(1)
قولُهُ: (مَنْ أَطَاعَ الْعُلَمَاءَ) (مَنْ) يُحْتَمَلُ أنْ تكونَ شرطيَّةً؛ بدليلِ قولِهِ:
(فَقَد اتَّخَذَهُم) لأنَّها جوابُ الشرطِ، ويُحتَمَلُ أنْ تكونَ موصولةً، أيْ: بابُ الذي أطاعَ العلماءَ.
وقولُهُ: (فَقَد اتَّخَذَهُمْ) خبرُ المبتدأِ، وقُرِنَتْ بالفاءِ؛ لأنَّ الاسمَ الموصولَ كالشرطِ في العمومِ، وعلى الأوَّلِ تُقْرَأُ (بابٌ) بالتنوينِ، وعلى الثاني بدُونِ تنوينٍ، والأوَّلُ أحسنُ.
والمرادُ بالعلماءِ: العلماءُ بشرعِ اللَّهِ، وبالأُمَرَاءِ: أُولُو الأمرِ المُنَفِّذُونَ لهُ.
وهذانِ الصِّنْفَانِ هما المذكورانِ في قولِهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} فجعلَ اللَّهُ طاعتَهُ مستقلَّةً، وطاعةَ رسولِهِ مستقِلَّةً، وطاعةَ أُولِي الأمرِ تابعةً، ولهذا لمْ يُكرِّر الفعلَ {أَطِيعُوا} فلا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالقِ.
وأُولُو الأمرِ همْ أُولُو الشأنِ، وهم العلماءُ؛ لأنَّهُ يُسْتَنَدُ إليهمْ في أمرِ الشرعِ والعلمِ بهِ، والأُمَرَاءُ؛ لأنَّهُ يُسْتَنَدُ إليهِمْ في تنفيذِ الشرعِ وإمضائِهِ، وإذا استقامَ العلماءُ والأمراءُ استقامت الأمورُ، وبفسادِهِمْ تَفْسُدُ الأمورُ؛ لأنَّ العلماءَ أهلُ الإرشادِ والدلالةِ، والأمراءُ أهلُ الإلزامِ والتنفيذِ.
قولُهُ: (في تحريمِ ما أحلَّ اللَّهُ) أيْ: في جعْلِهِ حرامًا، أيْ: عقيدةً أوْ عملاً، (أوْ تحليلِ ما حرَّمَ اللَّهُ) أيْ: في جعْلِهِ حلالاً عقيدةً أوْ عملاً، فتحريمُ ما أحلَّ اللَّهُ لا يَنْقُصُ درجةً في الإِثْمِ عنْ تحليلِ ما حرَّمَ اللَّهُ.
وكثيرٌ مِنْ ذَوِي الغَيْرَةِ من الناسِ تجدُهُمْ يميلونَ إلى تحريمِ ما أحلَّ اللَّهُ، أكثرَ مِنْ تحليلِ الحرامِ، بعكسِ المُتَهَاوِنِينَ، وكِلاهُمَا خَطَأٌ، ومعَ ذلكَ فإنَّ تحليلَ الحرامِ فيما الأصلُ فيهِ الحِلُّ أهْوَنُ منْ تحريمِ الحلالِ؛ لأنَّ تحليلَ الحرامِ إذا لمْ يتَبَيَّنْ تحريمُهُ فهوَ مَبْنِيٌّ على الأصلِ وهوَ الحلُّ، ورحمةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ سَبقَتْ غضبَهُ، فلا يُمْكِنُ أنْ نُحَرِّمَ إلا ما تَبَيَّنَ تحريمُهُ؛ ولأنَّهُ أضيقُ وأشدُّ، والأصلُ أنْ تبقَى الأمورُ على الحِلِّ والسَّعَةِ حتَّى يتبيَّنَ التَّحْرِيمُ.
أمَّا في العباداتِ فَيُشَدَّدُ؛
لأنَّ الأصلَ المنعُ والتحريمُ حتَّى يُبَيِّنَهُ الشرعُ، كما قيلَ:
والأصلُ في الأشياءِ حِلٌّ وامنعِ عــبــادةً
إلــَّا بــــإِذْنِ الـــشارعِ
قولُهُ: (أَرْبَابًا) جمعُ ربٍّ، وهوَ: المُتَصَرِّفُ المالكُ.
والتصرُّفُ نوعانِ:
- تَصَرُّفٌ قَدَرِيٌّ.
- وتَصَرُّفٌ شرعيٌّ.
فمَنْ أطاعَ العلماءَ في مخالفةِ أمرِ اللَّهِ ورسولِهِ فقد اتَّخَذَهُمْ أربابًا مِنْ دونِ اللَّهِ باعتبارِ التصرُّفِ الشرعيِّ؛ لأنَّهُ اعتبرَهُمْ مشرِّعينَ، واعتبرَ تشريعَهم شرعًا يُعْمَلُ بِهِ، وبالعكسِ الأمراءُ.
