بابُ وجوبِ المبيتِ بمِنًى.
الْحَدِيثُ الخامسُ والأرْبَعُونَ بعدَ الْمِائَتَيْنِ
عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ رضِيَ اللَّهُ عنهما قالَ: اسْتَأْذَنَ الْعَبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأذِنَ لَهُ.(44)
___________________
( 44 ) الغريبُ:
سِقَايَته: المرادُ بهَا سقايَةُ الحَجِيجِ، فخدمةُ الحُجَّاجِ والبيتِ مُقَسَّمةٌ بين قريشٍ, فكانَ لعبدِ منافٍ السقايَةُ. فكانُوا قبلَ حفرِ زمزمَ يأتونَ بالماءِ بالقِرَبِ ونحوِهَا، فلمَّا حفَرَهَا عبدُ المطَّلبِ، أخذَ يسقِي الحاجَّ منهَا، فوصلتْ بالوراثةِ إلَى ابنِهِ العباسِ، فأقرَّهُ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ عليهَا.
المعنَى الإجماليُّ:
المبيتُ بـ ( مِنًى ) لياليَ التشريقِ أحدُ واجباتِ الحجِّ التي فعلَهَا النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ.
فإنَّ الإقامةَ بـ ( مِنًى ) تلك اللياليَ والأيَّامَ، من المرابطةِ علَى طاعةِ اللَّهِ تعالَى، في تلك الفِجاجِ المباركةِ.
ولمَّا كانتْ سقايَةُ الحجِيجِ من القُرَبِ المفضَّلةِ؛ لأنَّهَا خدمةٌ لحُجَّاجِ بيتِهِ وأضيافِهِ، رخَّصَ لعمِّهِ العبَّاسِ - لكوْنِِهِ قائمًا عليهَا - بترْكِ المبيتِ بـ ( مِنًى ) ليقومَ بِسَقْيِ الحجَّاجِ، ممَّا دلَّ علَى أنَّ غيرَهُ، ممَّنْ لا يَعْمَلُ مثلَ عملِهِ، ليسَ لهُ هذهِ الرخصةُ.
ما يُؤخذُ من الحديثِ:
1- وجوبُ المبيتِ بـ ( مِنًى ) لياليَ أيَّامِ التشريقِ.
2- المرادُ بالمبيتِ، الإقامةُ بـ ( مِنًى ) أكثرَ الليلِ.
3- الرخصةُ في ترْكِ المبيتِ لسُقَاةِ الحاجِّ، وألحقُوا بهم الرُّعاةَ. وبعضُهم ألحقَ أيضًا أصحابَ الحاجاتِ الضروريَّةِ، كمَنْ لهُ مالٌ يخافُ ضياعَهُ، أو مريضٍ ليس عندَهُ مَن يُمرِّضُهُ.
4- ما كانَ عليهِ أهلُ مكَّةَ في جاهليَّتِهم من إكرامِ الحجَّاجِ، والقيامِ بخدمتِهم، وتسهيلِ أمورِهم. ويعتبرونَ هذا من المفاخرِ الجليلةِ، فجاءَ الإسلامُ فزادَ من إكرامِهم، فعسَى أنْ نحتَذِيَ هذهِ الآدابَ، ونُقَدِّمَ لضيوفِ الرحمنِ ما يكونُ في الدنيا ذِكْرًا حسنًا، وللآخرةِ ذُخْرًا طيِّبًا.
اختلافُ العُلماءِ:
اختلَفَ العُلماءُ: هل المبيتُ واجبٌ، أو مُستحَبٌّ؟
فذهبَ الجمهورُ - ومنهم الأئمَّةُ: مالكٌ، والشافعيُّ، وأحمدُ - إلَى الوجوبِ.
ووجهُهُ: أنَّ تخصيصَ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ العبَّاسَ بترْكِ المبيتِ للسِّقايَةِ، دليلٌ علَى عدمِ الرخصةِ لغيرِهِ، ممَّن لا يعملُ مثلَ عملِهِ.
والدليلُ الثانِي: أنَّ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ باتَ فيهَا, وقالَ: " خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ ".
وذهبَ أبو حنيفةَ، والحسنُ: إلَى أنَّهُ مُستحَبٌّ.
واختلفُوا في وجوبِ الدمِ في ترْكِهِ, وهو مبنيٌّ علَى الخلافِ السابقِ.
فمَن أوجبَهُ، أوجبَ الدمَ بترْكِهِ، ومَن استحَبَّهُ لم يُوجِبْهُ.