قال أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي (ت: 806هـ): (مَعرفةُ صِفةِ مَن تُقبلُ رِوايتُه ومَن تُرَدُّ
(257) أَجْمَعَ جُمهورُ أَئِمَّةِ الأَثَرْ والفِقْهِ في قَبولِ ناقِلِ الخبَرْ
(258) بأنْ يكونَ ضابِطاً مُعَدَّلاَ أيْ يَقِظاً ولم يَكنْ مُغَفَّلاَ
(259) يَحْفَظُ إنْ حَدَّثَ حِفْظاً يَحْوِي كتابَه إنْ كان منه يَرْوِي
(260) يَعلَمُ ما في اللفْظِ مِن إِحَالَهْ إنْ يَرْوِ بالمعنَى وفي العَدَالَهْ
(261) بأنْ يكونَ مُسْلِماً ذا عَقْلِ قد بَلَغَ الْحُلْمَ سَليمَ الفِعْلِ
(262) مِن فِسْقٍ او خَرْمِ مُروءةٍ ومَنْ زَكَّاهُ عَدلانِ، فعَدْلٌ مُؤْتَمَنْ
(263) وصُحِّحَ اكْتِفَاؤُهُمْ بالواحِدِ جَرحاً وتَعديلاً خِلافَ الشاهِدِ
قالَ ابنُ الصَّلاحِ: أجْمَعَ جماهيرُ أئِمَّةِ الحديثِ والفِقْهِ على أنه يُشترَطُ فيمَنْ يُحْتَجُ بروايتِه أنْ يكونَ عَدْلاً ضابِطاً لِمَا يَرويهِ، ثم فَصَّلَ شروطَ العَدالةِ ثم شُروطَ الضَّبْطِ، وقَدَّمْتُ شُروطَ الضبْطِ على العَدالةِ لتَقَدُّمِ الضبْطِ في النظْمِ
فقَوْلِي: (أيْ: يَقِظاً إلى قولِي وفي العَدَالَهْ) تفسيرٌ للضبْطِ، ويَقِظٌ بضَمِّ القافِ وكَسْرِها لغتانِ حَكَاهُما الْجَوْهَرِيُّ وغيرُه.
وقولِي (يَحْوِي كتابَهْ) أيْ يَحتوِي عليه ويَحفظُه مِن التبديلِ والتغييرِ، وقد نَصَّ الشافعِيُّ على اعتبارِ هذه الأوصافِ فيمَنْ يُحْتَجُّ بخبرِه فقالَ في كتابِ (الرسالةِ) التي أرْسَلَ بها إلى عبدِ الرحمنِ بنِ مَهْدِيٍّ: لا تقومُ الْحُجَّةُ بخبَرِ الخاصَّةِ حتى يَجْمَعَ أمُوراً منها أنْ يكونَ مَن حَدَّثَ به ثِقَةً في دِينِه مَعروفاً بالصدْقِ في حَديثِه عَاقِلاً لِمَا يُحَدِّثُ به عالِمًا بما يُحيلُ معانِيَ الحديثِ مِن اللفْظِ، أو يكونُ ممن يُؤَدِّي الحديثَ بحروفِه كما سَمِعَه لا يُحَدِّثُ به على المعنى؛ لأنه إذا حدَّثَ به على المعنى وهو غيرُ عالِمٍ بما يُحيلُ معناه لم يُدْرَ لعَلَّه يُحيلُ الحلالَ إلى الحرامِ، وإذا أدَّاه بحروفِه فلم يَبْقَ وجهٌ يُخافُ فيه إجابتُه الحديثَ، حافِظاً إنْ حَدَّثَ مِن حفْظِه، حافظاً لكتابِه إنْ حَدَّثَ مِن كتابِه إذا شَرَكَ أهْلَ الحفْظِ في الحديثِ وافَقَ حديثَهم، بَريئاً مِن أنْ يكونَ مُدَلِّساً يُحَدِّثُ عَمَّنْ لَقِيَ ما لم يَسْمَعْ منه ويُحَدِّثُ عن النبيِّ مَن فوقَه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ بما يُحَدِّثُ الثقاتُ خلافَه، ويكونُ هكذا مِن فَوْقِه، ممن حَدَّثَه حتى يَنتهيَ بالحديثِ مَوصولاً إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ ، أو إلى مَن انتهى به إليه دونَه؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهم مُثْبِتٌ مَن حَدَّثَه ومُثْبِتٌ على مَن حَدَّثَ عنه فلا يَستغنِي في كلِّ واحدٍ منهم عمَّا وَصَفْتُ. انتهى كلامُ الشافعيِّ رضِيَ اللهُ عنه.
