ آخَرُ بِمثلِهِ، فَإنَّهُ إمَّا أنْ يكُونَ وَاطَأَهُ عَلَيهِ، أَوْ أَخَذَهُ منْهُ , أَوْ يكُونَ الحديثُ صِدْقًا، وَبِهَذِهِ الطَّريقِ يُعْلَمُ صِدْقُ عَامَّةِ مَا تَتَعَدَّدُ جِهَاتُهُ المخْتَلِفَةُ عَلَى هَذَا الوَجْهِ من المنْقُولاتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا كَافِيًا إمَّا لإرْسَالِهِ وَإمَّا لِضَعْفِ نَاقِلِهِ.
لَكِنَّ مِثْلَ هَذَا لا تُضْبَطُ بِهِ الأَلْفَاظُ وَالدَّقَائِقُ الَّتِي لا تُعْلَمُ بِهَذِهِ الطَّريقِ, بَلْ يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى طَرِيقٍ يَثْبُتُ بِِهَا مِثْلُ تِلْكَ الأَلْفَاظِ والدَّقائقِ.
ولهَذَا ثبَتَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ بِالتَّواترِ، وأنَّهَا قبْلَ أُحُدٍ، بَلْ يُعْلَمُ قطعًا أنَّ حمزةَ وعليًّا وَأَبَا عُبيدةَ بَرَزُوا إِلَى عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَالوَلِيدِ، وَأَنَّ عَليًّا قَتَلَ الوَلِيدَ، وَأَنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ قِرْنَهُ، ثُمَّ يُشَكُّ في قِرْنِهِ: هَلْ هُوَ عُتْبَةُ أَمْ شَيْبَةُ؟
وَهَذَا الأَصْلُ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ، فَإنَّهُ أَصْلٌ نَافِعٌ في الجَزْمِ بِكَثِيرٍ مِن المنْقولاتِ في الْحَدِيثِ، والتَّفسيرِ، وَالْمَغَازِي، وَمَا يُنْقَلُ مِنْ أَقْوَالِ النَّاسِ وَأَفْعَالِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِك).
أَذكرُ هنا مثالًا لِما ذَكرَهُ شيخُ الإسلامِ في المراسيلِ، وطريقةِ التعامُلِ مع مرويَّاتِ السَّلفِ في التفسيرِ, وهو قولُه تعالى: {وَالْبَيتِ المَعْمُورِ}.
فقد ذَكرَ ابنُ جريرٍ الطَّبَريُّ وغيرُه عن السَّلفِ عدَّةَ أقوالٍ في معنى البيتِ المعمورِ، فقد وَردَ عن عليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنه قال: إنه بيتٌ في السماءِ بِحِذاءِ الكعبةِ تَعمُرُه الملائكةُ، يَدخُلُه سبعونَ ألفَ ملَكٍ, ثم لا يعودون إليه، ويقالُ له: الضُّراحُ.
وورَدَ عن ابنِ عباسٍ من طريقِ العوفيِّ قال: بيتٌ بحذاءِ العَرشِ. وورد عن مجاهدٍ من طريقِ ابنِ أبي نَجِيحٍ أنه بيتٌ في السماءِ يُقالُ له: الضُّراحُ.
وعن عكرمةَ قال: بيتٌ في السماءِ بحيالِ الكعبةِ.
وعن الضحَّاكِ من طريقِ عُبيدٍ، قال: يزعُمون أنه يَروحُ إليه سبعونَ ألفَ ملَكٍ من قَبيلِ إبليسَ, يقالُ لهم: الحِنُّ.
ورَوى قتادةُ وابنُ زيدٍ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ مُرسلًا أنه بيتٌ في السماءِ, وأنه يَدخُلُه في اليومِ سبعون ألفَ ملَكٍ لا يعودون إليه. وذَكرَ ابنُ حجَرٍ أنه وَردَ عن الحسَنِ ومحمدِ بنِ عبَّادِ بنِ جعفرٍ أنَّ البيتَ المعمورَ يُرادُ به الكعبةُ.
فإذا نظرتَ إلى هذا الاختلافِ في المرادِ بالبيتِ المعمورِ فإنَّك تَجِدُ أنَّ سببَ الخلافِ هو هل المرادُ بالبيتِ المعمورِ البيتُ الذي في السماءِ أو البيتُ الذي في الأرضِ الذي هو الكعبةُ؟
وتَجِدُ أنَّ هذا الخلافَ يدخُلُ في النوعِ الثاني من الأنواعِ الأربعةِ التي ذكرها شيخُ الإسلامِ لاختلافِ التنوُّعِ، وهو التواطؤُ، وهو من قبيلِ الوصفِ الذي حُذِفَ موصوفُه، فوَصْفُ (المعمورِ) صالحٌ للكعبةِ وللبيتِ الذي في السماءِ.
وإذا جئتَ إلى الترجيحِ فلا شكَّ أنَّ كونَ المرادِ به البيتَ الذي في السماءِ أولى؛ لأنه قولُ الجمهورِ, وهو المشهورُ، ويدلُّ عليه حديثُ الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ الذي ذَكرَ فيه أنه رأى إبراهيمَ عليه السلامُ مُسنِدًا ظَهرَه إلى البيتِ المعمورِ، فذكرَ أنه بيتٌ يدخُلُه سبعونَ ألفَ ملَكٍ, ثم لا يعودون إليه.
هذا البيتُ الذي في السماءِ لا شكَّ أنه من عِلمِ الغيبِ، وما دام الأمرُ كذلك فإنه يَحتاجُ إلى أثَرٍ صحيحٍ، وقد ورد في ذلك الحديثُ السابقُ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ, وهو حديثٌ صحيحٌ.
