قولُهُ:
وَقَارَبَهُمْ طائفةٌ من الفلاسفةِ وأَتْبَاعِهِمْ، فَوَصَفُوهُ بالسُّلُوبِ والإضافاتِ دونَ صفاتِ الإثباتِ، وجَعَلُوهُ هو الوجودَ المُطْلَقَ بِشَرْطِ الإطلاقِ، وقدْ عُلِمَ بصريحِ العقلِ أنَّ هذا لا يَكُونُ إلاَّ في الذِّهْنِ، لاَ فِيمَا خَرَجَ عنهُ من الموجوداتِ، وجعَلوا الصفةَ هي الموصوفَ، فَجَعَلُوا العلمَ عينَ العالِمِ مُكَابَرَةً لِلْقَضَايَا الْبَدِيهِيَّاتِ، وجعَلوا هذهِ الصفةَ هي الأُخْرَى، فَلَمْ يُمَيِّزُوا بينَ العِلْمِ والقُدْرَةِ والمَشِيئَةِ؛ جَحْداً للعلومِ الضروريَّاتِ.
الشرحُ:
يعني أنَّ الفلاسفةَ الإِلَهِيِّينَ – أمثالَ أَرِسْطُو – ليسَ مِن أصلِهِم وَصْفُ اللهِ بصفاتِ الإثباتِ، بلْ إنَّمَا يَصِفُونَهُ بالسُّلوبِ أو الإضافاتِ.
وقولُهُ:" وَأَتْبَاعُهُمْ " يعني كباطنيَّةِ الشِّيعَةِ – أمثالِ ابنِ سيناءَ– وباطنيةِ الصوفيَّةِ – أمثالِ ابنِ عَرَبِيٍّ.
(والسلوبُ) جَمْعُ سَلْبٍ، والسَّلْبُ هو النَّفْيُ، وذلكَ مِثْلَ قولِهِم: (إنَّ اللهَ ليسَ بِجِسْمٍ ولا عَرَضٍ ولا مُتَحَيِّزٍ).
(والإِضَافَاتُ): هي الأمورُ المُتَضَايِفَةُ التي لا يُعْقَلُ الواحدُ منها إلا بِتَعَقُّلِ مُقَابِلَهُ، وذلكَ مثلَ قولِهم: (إنَّ اللهَ مَبْدَأُ الكائناتِ وَعِلَّةُ الموجوداتِ).
وقولُهُ: (دُونَ صِفَاتِ الإثباتِ) يعني:أنَّ اللهَ في زَعْمِهِم مُجَرَّدٌ عن جميعِ الصفاتِ الثُّبُوتِيَّةِ، ليس له حَيَاةٌ، ولا عِلْمٌ، ولا قُدْرَةٌ، ولا كلامٌ.
وقولُهُ:(وَجَعَلُوهُ هو الوجودَ المُطْلَقَ بِشَرْطِ الإطلاقِ) يعني:أنَّ مُنْتَهَى قولِهِم: " إنَّ وجودَ اللهِ مشروطٌ بِسَلْبِ كُلِّ أَمْرٍ ثُبُوتِيٍّ وعَدَمِيٍّ أو بِسَلْبِ الأمورِ الثُّبُوتِيَّةِ "،كما يَقُولُ بعضُهم، ومعلومٌ بصريحِ العقلِ الذي لم يَكْذِبْ قطُّ أنَّ هذهِ الأقوالَ باطلةٌ مُتَنَاقِضَةٌ، وهذا معنى قولِ المُؤَلِّفِ: (وقد عُلِمَ بصريحِ العقلِ أنَّ هذا لا يكونُ إلا في الذِّهْنِ لا فيما خَرَجَ عنهُ مِن الموجوداتِ)، ففيهِ إضافةُ الصفةِ إلى الموصوفِ.
ومعنى هذا أنَّ مَن سُلِبَتْ عنهُ الصفاتُ الثُّبُوتِيَّةُ والعَدَمِيَّةُ لا وُجُودَ لهُ في الواقعِ والخارجِ المُشَاهَدِ، وإنَّمَا يَتَصَوَّرُهُ الذِّهْنُ فقط.