وقولِي: (وفي العَدالةِ إلى آخِرِ قولِي أو خَرْمِ مُروءةٍ) بيانٌ لشروطِ العدالةِ وهي خمسةٌ: الإسلامُ والبلوغُ والعقْلُ والسلامةُ مِن الفِسْقِ وهو ارتكابُ كبيرةٍ أو إصرارٌ على صغيرةٍ والسلامةُ مما يَخْرُمُ المروءةَ، ولم نَذْكُرْ في شروطِها الحرِّيَّةَ، وإنْ ذَكَرَه الفقهاءُ في الشهاداتِ؛ لأنَّ العبدَ مقبولُ الروايةِ بالشروطِ المذكورةِ بالإجماعِ كما حكاهُ الخطيبُ بخِلافِ الشهادةِ على أنَّ جماعةً مِن السلَفِ أجَازُوا شَهادةَ العبْدِ العدْلِ، وإنْ كان الْجُمهورُ على خِلافِ ذلك، وهذا مما تَفْتَرِقُ فيه الروايةُ والشهادةُ كما ذكَرَه القاضِي أبو بكرٍ وغيرُه، فهذه إذن شُروطُ العدالةِ في الروايةِ.
وَمَن يَقبلُ أيضاً روايةَ الصبِيِّ الْمُمَيِّزِ الموثوقِ به لم يَشترطِ البلوغَ، وفي المسألةِ وَجهانِ حَكَاهما البَغَوِيُّ والإمامُ وتَبِعَهما الرافعيُّ؛ إلاَّ أنه قَيَّدَ الوَجهينِ في التيَمُّمِ بالمراهِقِ، وصَحَّحَ عدَمَ القَبولِ، وتَبِعَه عليه النوويُّ وقَيَّدَه في استقبالِ القِبلةِ بالْمُمَيِّزِ، وحكى عن الأكثرينَ عَدَمَ القَبولِ، وحكى النوويُّ في (شرْحِ الْمُهَذَّبِ) عن الْجُمهورِ قبولَ أخبارِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فيما طريقُه الْمُشاهَدَةُ بخِلافِ ما طريقُه النقْلُ كالإفتاءِ وروايةِ الأخبارِ ونحوِه، وسَبَقَه إلى ذلك الْمُتَوَلِّي فتَبِعَه، واللهُ أعْلَمُ.
وقولِي: (ومَن زَكَّاهُ عَدلانِ) إلى آخِرِه بيانٌ لِمَا تَثْبُتُ به العَدالةُ فمما تَثْبُتُ به تَنصيصُ مُعَدَّلَيْنِ على عدالتِه كما في الشَّهادةِ، واخْتَلَفُوا هلْ تَثْبُتُ العدالةُ والْجَرْحُ بالنِّسبةِ إلى الروايةِ بتعديلِ عَدْلٍ واحدٍ أو جَرْحِه أو لا يَثْبُتُ ذلك إلاَّ باثنينِ كما في الْجَرْحِ والتعديلِ في الشهادةِ على قولينِ، وإذا جُمِعَت الروايةُ مع الشَّهادةِ صارَ في المسألةِ ثلاثةُ أقوالٍ:
أحَدُها: أنه لا يُقْبَلُ في التزكيةِ إلاَّ رَجُلانِ سواءٌ التزكيةُ للشهادةِ والروايةِ، وهو الذي حكاه أبو بكرٍ الباقِلاَّنِيُّ عن أكثَرِ الفُقهاءِ مِن أهْلِ الْمَدينةِ وغيرِهم.
والثاني: الاكتفاءُ بواحِدٍ مِن الشهادةِ والروايةِ معاً وهو اختيارُ القاضي أبو بكرٍ المذكورِ؛ لأنَّ التزكيةَ بِمَثابةِ الخبَرِ، قالَ القاضي: والذي يُوجِبُه القياسُ وُجوبُ قَبولِ تَزكيةِ كلِّ عَدْلٍ مَرْضِيٍّ ذَكَرٍ أو أنثى حُرٍّ أو عبْدٍ لشاهِدٍ ومُخْبِرٍ.
والثالثُ: التَّفْرِقَةُ بينَ الشَّهادةِ والروايةِ فيُشترَطُ اثنانِ في الشَّهادةِ ويُكتَفَى بواحدٍ في الروايةِ، ورَجَّحَه الإمامُ فخْرُ الدِّينِ والسَّيْفُ الآمِدِيُّ ونَقَلَه عن الأكثرينَ، وكذلك نقَلَه أبو عمرِو بنُ الحاجِبِ عن الأكثرينَ وهو مخالِفٌ لِمَا نَقَلَه القاضي عنهم قالَ ابنُ الصلاحِ: والصحيحُ الذي اختارَه الْخَطيبُ وغيرُه أنه يَثْبُتُ في الروايةِ بواحِدٍ؛ لأنَّ العددَ لم يُشْتَرَطْ في قَبولِ الخبَرِ فلم يُشْتَرَطْ في جَرْحِ راوِيهِ وتَعديلِه بخِلافِ الشَّهاداتِ.
وقولِي: (بالواحدِ) أيْ: بالعدْلِ الواحدِ فيَدْخُلُ فيه تعديلُ المرأةِ العدْلِ والعبْدِ العَدْلِ.
