قولُه:
وهذا الدِّينُ هو دِينُ الإسلامِ الذي لا يَقبلُ اللهُ دِيناً غيرَه، لا من الأوَّلين ولا من الآخِرين، فإنَّ جميعَ الأنبياءِ على دِينِ الإسلامِ، قالَ تعالى عن نوحٍ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} إلى قولِه: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}، وقالَ عن إبراهيمَ: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} إلى قولِه: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى قولِه: {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وقالَ عن موسى: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} وقالَ في حواريِّ المسيحِ: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} وقالَ فيمن تَقدَّمَ من الأنبياءِ: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} وقالَ عن بلقيسَ أنها قالتْ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ} فالإسلامُ يَتضمَّنُ الاستسلامَ للهِ وحدَه فمن استسلمَ له ولغيرِه كان مشرِكاً، ومن لم يَستسلمْ له كان مستكبراً عن عبادتِه، والمشركُ به والمستكبرُ عن عبادتِه كافرٌ، والاستسلامُ له وحدَه يَتضمَّنُ عبادتَه وحدَه، وطاعتَه وحدَه فهذا دِينُ الإسلامِ الذي لا يَقبلُ اللهُ غيرَه، وذلك إنما يكونُ بأن يُطاعَ في كلِّ وقتٍ بفِعلِ ما أَمرَ به في ذلك الوقتِ، فإذا أَمرَ في أوَّلِ الأمرِ باستقبالِ الصخرةِ، ثم أَمرَنا ثانياً باستقبالِ الكعبةِ كان كلٌّ من الفعلين حينَ الأمرِ به داخلاً في الإسلامِ، فالدِّينُ هو الطاعةُ والعبادةُ له في الفِعلين، وإنما تَنوَّعَ بعضُ صُوَرِ الفِعلِ وهو وِجهةُ المصلِّي، فكذلك الرسلُ، وإن تَنوَّعَت الشِّرْعَةُ والمنهاجُ والوِجهةُ والمنسكُ فإن ذلك لا يَمنعُ أن يكونَ الدِّينُ واحداً كما لم يُمنعْ ذلك في شريعةِ الرسولِ الواحدِ.
الشرْحُ:
يقولُ الشيخُ: إن دِينَ الأنبياءِ والمرسَلين دِينٌ واحدٌ، وإن كان لكلٍّ منهم شرعةٌ ومنهاجٌ. فدِينُ المرسَلين يُخالفُ دِينَ المشركين المبتدِعين الذين فرَّقُوا دينَهم وكانوا شِيَعاً، قالَ تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ. مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وهذا التوحيدُ هو أصلُ الدِّينِ الذي لا يَقبلُ اللهُ من الأوَّلين والآخرين دِيناً غيرَه. وبه أَرسلَ اللهُ الرسَلَ وأَنزلَ الكُتبَ كما قالَ تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} وأمثالُ ذلك من الآياتِ. وقد ذَكرَ اللهُ عزَّ وجلَّ أن كلَّ واحدٍ من الرسُلِ افتَتحَ دعوتَه بأن قالَ لقومِه: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وفي المسنَدِ عن ابنِ عمرَ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قالَ: (بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللهُ وَحْـَدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ).
واعلمْ أنَّ اللهَ قد خَصَّ نبيَّنَا محمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخصائصَ ميَّزَه بها على جميعِ الأنبياءِ والمرسَلين وجَعلَ له شرْعةً ومِنهاجاً هي أَفضلُ شرعةٍ وأكمَلُ منهاجٍ كما جَعلَ أمَّتَه خيرَ أمَّةٍ أُخرجَتْ للناسِ، فهم يُوفون سبعين أمَّةً هم خيرُها وأكرمُها على اللهِ من جميعِ الأجناسِ. هداهم اللهُ بكتابِه وإرسالِ رسولِه لما اختُلِفَ فيه من الحقِّ قبلَهم، وجعلَهم وسَطاً عدْلاً خِياراً. فهم وسَطٌ في توحيدِ اللهِ وأسمائِه وصفاتِه، وفي الإيمانِ برسلِه وكتبِه وشرائعِ دينِه من الأمْرِ والنهيِ والحلالِ والحرامِ فأمرَهم بالمعروفِ ونهاهم عن المنكرِ وأحَلَّ لهم الطيِّباتِ وحرَّمَ عليهم الخبائثَ، لم يُحرِّمْ عليهم شيئاً من الطيِّباتِ كما حرَّمَ على اليهودِ، ولم يُحلَّ لهم شيئاً من الخبائثِ كما استحلَّتْها النصارى، ولم يُضيِّقْ عليهم بابَ الطهارةِ والنجاسةِ. بينما كانت اليهودُ لا يَرَوْن إزالةَ النجاسةِ بالماءِ بل إذا أصابتْ ثوبَ أحدِهم قَرَضَه بالمِقْرَاضِ. والنصارى ليس عندَهم شيءٌ نَجِسٌ.
