أما ما ذكر في الأحاديث , ففي حديث أبي قتادة ذكر أن هذا حصل منهم في غزوة حنين التي بعد فتح مكة ؛ وذلك لأن هوازن وثقيف قبائل قوية كان لهم منعة ، وكان عندهم بأس ، وكانوا مناوئين للإسلام , فلما أسلم أهل مكة امتنع أهل الطائف ، وامتنع ثقيف وقبائلها وقبائل هوازن ، واجتمعوا في حنين ، واستعدوا للقتال , استعدوا لأن يقاتلوا محمدا ومن معه .
فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الذين جاؤوا معه لفتح مكة وهم عشرة آلاف ، ومعهم ألفان من الطلقاء الذين أسلموا بمكة وهم اثني عشر ألفا , فتقابلوا مع ثقيف وهوازن في حنين ، ولما تقابلوا بدأت ثقيف بالقتال ، وكانوا رماة ، وكان معهم سهام كثيرة , كان من آثارها أن انهزم بعض المسلمين لشدَّة الرمي ، ولشدة ما أحسوا به من إصاباتهم التي أشبهت الوابل .
فلما أن انهزموا بقي منهم بقية , رأى أبو قتادة رجلا من المسلمين قد استولى عليه مشرك من المشركين وأمسكه وهم بأن يقتله , فجاء أبو قتادة إلى ذلك المشرك وأمسكه من خلفه ورماه ، أو طعنه حتى أرداه قتيلا ، ولكنه قبل أن يقتله قبل أن يموت , يقول: ضمني ضما شديد حتى وجدت رائحة الموت ثم مات ،وتركني ثم تركته . ونكمل القصة بعد سماع الأذان .
وفي هذه القصة أنه صلى الله عليه وسلم بعدما انهزمَ المشركون ، ورجع المسلمون ، وقتل من قتل من هؤلاء وهؤلاء, قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه)) . ويعني بالسلب: ما كان معه , أي سلاحه ولباسه ، وما كان يحمله , حتى ولو كان نقودا ثمينة أونحوها . أبوقتادة ما أخذ سلب ذلك الكافر الذي قتله ، بل تركه , أخذه غيره ، أخذه أحد المسلمين . ولما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم قال: من يشهد لي ؟ . يعني من يشهد لي بالقتيل الذي قتلته ، ولم يشاركني في قتله أحد , فقال:((ما شأنك))؟ قال: رجل قتلته وكان من أمره كذا وكذا . فقال أحد الأنصار أوالمسلمين: صدق ، وسلبه لي , سلبه عندي (غير مسموع) ، ولكن بعض الصحابة كأبي بكر قالوا:لا يعمد إلى أسد من أسود الله يقاتل في سبيل الله فيعطيك سلبه . فأعطاه سلبه ، فاشترى به مخرفا , يعني نخلا , يقول: فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام . هذه قصة أبي قتادة .
أما قصة سلمة بن الأكوع ففيها أنهم كانوا في غزوة , ويمكن أنها غزوة حنين , فجاءهم عين من المشركين ،والعين هو الجاسوس , أرسل ليتجسس على المسلمين ، وينظر قوتهم ، وينظر مكانتهم ومجتمعهم , ثم يذهب إلى الكفار ويخبرهم بما مع المسلمين , فيقول لهم: تجدونهم في المكان الفلاني وعندهم من القوة كذا ، وأعدوا لهم كذا وكذا , هذا الجاسوس جعل ينظر ويتأمل في أحوال المسلمين وكأنه رأى فيهم ضعفا ، ثم إنه لما عرفهم رجع وركب ناقته .
فطن له النبي صلى الله عليه وسلم , وعرف أنه أرسل يتجسس من المشركين ، فأمرهم بأن يقتلوه . فكان قد ركب ناقته وأسرع السير ، ولم يقدر الصحابة على أن يدركوه ، وكان سلمة بن الأكوع شديد السعي , فسعى في أثره على قدميه ، ثم إنه سعى حتى وصل إلى قرب رجلي الناقة ثم اشتد في السير حتى وصل إلى هذا .. قوائمها ، ثم تقدم حتى مسك بخطامها ، وتمسك به إلى أن قوي عليها , ثم بركتْ الناقة لما أنه اجتذبها بقوته ، ولما أنها بركتْ عمد إليه فقتل ذلك الجاسوس ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((من قتله)) ؟. فقالوا: ابن الأكوع . فقال: ((له سلبه أجمع)) .