وقد اختَلَفُوا في تعديلِ المرأةِ، فحكى القاضي أبو بكرٍ عن أكثرِ الفقهاءِ مِن أهْلِ المدينةِ وغيرِهم أنه لا يُقْبَلُ في التعديلِ النساءُ لا في الروايةِ ولا في الشَّهادةِ، واختارَ القاضي أنه يُقْبَلُ تزكيةُ المرأةِ مُطْلَقاً في الروايةِ والشَّهادةِ إلاَّ تَزْكِيَتُها في الحكْمِ الذي لا تُقْبَلُ شهادتُها فيه.
وأطلَقَ صاحِبُ (المحصولِ) وغيرُه قَبولَ تَزكيةِ المرأةِ مِن غيرِ تقييدٍ، كما ذكَرَه القاضي، وأمَّا تزكيةُ العبْدِ فقالَ القاضي أبو بكرٍ: إنه يَجِبُ قَبُولُها في الخبَرِ دُونَ الشَّهادةِ؛ لأنَّ خَبَرَه مَقبولٌ وشَهادتَه مَردودةٌ. قالَ: والذي يُوجِبُه القِياسُ وُجوبُ قَبولِ تَزكيةِ كلِّ عَدْلٍ مَرْضِيٍّ ذَكَراً وأُنثى حُرًّا وعَبْداً لشاهِدٍ ومُخْبِرٍ، وهذا ما صَرَّحَ به أيضاً صاحبُ (المحصولِ) وغيرُه، قالَ الخطيبُ في (الكِفايةِ): الأصْلُ في هذا البابِ سؤالُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ بَريرةَ في قِصَّةِ الإفْكِ عن حالِ عائشةَ أمِّ المؤمنينَ رَضِيَ اللهُ عنها وجوابُها له.
(264) وصَحَّحُوا استغناءَ ذي الشُّهْرَةِ عَنْ تَزكيةٍ كمالِكٍ نَجْمِ السُّنَنْ
(265) ولابْنِ عبدِ الْبَرِّ كلُّ مَن عُنِي بِحَمْلِهِ العلْمَ ولم يُوَهَّنِ
(266)فإنه عدْلٌ بِقَوْلِ الْمُصْطَفَى يَحْمِلُ هذا العلْمَ لكنْ خُولِفَا
أيْ: ومما تَثْبُتُ به العدالةُ الاستفاضةُ والشُّهرةُ فمَن اشْتُهِرَتْ عدالتُه بينَ أهْلِ النقْلِ أو نَحْوِهم مِن أهْلِ العلْمِ وشاعَ الثناءُ عليه بالثِّقَةِ والأمانةِ استَغْنَى فيه بذلك عن بَيِّنَةٍ شاهِدَةٍ بعَدالتِه تَنْصِيصاً، قالَ ابنُ الصلاحِ: وهذا هو الصحيحُ في مَذْهَبِ الشافعِيِّ وعليه الاعتمادُ في أُصولِ الفِقْهِ، وممن ذَكَرَه مِن أهْلِ الحديثِ الخطيبُ، ومَثَّلَ ذلك بمالِكٍ وشُعبةَ والسفيانَيْنِ والأوزاعِيِّ والليثِ وابنِ المبارَكِ ووَكيعٍ وأحمدَ وابنِ مَعينٍ وابنِ الْمَدِينِيِّ ومَن جَرَى مَجراهُم في نَباهةِ الذكْرِ واستفاضةِ الأمْرِ، فلا يُسألُ عن عَدالةِ هَؤلاءِ وأمثالِهم وإنما يُسألُ عن عَدالةِ مَن خَفِيَ أمْرُه على الطالبينَ. انتهى.
وقد سُئلَ أحمَدُ بنُ حَنبلٍ عن إسحاقَ بنِ رَاهويهِ فقالَ: مِثلُ إسحاقَ نُسألُ عنه؟!! وسُئِلَ ابنُ مَعينٍ عن أبي عُبيدٍ فقالَ: مِثلِي يُسألُ عن أبى عُبيدٍ، أبو عُبيدٌ يُسألُ عن الناسِ؟! وقالَ القاضي أبو بكرٍ الباقِلاَّنِيُّ: الشاهدُ والْمُخْبِرُ إنما يَحتاجانِ إلى التزكيةِ متى لم يكونَا مَشهورينِ بالعدالةِ والرضا، وكان أمْرُهما مُشْكِلاً مُلْتَبِساً ومُجَوَّزاً فيه العدالةُ وغيرُها، قالَ والدليلُ على ذلك أنَّ العلْمَ بظهورِ سُتْرَتِهما واشتهارِ عَدَالَتِهما أقوى في النفوسِ مِن تعديلِ واحدٍ واثنينِ يَجوزُ عليهما الكذِبُ والْمُحاباةُ في تعديلِه وأغراضٌ داعيةٌ لهما إلى وصْفِه بغيرِ صِفتِه. إلى آخِرِ كلامِه.