وكذلك المسلمون وسَطٌ في الشريعةِ فلم يَجحدوا شِرْعةَ الناسخِ لأجْلِ شِرعةِ المنسوخِ كما فَعلَت اليهودُ، ولا غيَّرُوا شيئاً مِن شَرْعِه المحكَمِ، ولا ابْتَدَعوا شرْعاً لم يَأذَنْ به اللهُ كما فعَلَت النصارى، ولا غَلَوْا في الأنبياءِ والصالحين كَغُلُوِّ النصارَى، ولا بَخَسُوهم حقوقَهم كفِعْلِ اليهودِ، ولا جَعَلُوا الخالِقَ سبحانَه وتعالى متَّصِفاً بخصائصِ المخلوقِ ونقائصِه ومعايبِه من الفقْرِ والبخْلِ والعجْزِ كفعْلِ اليهودِ، ولا المخلوقَ متَّصِفاً بخصائصِ الخالقِ سبحانَه التي ليس كمثلِه فيها شيءٌ كفِعْلِ النصارى، ولم يَستكبروا عن عبادتِه كفِعلِ اليهودِ، ولا أَشركوا بعبادتِه أحداً كفعْلِ النصارى.
وأهلُ السنَّةِ والجماعةِ في الإسلامِ كأهْلِ الإسلامِ في أهْلِ المِلَلِ، فهم وسَطٌ في بابِ صفاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ بين أهلِ الجَحْدِ والتعطيلِ وبين أهلِ التشبيهِ والتمثيلِ. يَصفون اللهَ بما وَصفَ به نفسَه وبما وَصفَه به رسولُه من غيرِ تعطيلٍ ولا تمثيلٍ، إثباتاً لصفاتِ الكمالِ، وتنزيهاً له عن أن يكونَ له فيها أندادٌ وأمثالٌ.
فالإسلامُ بهذا المفهومِ العامِّ متضمِّنٌ للانقيادِ التامِّ والطاعةِ الكاملةِ للهِ وحدَه دُونَ من سِواه. وحينئذٍ فمن انقادَ لغيرِه وعبَدَه فهو غيرُ مسلِمٍ له، بل هو مستكبِرٌ عن الاستسلامِ له وجاحدٌ لألوهيَّتِه، كما أن من عَبدَه وعَبدَ غيرَه مشرِكٌ به سواه وغيرُ مستسلمٍ له. وكلٌّ من المتكبِّرِ عن عبادتِه والمشرِكِ به غيرُ مسلِمٍ، فإن الاستسلامَ له سبحانَه يَستلزمُ عبادتَه وطاعتَه وحدَه لا شريكَ له، فالدِّينُ الذي لا يَقبلُ اللهُ من جميعِ الأُمَمِ سواه هو الإسلامُ بهذا المعنى. وحقيقةُ الأمْرِ أن طاعتَه في كلِّ حينٍ هي الإسلامُ: فمَثلاً ما شَرَعَه اللهُ لموسَى وعيسَى من العبادةِ وإن اخْتَلفَ عما شرَعَه اللهُ لنبيِّنا محمَّدٍ عليهم الصلاةُ والسلامُ بأن اختَلَفَتْ في كيفيَّةِ عِبادةٍ أو تحليلِ شيءٍ كان مُحرَّماً أو تحريمِ شيءٍ كان حلالاً، فتَختلِفُ في شريعةِ رسولٍ عنها في شريعةِ رسولٍ آخَرَ، إلا أن الأصْلَ واحدٌ وهو: الاستسلامُ للهِ بالتوحيدِ, والانقيادُ له بالطاعةِ. قالَ تعالى: {وَمَا أَرسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} فهذا الاختلافُ في المنهجِ مع الاتِّفاقِ في الأصْلِ حاصلٌ ما بينَ شريعةٍ وشريعةٍ كما يَحصُلُ في شريعةِ الرسولِ الواحدِ. فأمْرُ الرسولِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) باستقبالِ الصخرةِ في بيتِ المقدِسِ، وامتثالُه لذلك طاعةٌ وإسلامٌ قبلَ النسخِ، ثم أمْرُه بالتحوُّلِ إلى استقبالِ الكعبةِ بالبيتِ الحرامِ وامتثالُه لذلك طاعةٌ وإسلامٌ. والشاهِدُ من آيةِ يونسَ وآياتِ البقرةِ وأيضاً آيةُ يونسَ وآيَتَي المائدةِ الشاهدُ من الجميعِ: أن جميعَ الرُّسُلِ جاءُوا بدينِ الإسلامِ الذي هو التوحيدُ.