(2)
قولُ
ابنِ عبَّاسٍ: (حِجارةٌ مِن السَّماءِ) أيْ: مِنْ فَوْقٍ، تَنْزِلُ عليكُمْ عقوبةً لكُمْ؛ ونُزُولُ الحجارةِ مِن السماءِ ليسَ بالأمرِ المستحيلِ، بلْ هوَ مُمْكِنٌ، قالَ تعالى في أصحابِ الفيلِ: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} وقالَ تعالى في قومِ لوطٍ: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ}وَالْحَاصِبُ: الحجارةُ تَحْصِبُهُمْ من السماءِ.
قولُهُ: (أقولُ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، وتقولونَ: قالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ) أبو بكرٍ وعمرُ أفضلُ هذهِ الأُمَّةِ، وأقرَبُها إلى الصوابِ، قالَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: ((إِنْ يُطِيعُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشُدُوا)) رواهُ مسلمٌ، ورُوِيَ عنهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّهُ قالَ: ((اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي؛ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ)).
وقالَ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ:((عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ))ولم يُعْرَفْ عنْ أبي بكرٍ وعمرَ أنَّهما خَالَفَا نصًّا برأْيِهِمَا، فإذا كانَ قولُ أبي بكرٍ وعُمرَ إذا عارضَ الإنسانُ بقولِهِمِا قولَ الرسولِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فإنَّهُ يُوشِكُ أنْ تَنْزِلَ عليهِ حجارةٌ من السماءِ، فما بالُكَ بمَنْ يُعَارِضُ قولَهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بمَنْ هوَ دونَ أبي بكرٍ وعمرَ، والفَرْقُ بينَ ذلكَ كما بينَ السماءِ والأرضِ، فيكونُ هذا أقربَ للعقوبةِ.
وفي الأثَرِ:
التحذيرُ من التقليدِ الأعمى والتَّعَصُّبِ المذهبيِّ.
وبعضُ الناسِ يرتكبُ خطأً فاحشًا،
إذا قيلَ لهُ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، قالَ: لكنْ في الكتابِ الفلانيِّ كذا وكذا، فعليهِ أنْ يتَّقِيَ اللَّهَ الذي قالَ في كتابِهِ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} ولمْ يقُلْ: ماذا أجبْتُمْ فلانًا وفلانًا ؟
أمَّا صاحبُ الكتابِ فإنَّهُ إنْ عُلِمَ أنَّهُ يُحِبُّ الخيرَ، ويُرِيدُ الحقَّ، فإنَّهُ يُدْعَى لهُ بالمغفرةِ والرحمةِ إذا أخطأَ، ولا يُقَالُ: إنَّهُ معصومٌ، يُعَارَضُ بقولِهِ قولُ الرسولِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ.
(3)
قولُ
أحمدَ رَحِمَهُ اللَّهُ: (عَجِبْتُ):العَجَبُ نَوْعَانِ:
الأوَّلُ: عَجَبُ استحسانٍ، كما في حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها: (كَانَ الرسولُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يُعْجِبُهُ التيامُنُ في تَنَعُّلِهِ وترَجُّلِهِ وطُهُورِهِ وفي شأْنِهِ كُلِّهِ).
الثاني:
عجبُ إنكارٍ،
كما في قولِهِ تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ}، والعَجَبُ في كلامِ الإمامِ أحمدَ هنا عجبُ إنكارٍ.
قولُهُ: (الإسنادَ) المرادُ بهِ هنا رجالُ السندِ، لا نِسْبَةُ الحديثِ إلى رَاوِيهِ، أيْ: عَرَفوا صحَّةَ الحديثِ بمعرفةِ رجالِهِ.
قولُهُ: (يَذْهَبُونَ إِلى رَأْيِ سُفيانَ) أيْ: سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ؛ لأنَّهُ صاحبُ المذهبِ المشهورِ، ولهُ أتباعٌ لكنَّهم انقَرَضُوا، فهم يذْهَبُونَ إلى رأيِ سفيانَ، هُوَ مِن الفقهاءِ، ويتركونَ ما جاءَ بهِ الحديثُ.
قولُهُ: (واللَّهُ يقولُ: {فَلْيَحْذَرِ}) الفاءُ عاطفةٌ، واللامُ للأمرِ، ولهذا سُكِّنَتْ وجُزِمَ الفعلُ بها، لكنْ حُرِّكَ بالكسرِ لالتقاءِ الساكنيْنِ.
قولُهُ: {عَنْ أَمْرِهِ} الضميرُ يعودُ للرسولِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ؛ بدليلِ أوَّلِ الآيةِ، قالَ تعالى: {لاتَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}.
فإنْ قيلَ:
لماذا عُدِّيَ الفعلُ بِـ{عنْ} معَ أنَّ (يُخَالِفُ) يتعدَّى بنفسِهِ ؟
أُجِيبُ: إنَّ الفعلَ ضُمِّنَ معنى الإعراضِ، أيْ: يُعْرِضُونَ عنْ أمرِهِ زُهْدًا فيهِ وعدمَ مُبَالاةٍ بهِ، و{أَمْرِهِ} واحدُ الأوامرِ، وليسَ واحدَ الأُمُورِ؛ لأنَّ الأمرَ هوَ الذي يُخَالَفُ فيهِ، وهو مُفْرَدٌ مُضَافٌ، فَيَعُمُّ جميعَ الأوامرِ.