وقولِي في وصْفِ مالِكٍ: (نَجْمِ السُّنَنِ) اقتداءً بالشافعِيِّ حيث يقولُ: إذا ذُكِرَ الأثَرُ فمالِكٌ النجْمُ.
وقالَ ابنُ عبدِ الْبَرِّ: كلُّ حامِلِ علْمٍ معروفُ العنايةِ به فهو عَدْلٌ محمولٌ في أمْرِه أبداً على العدالةِ حتى يَتَبَيَّنَ جَرْحُه، واستَدَلَّ على ذلك بحديثٍ رواه مِن طريقِ أبي جَعفرٍ العُقيليِّ مِن روايةِ مُعَانِ بنِ رِفاعةَ السَّلاَمِيِّ عن إبراهيمَ بنِ عبدِ الرحمنِ العُذريِّ قالَ: قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: ((يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ)).
أوْرَدَه العُقيليُّ في الضُّعفاءِ في تَرجمةِ مُعانِ بنِ رِفاعةَ وقالَ: لا يُعرفُ إلاَّ به، ورواه ابنُ أبي حاتمٍ في مُقَدِّمَةِ الْجَرْحِ والتعديلِ، وابنُ عَدِيٍّ في مُقَدِّمَةِ (الكاملِ) وهو مرْسَلٌ أو معضَلٌ ضعيفٌ، وإبراهيمُ الذي أرسلَه قالَ فيه ابنُ القَطَّانِ: لا نَعرفُه ألْبَتَّةَ في شيءٍ مِن العلْمِ غيرِ هذا.
وفي كتابِ (العِلَلِ) للخَلاَّلِ أنَّ أحمدَ سُئِلَ عن هذا الحديثِ فقيلَ له: كأنه كلامٌ موضوعٌ؟ فقالَ: لا هو صحيحٌ. فقيلَ له: ممن سمعتَه؟ قالَ: مِن غيرِ واحدٍ. قيلَ له: مَن هُمْ؟ قالَ: حَدَّثَنِي به مِسكينٌ إلاَّ أنه يقولُ: عن مُعانٍ عن القاسمِ بنِ عبدِ الرحمنِ. قالَ أحمدُ: ومُعانٌ لا بأسَ به، وثَّقَهُ ابنُ الْمَدِينِيِّ أيضاً قالَ ابنُ القَطَّانِ: خَفِيَ على أحمدَ مِن أمْرِه ما عَلِمَه غيرُه، ثم ذكَرَ تضعيفَه عن ابنِ مَعينٍ وأبي حاتمٍ والسعْدِيِّ وابنِ عَدِيٍّ وابنِ حِبَّانَ. انتهى.
وقد وَرَدَ هذا الحديثُ مَرفوعاً مُسْنَداً مِن حديثِ أبي هُريرةَ وعبدِ اللهِ بنِ عمرٍو وعليِّ بنِ أبي طالِبٍ وابنِ عمرَ وأبي أُمامةَ وجابرِ بنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهم وكلُّها ضَعيفةٌ، قالَ ابنُ عَدِيٍّ: ورواه الثِّقاتُ عن الوليدِ بنِ مُسْلِمٍ عن إبراهيمَ بنِ عبدِ الرحمنِ العُذريِّ قالَ: حَدَّثَنا الثقَةُ مِن أصحابِنا أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ قالَ، فذَكَرَه.
وممن وافَقَ ابنَ عبدِ الْبَرِّ على قولِه هذا مِن الْمُتَأَخِّرِينَ أبو عبدِ اللهِ بنُ الْمَوَّاقِ فقالَ في كتابِه (بُغْيَةِ النُّقَّادِ): أهْلُ العلْمِ مَحمولونَ على العَدالةِ حتى يَظهرَ منهم خِلافُ ذلك.
وقولُه (لكنْ خُولِفَا) أيْ: خولِفَ ابنُ عبدِ الْبَرِّ في اختيارِه هذا، وفي استدلالِه بهذا الحديثِ ؛ أمَّا اختيارُه فقالَ ابنُ الصَّلاحِ: فيما قالَه اتِّساعٌ غيرُ مَرْضِيٍّ. وأمَّا استدلالُه بهذا الحديثِ فلا يَصِحُّ مِن وجهينِ:
(أحدُهما) إرسالُه وضَعْفُه.
(والثاني) أنه إنما يَصِحُّ الاستدلالُ به إنْ لو كان خَبَراً ولا يَصِحُّ حَمْلُه على الخبَرِ لوُجودِ مَن يَحْمِلُ العلْمَ وهو غيرُ عَدْلٍ وغيرُ ثِقَةٍ فلم يَبْقَ له مَحْمَلٌ إلاَّ على الأمْرِ، ومعناه أنه أمْرُ الثقاتِ بحَمْلِ العلْمِ؛ لأنَّ العلْمَ إنما يُقْبَلُ عن الثِّقاتِ، والدليلُ على أنه للأمْرِ أنَّ في بعضِ طُرُقِ ابنِ أبي حاتمٍ ((لِيَحْمِلْ هَذَا الْعِلْمَ)) بلامِ الأمْرِ.