فكونُ هذا البيتِ في السماءِ السابعةِ، وكونُ إبراهيمَ مُسنِدًا ظهرَه إليه، وأنه يدخُلُه سبعون ألفَ ملَكٍ, ثم لا يعودون إليه، هذه الأوصافُ الثلاثةُ كلُّها ثابتةٌ؛ لأنها وردتْ في الحديثِ الصحيحِ، أما الأوصافُ التي ذكرَها السَّلفُ فيه:
أنه بحِذاءِ الكعبةِ؛ وهذا مرويٌّ عن عليٍّ وعكرمةَ.
وإنه بحِذاءِ العَرشِ؛ وهذا مرويٌّ عن ابنِ عبَّاسٍ.
وأنَّ اسمَهُ الضُّراحُ؛ وهو مرويٌّ عن عليٍّ ومجاهِدٍ.
وأنَّ الذين يَدخلُونه يقالُ لهم: الحِنُّ. وهم من قَبِيلِ إبليسَ، وهذا انفرد به الضحَّاكُ.
فإذا نظرتَ إلى هذه الأقوالِ وجدتَها أشبَهَ بالمراسِيلِ التي ذَكرَها شيخُ الإسلامِ التي تتَّفِقُ في أصلِ القصةِ وتختلفُ في تفاصيلِها.
فقد اتَّفقَتْ هذه الرواياتُ على أنه بيتٌ في السماءِ، واختلفتْ في أوصافِه.
وكونُ هذا البيتِ الذي في السماءِ بحذاءِ الكعبةِ وردَ عن اثنينِ لا يمكنُ أن يتواطآ على الكذِبِ، وهما عليٌّ وعكرمةُ، واحتمالُ أن يكونَ عكرمةُ أخَذَه من عليٍّ فيه ضعفٌ، فينبغي قبولُ هذه الروايةِ؛ لأنها مرويَّةٌ عن صحابيٍّ، وعضَّدَها مُرْسَلٌ .
وكونُه اسمُه الضراحُ أيضًا مرويٌّ عن اثنينِ هما عليٌّ ومجاهِدٌ، ولم يَرِدْ أنَّ مجاهدًا رواه عن عليٍّ، فيكونُ أيضًا من بابِ تعدُّدِ الرواياتِ.
وبناءً عليه فلو قلتَ: إنَّ هذا البيتَ بحذاءِ الكعبةِ , وإنه يدخُلُه سبعونَ ألفَ ملَكٍ , وإنه يسمَّى الضراحَ يكونُ مقبولًا لتعدُّدِ الرواياتِ به عن الصحابةِ والتابِعينَ, وبناءً على قبولِ قولِ الصحابيِّ في الأمورِ الغيبيةِ.
ولكن كونُ الذين يدخُلُونه من قبيلِ الحِنِّ، هذا لا يُقبلُ؛ لأنه تفرَّد به الضحَّاكُ. فيُتوقَّفُ فيه.
والمقصودُ أن يُنظَرَ ما اتَّفقَتْ فيه الرواياتُ فيُقبلَ، وما الذي افترقتْ فيه فيُتوقَّفَ فيه حتى يَرِدَ دليلٌ آخـرُ.
مثالٌ آخَرُ: قولُه تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ}. في وصفِ هذه الخيامِ أقوالٌ عن السَّلفِ:
فقال بعضُهم: دُرٌّ مجوَّفٌ، وهذا واردٌ عن عُمرَ بنِ الخطابِ وابنِ مسعودٍ, وبه قال سعيدُ بنُ جبيرٍ ومجاهدٌ وعمرُ بنُ ميمونٍ والضحَّاكُ والحسَنُ، وكذلك رواه أبو مِجلَزٍ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ مُرسلًا، ورواه الضحَّاكُ عن ابنِ مسعودٍ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ، وفيه انقطاعٌ بينَ الضحَّاكِ وابنِ مسعودٍ.
وزاد بعضُهم: الخيمةُ في الجنَّةِ دُرَّةٌ مجوَّفةٌ, فَرْسَخٌ في فَرْسَخٍ, لها أربعةُ آلافِ مِصرَاعٍ، وهذا واردٌ عن ابنِ عباسٍ.
وكذلك ورَدَ عن أبي الأحوصِ أنه قال: الخيمةُ دُرَّةٌ مجوَّفةٌ، فَرْسَخٌ في فَرْسَخٍ، لها أربعةُ آلافِ مِصْراعٍ من ذهبٍ.
وبعضُهُم قال بأنَّها من لُؤْلؤٍ، وهذا أيضًا واردٌ عن ابنِ عباسٍ ومجاهدٍ وعنِ ابنِ زيدٍ، وكذلك عن خُلَيْدٍ العصريِّ.
ووَردَ عن محمدِ بنِ كعبٍ والرَّبيعِ بنِ أنسٍ أنها الحِجالُ، والحِجالُ جَمعُ حَجَلةٍ، وهي المكانُ المهيَّأُ والمُزَيَّنُ للعروسِ.
فإذا نظرتَ في هذه الأقوالِ وجدتَ أنه ليس بينَ مَن فسَّرَ الخيامَ بأنها مِن الدُّرِّ أو اللُّؤلؤِ سوى اختلافِ التعبيرِ، وإن كان الدُّرُّ يختصُّ بكبارِ اللؤلؤِ، ففي هذا التفسيرِ تقريبُ عبارةٍ كما ذكر شيخُ الإسلامِ في النوعِ الرابعِ من أنواعِ اختلافِ السَّلفِ. فإِذَنْ هذه الخيامُ من لؤلؤٍ أو من دُرٍّ.