(وسَفِهَ نَفْسَهَ): جَهِلَها (والحواريُّون) هم أصفياءُ عيسى، وأنصارُ دينِه وأوَّلُ من آمَنَ به. (والمسيحُ) هو عيسى ابنُ مريمَ عليه السلامُ وسُمِّيَ بذلك لأنه مَسَحَ الأرضَ أي ذَهبَ فيها فلم يَستكِنْ بِكِنٍّ، أو لأنه كان لا يَمسحُ ذا عاهةٍ إلا بَرئَ فسُمِّيَ مسيحاً، فهو على هذين فَعيلٌ بمعنى فاعلٍ، أو لأنه كان ممسوحَ الأُخْمُصَين، أو لأنه مُسحَ بالتطهيرِ من الذنوبِ وهو على هذين القولين فعيلٌ بمعنى مفعولٍ. وأما (الدَّجَّالُ) فسُمِّي مسيحاً لأنه ممسوحُ إحدى العينين، وقيل لأنه يَمسحُ الأرضَ أي يطوفُ ببُلدَانِها إلا مكَّةَ والمدينةَ وبيتَ المقدِسِ. (وَبِلْقِيسُ) هي بنتُ شُرَحْبِيلَ ملكةُ سبأٍ بمدائنِ اليمنِ.
(وَالْمَنْسَكُ) هو العبادةُ عموماً فيَشملُ الحَجَّ وغيرَه.
قولُه:
واللهُ تعالى جَعلَ من دِينِ الرسُلِ، أن أوَّلَهم يُبَشِّرُ بآخِرِهم ويُؤمنُ به، وآخرُهم يصدِّقُ بأوَّلِهم ويُؤمِنُ به، قالَ اللهُ تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} قالَ ابنُ عبَّاسٍ: (لم يَبعث اللهُ نبيًّا إلا أَخذَ عليه المِيثاقَ، لئن بُعثَ محمَّدٌ وهو حيٌّ ليؤمنَنَّ به وليَنصرنَّه، وأَمرَه أن يأخذَ الميثاقَ على أُمَّتِه لئن بُعثَ محمَّدٌ وهم أحياءٌ ليؤمنُنَّ به وليَنصرُنَّه). وقالَ تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} وجَعلَ الإيمانَ بهم مُتلازِماً وكَفَّرَ من قالَ إنه آمنَ ببعضٍ وكَفرَ ببعضٍ قالَ اللهُ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا}، وقالَ تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ منْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةَ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
وقد قالَ لنا: {قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فِإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فِإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فأَمَرَنا أن نقولَ: آمَنَّا بهذا كلِّه، ونحن له مسلمون، فمن بلَغَتْه رسالةُ محمَّدٍ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) فلم يُقِرَّ بما جاءَ به لم يكنْ مسلِماً ولا مؤمناً، بل يكونُ كافراً وإن زَعَمَ أنه مسلِمٌ أو مؤمنٌ، كما ذَكَروا أنه لمَّا أَنزلَ اللهُ تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} قالت اليهودُ والنَّصارى فنحن مسلِمون، فأَنزلَ اللهُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فقالوا: لا نَحُجُّ فقالَ تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فِإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} فإن الاستسلامَ للهِ لا يَتمُّ إلا بالإقرارِ بما له على عبادِه من حِجِّ البيتِ، كما قالَ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (بُنِيَ الْإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ وَإِقَامُ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَحِجُّ الْبَيْتِ) ولهذا لما وَقفَ النبيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بعرفةَ أَنزلَ اللهُ تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُم نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِيناً}.