والوجودُ المُطْلَقُ ومِثْلُهُ الإنسانُ المُطْلَقُ والحيوانُ المُطْلَقُ، والجِسْمُ المُطْلَقُ، ونحوَ ذلكَ مِن الحقائقِ إنَّمَا تُوجَدُ في الأذهانِ، ولا وجودَ لها في الأعيانِ، وإنما الذي يوجدُ في الشاهدِ هو الأفرادُ، مثلَ زيدٍ وعمرٍو وشِبْهِ ذلكَ، وإذا جَعَلُوا اللهَ هو الوجودَ المُطْلَقَ بشرطِ الإطلاقِ لمْ يَجُزْ أنْ يُنْعَتَ بنعتٍ يُوجِبُ امتيازَهُ، فلا يُقَالُ: هو واجبٌ بنفسِهِ، ولا ليس واجِباً بنفسِهِ، فلا يُوصَفُ بِنَفْيٍ ولا إثباتٍ؛ لأنَّهذا نوعٌ من التمييزِ والتقييدِ، وهذا حقيقةُ قولِ القَرَامِطَةِ وأَشْبَاهِهِمْ، وهذا معنى قولِ المُؤَلِّفِ فيما سَبَقَ عنهم: (وَقَارَبَهُم طائِفَةٌ من الفلاسفةِ) فهذا وَجْهُ مُقَارَبَتِهِم إيَّاهُم في هذا المَذْهَبِ، حيثُ يَمْتَنِعُونَ عن وصفِهِ بالنَّفْيِ والإثباتِ، ومعلومٌ أنَّ الخُلُوَّ مِن النقيضَيْنِ مُمْتَنِعٌ، كما أنَّ الجَمْعَ بينَ النَّقِيضَيْنِ مُمْتَنِعٌ، فَلَزِمَهُمْ أنْ يكونَ الوجودُ الواجبُ الذي لا يَقْبَلُ العَدَمَ هو المُمْتَنِعَ الذي لا يُتَصَوَّرُ وجودُهُ في الخارجِ، وإنَّمَا يُقَدِّرُهُ الذِّهْنُ تقديراً، كما يُقَدِّرُ كَوْنَ الشيءِ موجوداً مَعْدُومًا، أو لا موجوداً, ولا معدوماً، فَلَزِمَهُم الجَمْعُ بين النقيضَيْنِ، والخُّلُوُّ عن النقيضَيْنِ, وهذا مِن أَعْظَمِ المُمْتَنِعَاتِ.
(والمُطْلَقُ) هو ما دَلَّ على الحقيقةِ، بلا قَيْدٍ، فهو يتناوَلُ واحداً لا بِعَيْنِهِ من الحقيقةِ – (والمُقَيَّدُ) هو ما دَلَّ على الحقيقةِ بِقَيْدٍ، فالمُطْلَقُ هو الذي لا يَتَقَيَّدُ بصفةٍ أو شرطٍ.
وقولُهُ: (وَجَعَلُوا الصِّفَةَ هي الأُخْرَى) إلخ؛ يَعْنِي: أنَّ جَعْلَ عَيْنِ العِلْمِ عَيْنَ القُدْرَةِ، ونَفْسِ القدرةِ هي نَفْسَ الإرادةِ، ونَفْسِ الحياةِ هي نفسَ العلمِ والقدرةِ، ونفسِ العلمِ نفسَ الفعلِ والإبداعِ، ونحوَ ذلكَ؛ معلومُ الفسادِ بالضرورةِ؛ فإنَّ هذه حقائقُ مُتَنَوِّعَةٌ فإذا جُعِلَتْ هذه الحقيقةُ هي تلكَ, كان بمنزلةِ مَن يقولُ: إنَّ حقيقةَ السَّوادِ هي حقيقةُ الطَّعْمِ، وحقيقةَ الطَّعْمِ هي حقيقةُ اللونِ، وأمثالَ ذلكِ مِمَّا يَجْعَلُ الحقائقَ المتنوعةَ حقيقةً واحدةً؛ ومِن المعلومِ أنَّ القائمَ بنفسِهِ ليس هو القائمَ بغيرِهِ، والجسمَ ليس هو العَرَضَ، والموصوفَ ليس هو الصفةَ، والذاتَ ليستْ هي النعوتَ، فمن قال: إنَّ العالِمَ هو العِلْمُ، والعلمَ هو العالمُ، فَضَلاَلُهُ بَيِّنٌ، فالتفريقُ بينَ الصفةِ والموصوفِ مُسْتَقِرٌّ في كُلِّ الفِطَرِ والعُقُولِ وَلُغَاتِ الأُمَمِ، فَمَنْ جَعَلَ أَحَدَهُمَا هو الآخرَ كانَ قد أَتَى مِن السَّفْسَطَةِ بِمَا لا يَخْفَى على مَن يَتَصَوَّرُ ما يقولُ، وَجَحَدَ ما هو معلومٌ بالضرورةِ.
(والقضايا) هي موادُّ البُرْهَانِ وأصولُهُ.