القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: أتى رجل من المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه ، فقال: يارسول الله إني زنيت . فأعرض عنه , فتنحى تلقاء وجهه ، فقال: يا رسول الله إني زنيت . فأعرض عنه حتى تلى ذلك عليه أربع مرات ، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال:((أبك جنون)) ؟ قال: لا . قال ((فهل أحصنت)) ؟ قال: نعم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اذهبوا به فارجموه)). قال ابن شهاب: فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: كنت فيمن رجمه فرجمناه بالمصلى ، فلما أدلقته الحجارة هرب ، فأدركناه بالحرة فرجمناه .
الشيخ: هذا في رجم الزاني ، قد ذكر الله تعالى الزنا في أول الأمر ، فقال تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا} . ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا ، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)) . فهذا يعتبر إيضاحا لهذه الآية , حيث أمر الله بإمساكهن في البيوت ، إلى أن يجعل لهن سبيلا ، وأمر بإيذاء الرجل بقوله: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما} أمر في الأول بإيذائهما إلى أن يتوبا .
وبعد ذلك نزل الحد في قوله: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} . فذكر الله حد الزنا أنه جلد مائة ،وأن هذا الجلد يكون شديدا ، بلا رأفة ، ولا رحمة ، وأنه يكون معلنا أمام طائفة من المؤمنين . ثم جاءت السنة بأنه إذا كان ثيبا يعني قد تزوج ، فإنه يرجم ، ولا يرحم ، يرجم بالحجارة إلى أن يموت ، فتكون الآية في البكر الذي لم يتزوج ، أنه يجلد مائة جلدة ، رجلا كان أو امرأة ، أما إذا كان قد تزوج فإن حده الرجم .
هذا الرجل الذي في هذه القصة ، هو المعروف بماعز الأسلمي , حصل منه الزنا ، وكان قد تزوَّجَ ، فلما أن حصل منه الزنا , الزنا الصريح ، عند ذلك خافَ على نفسه من هذا الذنب ، فقالوا له: اذهب إلى محمَّدٍ فإنه سوف يطهرك ، فجاء واعترف هذا الاعتراف ، نادى برفيع الصوت: إني قد زنيت ، أعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم , ثم كرر ذلك ، ثم كرره ثالثة ، ثم رابعة ، ولما اعترف أربع مرات كان هذا بمنزلة أربعة الشهود في قوله: {فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} , أقر على نفسه أربع مرات ، فكان هذا سببا في ثبوت الحد عليه ، ثبوت الفعل الذي يوجب إقامة الحد .
ولا شك أن هذا أولا دليل على خوف السلف رحمهم الله من معرة الذنب , علم أن هذا الذنب ذنب كبير ، وأنه من عظائم الإثم لقوله تعالى: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} فعرف أن هذا ذنب كبير ، وخاف أن يوبقه ذنبه ، وخاف أن يهلكَ بسبب ذلك ، فعند ذلك احتاج إلى أن يُطهر ، فجاء واعترف هذا الاعتراف ، وكرر ذلك , ولما اعترف سأله النبي صلى الله عليه وسلم ليتثبت:((أبك جنون)) ؟ هل أنت ناقص العقل ؟ أو فاقده ؟ ولكنه اعترف بأنه كامل العقل ، وانه كامل الإدراك ، وليس في عقله نقص ، ولا خلل ، فكان في ذلك ما يدل على حرصه على أن يطهر من هذا الذنب ؛ لأنه قال: ماذا تريد من هذا الاعتراف ؟ قال أريد أن تطهرني, فأقيم عليه الحد وهو الرجم , بعدما تثبت النبي صلى الله عليه وسلم . في بعض الروايات أنه استفصل منه ، وقال: لعلك قبلت .. لعلك قبلت .. أو لمست .. أو غمزت .. لعلك فعلت مقدمات الزنا ، ولم تفعل الزنا فقال: لا . فقال: ((أتدري ما الزنا)). قال: نعم , أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من أهله حلالا. فلما اعترف بذلك ، عند ذلك أمر بعقوبته ، أمر بأن يرجم ...
الوجـه الثانـي
... ذكروا أنه رجم في المصلى ، المصلى: هو الذي قرب المقابر ، مكان متسع ، كانوا يصلون فيه على الجنائز قبل أن تتسع ، ثم لما أنهم بدأوا يرجمونه أدلقته الحجارة ، وآنس حرها فهرب ، فتبعوه حتى أدركوه بالحرَّة الشرقية ، فرجموه حتى مات . الراوية التي فيها أنه قال: ((هلا تركتموه لما هرب)).يقال: إنها لم تثبت . وعلى تقدير ثبوتها ، أراد بذلك أن يتثبت منه . وبكل حال فالحق قد ثبت عليه ، والحد قد وجب عليه ، وجب عليه باعترافه أربع مرات ، بأنه زنى واعترافه بأنه ليس به جنون ، واعترافه بأنه محصن ، واعترافه بأن الزنا زنا حقيقا ، ليس مقدمات الزنا ، ولما ثبت ذلك عنه لم يكن بد من إقامة الحد .