الشرْحُ:
يعني أن اللهَ سبحانَه قد جَعلَ من ضِمنِ ما شرَعَه لعبادِه أن السابقَ من الإنبياءِ يُبشِّرُ باللاحِقِ، وأن المتأخِّرَ يؤمِنُ بالمتقدِّمِ كما في قولِه: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} الآيةُ. وكما في الحديثِ الذي رواه الإمامُ أحمدُ بسندِه. عن أبى أمامةَ قالَ: قُلتُ يا رسولَ اللهِ ما كان بَدءُ أمرِكَ؟ قالَ: (دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ ) وكما في الأثَرِ الذي رَواهُ الإمامُ أحمدُ أيضاً بسندِه إلى عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ في قصَّةِ وفْدِ قريشٍ إلى النجاشيِّ في طلَبِ المهاجِرينَ إلى الحبشةِ وفيه قالَ جعفرُ بنُ أبي طالِبٍ: (أنا خطيبُكم اليومَ فاتَّبَعوه، فسلَّمَ ولم يَسجُدْ فقالوا له: ما لك لا تَسجدُ للملِكِ؟ قالَ: إنَّا لا نَسجدُ لأحدٍ إلا للهِ عزَّ وجلَّ، وأمرَنا بالصلاةِ والزكاةِ قالَ عمرُو بنُ العاصِ: فإنهم يُخالفونك في عيسى ابنِ مريمَ. قالَ: ما تقولون في عيسى ابنِ مريمَ وأمِّه؟ قالَ: نقولُ كما قالَ عزَّ وجلَّ: هو كلمةُ اللهِ ورُوحُه ألقاها إلى العذراءِ البتولِ التي لم يَمسَّها بشرٌ. قالَ: فرفَعَ عُوداً من الأرضِ ثم قالَ: يا معشرَ الحبشةِ والقسِّيسين والرهبانِ واللهِ ما يزيدون على الذي نقولُ فيه ما يُساوي هذا. مرحباً بكم وبمن جِئتُم من عندِه أَشهدُ أنه رسولُ اللهِ وأنه الذي نَجدُ في الإنجيلِ وأنه الذي يُبشِّرُ به عيسى ابنُ مريمَ انزِلوا حيثُ شِئتُم). وكما أن السابقَ يبشِّرُ باللاحقِ ويؤمنُ به فاللاحقُ يصدِّقُ السابقَ ويؤيدُه. كما في آيةِ المائدةِ التي استشْهَدَ بها المؤلِّفُ وأمثالِها من الآياتِ.
وقد جَعلَ اللهُ الإيمانَ بالرسُلِ مرتبِطاً بعضُه ببعضٍ، فمن فرَّقَ بينَهم في الإيمانِ فليس بمؤمنٍ بأحدٍ منهم كما دلَّ على ذلك آيةُ النساءِ وآيتا البقرةِ ومثلُهما آيةُ آلِ عمرانَ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} الآيةُ. وحينئذٍ فمن جُملةِ الرُّسُلِ نبيُّنا محمَّدٌ عليه وعليهم الصلاةُ والسلامُ وقد أَخذَ اللهُ على جميعِ من سَبقَه من الأنبياءِ أن يُؤمنوا به وأن يَأخذوا العهْدَ على أُمَمِهم بالإيمانِ به، كما في آيةِ آلِ عِمرانَ. وقد ذَكرَ المؤلِّفُ أَثَر ابنِ عبَّاسٍ كشاهِدٍ على معنى الآيةِ الكريمةِ وقد رَوى هذا الأثرَ ابنُ جريرٍ وغيرُه عن ابنِ عبَّاسٍ - رضيَ اللهُ عنهما - ومثلُه ما رواه ابنُ جريرٍ أيضاً عن عليٍّ - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: (لم يَبعَث اللهُ نبيًّا - آدمَ فمن بعدَه - إلا أَخذَ عليه العهْدَ في محمَّدٍ لئن بُعثَ وهو حيٌّ ليؤمنَنَّ به ولينْصرَنَّه ويأمرُه فيَأخذُ العهْدَ على قومِه ثم تَلا: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} الآيةَ).