{فتنةٌ} الفتنةُ فسَّرَهَا الإمامُ أحمدُ بالشركِ، وعلى هذا يكونُ الوعيدُ بأحدِ أمرَيْنِ: إمَّا الشركُ، وإمَّا العذابُ الأليمُ.
(4)
قولُهُ في حديثِ
عَدِيِّ بنِ حاتمٍ: {اتَّخَذُوا}، الضميرُ يعودُ للنصارى؛ لأنَّ اليهودَ لم يتَّخِذُوا المسيحَ ابنَ مريمَ إِلَهًا، بل ادَّعَوْا أنَّهُ ابنُ زانيةٍ وحاوَلُوا قتْلَهُ، وادَّعَوْا أنَّهم قتَلُوهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يعودَ الضميرُ لليهودِ والنصارى جميعًا، ويَخْتَصُّ النصارى باتِّخَاذِ المسيحِ ابنِ مريمَ، وهذا هوَ المُتَبَادِرُ من السياقِ معَ الآيةِ التي قبلَهَا.
قولُهُ: {أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ}الأحبارُ: جمعُ حِبْرٍ وحَبْرٍ؛ وهوَ العالمُ الواسعُ العِلْمِ، والرُّهْبَانُ: جمعُ راهبٍ، وهوَ العابدُ الزاهدُ.
قولُهُ:
{أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} أيْ: مُشَارِكِينَ للَّهِ عزَّ وجلَّ في التشريعِ؛ لأنَّهم يُحِلُّونَ ما حرَّمَ اللَّهُ فيحلُّهُ هؤلاءِ الأتباعُ، ويُحَرِّمُونَ ما أحلَّ اللَّهُ فيُحَرِّمُهُ الأتباعُ.
قولُهُ: {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} أي: اتَّخَذُوهُ إلهًا معَ اللَّهِ؛ بدليلِ قولِهِ تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَـهًا وَاحِدًا}، والعبادةُ: التذلُّلُ والخضوعُ واتِّبَاعُ الأوامرِ واجتنابُ النواهي.
قولُهُ: {إِلَـهًا وَاحِدًا} هوَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وإلهٌ، أيْ: (مَأْلُوهٌ) معبودٌ مُطَاعٌ، وليسَ بمعنى (آلِهٍ) أيْ: قادرٍ على الاختراعِ، فإنَّ هذا معنًى فاسدٌ كما تقدم.
قولُهُ: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}{سُبْحَانَ} اسمُ مصدرٍ، وهيَ معمولٌ أوْ مفعولٌ لفعلٍ محذوفٍ وجوبًا تقديرُهُ يُسَبِّحُ سُبْحَانًا، أيْ: تسبيحًا؛ لأنَّ اسمَ المصدرِ بمعنى المصدرِ، فسبحانَهُ مفعولٌ مطلقٌ عاملُها محذوفٌ وجوبًا، وهيَ مُلازِمةٌ للإضافةِ، إمَّا إلى مُضْمَرٍ كما في الآيةِ {سُبْحَانَهُ} أوْ إلى مُظهَرٍ كما في (سُبْحَانَ اللَّهِ).
والتسبيحُ:
التنزيهُ، أيْ: تنزيهُ اللَّهِ عنْ كلِّ نقصٍ، ولا يَحْتَاجُ أنْ نقولَ: ومُمَاثَلَةِ المخلوقينَ؛ لأنَّ المُمَاثلةَ نَقْصٌ، ولكنْ إذا قُلْنَاهَا فذلكَ منْ بابِ زيادةِ الإيضاحِ، حتَّى لا يُظَنَّ أنَّ تمثيلَ الخالقِ بالمخلوقِ في الكمالِ منْ بابِ الكمالِ، فيكونُ المعنى تنزيهَ اللَّهِ عنْ كلِّ ما لا يليقُ بهِ مِنْ نقصٍ أوْ مماثلةِ المخلوقينَ.
وقولُهُ: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} أيْ: ممَّا سِوَاهُ من المسيحِ ابنِ مريمَ والأحبارِ والرهبانِ، فهوَ مُنَزَّهٌ عنْ كلِّ شِرْكٍ وعنْ كلِّ مُشْرَكٍ بِهِ.
وقولُهُ: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} هذا من البلاغةِ في القرآنِ؛ لأنَّها جَاءَتْ مُحْتَمِلَةً أنْ تكونَ (ما) مصدَرِيَّةً، فيكونُ المعنى عنْ شِرْكِهِمْ، أوْ موصولةً ويكونُ المعنى سُبْحَانَ اللَّهِ عن الذينَ يُشْرِكُونَ بهِ، وهيَ صالحةٌ للأمرَيْنِ فتكونُ شاملةً لهمَا؛ لأنَّ الصحيحَ جوازُ استعمالِ المُشْتَرَكِ في معنَيَيْهِ إذا لمْ يكُنْ بينَهُمَا تعارُضٌ، فيكونُ التنزيهُ عن الشركِ وعن المُشْرَكِ بهِ.