كونُ هذا اللؤلؤِ مجوَّفاً اتَّفقتْ عليه الأقوالُ كلُّها. فإذا جئتَ تُفسِّرُ {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ}، فإنك تقولُ بأنَّ الخيامَ من دُرٍّ مجوَّفٍ؛ لأن هذه الرواياتِ كلَّها اتَّفقتْ على هذا التفسيرِ.
كونُ هذه الخيامِ مُربَّعةَ الشكْلِ بمقدارِ فرسخٍ في فرسخٍ وَردَ عن ابنِ عباسٍ وعن أبي الأحوصِ. فهذا أيضًا مما يمكنُ أن يَخرُجَ عن التواطُؤِ. كذلك كونُ مصارِيعِها – أي: أبوابِها – من ذهبٍ، وأنَّ عدَدَها أربعةُ آلافٍ هذا مرويٌّ عن ابنِ عباسٍ وأبي الأحوصِ، وخالَفَهُم خليدٌ فقال: إنها سبعونَ مِصراعًا.
هنا اختلفتِ التفاصيلُ، فيُنظَرُ أيُّ الروايَتَيْنِ أكثرُ عددًا،، وإذا نَظَرتَ وجدتَ أنَّ ابنَ عباسٍ وأبا الأحوصِ اثنانِ، فيُقدَّمانِ على روايةِ خُليدٍ، فضلًا عن كونِ ابنِ عباسٍ صحابيًّا يُخبِرُ عن أمرٍ غيبِيٍّ .
كذلك كونُ هذه الخيامِ من فضةٍ، هذا واردٌ عن مجاهدٍ وقد انفردَ به فيُتوقَّفُ فيه.
والمقصودُ أنك عندَما تَجمعُ مروِياتِ السَّلفِ ستَجِدُ أنهم اتَّفقوا على أمرٍ كُليٍّ، وهذا الأمرُ الكُليُّ تجعلُه عمدةً في تفسيرِ آيةٍ، وأما التفاصيلُ التي اختلفوا فيها فإنَّ كلَّ واحدٍ منها يحتاجُ حُجَّةً مستقلَّةً لأجلِ قَبولِه واعتبارِه.
هذا تمثيلٌ سريعٌ لهذه الفكرةِ ليستقِرَّ في الذهنِ المرادُ بكلامِ شيخِ الإسلامِ في المراسيلِ، وإن كانت كما قال – تُطبَّقُ في المراسيلِ وفي غيرِ المراسيلِ – بل إنه يُستفادُ منها حتى في أخبارِ التاريخِ والأدبِ وغيرِ ذلك.
فإذا وجدتَ خبرًا وَردَ عن عشرةِ أشخاصٍ في عصرٍ معيَّنٍ يُعرفُ أنهم غيرُ متواطِئين على الكذبِ, وليس بينَهم اتصالٌ في مسألةٍ معيَّنةٍ، فلا شكَّ أنَّ أصلَ المسألةِ يكونُ ثابتًا وواقعًا، وإن اختلفتِ التفاصيلُ فيما بينَهم، وسيَرِدُ إن شاءَ اللَّهُ تعالى المثالُ الذي أورَدَه المصنِّفُ -وهو في صحيحِ البخاريِّ- وهو شراءُ الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ جابِرًا(1).
أمثلةٌ على الاختلافِ في التفسيرِ :
وسأذكُرُ الآنَ أمثلةً من كتابِ زادِ المَسِيرِ لابنِ الجوزيِّ، وهي مجرَّدُ أقوالٍ منسوبةٍ إلى قائلِيها، وسأناقِشُ معكم الأقوالَ بناءً على اختلافِ التنوُّعِ واختلافِ التضادِّ الذي طرَحه شيخُ الإسلامِ.
(أولًا: قولُه تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ}. وفي تسميةِ البيتِ عتيقًا أربعةُ أقوالٍ..)
في العتيقِ أربعةُ أقوالٍ، وابنُ الجوزيِّ عندَما ذَكرَ هذه الأقوالَ لم يَعتَنِ بجمعِ الأقوالِ المتشابهةِ فيُرجِعَها إلى معنى واحدٍ، وإنما ذَكرَ كلَّ قولٍ وأسندَه إلى قائلِه.
وإذا رجعتَ إلى هذه الأقوالِ وجدتَ أنه يمكنُ أن يدخُلَ بعضُها في بعضٍ، فمثلًا القولُ الأولُ والثالثُ والرابعُ تَرْجِعُ كلُّها إلى معنًى واحدٍ وهو العِتقُ، سواءٌ كان العِتقُ بمعنى أنه لم يَملِكْ قطُّ، أو بمعنى أنه أُعتِقَ من الغَرقِ، أو بمعنى أنه مُعتقٌ من الجبابرةِ، فكلُّها ترجعُ إلى معنى العتقِ.
أما القولُ الثاني فإنه من عَتُقَ الشيءُ إذا صار قديمًا، فاختلفَ في دلالَتِه عن الأقوالِ الأخرى.
فصار الخلافُ إذًا يرجعُ إلى قولَيْنِ أحدُهما أنه مُشتَقٌّ من العِتقِ ضدِّ العبوديةِ، والثاني أنه مشتَقٌّ من العَتَاقةِ وهي القِدَمُ.
فسببُ الخلافِ إذًا يرجعُ إلى اللغةِ، وهو أنَّ لَفظَ (العِتقِ) لفظٌ مُشترَكٌ يحتملُ هذا المعنى ويَحتملُ ذلك المعنى الآخَرَ، وهذا يُسمَّى بالاشتراكِ اللغويِّ.