وإذاً فعَلى جميعِ من بلغَتْه رسالةُ خاتَمِ الرسُلِ محمَّدٍ عليه الصلاة والسلام أن يؤمِنَ بمقتضاها، وأن لا يؤمنَ ببعضِ الكتابِ ويكفرَ ببعضٍ. وقد حَكمَ اللهُ على اليهودِ والنصارى حين زَعموا الإسلامَ وأُمِروا بالحَجِّ فامتَنَعوا بقولِه: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} وهذا الأثَرُ رواه ابنُ جريرٍ والبيهقيُّ في سُننِه عن عِكرمةَ ولفظُه: قالَ لما نَزلتْ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلاَمِ دِيناً} قالت اليهودُ والنصارى: فنحن مسلِمون فقالَ لهم النبيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): إِنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حِجَّ الْبَيْتِ، فقالوا: أَيكتبُ علينا، وأَبَوْا أن يَحُجُّوا. قالَ اللهُ: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَن الْعَالَمِينَ} وذلك أن حِجَّ بيْتِ اللهِ الحرامِ أحَدُ أركانِ الإسلامِ الخمسةِ كما في حديثِ ابنِ عمرَ الذي رواه البخاريُّ ومُسلِمٌ. فقد خَتمَ اللهُ الأنبياءَ بمحمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) وأَكملَ له ولأمَّتِه الدِّينَ كما في آيةِ المائدةِ. وقولُه: (ولهذا لما وَقفَ النبيُّ بعرفةَ ) يُشيرُ إلى ما رواه البخاريُّ ومسلِمٌ عن طارقِ بنِ شهابٍ قالَ: قالت اليهودُ لعمرَ: إنكم تَقرؤُون آيةً في كتابِكم لو علينا مَعشرَ اليهودِ نَزلتْ لاتَّخَذْنا ذلك اليومَ عِيداً. قالَ: وأيَّةُ آيةٍ؟ قالوا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} قالَ عمرُ: واللهِ إني لأعلَمُ اليومَ الذي نَزلتْ فيه على رسولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) والساعةَ التي نَزلتْ فيها. نَزلتْ على رسولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عشيَّةَ عرفةَ في يومِ جُمُعةٍ.
(وأَقَرْرْتُمْ) هو من الإقرارِ بمعنى الاعترافِ. (والإِصْرُ) في اللغةِ: الثِّقَلُ سُمِّيَ العهْدُ إصراً لما فيه من التشديدِ، والمعنى وأَخذتم على ذلك عهْدِي. (والأسباطُ): هم أوْلادُ يعقوبَ وهم اثْنَا عشَرَ ولَداً وكلُّ واحدٍ منهم له من الأوْلادِ جماعةٌ. (والسِّبْطُ) في بني إسرائيلَ بمنزلةِ القبيلةِ في العربِ، وسُمُّوا الأسباطَ من السِّبْطِ وهو التتابعُ فهم جماعةٌ مُتتابعون.
وقولُه: (لم يكنْ مسلِماً ولا مؤمناً): يُشيرُ إلى أن من لم يُؤمنْ بجميعِ ما بُعثَ به (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فليس بمسلِمٍ، وبطريقِ الأوْلى نفيُ الإيمانِ عنه؛ لأن الإسلامَ يُفسَّرُ بالأعمالِ الظاهرةِ والإيمانُ يُفسَّرُ بالأعمالِ الباطنةِ كما فرَّقَ النبيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) في حديثِ جبريلَ عليه السلام بينَ مُسمَّى الإسلامِ ومُسمَّى الإيمانِ. وهذا إنما هو إذا ذُكِرا جميعاً، وأما إذا ذُكرَ أحدُهما فقط فإن الآخَرَ يَدخلُ فيه، كما في قولِه تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآيةُ وكما في قولِه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في الحديثِ الذي رَواه البخاريُّ ومسلِمٌ عن أبي موسى عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: (مَثلُ المؤمنِ الذي يَقرأُ القرآنَ مِثلُ الأُتْرُجَّةِ طعْمُها طيِّبٌ وريحُها طيِّبٌ) الحديثُ. فالإسلامُ داخِلٌ في مُسمَّى الإيمانِ. ومِثالُ دخولِ الإيمانِ في مُسمَّى الإسلامِ قولُه تعالى:{وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}.