قولُهُ: (إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ) أيْ لا: نعبدُ الأحبارَ والرهبانَ، ولا نسجدُ لهمْ ولا نَرْكَعُ ولا نذبحُ ولا نَنْذِرُ لهُمْ، وهذا صحيحٌ بالنسبةِ للأحبارِ والرهبانِ؛ بدليلِ قولِهِ: ((أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ، وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتُحِلُّونَهُ ؟)).
فإنَّ هذا الوصفَ لا ينْطَبِقُ على عيسى أبدًا؛ لأنَّهُ رسولُ اللَّهِ، فما أحلَّهُ فقدْ أحلَّهُ اللَّهُ، وما حرَّمَهُ فقدْ حرَّمَهُ اللَّهُ، وقدْ حاولَ بعضُ الناسِ أنْ يُعِلَّ الحديثَ لهذا المعنى معَ ضَعْفِ سَنَدِهِ، والحديثُ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالأَلْبَانِيُّ وآخَرُونَ، وضعَّفَهُ آخَرُونَ.
ويُجَابُ عن التعليلِ المذكورِ بأنَّ قَوْلَ عَديٍّ: لَسْنَا نعْبُدُهم، يعودُ على الأحبارِ والرهبانِ، أمَّا عيسى ابنُ مريمَ فالمعروفُ أنَّهمْ يعْبُدُونَهُ.
وبدأَ بتحريمِ الحلالِ؛ لأنَّهُ أعظمُ منْ تحليلِ الحرامِ، وكِلاهُما مُحَرَّمٌ؛ لقولِهِ تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلالٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ...}.
قولُهُ: ((فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ)) ووَجْهُ كوْنِهَا عبادةً: أنَّ مِنْ معنى العبادةِ الطاعةَ، وطاعةُ غيرِ اللَّهِ عبادةٌ للمُطَاعِ، ولكنْ بشرطِ أنْ تكونَ في غيرِ طاعةِ اللَّهِ، أمَّا إذا كانَ في طاعةِ اللَّهِ فهيَ عبادةٌ للَّهِ؛ لأنَّكَ إذا أطَعْتَ غيرَ اللَّهِ في طاعةِ اللَّهِ، كما لوْ أمرَكَ أَبُوكَ بالصلاةِ فصَلَّيْتَ، فلا تكونُ قدْ عَبَدْتَ أَبَاكَ بطاعتِكَ لهُ، ولكنْ عَبَدْتَ اللَّهَ؛ لأنَّكَ أَطَعْتَ غيرَ اللَّهِ في طاعةِ اللَّهِ، ولأنَّ أمرَ غيرِ اللَّهِ بطاعةِ اللَّهِ وامتثالِ أمرِهِ هوَ امتثالٌ لأمرِ اللَّهِ.
واعْلَمْ أنَّ اتِّباعَ العلماءِ أو الأمراءِ في تحليلِ ما حرَّمَ اللَّهُ أو العكسِ ينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
الأوَّلُ: أنْ يُتَابِعَهُمْ في ذلكَ راضيًا بقولِهِمْ مُقَدِّمًا لَهُ سَاخِطًا لحُكْمِ اللَّهِ، فهوَ كافرٌ؛ لأنَّهُ كَرِهَ ما أنزلَ اللَّهُ فأحْبَطَ اللَّهُ عملَهُ، ولا تُحْبَطُ الأعمالُ إلا بالكفرِ، فكلُّ مَنْ كَرِهَ ما أنزلَ اللَّهُ فهوَ كافرٌ.
الثاني: أنْ يُتَابِعَهُمْ في ذلكَ راضيًا بحُكْمِ اللَّهِ وعالِمًا بأنَّهُ أمثلُ وأصلحُ للعبادِ والبلادِ، ولكنْ لِهَوًى في نفسِهِ اختارَهُ، كأنْ يُرِيدَ مثلاً وظيفةً، فهذا لا يَكْفُرُ، ولكنَّهُ فَاسِقٌ، ولهُ حُكْمُ غيْرِهِ من العُصَاةِ.
الثالث: أنْ يُتَابِعَهُمْ جاهلاً، فيَظُنُّ أنَّ ذلكَ حُكْمُ اللَّهِ، فينقسمُ إلى قسمَيْنِ:
أحدهما: أنْ يُمْكِنَهُ أنْ يعْرِفَ الحقَّ بنفسِهِ، فهوَ مُفَرِّطٌ أوْ مُقَصِّرٌ، فهوَ آثمٌ؛ لأنَّ اللَّهَ أمرَ بسؤالِ أهلِ العلمِ عندَ عدمِ العلمِ.
الثاني:
أنْ لا يكونَ عالمًا ولا يُمْكِنُهُ التعَلُّمُ فيُتَابِعُهُم تقليدًا ويَظُنُّ أنَّ هذا هوَ الحقُّ، فهذا لا شيءَ عليهِ؛ لأنَّهُ فَعَلَ ما أُمِرَ بهِ، وكانَ معذورًا بذلكَ؛ ولذلكَ وَرَدَ عنْ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّهُ قالَ: إنَّ ((مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ)) ولوْ قُلْنَا بإثمِهِ بخَطَأِ غيرِهِ لَلَزِمَ مِنْ ذلكَ الحرجُ والمشَقَّةُ، ولمْ يَثِق الناسُ بأحدٍ؛ لاحتمالِ خَطَئِهِ.