وهذا الخلافُ يَدخلُ في اختلافِ التنوُّعِ؛ لأنَّ القولَيْنِ ليس بينَهما تعارُضٌ، فالبيتُ مُعتَقٌ من الجبابرةِ وغيرِهم, وهو في نفسِ الوقتِ قديمٌ.
والآيةُ تحتملُ التفسيرَيْنِ معًا، وإذا احتملَتِ الآيةُ تفسيرَيْنِ صحيحَيْنِ متغايِرَيْن فإنها تكونُ بمثابةِ الآيتَيْنِ، فتُفسَّرُ مرَّةً بهذا الوجهِ ومرَّةً بهذا الوجهِ الآخَرِ، وكِلاهما صحيحٌ.
وقد يَذهبُ بعضُهم إلى أنَّ القولَ الأولَ أرجحُ؛ لأنَّ فيه روايةً مُسندَةً عن رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ وإن كان فيها ضعفٌ، كما أنه من قولِ مجاهدٍ وهو إمامُ التابِعين في التفسيرِ, وعَضَّدَهُ قولُ قتادةَ، فهو أشْبَهُ بقولِ الجمهورِ، فمِثلُ هذا الترجيحِ يُقبلُ؛ لأنه من بابِ التقديمِ الأوْلَى، وإن كانت الآيةُ محتمِلةً للقولَين معًا.
وينبغي أن يُلاحَظَ أنَّ مجاهدًا وَرَدَ عنه قولان: القولُ الأولُ والقولُ الثالثُ، وبما أنَّ هذين القولَين يرجعانِ إلى قولٍ واحدٍ، فإنَّ هذا يكونُ من بابِ اختلافِ العبارةِ.
(ثانيًا: قولُه تعالى: {الَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِالغَيْبِ} وفي المرادِ بالغيبِ هاهنا ستةُ أقوالٍ...)
هذه الأقوالُ السِّتَّةُ التي ذَكرَها ابنُ الجوزيِّ يُلاحَظُ عليها التشابُهُ، فالغيبُ هو كلُّ ما غاب عَنكَ، وهذا ما وردتِ الإشارةُ إليه في القولِ الرابعِ وحدَّدَ بعضَ الأمثلةِ له، أما الأقوالُ الأخرى فهي أمثلةٌ للغيبِ؛ أي: إنَّها ذُكِرتْ على سبيلِ المثالِ، وليس على سبيلِ الحصْرِ. فالغيبُ لفظٌ عامٌّ وما ذُكرَ في هذه الأقوالِ أمثلةٌ للغيبِ.
فالوحيُ يُعتبرُ غيبًا بالنسبةِ للصحابةِ وبالنسبةِ لنا نحن أيضًا، وكذلك القرآنُ قَبلَ أن ينـزلَ يُعتبرُ غيبًا، وكذلك ذاتُ اللَّهِ عز وجل وصفاتُه تُعتبرُ غيبًا، وكلُّ ما غابَ عن العبادِ من أمرِ الجنةِ والنارِ ونحوِ ذلك مما ذَكرَ القرآنُ فإنه يَصدُقُ عليه أنه غيبٌ، وكذلك قَدَرُ اللَّهِ عز وجل لا أحدَ يعرِفُه فهو يُعتبرُ غيبًا، والرسولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ يُعتبرُ غيبًا بالنسبةِ لمَن جاء بعدَه.
فكلُّ واحدٍ من هذه الأقوالِ يُعتبرُ غيبًا، ولكنَّ الغيبَ لا يَنحصرُ في واحدٍِ منها دونَ غيرِه، فالسَّلفُ في هذه الأقوالِ يُمثِّلُونَ ولا يُخصِّصون فتُحملُ عباراتُهم على التمثيلِ.
وهذه الأقوالُ كلُّها تَرجعُ إلى معنًى واحدٍ، وهو أنَّ كلَّ ما غاب عنك فهو غيبٌ.
وهذا الاختلافُ يَرجِعُ إلى اختلافِ تنوُّعٍ لا اختلافِ تضادٍّ.
(ثالثاً: قولُه تعالى: {وأمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بالطَّاغِيَةِ} فأما الطاغيةُ ففيها ثلاثةُ أقوالٍ...)
هذا مثالٌ آخَرُ لاختلافِ السَّلفِ، ما هو سببُ الاختلافِ؟
إذا رجعتَ إلى هذه الأقوالِ وَجدتَ أنَّ سببَ الخلافِ هو ما المقصودُ بالطاغيةِ؟ هل المقصودُ بالطاغيةِ هو الفِعلةُ الطاغيةُ التي هي كُفرُهم وطغيانُهم؟ أو أنَّ المرادَ بالطاغيةِ الصَّيْحةُ الطاغيةُ التي أُهلِكوا بها فطغَتْ على كلِّ صيحةٍ؟ أو أنَّ الطاغيةَ المرادُ بها الرجُلُ الطاغيةُ الذي هو عاقِرُ الناقةِ؟
فلفظُ (الطاغية) في الآيةِ وصفٌ حُذِفَ موصوفُه، فيحتملُ أن يكونَ هذا المحذوفُ هو أحَدَ المعاني الثلاثةِ المذكورةِ، وإذا كان الاختلافُ راجعًا إلى وصفٍ حُذِفَ مَوصوفُه فإنه يكونُ من بابِ المتواطئِ كما تقدَّمَ.