(267) ومَن يُوَافِقْ غالِباً ذا الضَّبْطِ فضابِطٌ أو نادراً فمُخْطِي
لَمَّا تَقَدَّمَ أنه لا يُقْبَلُ إلاَّ العدْلُ الضابِطُ احْتِيجَ أنْ يُذْكَرَ ما الذي يُعرَفُ به ضَبْطُ الراوِي، وذلك بأنْ يُعْتَبَرَ حديثُه بحديثِ الثِّقاتِ الضابطينَ، فإنْ وافَقَهم في رِوايتِهم في اللفْظِ أو في المعنى ولو في الغالِبِ عرَفْنا حينئذٍ كونَه ضابطاً، وإنْ كانَ الغالِبُ على حديثِه المخالَفَةَ لهم، وإنْ وافَقَهم فنادِرٌ عرَفْنَا حينئذٍ خَطَأَهُ وعَدَمَ ضَبْطِه ولم يُحْتَجَّ بحديثِه.
(268) وصَحَّحُوا قَبولَ تعديلٍ بِلاَ ذكْرٍ لأسبابٍ له أنْ تَثْقُلاَ
(269)ولم يَرَوْا قَبولَ جَرْحٍ أُبْهِمَا للخُلْفِ في أسبابِه ورُبَّمَا
(270) استُفْسِرَ الْجَرْحُ فلم يَقْدَحْ كما فَسَّرَهُ شُعبةُ بالركْضِ فَمَا
(271)هذا الذي عليه حُفَّاظُ الأَثَرْ كشَيْخَيِ الصحيحِ معْ أَهْلِ النظَرْ
اختُلِفَ في التعديلِ والْجَرْحِ هل يُقبلانِ أو أحَدُهما مِن غيرِ ذكْرِ أسبابِهما أمْ لا يُقبلانِ إلاَّ مُفَسَّرَيْنِ ، على أربعةِ أقوالٍ:
(الأوَّلُ) وهو الصحيحُ المشهورُ التَّفْرِقَةُ بينَ التعديلِ والجَرْحِ؛ فيُقْبَلُ التعديلُ مِن غيرِ ذكْرِ سببِه؛ لأنَّ أسبابَه كثيرةٌ فتَثْقُلُ ويَشُقُّ ذِكْرُها؛ لأن ذلك يُحْوِجُ الْمُعَدِّلَ إلى أنْ يَقولَ: ليس يَفعلُ كذا ولا كذا ويَعُدُّ ما يَجِبُ عليه تَرْكُه، ويَفعلُ كذا وكذا فيَعُدُّ ما يَجِبُّ عليه فِعْلُه فيَشُقُّ ذلك ويَطولُ تفصيلُه، وأمَّا الجرْحُ فإنه لا يُقْبَلُ إلاَّ مُفَسَّراً مُبَيَّنَ السبَبِ؛ لأنَّ الجرْحَ يَحْصُلُ بأمْرٍ واحدٍ، فلا يَشُقُّ ذكْرُه، ولأنَّ الناسَ مُختلِفونَ في أسبابِ الجرْحِ فيُطْلِقُ أحَدُهم الْجَرْحَ بِناءً على ما اعتقدَه جَرْحاً وليس بجَرْحٍ في نفْسِ الأمْرِ، فلا بُدَّ مِن بيانِ سَبَبِه ليَظْهَرَ أهو قادِحٌ أمْ لا.
ويَدُلُّ على أنَّ الجرْحَ لا يُقْبَلُ غيرَ مُفَسَّرٍ، أنه ربما استُفْسِرَ الجارِحُ فذَكَرَ ما ليس بجَرْحٍ، فقد روى الخطيبُ بإسنادِه إلى محمَّدِ بنِ جَعفرٍ الْمَدَائِنِيِّ قالَ: قيلَ لشُعبةَ: لِمَ تَركتَ حديثَ فُلانٍ؟ قالَ: رأيتُه يَركُضُ على بِرْذَوْنٍ فتَركتُ حديثَه.
وقولِي في آخِرِ البيتِ (فَمَا) أيْ: فماذا يَلزَمُ مِن رَكْضِه على بِرْذَوْنٍ.
وروى ابنُ أبي حاتمٍ عن يحيى بنِ سعيدٍ قالَ: أتى شُعبةُ الْمِنهالَ بنَ عمرٍو فسَمِعَ صوتاً فتَرَكَه، قالَ ابنُ أبي حاتمٍ: سَمِعْتُ أبي يقولُ: يعني أنه سَمِعَ قراءةً بألحانٍ فكَرِهَ السماعَ منه مِن أجْلِ ذلك. هكذا قالَ أبو حاتمٍ في تفسيرِه الصوتَ.