فإنْ قيلَ: لماذا لا يَكْفُرُ أهلُ القسمِ الثاني ؟
أُجِيبُ: إنَّنا لوْ قُلْنَا بكُفْرِهِمْ، لَزِمَ مِنْ ذلكَ تكفيرُ كلِّ صاحبِ معصيةٍ يَعْرِفُ أنَّهُ عاصٍ للَّهِ، ويَعْلَمُ أنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ.
فائدةٌ:
وصفَ اللَّهُ الحاكمينَ بغيرِ ما أنزلَ اللَّهُ بثلاثةِ أوصافٍ:
الأول:
في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.
الثاني: في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
الثالث: في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
واختلفَ أهلُ العلمِ في ذلكَ:
فقيلَ: إنَّ هذهِ الأوصافَ لموصوفٍ واحدٍ؛ لأنَّ الكافرَ ظالمٌ؛ لقولِهِ تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، وفاسقٌ؛ لقوْلِهِ تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ}، أيْ: كَفَرُوا.
وقيلَ: إنَّها لمَوْصُوفِينَ متعدِّدِينَ، وإنَّها على حَسَبِ الحُكْمِ، وهذا هوَ الراجحُ.
فيكونُ كافرًا في ثلاثةِ أحوالٍ:
الأول: إذا اعتقدَ جوازَ الحكمِ بغيرِ ما أنزلَ اللَّهُ؛ بدليلِ قولِهِ تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} فكلُّ ما خالفَ حُكْمَ اللَّهِ فهوَ مِنْ حُكْمِ الجاهليَّةِ؛ بدليلِ الإجماعِ القَطْعِيِّ على أنَّهُ لا يجوزُ الحُكْمُ بغيرِ ما أنزلَ اللَّهُ، فالمُحِلُّ والمُبِيحُ للحُكْمِ بغيرِ ما أنزلَ اللَّهُ مُخَالِفٌ لإجماعِ المسلمينَ القطعيِّ، وهذا كافرٌ مُرْتَدٌّ، وذلكَ كمَن اعتقدَ حِلَّ الزِّنا أو الخمرِ، أوْ تحريمَ الخُبْزِ أو اللبنِ.
الثاني: إذا اعتقدَ أنَّ حُكْمَ غيرِ اللَّهِ مثلُ حُكْمِ اللَّهِ.
الثالث: إذا اعتقدَ أنَّ حُكْمَ غيرِ اللَّهِ أحْسَنُ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ، بدليلِ قولِهِ تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فتضمَّنَت الآيةُ أنَّ حُكْمَ اللَّهِ أحسنُ الأحكامِ؛ بدليلِ قولِهِ تعالى مُقَرِّرًا ذلكَ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} فإذا كانَ اللَّهُ أحسنَ الحاكمينَ أحكامًا، وهوَ أحكمُ الحاكمينَ، فمن ادَّعَى أنَّ حُكْمَ غيرِ اللَّهِ مثلُ حُكْمِ اللَّهِ أوْ أحسنُ فهوَ كافرٌ؛ لأنَّهُ مُكَذِّبٌ للقرآنِ.
ويكونُ ظالمًا: إذا اعتقدَ أنَّ الحُكْمَ بِمَا أنزلَ اللَّهُ أحسنُ الأحكامِ،
وأنَّهُ أنفعُ للعبادِ والبلادِ، وأنَّهُ الواجبُ تطبيقُهُ، ولكنْ حَمَلَهُ البُغْضُ والحقدُ للمحكومِ عليهِ حتَّى حكمَ بغيرِ ما أنزلَ اللَّهُ، فهوَ ظالمٌ.
ويكونُ فاسقًا: إذا كانَ حُكْمُهُ بغيرِ ما أنزلَ اللَّهُ لِهَوًى في نفْسِهِ
معَ اعتقادِهِ أنَّ حُكْمَ اللَّهِ هوَ الحقُّ، لكنْ حَكَمَ بغيْرِهِ لهوًى في نفسِهِ، أيْ: مَحَبَّةٍ لِمَا حَكَمَ بهِ، لا كراهةٍ لحُكْمِ اللَّهِ، ولا لِيَضُرَّ أحدًا بهِ، مثلَ: (أنْ يحْكُمَ لشخصٍ لِرِشْوَةٍ رُشِيَ إيَّاها، أوْ لكونِهِ قَرِيبًا، أوْ صديقًا، أوْ يَطْلُبُ مِنْ ورائِهِ حاجةً، وما أشبَهَ ذلكَ) معَ اعتقادِهِ بأنَّ حُكْمَ اللَّهِ هوَ الأمثلُ والواجبُ اتِّبَاعُهُ، فهذا فاسقٌ وإنْ كانَ أيضًا ظالمًا، لكنَّ وَصْفَ الفسقِ في حقِّهِ أوْلَى مِنْ وَصْفِ الظُّلْمِ.