وهذا الاختلافُ يرجِعُ إلى معنى واحدٍ وهو الطغيانُ، ولكنه يَرجِعُ إلى أكثرَ من ذاتٍ، فقد يكونُ راجعًا إلى العذابِ, أو إلى الفِعلِ المعذَّبِ بِسَبَبِه, أو إلى الرجُلِ الذي عَقرَ الناقةَ.
ويُلاحَظُ أنه إذا فُسِّرت الآيةُ على أحدِ الأقوالِ فإنَّ معنى (الباء) في قولِه (بالطاغيةِ) يختلفُ من قولٍ إلى قولٍ، فتكونُ بمعنى السببيَّةِ، إذا قلتَ: (فأُهْلِكُوا بالطاغيةِ)؛ أي: بسببِ كُفرِهم وطغيانِهم، وتكونُ بمعنى الواسطةِ إذا قلتَ: (فأُهلِكوا بالطاغيةِ)؛ أي: بالصَّيحةِ الطاغيةِ، وتكونُ بمعنى السببيةِ إذا قُلنا: (فأُهلكوا بالطاغيةِ)؛ أي: بسببِ عاقرِ الناقةِ.
وهذه المعاني متنوعةٌ, ليس بينها تناقُضٌ, فهي تَرجعُ على اختلافِ التنوُّعِ. فهي كلُّها محتمَلةٌ؛ لأنَّ لفظَ الآيةِ يحتمِلُها جميعًا، ويمكنُ أن يفسَّرَ بها من جهةِ المعنى, ومن جهةِ السياقِ.
ويمكنُ أن تُرَجَّحَ أحدُ هذه الأقوالِ بدليلٍ خارجيٍّ, وهو قولُه تعالى في آيةٍ أُخْرَى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا}. أي: بسببِ طُغيانِها، فتُجْعَلَ هذه الآيةُ تفسِّرُ الأخرى، فيكونُ القولُ الأولُ – وهو قولُ ابنِ عباسٍ ومجاهدٍ ومقاتِلٍ وأبي عبيدةَ وابنِ قتيبةَ– هو الراجِحَ، لوجودِ نظيرٍ له في القرآنِ في موضِعٍ آخَرَ.
ويمكنُ أن يقالَ أيضًا: إنَّ السياقَ يدلُّ على أن المرادَ بالطاغيةِ العذابُ؛ لأنه لما وَصفَ عذابَ عادٍ بالريحِ وَصفَ عذابَ ثمودَ بالطاغيةِ. والترجيحُ بابُه واسعٌ. وليس المرادُ هنا ترجيحَ أحدِ الأقوالِ، ولكنَّ المرادَ هو التمثيلُ لاختلافِ التنوُّعِ واختلافِ التضادِّ.
(رابعًا: قولُه تعالى: {وَأنَّهُ كان يَقولُ سفِيهُنَا على اللَّهِ شطَطًا} فيه قولان...)
(سفيهنا) وصفٌ حُذِفَ موصوفُه، فوَصفُ السَّفَهِ يُطلقُ على إبليسَ ويُطلق على الكافرِ؛ لأنَّ كلاًّ منهما غيرُ رشيدٍ، فيحتملُ أن يكونَ المعنى (يقولُ سفيهُنا) أي: كافرُنا، ويحتملُ أن يكونَ (يقولُ سفيهُنا) إبليسُ لَعنَه اللَّهُ.
هذا مِثلُ المثالِ السابقِ يدخُلُ في بابِ المتواطئِ؛ لأنه وصفٌ حُذِفَ موصوفُه، وهو اختلافٌ يرجعُ إلى أكثرَ من معنًى، وإلى أكثرَ من ذاتٍ؛ لأن إبليسَ غيرُ الكافرِ.
(خامسًا:قولُه تعالى: {فَذَرْنِي والمُكذِّبينَ أُولِي النَّعمَةِ}...)
هذه ثلاثةُ أقوالٍ, وقد اتَّفقتْ على أن المرادَ بـ (المكذِّبين أُولي النَّعمَةِ) قومٌ موصوفون بأنهم أصحابُ نَعمةٍ، ولكنها اختلفتْ في تعيينِهم؛ فمنهم مَن قال: نزلتْ في المطعِمين من كفارِ قريشٍ الذين كانوا يُطعِمون في غزوةِ بدرٍ، ومنهم مَن قال: نَزلتْ في بني المغيرةِ بنِ عبدِ اللَّهِ، ومنهم مَن قال: نزلتْ في المستهزِئين الذين هم صناديدُ قريشٍ.
وإذا نظرتَ إلى هذه الأقوالِ وجدتَها تدخُلُ تحتَ اللَّفظِ العامِّ الذي تُذكرُ له أمثلةٌ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ من هؤلاءِ المذكورين يَدخلُ في عمومِ المكذِّبين أولي النَّعمةِ، لكن هذا العمومَ لا ينحصرُ في هؤلاءِ المذكورين فقط، بل يشملُ غيرَهم.
والعامُّ الذي تُذكرُ له أمثلةٌ يَدخلُ تحتَ بابِ اختلافِ التنوُّعِ؛ لأنه يَرجعُ إلى معنًى واحدٍ.
(سـادسًا: قولُه تعالى: {وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ}...)
هذه أربعةُ أقوالٍ في المرادِ بقولِه تعالى: {وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ}، فالغُصَّةُ كما قال ابنُ الجوزيِّ: هي الذي لا يَسوغُ في الحَلْقِ، فلا يَستطيعُ الإنسانُ أن يأكلَه لسوءِ طَعمِه، فيَزْدَرِدُهُ لكَراهِيَتِه.