وقد روى الْخَطِيبُ بإسنادِه إلى وهْبِ بنِ جَريرٍ قالَ: قالَ شُعبةُ: أتيتُ مَنْزِلَ الْمِنهالِ بنِ عمرٍو فسَمِعْتُ منه صوتَ الطُّنبورِ فرَجَعْتُ فقيلَ له: فهلا سَأَلْتَ عنه؟ إنْ لا يَعلَمُ هو.
ورُوِّينَا عن شُعبةَ قالَ: قلتُ للحكَمِ بينِ عُتَيْبَةَ: لِمَ لَمْ تَرْوِ عن زَاذانَ؟ قالَ: كانَ كثيرَ الكلامِ. وقالَ محمَّدُ بنُ حُميدٍ الرازيُّ: حَدَّثَنا جَريرٌ قالَ: رأيتُ سِمَاكَ بنَ حَرْبٍ يَبولُ قائماً فلَمْ أَكْتُبْ عنه، وقد عَقَّبَ الخطيبُ لهذا باباً في (الكِفايةِ).
و (القولُ الثاني) عكْسُ القولِ الأَوَّلِ أنه يَجِبُ بَيانُ سَبَبِ العدالةِ، ولا يَجِبُ بَيانُ سببِ الْجَرْحِ؛ لأنَّ أسبابَ العدالةِ يَكْثُرُ التصَنُّعُ فيها فيَبْنِي الْمُعَدِّلُونَ على الظاهِرِ، حكاه صاحِبُ (المحصولِ) وغيرُه، ونَقَلَه إمامُ الْحَرَمَيْنِ في (البُرهانِ) والغزالِيُّ في (الْمَنخولِ) تَبَعاً له عن القاضي أبي بكرٍ، والظاهِرُ أنه وَهْمٌ منهما، والمعروفُ عنه أنه لا يَجِبُ ذِكْرُ أسبابِهما معاً كما سيأتي.
و(القولُ الثالثُ) أنه لا بُدَّ مِن ذكْرِ أسبابِ العدالةِ والجَرْحِ معاً، حكاه الخطيبُ، والأُصُولِيُّونَ قالوا: وكما قد يَجْرَحُ الجارِحُ بما لا يَقدحُ، كذلك قد يُوَثِّقُ المعَدِّلُ بما لا يَقتضِي العدالةَ، كما روى يعقوبُ الفَسَوِيُّ في تاريخِه قالَ: سَمِعْتُ إنساناً يقولُ لأحمدَ بنِ يُونسَ: عبدُ اللهِ العُمَرِيُّ ضعيفٌ؟ قالَ: إنما يُضَعِّفُه رافضِيٌّ مبْغِضٌ لآبائِه، لو رأيتَ لِحْيَتَه وخِضابَه وهَيئتَه لعَرَفْتَ أنه ثِقةٌ، فاسْتَدَلَّ أحمدُ بنُ يونُسَ على ثِقتِه بما ليس حُجَّةً؛ لأنَّ حُسْنَ الهيئةِ يَشترِكُ فيه العدْلُ والمجروحُ.
(والقولُ الرابعُ) عكسُه أنه لا يَجِبُ ذكْرُ سببِ واحدٍ منهما إذا كانَ الجارحُ والمعَدِّلُ عالِماً بَصيراً وهو اختيارُ القاضِي أبي بكْرٍ، ونَقَلَه عن الْجُمهورِ فقالَ: قالَ الْجُمهورُ مِن أهْلِ العلْمِ إذا جَرَحَ مَن لا يَعْرِفُ الْجَرْحَ يَجِبُ الكشْفُ عن ذلك، ولم يُوجِبُوا ذلك على أهْلِ العلْمِ بهذا الشأنِ.
قالَ: والذي يُقَوِّي ذلك عندَنا تَرْكُ الكشْفِ عن ذلك إذا كانَ الجارِحُ عالِماً، كما لا يَجِبُ استفسارُ المعَدِّلِ عما به صارَ عندَه الْمُزَكَّى عَدْلاً. إلى آخِرِ كلامِه.
ومِمَّنْ حكاهُ عن القاضِي أبي بكرٍ الغَزَالِيُّ في (الْمُسْتَصْفَى) خِلافَ ما حكاه عنه في (المنخولِ)، وما ذَكَرَ عنه في (الْمُسْتَصْفَى) هو الذي حكاهُ صاحبُ (المحصولِ) والآمِدِيُّ وهو المعروفُ عن القاضي، كما رواه الخطيبُ عنه في (الكفايةِ)، والقولُ الأَوَّلُ هو الذي نَصَّ عليه الشافعِيُّ، وقالَ الخطيبُ: هو الصوابُ عنْدَنا.