أمَّا بالنسبةِ لمَنْ وضعَ قوانينَ تشريعِيَّةً معَ عِلْمِهِ بحُكْمِ اللَّهِ،
وبمُخَالَفَةِ هذهِ القوانينِ لحُكْمِ اللَّهِ، فهذا قدْ بدَّلَ الشريعةَ بهذهِ القوانينِ فهوَ كافرٌ؛ لأنَّهُ لم يَرْغَبْ بهذا القانونِ عنْ شريعةِ اللَّهِ إلا وهُوَ يعتقدُ أنَّهُ خيرٌ للعبادِ والبلادِ مِنْ شريعةِ اللَّهِ، وعنْدَما نقولُ بأنَّهُ كافرٌ فَنَعْنِي بذلكَ: أنَّ هذا الفعلَ يُوصِلُ إلى الكُفْرِ، ولكنْ قدْ يكونُ الواضعُ لهُ معذورًا، مثلَ: أنْ يُغَرَّرَ بهِ، كأنْ يُقَالَ: إنَّ هذا لا يُخَالِفُ الإسلامَ، أوْ هذا مِن المَصَالِحِ المُرْسَلَةِ، أوْ هذا ممَّا رَدَّهُ الإسلامُ إلى الناسِ.
فيُوجَدُ بعضُ العلماءِ، وإنْ كانوا مُخْطِئِينَ،
يقولونَ: (إنَّ مسألةَ المُعَامَلاتِ لا تَعَلُّقَ لها بالشرعِ، بلْ تَرْجِعُ إلى ما يُصْلِحُ الاقتصادَ في كلِّ زمانٍ بِحَسَبِهِ، فإذا اقتضى الحالُ أنْ نَضَعَ بُنُوكًا للرِّبَا، أوْ ضرائبَ على الناسِ، فهذا لا شيءَ فيِهِ، وهذا لا شكَّ في خَطَئِهِ، فإنْ كانوا مُجْتَهِدِينَ غَفَرَ اللَّهُ لهمْ، وإلا فَهُمْ على خَطَرٍ عظيمٍ، واللائقُ بهؤلاءِ أنْ يُلَقَّبُوا بأنَّهُمْ مِنْ علماءِ الدولةِ لا عُلماءِ المِلَّةِ).
وممَّا لا شكَّ فيهِ أنَّ الشرعَ جاءَ بتنظيمِ العباداتِ التي بينَ الإنسانِ وربِّهِ، والمعاملاتِ التي بينَ الإنسانِ معَ الخلقِ؛ في العقودِ والأنكحةِ والمواريثِ وغيرِها، فالشرعُ كاملٌ منْ جميعِ الوجوهِ، قالَ تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.
وكيفَ يُقَالُ: إنَّ المعاملاتِ لا تَعَلُّقَ لها بالشرعِ، وأَطْوَلُ آيةٍ في القرآنِ نَزَلَتْ في المعاملاتِ، ولَوْلا نظامُ الشرعِ في المعاملاتِ لفسَدَ الناسُ.
وأنا لا أقولُ: نَأْخُذُ بكلِّ ما قالَهُ الفقهاءُ؛ لأنَّهم قدْ يُصِيبونَ وقدْ يُخْطِئُونَ، بلْ يَجِبُ أنْ نَأْخُذَ بكلِّ ما قالَهُ اللَّهُ ورسولُهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، ولا يُوجَدُ حالٌ مِن الأحوالِ تقعُ بينَ الناسِ إلا وفي كتابِ اللَّهِ وسنَّةِ رسولِهِ ما يُزِيلُ إِشْكَالَهَا ويَحِلُّهَا، ولكنَّ الخطأَ إمَّا مِنْ نَقْصِ العلمِ أو الفهمِ، وهذا قُصُورٌ، أوْ نقصِ التَّدَبُّرِ، وهذا تقصيرٌ.
أمَّا إذا وُفِّقَ الإنسانُ بالعلمِ والفهمِ وبذلِ الجهدِ في الوصولِ إلى الحقِّ، فلا بُدَّ أنْ يَصِلَ إليهِ حتَّى في المعاملاتِ، قالَ تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}.
-
وقالَ تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ}.
-
وقالَ تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}.
-
وقالَ تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، فكلُّ شيءٍ يحتاجُهُ الإنسانُ في دينِهِ أوْ دُنْيَاهُ، فإنَّ القرآنَ بيَّنَهُ بيانًا شافيًا.
ومَنْ سَنَّ قوانينَ تُخَالِفُ الشريعةَ وادَّعى أنَّها مِن المصالحِ المُرْسَلَةِ فهوَ كاذبٌ في دَعْوَاهُ؛ لأنَّ المصالحَ المُرْسَلَةَ والمُقَيَّدَةَ، إن اعْتَبَرَهَا الشرعُ ودَلَّ عليها فهيَ حقٌّ ومِن الشرعِ، وإنْ لمْ يعْتَبِرْهَا فليستْ مصالحَ، ولا يُمْكِنُ أنْ تكونَ كذلكَ، ولهذا كانَ الصوابُ أنَّهُ ليسَ هناكَ دليلٌ يُسَمَّى بالمصالحِ المُرْسَلَةِ، بلْ ما اعتبرَهُ الشرعُ فهوَ مَصْلَحَةٌ، وما نفاهُ فليسَ بمصلحةٍ، وما سكتَ عنهُ فهوَ عفوٌ.