فهذا الطعامُ الموصوفُ بأنه (ذا غُصَّةٍ) هل هو الزَّقُّومُ؟ أو هو الضَّريعُ؟ أو هو الغِسلِينُ؟ أو هو الشَّوكُ الذي يقفُ في الحَلقِ؟
فهذه المذكوراتُ أمثلةٌ لأنواعٍ من المأكولاتِ يَنطبقُ على كلٍّ منها وصفُه بأنَّه (ذا غُصَّةٍ) فرجَعَ الخلافُ إلى الوصفِ الذي حُذفَ موصوفُه فاحتملَ كلَّ ما ذُكِرَ من الموصوفاتِ.
ويمكنُ أيضًا أن يَرجعَ الخلافُ إلى اللفظِ العامِّ الذي ذُكِرَتْ له أمثلةٌ، فتكونُ هذه المذكوراتُ من بابِ التمثيلِ, لا من بابِ التخصيصِ.
(سابعًا: قولُه تعالى: {ولَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}....)
إذا نظرتَ إلى هذه الأقوالِ وجدتَها تَرجعُ إلى معنَيَيْن كُلِّيَّيْن، فهي إما أن تَرجعَ إلى المِنَّةِ من قولِهم: مَنَّ فلانٌ بما أعطى. أو إلى المَنِّ الذي هو الضَّعفُ، من قولِهم: حَبلٌ مَنينٌ؛ أي: ضَعيفٌ.
فالقولُ الأولُ: لا تُعطي عطيةً تلتمسُ بها أفْضلَ منها، هذا يَدخلُ في المِنَّةِ.
والقولُ الثاني: ولا تَمنُنْ بعمَلِك تَستكْثِرُه على ربِّكَ، أيضًا يَدخلُ في المِنَّةِ.
أما مَن قال بأن المرادَ: لا تَضْعُفْ عن الخيرِ أنْ تستكْثِرَ منه، فهذا القولُ راجعٌ إلى مادَّةٍ أخرى هي الضَّعفُ.
وأما القولُ بأن معنى هذه الآيةِ لا تَمنُنْ على الناسِ بالنُّبوَّةِ لتأخُذَ عليها منهم أجْرًا فهذا أيضًا راجعٌ إلى المِنَّةِ.
فرجعتْ هذه الأقوالُ إلى المعنَيَيْن الكُلِّيَّين السابقَين.
وهذا الاختلافُ يرجعُ إلى الاشتراكِ اللُّغويِّ، لأنَّ المِنَّةَ في اللغةِ تُطلقُ على كِلا المعنيَين، فسواءٌ قلتَ: إن المرادَ النهيُ عن المِنَّةِ بالعطاءِ أو بالعَملِ أو النهيُ عن الضَّعفِ، فيكونُ في الآيةِ تأديبٌ للرسولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ، والأصلُ في التأديبِ له صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ أنه تأديبٌ لأتباعِه إلا إذا دلَّ الدليلُ على خصوصِه.
وهذه الأقوالُ كلُّها محتملَةٌ، والخلافُ خلافُ تنوُّعٍ، وليس خلافَ تضادٍّ.
والأقوالُ ترجعُ إلى أكثرَ مِن معنى، وإن كانت في النهايةِ تَرجعُ إلى ذاتٍ واحدةٍ, وهي النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ المخاطَبُ بالآيةِ.
ويمكنُ ترجيحُ أحدِ الأقوالِ بناءً على دليلٍ أو علَّةٍ أخرى؛ لأنَّ الترجيحَ بابُه واسـعٌ.
(ثامنًا: قولُه تعالى: {إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}....)
مَن قال بأنَّ المرادَ بالذي بِيَدِه عُقدةُ النِّكاحِ هو أبو البِكْرِ، فإنه يرجعُ إلى معنى الوليِّ؛ لأنَّ الوليَّ غالبًا ما يكونُ أبًا، فيكونُ عندَك في الآيةِ قولان:
أحدُهما: أنَّ الذي بيدِه عقدةُ النكاحِ هو الزوجُ، والثاني: أنه وليُّ المرأةِ.
وهذان القولانِ يرجعانِ إلى أكثرَ مِن معنًى كما هو واضحٌ؛ لأنه إما أن يكونَ المرادُ بالذي بيَدهِ عُقدةُ النكاحِ الزوجَ، وإما أن يكونَ المرادُ وليَّ المرأةِ.
وهذان المعنَيانِ متضادَّانِ؛ لأنه لا يمكنُ اجتماعُهما في وقتٍ واحدٍ، فإذا قلتَ: إن الذي بيَدِه عُقدةُ النكاحِ هو الزوجُ امتنعَ أن يكونَ المرادُ هو الوليَّ، وإذا قلتَ بأنه الوليُّ امتنعَ أن يكونَ المرادُ هو الزوجَ.
وإذا كان القولان لا يمكنُ اجتماعُهما في المفسَّرِ فيكونُ الخلافُ إذًا من اختلافِ التضادِّ. وهو يَرجعُ إلى أكثرَ مِن معنًى وإلى أكثرَ من ذاتٍ.
ويُلاحَظُ أنَّ كلَّ الأمثلةِ السابقةِ من بابِ اختلافِ التنوُّعِ، أما هذا المثالُ فهو من بابِ اختلافِ التضادِّ.
(تاسعًا: قولُه تعالى: {إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} في سَببِ نُزولِها قولانِ...)
هذه قضيةٌ تَرتَبِطُ بالنـزولِ، وأسبابُ النزولِ –كما تقدَّمَ – تُعتبرُ أمثلةً، فتَنظرُ في الأمثلةِ المذكورةِ هل يَنطبِقُ عليها معنى الآيةِ أوْ لَا؟
القولُ الأولُ في سببِ نـزولِ الآيةِ: أنها نَزلتْ في حقِّ طُعمةَ بنِ أُبَيْرِقٍ لمَّا هرَبَ من مكَّةَ, ومات على الشِّركِ، فمَقطعُ الآيةِ {إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} ينطبقُ على هذا الرجُلِ.