وقالَ ابنُ الصلاحِ: إنه الصحيحُ المشهورُ، وحَكَى الخطيبُ أنه ذَهَبَ الأئمَّةُ مِن حُفَّاظِ الحديثِ ونُقَّادِه مِثلِ البخاريِّ ومُسلمٍ وغيرِهما إلى أنَّ الجرْحَ لا يُقْبَلُ إلاَّ مُفَسَّراً، قالَ ابنُ الصَّلاحِ: وهذا ظاهِرٌ مُقَرَّرٌ في الفِقهِ وأصولِه.
(272) فإنْ يُقَلْ قَلَّ بيانُ مَن جَرَحْ كذا إذا قالُوا لِمَتْنٍ لم يَصِحْ
(273)وأَبْهَمُوا فالشيخُ قد أَجَابَا أنْ يَجِبَ الوَقْفُ إذا اسْتَرَابَا
(274)حتى يُبِينَ بَحْثُه قَبُولَهْ كمَن أُولُو الصحيحِ خَرَّجُوا لَهُ
(275) ففي البخارِيِّ احْتِجَاجاً عِكْرِمَهْ مع ابنِ مرزوقٍ وغيرُ تَرْجَمَهْ
(276)واحتَجَّ مُسْلِمٌ بِمَن قد ضُعِّفَا نحو سُوَيْدٍ إذ بِجَرْحٍ ما اكْتَفَى
(277)قلْتُ وقد قالَ أبو الْمَعَالِي واختارَه تِلميذُه الغَزالِي
(278)وابنُ الْخَطيبِ الْحَقُّ أنْ يُحْكَمْ بِمَا أَطْلَقَهُ العالِمْ بأَسْبَابِهِمَا
هذا سؤالٌ أوْرَدَه ابنُ الصلاحِ على قولِهم: إنَّ الْجَرْحَ لا يُقبلُ إلاَّ مُفَسَّراً، وكذلك تضعيفُ الحديثِ فقالَ: ولقائلٍ أنْ يقولَ إنما يَعتمِدُ الناسُ في جَرْحِ الرُّواةِ وَرَدِّ حديثِهم على الكُتُبِ التي صَنَّفَها أئمَّةُ الحديثِ في الْجَرْحِ أو في الجرْحِ والتعديلِ، وقَلَّمَا يَتَعَرَّضُونَ فيها لبيانِ السببِ بل يَقْتَصِرُون على مُجَرَّدِ قولِهم: فلانٌ ضعيفٌ، وفلانٌ ليس بشيءٍ ونحوِ ذلك، أو هذا حديثٌ ضعيفٌ، وهذا حديثٌ غيرُ ثابِتٍ ونحوِ ذلك، فاشتراطُ بيانِ السبَبِ يُفْضِي إلى تعطيلِ ذلك، وسَدِّ بابِ الجَرْحِ في الأغلَبِ الأكثَرِ.
قالَ: وجوابُه أنَّ ذلك وإنْ لم نَعْتَمِدْه في إثباتِ الْجَرْحِ والحكْمِ به فقد اعتَمَدْنَاه في أنَّ تَوَقَّفْنَا عن قَبولِ حديثِ مَن قالوا فيه مثلَ ذلك بناءً على أنَّ ذلك أوْقَعَ عندَنا فيهم رِيبةً قَوِيَّةً يُوجِبُ مِثْلُها التوقُّفَ، ثم مَن انزَاحَتْ عنه الرِّيبةُ منهم يُبْحَثُ عن حالِه، أوْجَبَ الثِّقَةَ بعدالتِه قَبِلْنَا حديثَه ولم نَتَوَقَّفْ كالذين احْتَجَّ بهم صاحبا الصحيحينِ وغيرُهما ممن مَسَّهُمْ مِثلُ هذا الجرْحِ مِن غيرِهم فافْهَمْ ذلك فإنه مَخْلَصٌ حَسَنٌ.
ولَمَّا نَقَلَ الخطيبُ عن أئِمَّةِ الحديثِ أنَّ الجَرْحَ لا يُقْبَلُ إلاَّ مُفَسَّراً قالَ: فإنَّ البخارِيَّ احْتَجَّ بجماعةٍ سَبَقَ مِن غيرِه الطعْنُ فيهم والجَرْحُ لهم، كعِكرمةَ مولى ابنِ عبَّاسٍ في التابعينَ، وكإسماعيلَ بنِ أبي أُوَيْسٍ وعاصِمِ بنِ عَلِيٍّ وعمرِو بنِ مَرزوقٍ في المتأخِّرينَ قالَ: وهكذا فعَلَ مسلِمٌ، فإنه احْتَجَّ بسُويدِ بنِ سعيدٍ وجماعةٍ غيرِهم اشْتُهِرَ عمَّن يَنظرُ في حالِ الرُّواةِ الطعْنُ عليهم.
قالَ: وسلَكَ أبو داودَ هذه الطريقةَ وغيرُ واحدٍ مِمَّنْ بعدَه.