والمصالحُ المرسلةُ تَوسَّعَ فيها كثيرٌ مِن الناسِ؛
فأدخلَ فيها بعضَ المسائلِ المنكَرةِ من البدعِ وغيرِها، كعيدِ ميلادِ الرسولِ، فزَعَمُوا أنَّ فيهِ شَحْذًا لِلَّهِمَمِ، وتنشيطًا للناسِ؛ لأنَّهم نَسُوا ذِكْرَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ، وهذا باطلٌ؛ لأنَّ جميعَ المسلمينَ في كلِّ صلاةٍ يَشْهَدُونَ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، ويُصَلُّونَ عليهِ، والذي لا يحْيَا قلبُهُ بهذا وَهُوَ يُصَلِّي بينَ يديْ ربِّهِ، كيفَ يَحْيَا قلْبُهُ بساعةٍ يُؤْتَى فيها بالقصائدِ الباطلةِ التي فيها مِن الغُلُوِّ ما يُنْكِرُهُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فهذهِ مَفْسَدَةٌ وليستْ بمصلحةٍ.
فالمصالحُ المرسلَةُ،
وإنْ وضعَهَا بعضُ أهلِ العلمِ المجتهدينَ الكبارِ، فلا شكَّ أنَّ مُرَادَهُم نصرُ اللَّهِ ورسولِهِ، ولكن استُخْدِمَتْ هذهِ المصالحُ في غيرِ ما أرادَهُ أولئكَ العلماءُ وتُوُسِّعَ فيها. وعليهِ فإنَّها تُقاسُ بالمعيارِ الصحيحِ، فإن اعتبرَهَا الشرعُ قُبِلَتْ، وإلا فكمَا قالَ الإمامُ مالكٌ: (كلُّ أحدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ ويُرَدُّ إلا صاحبَ هذا القبرِ) وهناكَ قواعدُ كُلِّيَّاتٌ تُطَبَّقُ عليها الجُزْئِيَّاتُ.
وَلْيُعْلَمْ: أنَّهُ يَجِبُ على الإنسانِ أنْ يتَّقِيَ ربَّهُ في جميعِ الأحكامِ، فلا يتَسَرَّعَ في الْبَتِّ بها؛ خُصُوصًا في التكفيرِ، الذي صارَ بعضُ أهلِ الغَيْرَةِ والعاطفةِ يُطْلِقُونَهُ بدونِ تفكيرٍ ولا رَوِيَّةٍ، معَ أنَّ الإنسانَ إذا كفَّرَ شخصًا ولمْ يكُن الشخصُ أهلاً لهُ عادَ ذلكَ إلى قائلِهِ، وتكفيرُ الشخصِ يَتَرَتَّبُ عليهِ أحكامٌ كثيرةٌ، فيكونُ مباحَ الدمِ والمالِ، ويتَرَتَّبُ عليهِ جميعُ أحكامِ الكفرِ.
وكما لا يجوزُ أنْ نُطْلِقَ الكفرَ على شخصٍ مُعَيَّنٍ حتَّى يتبَيَّنَ شروطُ التكفيرِ في حقِّهِ، يَجِبُ ألا نَجْبُنَ في تكفيرِ مَنْ كفَّرَهُ اللَّهُ ورسولُهُ، ولكنْ يَجِبُ أنْ نُفَرِّقَ بينَ المُعَيَّنِ وغيرِ المُعَيَّنِ، فالمُعَيَّنُ يحتاجُ الحكمُ بتكفيرِهِ إلى أمرَيْنِ:
أحدهما: ثبوتُ أنَّ هذهِ الخَصْلَةَ التي قامَ بها ممَّا يقتضي الكُفْرَ.
والآخر: انْطِبَاقُ شروطِ التكفيرِ عليهِ، وأهمُّها العلمُ بأنَّ هذا مُكَفِّرٌ، فإنْ كانَ جاهلاً فإنَّهُ لا يُكَفَّرُ.
ولهذا ذكرَ العلماءُ أنَّ مِنْ شروطِ إقامةِ الحدِّ أنْ يكونَ عالمًا بالتحريمِ، هذا في إقامةُ حدٍّ وليسَ بتكفيرٍ، والتحرُّزُ من التكفيرِ أَوْلَى وأَحْرَى، قالَ تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}.
-
وقالَ تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}.
-
وقالَ تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ
مَا يَتَّقُونَ}.
ولا بُدَّ معَ تَوَفُّرِ الشروطِ مِنْ عدمِ الموانعِ، فلوْ قامَ الشخصُ بما يقتضي الكفرَ إكراهًا أوْ ذُهولاً لمْ يُكَفَّرْ؛ لقولِهِ تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ
بِالإِيمَانِ} ولقولِ الرجلِ الذي وجدَ دابَّتَهُ في مَهْلَكَةٍ: (اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ) أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ، فلمْ يُؤَاخَذْ بذَلِكَ.
(5)
قولُهُ:
فيهِ مَسائِلُ:
الأولى:
(تفسيرُ آيةِ النُّورِ)
وهيَ قولُهُ تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وسبقَ تفسِيرُهَا.
(6)
الثانيةُ: (تفسيرُ آيةِ بَرَاءةٌ)
وهيَ قولُهُ تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآيةَ، وقدْ سبقَ ذلكَ.