وكذلك الرجُلُ الآخَرُ من الأعرابِ الذي قيل: إنه سببُ نزولِها يَنطبقُ عليه جزءٌ من الآيةِ, وهو قولُه تعالى: {ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ}. فهو يقولُ: أنا لم أُشرِكْ باللَّهِ, لكنِّي ارتكبتُ معاصِيَ فهلْ يَغفِرُ اللَّهُ لي؟ فنزلتِ الآيةُ.
وقولُ ابنِ عباسٍ: فنـزلت الآيةُ لا يَلزمُ أن يكونَ ما ذَكرَ هو سببَ النزولِ، بل يجوزُ أن يكونَ المرادُ: هذا الرجُلُ يَدخلُ في معنى الآيةِ، كما أنَّ طُعمةَ قد لا يكونُ سببَ نـزولِها المباشرَ أيضًا. ولكن يَدخلُ في معنى الآيةِ.
فإذا ذكرتَ عبارةَ النـزولِ فمِنَ المُهِمِّ أن تَتحقَّقَ مِن الأمرِ المَحكيِّ في النُّزولِ هل يَدخلُ في معنى الآيةِ أو لا يدخُلُ.
إذًا: هذا اختلافٌ في سببِ النـزولِ، وهو عائِدٌ إلى التَّمثيلِ للمعنى العامِّ، وكلٌّ من القولَين يَنطبِقُ عليه معنى الآيةِ، والعِبرةُ بعمومِ اللفظِ لا بخصوصِ السببِ.
قولُه: (ولِهَذَا إِذَا رُوِيَ الْحَدِيثُ الَّذِي يَتَأتَّى فِيهِ ذَلِكَ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ مِنْ وَجْهَيْنِ - معَ العِلْمِ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَمْ يَأْخُذْهُ عَن الآخَرِ - جُزِمَ بِأَنَّهُ حَقٌّ، لا سِيَّمَا إِذَا عُلِمَ أَنَّ نَقَلَتَهُ لَيْسُوا مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الكَذِبَ، وَإنَّمَا يُخَافُ على أَحَدِهِم النِّسيانُ وَالغَلَطُ؛ فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ الصَّحابةَ كابْنِ مَسْعُودٍ وأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وابنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَِبي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمْ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ الوَاحِدَ مِنْ هَؤُلاَءِ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الكَذِبَ علَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ فَضْلاً عمَّنْ هوَ فَوْقَهُمْ، كَمَا يَعْلَمُ الرَّجلُ مِنْ حَالِ مَنْ جَرَّبَهُ وَخَبِرَهُ خِبْرَةً بَاطِنَةً طَويلَةً أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَسْرِقُ أَمْوَالَ النَّاسِ، وَيَقْطَعُ الطَّريقَ، وَيَشْهَدُ بِالزُّورِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وكَذَلِكَ التَّابعُونَ بِالْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ وَالبَصْرَةِ، فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ مِثْلَ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، وَالأَعْرَجِ، وَسُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ، وَزَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، وَأَمْثَالِهِمْ؛ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الكَذِبَ في الحدِيثِ .
فَضْلاً عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُمْ مِثْلِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَالقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَوْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَوْ عبَيدةَ السَّلْمَانِيِّ أَوْ عَلْقَمَةَ، أَو الأَسْوَدِ أَوْ نَحْوِهِمْ.
وَإنَّمَا يُخَافُ عَلَى الوَاحِدِ مِن الغَلَطِ فَإِنَّ الغَلَطَ والنِّسيانَ كَثِيرًا مَا يَعْرِضُ لِلإِنْسَانِ، وَمِن الحُفَّاظِ مَنْ قَدْ عَرَفَ النَّاسُ بُعدَهُ عَنْ ذَلِكَ جِدًّا، كَما عَرَفُوا حَالَ الشَّعبيِّ، والزُّهريِّ وَعُرْوَةَ وَقَتَادَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَمْثَالِهِمْ، لا سِيَّمَا الزُّهريُّ فِي زَمَانِهِ وَالثَّوْرِيُّ فِي زَمَانِهِ.
فَإنَّهُ قَدْ يَقُولُ القَائِلُ: إِنَّ ابنَ شِهَابٍ الزُّهريَّ لا يُعْرَفُ لَهُ غَلَطٌ مَعَ كَثْرَةِ حَدِيثِهِ وَسَعَةِ حِفْظِِهِ .
وَالمقْصُودُ أَنَّ الحَدِيثَ الطَّويلَ إِذَا رُوِيَ مَثَلاً مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ امْتَنَعَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ غَلَطًا كَمَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا؛ فَإِنَّ الغَلَطَ لاَ يَكُونُ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ مُتَنَوِّعَةٍ، وَإنَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضِِهَا، فَإِذَا رَوَى هَذَا قصَّةً طَوِيلَةً مُتَنَوِّعَةً، وَرَوَاهَا الآخَرُ مِثْلَمَا رَوَاهَا الأَوَّلُ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ؛ امْتَنَعَ الغَلَطُ فِي جَمِيعِهَا، كَمَا امْتَنَعَ الكذِبُ فِي جَمِيعِهَا مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ.
