ومما جاء متفق اللفظ مختلف المعنى: {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} ومثله: {هذا يوم لا ينطقون} الآية. ثم قال: {وقفوهم إنهم مسئولون} فليس هذا ناقضا للخبر الأول، تعالى الله عن ذلك. وكان مجاز قوله: {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} أي لا يسأل عن ذنبه ليعلم ذلك من قبله، والدليل عليه قوله: {يعرف المجرمون بسيماهم} وقوله: {وقفوهم إنهم مسئولون} يقول: موبخون، كما يقول المعاقب للمعاقب: ألست الفاعل كذا؟ أتذكر يوم كذا ما فعلت كذا ؟ ليس ليعلم ذلك من قبله، ولكن لتوبيخه بما فعل.
وقد يقال لغير صاحب الذنب احتجاجا على الذنب وتوبيخا له: أما قال لك هذا ذنب؟ أما تعرف من هذا مثل ما أعرف؟ أأنت قلت لهذا ما ذكره عنك؟ على علم السائل أنه لم يقل، كقوله تعالى:{أأنت قلت للناس} الآية ليوبخ بذلك من حكاه عنه، فمجاز يقع من هذا تقريرا لا استفهاما في مدح أو ذم مجاز قال جرير:
ألستم خير من ركب المطايا = وأندى العالمين بطون راح
وكقول كثير:
أليس أبي بالنضر أم ليس والدي = لكل نجيب من قضاعة أزهر
وقال الله تعالى:{أليس الله بكاف عبده} و{أليس في جهنم مثوى للكافرين} وقوله: {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله} إلى قوله: {قل كل من عند الله}. أي: يأتي هذا إذا شاء، وهذا إذا شاء، ثم قال: {وما أصابك من حسنة فمن الله} تفضلا {وما أصابك من سيئة فمن نفسك}، أي مجازاة بما فعلت، كقوله: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} ولو كان من الطاعة والمعصية لكان حق الكلام: ما أصبت من حسنة وما أصبت من سيئة.
ومن هذا قوله: {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين} الآية وقال: {إنا أرسلنا نوحا إلى قومه} وقال: {ثم أرسلنا رسلنا تترى} وقال: {وسلام على المرسلين}، فليس لقائل أن يقول – من أهل القبلة – إن الشياطين دخلوا في هذا الإرسال. ولا أن قوله: {إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين} كقوله: {إنا أرسلنا نوحا} ولكن مجاز قوله: {إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين}، أي خلينا بينهم وبينهم، كقول القائل: أرسلت حمارك على زرعي، أي لم تحبسه، فسمى التخلية بالإرسال، كقوله:
فأرسلها العراك ولم يذدها = ولم يشفق على نغص الدخال
هذا لم يرسل الحمير لتعترك، ولكنه لم يحبسها.
وكذلك قولهم: أرسلت الأمر من يديك، إنما هو: لم تلزمه وأما قوله تعالى: {ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} وقوله: {إنما نملي لهم ليزدادوا إثما} [فـ] مجازه: مصيرهم إلى ذا، كقوله: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} وهم لا يلتقطون مقدرين فيه أن يعاديهم ويحزنهم، ولكن تقديره: فالتقطه آل فرعون فكان مصيره إلى عدواتهم وحزنهم، ومثله:
ودورنا لخراب الدهر نبنيها
أي إلى هذا تصير، ومثل قول ابن الزبعرى:
لا يبعد الله رب العبا = د والملح ما ولدت خالده
هم يطعنون صدور الكما = ة والخيل تطرد أو طارده
فإن يكن الموت أفناهم = فللموت ما تلد الوالده
أي أن هذا مصيرهم.