(7)
الثالثةُ: (التَّنبيهُ علَى مَعْنى العبادةِ التي أَنْكَرَها عَدِيٌّ)
لأنَّ العبادةَ هيَ التعَبُّدُ لهُمْ بالطاعةِ، والتذَلُّلُ لهمْ بالرُّكُوعِ والسجودِ والنَّذْرِ وما أشْبَهَهُ، لكنْ بَيَّنَ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّ المرادَ مِنْ عبادتِهِم هيَ طاعتُهم في تحليلِ الحرامِ، وتحريمِ الحلالِ.
(8)
الرابعةُ: (تَمثيلُ ابنِ عبَّاسٍ بـأَبي بَكْرٍ وعُمَرَ، وَتَمثيلُ أحمدَ بسُفْيَانَ)
أيْ: إذا كانَ أبو بكرٍ وعُمَرُ لا يُمْكِنُ أن يُعَارَضَ قولُ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بقولِهِمَا، فما بالُكَ بمَنْ عارَضَ قولَ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بقَوْلِ مَنْ دُونَهُمَا ؟
فهوَ أشدُّ وأقبحُ.
وكذلكَ مَثَّلَ الإمامُ أحمدُ بسُفْيَانَ الثوريِّ وأنكرَ على مَنْ أخَذَ برأيِهِ، وتَرَكَ ما صحَّ بهِ الإسنادُ عنْ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، واستدلَّ بقولِهِ تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} الآيةَ.
(9)
الخامسةُ: (تَحَوُّلُ الأحوالِ إلى هَذهِ الغايةِ، حَتَّى صارَ عِنْدَ الأكثرِ عِبادَةُ الرُّهبانِ هِيَ أفضلَ الأعمالِ... إلخ)
قولُ المُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: (تَغَيَّرَت الأحوالُ إلى هذهِ الغايةِ حتَّى صارَ عندَ الأكثرِ عبادةُ الرهبانِ هيَ أفضلَ الأعمالِ...)
هذا لا شكَّ أنَّهُ أشدُّ مِنْ مُعَارَضَةِ قولِ الرسولِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بقولِ
أبي بكرٍ وعُمَرَ.
ثمَّ قالَ: (ثُمَّ تَغيَّرت الأحوالُ إلى أنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ ليسَ مِن الصالحينَ).
أيْ: يُرْكَعُ ويُسجَدُ لهُ، ويُعَظَّمُ تعظيمَ الربِّ، ويُوصَفُ بما لا يستَحِقُّ، وهذا يُوجَدُ عندَ كثيرٍ مِن الشعراءِ الذينَ يَمْدَحُونَ الملوكَ والوزراءَ وهمْ لا يستحقُّونَ أنْ يكونُوا بمنزلةِ
أبي بكرٍ وعمرَ.
ثم قالَ: (وَعُبِدَ بالمعنى الثاني) وهوَ الطاعةُ والاتِّبَاعُ، (مَنْ هوَ مِن الجاهلينَ) فأُطيعَ الجاهلُ في تحليلِ ما حرَّمَ اللَّهُ، وتحريمِ مَا أحلَّ اللَّهُ، كما يُوجَدُ في بعضِ النُّظُمِ والقوانينِ المخالفةِ للشريعةِ الإسلاميَّةِ، فإنَّ واضِعِيها جُهَّالٌ لا يعرفونَ مِن الشريعةِ ولا الأديانِ شيئًا، فصارُوا يُعْبَدُونَ بهذا المعنى، فيُطاعونَ في تحليلِ ما حرَّمَ اللَّهُ، وتحريمِ ما أحلَّ اللَّهُ.
وهذا في زمانِ المُؤَلِّفِ، فكيفَ بزمانِنِا ؟!
وقدْ قالَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فيما رَوَاهُ البخاريُّ عنْ أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ: ((لا يَأْتِي زَمَانٌ عَلَى النَّاسِ إِلا وَمَا بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ)).
-
وقالَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ للصحابةِ: ((وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا)) وعَصْرُ الصحابةِ أقربُ إلى الهُدَى مِنْ عَصْرِ مَنْ بعدَهُمْ.
والناسُ لا يُحِسُّونَ بالتَّغَيُّرِ؛ لأنَّ الأمورَ تأتي رُوَيْدًا رُوَيْدًا، ولوْ غابَ أحدٌ مُدَّةً طويلةً ثمَّ جاءَ لَوَجَدَ التغيُّرَ الكثيرَ المُزْعِجَ، نسألُ اللَّهُ السلامةَ، فَعَلَيْنَا الحذرَ، وأنْ نَعْلَمَ أنَّ شرعَ اللَّهِ يَجِبُ أن يُحْمَى وأنْ يُصَانَ، ولا يُطاعُ أحدٌ في تحليلِ ما حرَّمَ اللَّهُ، أوْ تحريمِ ما أحلَّ اللَّهُ أبدًا مهما كانتْ منزلَتُهُ، وأنَّ الواجبَ أنْ نكونَ عِبَادًا للَّهِ عزَّ وجلَّ تذَلُّلاً وتَعَبُّدًا وطاعةً.