فالحاصِلُ أن دِينَ الأوَّلين والآخِرين من الأنبياءِ وأتباعِهم هو دينُ الإسلامِ وهو عبادةُ اللهِ وحدَه لا شريكَ له. وعبادتُه تعالى في كلِّ زمانٍ ومكانٍ تكونُ بطاعةِ رسُلِه عليهم السلامُ فلا يكونُ عابداً له مَن عبدَه بخلافِ ما جاءَتْ به رسلُه، ولا يكونُ مؤمناً به ولا عابداً له إلا من آمنَ بجميعِ رُسلِه وأَطاعَ من أُرسِلَ إليه فيُطاعُ كلُّ رسولٍ إلى أن يأتيَ الذي بعدَه فتكونُ الطاعةُ للرسولِ الثاني طاعةً للأوَّلِ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ}. قالَ تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} ومن فرَّقَ بينَ رسلِه فآمنَ ببعضٍ وكَفَرَ ببعضٍ كان كافراً.
قولُه:
وقد تَنازعَ الناسُ فيمن تَقدَّمَ من أمَّةِ موسى وعيسى: هل هم مسلِمون أَمْ لا؟ وهو نِزاعٌ لفْظيٌّ، فالإسلامُ الخاصُّ الذي بَعثَ اللهُ به محمَّداً (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) المتضمِّنُ لشريعةِ القرآنِ ليس عليه إلا أمَّةُ محمَّدٍ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). والإسلامُ اليومَ عندَ الإطلاقِ يَتناوَلُ هذا، وأما الإسلامُ العامُّ المتناوِلُ لكلِّ شريعةٍ بَعثَ اللهُ بها نبيًّا فإنه يتناوَلُ إسلامَ كلِّ أمَّةٍ متَّبِعةٍ لنبيٍّ من الأنبياءِ، ورأسُ الإسلامِ مطلَقاً شهادةُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهُ وبها بُعثَ جميعُ الرسلِ، كما قالَ تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وقالَ تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقالَ عن الخليلِ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وقالَ تعالى عنه: {أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ}، وقالَ تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ} وقالَ تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وذَكرَ عن رسلِه كنوحٍ وهودٍ وصالحٍ وغيرِهم. أنهم قالوا لقومِهم: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}. وقالَ عن أهلِ الكهفِ: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} إلى قولِه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً}.
الشرْحُ:
يقولُ الشيخُ: اختلَفَ العلَماءُ في جوازِ إطلاقِ اسمِ الإسلامِ على من سَبقَ الأمَّةَ المحمَّديَّةَ من الأُمَمِ. والخلافُ في الحقيقةِ ما هو إلا لفظيٌّ؛ فإن الجميعَ متَّفِقون على أن كلَّ أمَّةٍ أطاعَتْ رسولَها الذي جاءَها بشرْعِ اللهِ فهي مسلِمةٌ منقادةٌ لأمْرِ اللهِ خاضعةٌ لشرعِه الذي شرَعَه على لسانِ ذلك الرسولِ المرسَلِ؛ فإن الإسلامَ دينٌ والدِّينُ مصدَرُ دَانَ يَدينُ دِيناً إذا خَضعَ وذَلَّ. ودِينُ الإسلامِ الذي ارْتضاه اللهُ وبَعثَ به رسلَه هو الاستسلامُ للهِ وحدَه فأصْلُه في القلبِ الخضوعُ للهِ بعبادتِه وحدَه دونَ ما سواه، فمن عَبدَه وعَبدَ معه إلهاً آخَرَ لم يكنْ مسلِماً؛ ومن لم يَعبدْه بل استَكبرَ عن عبادتِه لم يكن مسلِماً.