ولا شك أن الحدود التي جعلها الله تعالى تطهيرا للأمة ، تطهيرا للعباد , إقامتها فيه مصلحة كبيرة ، هذه المصلحة هي أمن الناس على محارمهم ، أمنهم على دمائهم ، وعلى أموالهم ، وعلى أعراضهم ، وعلى أديانهم . فشرعية هذا الحد , هذه العقوبة ، إن كان محصنا يرجم حتى يموت ، وإن كان غير محصن يجلد مائة جلدة ويغرب سنة عن بلده . الحكمة في ذلك:
أولا: الزجر عن هذا الذنب الكبير ؛ فإنه من أكبر الذنوب ، يعني الزنا ، الزجر عنه والتحذير من سواء مغبته .
ثانيا: الحرص على حفظ أعراض الناس ، وحفظ أنسابهم ؛ لأنه إذا فشى الزنا اختلطت الأنساب ، وفسدت الأعراض ، وذهبت الغيرة والحماسة . والإنسان مأمور بأن يكون غيورا على محارمة ؛ لأنه إذا لم يكن كذلك , بل كان يقر الخنا في أهله ، لقب بلقب الديوث ، وفي الحديث: ((لا يدخل الجنة ديوث)) . وهو الذي يقر الخنا في أهله .
فإذا كان هناك من يقيم الحدود , ومن يأخذ الحقوق ، أمن الناس ، أمنت البلاد واطمأنت , وأمن الناس على محارمهم ، وصار المذنب أو العاصي يخاف ، يخاف على نفسه من مثل هذه العقوبة ، ويفكر ويقولُ: ما فائدة هذا الذنب الذي أقترفه ؟ أصبر على نفسي وأصبر على قمع شهوتي ، ولا أتعرض للعذاب ، ولا أتعرض للأذى ، ولا أعرض نفسي للقتل قتلا شنيعا ، ونحو ذلك .
قالوا: الحكمة في شرعية الرجم , وهو القتل بالحجارة ، أنه لما تلذذ بالحرام ، وعدل عن الحلال ، تلذذ جسمه كله بهذا الحرام ، الذي هو فعل هذه الفاحشة- ناسب أن يرجم ، وأن يؤلم جسده كله .
كيفيه الرجم ؟ قيل: إنه يحفر له حفره قدر ذراع أو نحوه ، ثم يوقف فيها , وتربط يده من خلفه ، ثم يأخذون حجارة ملء الكف ، ثم يقذفونه بها ، يرمونه مع رأسه ، ومع بطنه ، ومع ظهرة ، ومع عضديه ، ومع فخذيه ، إلى أن تدلقه الحجارة ، إلى أن ينصرع ويموت .وبعد ذلك في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم استغفر لذلك الرجلالذي هو ماعز الأسلمي, وأنه صلى عليه .
ثم هذا الحد الذي هو العقوبة بالرجم ، قالوا: إنها تختص بالحر ، فأما العبد فإنه لا رجم عليه ، وما ذاك إلا أن قتله فيه إذهاب لماليته ، وماليته لسيده ، هو مملوك للسيد ، والسيد لم يذنب حتى يفوت عليه ماليته ، وما يملكه ، فلأجل ذلك يقتصر على جلده ، فيجلد خمسين جلدة ، ويكون ذلك بفعل سيده الذي يتولى إقامة الحد عليه .
معروف أن إقامة الحدود في البلاد سبب للأمن والطمأنينة ، وقد ورد في بعض الأحاديث: ((لحد يقام في الأرض خير من أن يمطروا أربعين صباحا)) . معلوم فائدتهم من المطر لكن الفائدة قد تكون دنيوية ، وأما إقامة الحد الذي فيه إظهار أوامر الله ، وتطبيق شرعه ، والعمل بسنة نبيه ، وفيه عقوبة المجرم على جريمته , وزجره وزجر أمثاله ، عن هذه الجرائم والذنوب الشنيعة ، لا شك أنها مصلحة دينية ، تتعلق بالعباد ، وتتعلق بالبلاد ، وتتعلق بالمحارم ، فكان فيها هذا الخير ، فكلما أقيمت الحدود كان ذلك سببا للأمن والطمأنينة .
وفي هذه الأزمنة كثيرٌ من البلاد التي تنتمي للإسلام عُطلت فيها الحدود ، بل أبيح فيها الزنا ، إذا كان برضى من الرجل والمرأة ، إذا تراضيا فليس عليهما جناح ، ولا يقام عليهما حد ولو كانت المرأة مزوجة واختارت حليلا لها وحبيبا ، ولو كان لها أب لا يرضى ، ما دام أنها رضيت بذلك ، لا شك أن هذا إباحة للحرام ، وتغيير للفطر ، ومخالفة للشرائع ، وإذهاب للحماس والغيرة ، وتعطيل لحدود الله تعالى ، وسبب في ظهور الفواحش ومحبة لها . وقد توعد الله على ذلك بقوله: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم} يحبون أن تشيع الفاحشة ، ومن أعظم الفواحش فاحشة الزنا ، وفاحشة اللواط ، ومقدماتها , أن هذه الفاحشة من أشنع الفواحش ، فالذين يحبونها توعدهم الله بقوله: {لهم عذاب أليم} . فيعرف المسلم حكمة الله تعالى في أوامره ونواهيه, ويحرص على تطبيق تلك الأحكام .