فأخذ من هذين القصتين أن القاتل .. أن من قتل أي مشرك فإنه يستحق أن يمنح سلبه . ولا يدخل ذلك في الغنيمة، بل يكون ذلك تشجيعا له ؛ حيث أنه يصمد أمام المشركين ، وأنه يعرض نفسه للقتال ،وأنه يتعرض لذلك ويستعد للقتال حتى أن بعض الصحابة قد قتلوا عددا , ذكروا أن أبا طلحة الأنصاري قتل في غزوة حنين أيضا نحو عشرين قتيلا ، وانفرد بأسلابهم ؛ تشجيعا له ، فيأخذ القاتل سلب القتيل , يدخل في السلب سلاحه الذي يقاتل به كسيف أو رمح ، أو نبل أو قوس ، أو خنجر أو نحوها , ويدخل في السلب درعه إذا كان عليه درع قد ارتداه ليقي به السلاح , ويدخل في ذلك أيضا الخوذة ، وهي المجن الذي يلبس على الرأس ، ويدخلُ في ذلك بقيَّة الألبسة التي يلبسها كجبة مثلا ، أو قميص أو ما أشبه ذلك .وإذا كان معه شيء من النفقة دخل أيضا , إذا وجدوا معه نقودا ، أو نحوها , فإنها تدخل في كونه من سلبه , يأخذ ذلك تشجيعا له .
وكذلك أيضا دابته التي يقاتل عليها , على الصحيح أنها له , إذا كان عندما قتله كان يقاتل على فرس ، أو على ناقة أو نحوها , فإنه يأخذه ذلك المسلم الذي قتله من باب التشجيع له .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك تشجيعا لمن يقتل مشركا في المعركة ، أما إذا قتله في غير المعركة فإن ذلك يكون في الأصل من الغنيمة التي تقسم على الغانمين .
أما بقية المغنم , وهو أمتعة الكفار إذا انهزموا وتركوها , أمتعتهم وأزودتهم ومكانهم الذي يجتمعون فيه ، وما تركوا فيه , فإن هذا من الغنيمة التي تغنم . وكذلك أيضا إذا فتحوا بلادا وأخذوا مافيها من المغانم ، أخذوا ما فيها من المدخرات ، وما فيها من الأموال , فإن هذا من الغنائم التي أباحها الله تعالى لهذه الأمة في قوله تعالى: {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا} أباح الله لهذه الأمة غنائم المشركين , يعني ما يأخذونه من الغنائم التي ينصرف وينهزم عنها المشركون ويتركونها , فتقسم بين الغانمين بعدما يخرج منها الخمس الذي ذكره الله بقوله: {واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} يعني أن الخمس يقسم يقسم بين هؤلاء ، وأربعة الأخماس تقسم على الذين اشتركوا في الوقعة , يقسم عليهم .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قسم عليهم يعطي من قاتل على فرس ثلاثة أسهم: سهما له وسهمين لفرسه . وأما الذي يقاتل على قدميه فليس له إلا سهم واحد . سهم للراجل . وثلاثة أسهم للفارس: سهم له ، وسهمان لفرسه ؛ وما ذاك إلا أن الفارس أشد نكاية ؛ حيث أنه يخوض المعركة ويجول بفرسه ، ويصمد أمام المشركين ، ويدرك المنهزمين ، ويجول فيهم ، ويكثر فعله ، ويكثر تأثيره في إضعاف قوة المشركين , فكان من تشجيعه أن أعطي ثلاثة أسهم .
ومع ذلك فإن الأصل أن المسلمين ما كانوا يقاتلون لأجل السلب ، ولا يقاتلون لأجل المغنم ، ولكنهم يقاتلون لوجه الله كما تقدَّم , يقاتلون لأن تكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر , يقاتلون المشركين الذين يصدون عن سبيل اللهِ ، والذين يقاتلون أولياء الله ، والذين يعادون المسلمينَ وينصبون لهم العداوة ، فالمسلمون إذا قاتلوهم يقصدون بذلكَ إذلال الكفرِ ، وإهانة الكافرين ، وتحقيرهم ، وإعزاز الدين , ونصرة الله ورسوله , كما أمرهم الله: {كونوا أنصار الله} ، {إن تنصروا الله ينصركم} , هذه نيتهم التي يثيبهم الله تعالى عليها , ومع ذلك فلهم هذا الأجر .
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأجرهم في الآخرة , بأن الإنسان , أحدهم إذا خرج يقول: ((تضمن الله لمن خرج في سبيلي , لا يخرجه إلا قتال في سبيلي إن مات أن أدخله الجنة ، أو رده إلى بلده بما نال من أجر ، أو غنيمة)). فبشره بأنه إذا قتل فإن له الجنة ، وإذا رجع فإن له الأجر ، أو يحوز مع الأجر المغنم الذي يغنمه المسلمون من بلاد المشركين . هذا هو الترغيب في الجهاد ، والترغيب فيه ترغيب أُُخروي وترغيب دنيوي , ولكن ينبغي أن يكون الترغيب الأخروي هو المقصد الأعلى .