وَلِهَذَا إنَّمَا يَقَعُ في مِثْلِ ذَلكَ غَلَطٌ فِي بَعْضِ مَا جَرَى في القِصَّةِ؛ مِثْلَ حَدِيثِ اشْتِرَاءِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ البَعِيرَ مِنْ جَابِرٍ؛ فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ طُرُقَهُ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ، وَإِنْْ كَانُوا قَد اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ.
وَقَدْ بيَّنَ ذلِكَ البُخَارِيُّ في صَحِيحِه)
كلُّ هذا الاستطرادِ الذي ذَكرهُ شيخُ الإسلامِ رحمهُ اللَّهُ مرتبطٌ بالقضيةِ التي ذَكرَها في المراسيلِ إذا تعدَّدت طرُقُها وخلَتْ عن المواطأةِ قصدًا، كانت صحيحةً قَطعًا.
ونبَّه على أنه كما أن هذا يُوجدُ في التفسيرِ فإنه يُوجدُ أيضًا في الحديثِ الواحدِ اختلافُ الصحابةِ فيه مع كونِ القصَّةِ واحدةً، ولكن وقَعَ اختلافٌ بينَهم في تفاصِيلِها، وذَكرَ مثالًا واحدًا وهو حديثُ جابِرٍ الذي رواه البخاريُّ، وسيُبَيِّنُ شيخُ الإسلامِ طريقةَ التعامُلِ مع هذا الاختلافِ فيما يلي:
قولُه: (فَإِنَّ جُمْهُورَ مَا فِي البُخَارِيِّ ومُسْلِمٍ ممَّا يُقطَعُ بِأَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ قَالَهُ؛ لأَنَّ غَالِبَهُ مِنْ هَذَا النَّحْوِ؛ وَلأنَّهُ قَدْ تَلَقَّاهُ أَهْلُ العِلْمِ بِالقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ. وَالأُمَّةُ لاَ تَجْتَمِعُ عَلَى خَطَإٍ، فلَوْ كَانَ الحَدِيثُ كَذِبًا فِي نَفْسِ الأَمْرِ، وَالأُمَّةُ مُصَدِّقةٌ لَهُ قَابِلَةٌ لَه، لَكَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَصْدِيقِ مَا هُوَ فِي نَفْسِ الأَمْرِ كَذِبٌ، وَهَذَا إِجْمَاعٌ عَلَى الْخَطَإِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، وَإنْ كنَّا نحنُ بِدُونِ الإِجْمَاعِ، نُجَوِّزُ الخطأَ أَو الكَذِبَ عَلَى الخَبَرِ، فَهُوَ كَتَجْوِيزِنَا قَبْلَ أن نعلمَ الإجماعَ على العِلْمِ الَّذِي ثبَتَ بظاهرٍ أَوْ قِيَاسٍ ظَنِّيٍّ: أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي البَاطِنِ بِخِلافِ مَا اعتقدْنَاهُ، فَإِذَا أَجْمَعُوا عَلَى الْحُكْمِ جَزَمْنَا بِأَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ بَاطِنًا وَظاَهِرًا).
أشار شيخُ الإسلامِ إلى حديثِ جابرٍ، وذَكرَ أنَّ الرواياتِ اختلفتْ في مقدارِ الثَّمنِ مع أنَّ القصَّةَ واحدةٌ.
فقد باع جابرٌ للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ جَملًا, واشترطَ أن يَحمِلَه الجَملُ إلى أهلِه ثم يُعطِيهِ لرسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ، واختلَفوا في مقدارِ الثَّمنِ في هذا البيعِ, هل هو أوقيةٌ أو غيرُ ذلك؟
فهذا الاختلافُ في مقدارِ الثَّمنِ لا يَجعلُ الحديثَ باطلًا؛ لأنَّ هذا من التفاصيلِ التي يَتوهَّمُ أو يَغلَطُ فيها الواحدُ من الرواةِ.
وقَطعًا إنَّ جابرًا باعَه بثَمنٍ معيَّنٍ، لكنَّ بعضَ الرواةِ لم يضبطْ هذا الثَّمنَ فحَكى في الثَّمنِ قولًا آخَرَ.
فنأخُذُ من هذا أنَّ حديثَ جابرٍ وبيعَه الجَملَ للنبيِّ صلى اللَّه وعليه وسلم صحيحٌ بلا إشكالٍ. وأن الاختلافَ الوارِدَ في الرواياتِ الصحيحةِ لا يَطعَنُ في صحَّةِ الحديثِ.
ويُلاحَظُ أنَّ كلَّ هذه الرواياتِ اتَّفقتْ على الإشارةِ إلى كرَمِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ؛ لأنه زادَ جابِرًا على الثَّمنِ الذي اشتَرى منه الجَملَ به.
إذًا فأصلُ البيعِ ثابتٌ، والخلافُ في التفاصيلِ لا يَضُرُّ في صحَّةِ أصلِ القصَّةِ، وإن كان أحدُ هذه الأثمانِ المذكورةِ صحيحًا، والآخَرُ غيرَ صحيحٍ.
هذه نفْسُ القضيةِ السابقةِ المتعلِّقةِ بالمُقَايَسَةِ بينَ المراسيلِ، وكيفيةِ جَمعِ ما اتَّفقتْ عليه هذه المراسيلُ، وتَركِ ما اختلفتْ فيه.
_______________
(1) لعلها بعير جابر.

  #6  
قديم 26 محرم 1430هـ/22-01-2009م, 01:27 AM
تيمية تيمية غير متواجد حالياً
طالبة علم
 
تاريخ التسجيل: Dec 2008
المشاركات: 256
افتراضي الشرح الصوتي للشيخ : د. خالد بن عثمان السبت حفظه الله

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
المراسيل, في

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:23 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir