القارئ:
عن ثابت بن الضحاك الأنصاري رضي الله عنه , أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة , وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال . ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة . وليس على رجل نذر فيما لا يملك)) . وفي رواية:((لعن المؤمن كقتله)) . وفي رواية: ((من ادعى دعوى كاذبة ليستكثر بها لم يزده الله إلا قلة)) .
الشيخ :
كذلك في هذا الحديث أيضًا الأمرُ بالوفاءِ بالنذورِ ، والنذرُ هو أن يلزم الإنسان نفسه شيئا لم يلزمه شرعا , يلزم به نفسه وهو غير لازم ، فيلزمه الوفاء به , إلا إذا كان النذر في شيء لا يملكه . في هذا الحديث يقول:((لا نذر لابن آدم فيما لا يملك)) .يعني لا يجوز له أن ينذر شيئا وهو لا يملكه ، ولكن إذا نذره فإن عليه الكفارة , كفارة اليمين . عرفنا أن النذر هو إلزام الإنسان نفسه ما ليس واجبا عليه شرعا ؛ تعظيما للمنذور له , إلزام الإنسان نفسهمالم يجب عليه شرعا ، ويقصد بذلك أن يعظم من نذر له , فإن كان نذرا لله تعالىفإنه تعظيم له ، وإن كان نذرا لمخلوق , فإنه تعظيم لذلك المخلوق حيا أو ميتا ، وهو عبادة من العبادات ، وقربة من القربات . ونكمل ذلك بعد سماع الأذن .
قلنا:إن النذر عبادة ؛ لأن الناذر يعظم من نذر له ،ولأجل ذلك مدح الله بالوفاء به , قال تعالى: {يوفون بالنذر}, أي: إذا نذروا أوفوا , وقال تعالى: {وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه} المعنى: أن الله تعالى عالم بهذه النذور ، وسوف يجازي عليها إن كانت نذر طاعة ، أو نذر معصية . وأمر الله بالوفاء بها في قوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم} .
وكذلك حكى الله تعالى النذر عن الأمم السابقة , فحكى عن أم مريم , قالت: {إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني} , وعن مريم أنه قال لهاابنها: {فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا} . فدل على أن النذر مشهور في الأمم قبلنا .
وصفة النذر لما لا يملك ابن آدم , كأن يقول: لله علي أن أعتق عبد فلان ، أو أسبل بيت فلان . هذا لا تملكه , كيف تسبل بيته وأنت لا تملكه ؟! لأنه يمتنع عليك , وكذلك يمتنع عليك أن تعتق عبده ، لا تتصرف إلا فيما تملك .وهكذا لوقال: أن أضحي بشاة فلان , لا تملكها . إن الوقف الوقف والعتق والأضحية كلها عبادات , ولكن كونك تتصرف فيما لا تملك هذا لا تقدر عليه ، أما إذا كان يملكهفإنه يلزمه الوفاء به , إذا قال: لله علي أن أعتق عبدي ، أو أن أوقف بيتي ، أو أن أضحي بهذا الكبش الذي يملكه ، أو أن أتصدق بهذا الكيس الذي يملكه , فمثل هذا عبادة يملكها , يلزمه أن يوفي بهذا النذر ؛ لأنه طاعة وقربة, الصدقات والقربات وما أشببها من العبادات كلها قربات يتقرب بها إلى الله تعالى فيوفي به .
أما إذا كان نذر معصية ففيه كفارة ، ولا يجوز الوفاء به , سواء كانت المعصية من الذنوب أو من الشركيات , فإذا قال مثلا: إن شفى الله مريضي فعلي أن أشرب خمرا ، أو أن أزني بكذا , فهذا حرام عليه الوفاء به ، وعليه كفارة يمين ؛ لحديث::لا نذر في معصية الله ، وكفارته كفارة يمين)) .
وكذلك إذا كان من الشركيات كالنذور التي يفعلها القبوريون , يقول أحدهم: إن ربحت تجارتي, إن قدم غائبي , إن شفي ولدي فعلي أن أذبح شاة عند قبر السيد فلان: السيد البدوي مثلا , أو الحسين ، أو علي أو نحوهم . الذبح لغير الله شرك , لعن الله من ذبح لغير الله , فلا يجوز الوفاء بهذا النذر . وهكذا لو نذر أن يسرج قبرا . إسراج القبور أيضا شرك ومنهي عنه . أو نذر قال: إن شفيت أو إن ربحت أن أهريق على ذلك القبر زيتا ، أو دهنا ، أو أن أطعم من يسدن هذا القبر ويخدمه أو يصلي عنده ، أو أن أبني عليه قبة أو نحو ذلك ، فإن هذا من الشرك لا يجوز الوفاء به .
فالحاصل أن النذر في قوله: ((لا نذر لابن آدم فيما لا يملك)) هو أن ينذر التصرف في شيء لا يملكه , فلا يصح ويكون عليه كفارة ، وكذا لا يجوز الوفاء بالنذر إذا كان في معصية ، أو في شرك , لا يجوز الوفاء به , وفيه كفارة , ويلزم الوفاء به إذا كان في طاعة ، إذا كان عبادة ، كأن يقول: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أصوم شهرا أوعشرا, أو أن أتصدق بمائة أو ألف ، أو أن أقوم هذه الليلة تهجدا ، أو أن أختم في هذا الشهر ثلاث ختمات مثلا ، هذه عبادات وقربات فيلزم الوفاء بها .
وأما إذا كان النذر ليس عبادة ، وليس معصية ، وإنما هو عادة من العادات فهو مخير , إلا أن يكون فيها إسراف , فإنه يكره الوفاء بها وعليه الكفارة ، فإذا مثلا قال: إن ربحت ، أو إن شفيت ، أو إن نجحت ، فعلي أن أشتري مثلا ثوبا بمائتين أو بخمسمائة -لباس الثوب عادة ليس عبادة - أو مثلا أن أطعم زملائي وأصدقائي طعام كذا وكذا ، نوعا من الطعام، هذا أيضا من العادات ليس من العبادات ، وهكذا إذا نذر أن إذا شفيت مثلا ألا آكل إلا كذا وكذا من الطعام ، أو كذا من اللحم ، ألا آكل الطعام إلا بلحم كذا , بلحم سمك مثلا أو بلحم طير أو نحو ذلك ، هذا أيضا من العادات ، ليس من العبادات ، فيخير بين الوفاء به وبين الكفارة .
فإن كان عليه مشقة , يكلف نفسه ويحملها على الاستدانة, أو فيه إسراف , كما لو حلف مثلا أن يذبح عشرين جملا لأهل هذا البلد أو مائة شاة مع أنه لا يجد من يأكلها ، وتذهب وسادا , إذا نذر أن يذبح ذلك فمثل هذا إسراف , يكفر عن نذره ولا يذبحها , أو يقتصر على ذبح بعضها الذي يستفاد منه .
في هذا الحديث جمل استطرادية في حديث ثابت من الضحاك منها قوله: ((لعن المؤمن كقتله)) .وعيد شديد على اللعن ؛ وذلك لأن اللعن دعاء بالإبعاد من رحمة الله , قد وردت الأدلة الكثيرة في النهي عن اللعن , وعن التلاعن الذي هو الدعاء به , فقال صلى الله عليه وسلم: ((ليس المؤمن بالطعان , ولا اللعان , ولا الفاحش ولا البذيء)) يعني لا تكون هذه الصفات من صفات المؤمن .
ورد في حديث أن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة , ورد في حديث: أن اللاعن إذا لعن صعدت اللعنة إلى السماء , فتغلق دونها أبواب السماء , فتهبط إلى الأرض , فتغلق دونها أبواب الأرض , فتذهب يمينا وشمالا , فلا تجد مساغا , فتذهب إلى الذي لعن , فإن كان مستحقا لها , وإلا رجعت إلى قائلها ، فيصير اللاعن كأنه لعن نفسه , وذلك بلا شك يخيف المسلم من أن يلعن من لا يستحق . أما لعن المستحق فقد ورد في القرآن في ...
ا هـ .
عمدة الأحكام
شريط (61) للشيخ: ابن جبرين
... يخيف المسلم من أن يلعن من لا يستحق ، أما لعن المستحق فقد ورد في القرآن في أدلة كثيرة كقوله: {فنجعل لعنة الله على الكاذبين} , {ألا لعنة الله على الظالمين} ، {فإن عليك لعنتي إلى يوم الدين} ونحو ذلك ، وكذلك الأحاديث الكثيرة كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله المحلل والمحلل له)), ((لعن الله آكل الربا وموكله)), ((لعن الله الراشي والمرتشي)) . وما أشبه ذلك , يخيف هذا الحديث أن الإنسان إذا استعمل اللعن ويسهل عليه فيقع في هذا الوعيد , ((لعن المؤمن كقتله)).
وفي هذا الحديث أيضا جملة أخرى استطرادية أيضا ؛ لأنه حديث جامع , يقول فيه: ((من قتل نفسه بشيء عذب به)) . قتْل النفس هو الذي يسمى الانتحار , وورد فيه أدلة في تعذيب من قتلَ نفسه , منها الحديث الذي في صحيح مسلم , قال صلى الله عليه وسلم: ((من وجأ نفسه بحديدة فقتل نفسه فهو يجأ بها نفسه في نار جهنم .. أو فحديدته في يده يجأ بها نفسه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا)) . وجأ نفسه: يعني طعن نفسه حتى قتل نفسه . وكذلك قوله:((من تحسى سما فقتل نفسه)) .تحساه: يعني التهمه وازدرده((فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم , خالد مخلدا فيها أبدا , ومن تردى من شاهق فقتل نفسه))شاهق يعني جبلا مرتفع , من أسقط نفسه من شاهق أو من بيت مرتفع ليقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا , وذلك بلا شك تهديد ووعيد ؛ لأن الإنسان لا يملك نفسه , فنفسه ملك لربه سبحانه , فلا يجوز أن يتساهل في أن يقتل نفسه بسبب من الأسباب , ((من قتل نفسه بشيء عذب به)) .وبكل حال الشاهد من الحديث ذكر اليمين وذكر النذر كما ذكرنا .