866- وعَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنهَا قَالَتْ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ ثَلاثاً، فتَزَوَّجَها رجُلٌ، ثُمَّ طَلَّقَها قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ بها، فأَرَادَ زَوْجُها الأولُ أَنْ يَتَزَوَّجَها فسَأَلَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عن ذلك فَقَالَ: ((لاَ، حَتَّى يَذُوقَ الآخَرُ مِنْ عُسَيْلَتِهَا مَا ذَاقَ الأَوَّلُ)). مُتَّفَقٌ عليهِ، واللَّفْظُ لمُسْلِمٍ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* مُفْرداتُ الحديثِ:
- رَجُلٌ: هو رِفَاعَةُ بنُ شمولٍ القُرَظِيُّ، ورِفَاعَةُ: بكسرِ الراءِ، وتخفيفِ الفاءِ.
- الرجُلُ الثاني: عبدُ الرحمنِ بنُ الزَّبِيْرِ بنِ باطيا القرظيُّ أيضاً، و الزَّبِيْرُ بفتحِ الزايِ، وكسرِ الباءِ المُوَحَّدَةِ.
- يَدْخُلَ بها: المرادُ بالدخُولِ هنا لَيْسَ مُجَرَّدَ الخَلْوَةِ، وإنما هو الوَطْءُ.
يَذُوقَ: يُقالُ: ذَاقَ يَذُوقُ ذَوْقاً اخْتَبَرَ الطَّعْمَ، والذَّوْقُ هو الحَاسَّةُ التي تُمَيَّزُ بها خواصُّ الأجسامِ الطَّعْمِيَّةِ، بواسطةِ الجِهازِ الحِسِّيِّ في الفَمِ، ومَرْكَزُه اللسانُ.
قالَ في (المُحيطِ): الأصْلُ في الذَّوْقِ تَعَرُّفُ الطَّعْمِ، ثم كَثُرَ حتى جُعِلَ عِبَارَةً عن كُلِّ تَجْرِبَةٍ، ومنه معنى الحديثِ.
- عُسَيْلَتَها: بضَمِّ العَيْنِ، وفتحِ السينِ بعدَها ياءٌ مُثَنَّاةٌ، تَصْغِيرُ عَسَلَةٍ، والعَسَلُ فيهِ لُغتانِ: التأنيثُ والتذكيرُ، فأتَتِ العُسَيْلَةُ لذلك؛ لأنَّ المُؤَنَّثَ يُرَدُّ إليهِ الهاءُ إذا صُغِّرَ.
- قالَ في (النهايةِ): شَبَّهَ لَذَّةَ الجِماعِ بذَوْقِ العَسَلِ، فاسْتعارَ لها ذَوْقاً, وقَدْ رَوَتْ عائشةُ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: ((العُسَيْلَةُ الجِمَاعُ)).
- طَلَّقَ رَجُلٌ، فسَأَلَ: جاءَ في البخاريِّ أنَّ التي سَألَتْ هي امْرأةُ رِفَاعَةَ، وجاءَ في (فتحِ الباري) أنَّ اسمَ المَرْأَةِ السائِلَةِ المُطَلَّقَةِ هي تمِيمَةُ بنتُ وَهْبٍ القُرَظِيَّةُ، ولا مَانِعَ مِن أَنْ يَكُونَ كلٌّ من المُطَلِّقِ والمُطَلَّقَةِ جاءَ إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فسأله.
* مَا يُؤْخَذُ من الحديثِ:
1- الطلاقُ بلفظِ الثلاثِ، سواءٌ أكانَتْ مجموعةً بلفظٍ وَاحِدٍ، أو مُفَرَّقَةً بكلماتٍ مُكَرَّراتٍ، لم يَتَخَلَّلْهُنَّ رَجْعَةٌ ولا نِكَاحٌ: هو طَلاقٌ بِدْعِيٌّ مُحَرَّمٌ، وسيأتي بَحْثُه إنْ شَاءَ اللهُ في كتابِ الطلاقِ.
2- المُطَلَّقَةُ ثَلاثاً لا يَحِلُّ لمُطَلِّقِها الرجُوعُ بها حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَه، ويُجامِعَها الزَّوْجُ الثاني، ثم يُطَلِّقَها، وتَعْتَدَّ منه، قالَ تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230].
3- لابُدَّ أَنْ يَكُونَ زواجُ الثاني زواجَ رَغْبَةٍ، لم يَقْصِدْ به التَّحْلِيلَ، فإذا تَزَوَّجَها الثاني راغباً بها، ثم طَلَّقَها، واعْتَدَّتْ حَلَّتْ للزَّوْجِ الأولِ، قالَ تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} [البقرة: 230].
4- أَمَّا إنْ قَصَدَ الثاني بزَواجِه التحليلَ للأولِ، فإنَّ العَقْدَ غَيْرُ صَحيحٍ، بل هو بَاطِلٌ، ونِكَاحُه ووَطْؤُه مُحَرَّمٌ، ولم تَحِلَّ للزَّوْجِ الأولِ، فقدْ جاءَ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّه قالَ: ((لَعَنَ اللهُ المُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ)).
5- ولا بُدَّ لصِحَّةِ حِلِّهَا للزوجِ الأولِ وَطْءُ الزوجِ الثاني، كما قالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((لاَ، حَتَّى يَذُوقَ الآخَرُ مِنْ عُسَيْلَتِهَا مَا ذَاقَ الأَوَّلُ)) وهو كنايةٌ عن الجِماعِ.
6- اتَّفَقَ العلماءُ على أنَّ النِّكاحَ الذي يُحِلُّها هو الإصابَةُ، وذلك بإِيلاجِ الحَشَفَةِ أو قَدْرِها مِن مَجْبُوبٍ في فَرْجِ المَرْأَةِ المُطَلَّقَةِ، معَ انْتِشَارٍ وإنْ لم يُنْزِلْ، فَلاَ يَكْفِي مُجَرَّدُ العَقْدِ ولا الخَلْوَةِ ولا المُباشَرَةِ دُونَ الفَرْجِ، ولا كَوْنُ العَقْدِ الثاني باطلاً أو فَاسِداً، بل لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بعَقْدٍ صَحيحٍ.
ولا يُشْتَرَطُ بُلُوغُ الزَّوْجِ الثاني، ما دَامَ أنَّه يُجامِعُ مِثْلَه، وهو ابنُ عَشْرِ سِنِينَ.
7- قالَ ابنُ القَيِّمِ: شَرِيعَتُنا أجْمَلُ الشَّرَائِعِ، وأقومُ بمَصالحِ العِبادِ، فله أنْ يَعَافَ زَوْجَتَهُ، فإنْ تَاقَتْ نَفْسُه إليها وَجَدَ السبيلَ إلى رَدِّها، فإذا طَلَّقَها الثالثةَ لم يَبْقَ له عليها سَبِيلٌ، إلاَّ بعدَ نِكاحِ زَوْجٍ ثَانٍ نكاحَ رَغْبَةٍ، فإباحتُها بعدَ الزوجِ الآخَرِ مِن أَعْظَمِ النِّعَمِ.
8- قالَ الرازيُّ: الحِكْمَةُ في إثباتِ حَقِّ الرَّجْعَةِ أنَّ الإنسانَ ما دَامَ يَكُونُ مَعَ صَاحِبِه، لا يَدْرِي أنه هل يَشُقُّ عليهِ مُفارَقَتُه أو لا؟ فإذا فارَقَه فعندَ ذلك يَظْهَرُ، فلو جَعَلَ اللهُ الطَّلْقَةَ الواحدةَ مَانِعَةً من الرُّجوعِ لعَظُمَتِ المَشَقَّةُ على الإنسانِ بتَقْديرِ أنْ تَظْهَرَ المَحَبَّةُ بعدَ المُفارَقَةِ.
ثم لَمَّا كانَ كَمالُ التجربةِ لا يَحُلُّ بالمَرَّةِ الواحدةِ، فلا جَرَمَ أثْبَتَ تعالى حَقَّ المُراجَعَةِ بعدَ المُفارَقَةِ مَرَّتَيْنِ وبعدَ ذلك فَقَدْ جَرَّبَ الإنسانُ نَفْسَه في تلك المُفارَقَةِ، وعَرَفَ حالَ قَلْبِه في ذلك البابِ، فإنْ كانَ الأصْلَحُ إمساكَها رَاجَعَها وأمْسَكَها بالمَعْروفِ، وإنْ كانَ الأَصْلَحُ له تَسْرِيحَها سَرَّحَها على أحْسَنِ الوُجوهِ، وهذا التدريجُ والترتيبُ يَدُلُّ على كمالِ رَحْمَتِه ورَأْفَتِه بعِبادِه.
9- وقالَ سَيِّدٌ قُطْبٌ: إنَّ الطَّلْقَةَ الأولى مَحَكٌّ وتَجْرِبَةٌ، فأَمَّا الثانيةُ فهي تَجْرِبَةٌ أُخْرَى، فإنْ صَلَحَتِ الحياةُبَعْدَهُما فذاك، وإلاَّ فالطَّلْقَةُ الثالثةُ دَلِيلٌ على فَسادٍ أصيلٍ في حياةِ الزوجِيَّةِ، لا تَصْلُحُ معَه حَياةٌ، فيَحْسُنُ أنْ يَنْصَرِفَ كلاهما إلى التماسِ شَرِيكٍ جَدِيدٍ.
فإنْ طَلَّقَها الزوجُ الآخَرُ فلا جُنَاحَ عليهما أنْ يَتَرَاجعا ولكنْ بشَرْطِ {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} [البقرة: 230].
فَلَيْسَا مَتْرُوكَيْنِ لشَهَواتِهِمَا ونَزَواتِهِما في تَجَمُّعٍ أو تَفَرُّقٍِ، وإنما هي حُدودُ اللهِ تُقامُ بينَهما.