وقولُه: (إذ بِجَرْحٍ) أيْ: بِمُطْلَقِ جَرْحٍ، وذلك لأنَّ سُوَيْدَ بنَ سعيدٍ صَدوقٌ في نفْسِه كما قالَ أبو حاتمٍ وصالحُ بنُ جَزَرَةَ ويعقوبُ بنُ شَيبةَ وغيرُهم، وقد ضَعَّفَه البخاريُّ والنَّسائِيُّ فقالَ البخاريُّ: حديثُه مُنْكَرٌ، وقالَ النَّسائيُّ: ضعيفٌ، ولم يُفَسِّرُوا الْجَرْحَ، وأكثَرُ مَن فسَّرَ الجرْحَ فيه ذَكَرَ أنه لَمَّا عَمِيَ ربما تَلَقَّنَ الشيءَ، وهذا وإنْ كان قادِحاً فإنما يَقْدَحُ فيما حدَّثَ به بعدَ العَمَى، وما حدَّثَ به قبلَ ذلك فصحيحٌ.
ولعلَّ مُسْلِماً إنما خَرَّجَ عنه ما عَرَفَ أنه حَدَّثَ به قَبْلَ عَماهُ، وأمَّا تكذيبُ ابنِ مَعينٍ له فإنه أَنْكَرَ عليه ثلاثةَ أحاديثَ: حديثَ (مَن عَشَقَ وعَفَّ)، وحديثَ (مَن قالَ في دينِنا برأْيِهِ فاقْتُلُوهُ) وحديثَه عن أبي مُعاويةَ عن الأعمَشِ عن عَطِيَّةَ عن أبي سعيدٍ مَرفوعاً ((الحسَنُ والْحُسينُ سَيِّدَا شبابِ أهْلِ الْجَنَّةِ)).
فقالَ ابنُ مَعينٍ: هذا باطِلٌ عن أبى مُعاويةَ، قالَ الدارقُطنيُّ: فلما دَخَلْتُ مِصرَ وجَدْتُ هذا الحديثَ في مُسْنَدِ الْمِنْجَنِيقِيِّ وكانَ ثِقةً عن أبي كُريبٍ عن أبي مُعاويةَ، فتَخَلَّصَ منه سُويدٌ فأنكرَه عليه ابنُ مَعينٍ لظَنِّه أنه تَفَرَّدَ به عن أبي مُعاويةَ ولا يَحتمِلُ التفَرُّدَ ولم يَتفرَّدْ به، وإنما كَذَّبَه ابنُ مَعينٍ فيما تَلَقَّنَه آخِراً فنَسَبَه إلى الكذِبِ لأَجْلِهِ.
ويَدُلُّ عليه أنَّ محمَّدَ بنَ يحيى السُّوسِيَّ قالَ: سألتُ ابنَ مَعينٍ عن سُويدٍ فقالَ: ما حَدَّثَك حِفْظاً فاكتُبْ عنه، وما حَدَّثَك به تَلقينًا فلا. فدَلَّ هذا على أنه صَدوقٌ عندَه، أنْكَرَ عليه ما تَلَقَّنَه واللهُ أعلَمُ، وإنما روى عنه مسلِمٌ لطلَبِ العُلُوِّ مما صَحَّ عنده بنُزولٍ ولم يُخَرِّجْ عنه ما انْفَرَدَ به.
وقد قالَ إبراهيمُ بنُ أبي طالِبٍ: قلتُ لمسلِمٍ: كيف استَجَزْتَ الروايةَ عن سُويدٍ في الصحيحِ؟ فقالَ: ومِن أينَ كنتُ آتي بنُسخةِ حفْصِ بنِ مَيسرةَ؟! وذلك أنَّ مُسْلِماً لم يَرْوِ عن أحدٍ ممن سَمِعَ مِن حفْصِ بنِ مَيسرةَ في الصحيحِ إلاَّ عن سُويدِ بنِ سعيدٍ فقط، وقد روى في الصحيحِ عن واحدٍ عن ابنِ وَهْبٍ عن حفْصٍ واللهُ أعلَمُ.
وقولِي: (قلتُ) إلى آخِرِ البيتينِ هو مِن الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ، وهما رَدٌّ على السؤالِ الذي ذَكَرَه، وذلك أنَّ إمامَ الْحَرَمينِ أبا الْمَعالِي الْجُوَيْنِيَّ قالَ في كتابِ (البُرهانِ): الحقُّ أنه إنْ كانَ الْمُزَكِّي عالِماً بأسبابِ الجَرْحِ والتعديلِ اكتَفَيْنَا بإطلاقِه وإلاَّ فلا، وهذا هو الذي اختارَه أبو حامِدٍ الغزاليُّ والإمامُ فخْرُ الدِّينِ بنُ الْخَطيبِ، وقد تَقَدَّمَ نقْلُه في شرْحِ الأبياتِ التي قَبلَ هذه عن القاضي أبي بكرٍ وأنه نقَلَه عن الْجُمهورِ.
وممن اختارَه أيضاً مِن الْمُحَدِّثِينَ الخطيبُ فقالَ بعدَ أنْ فَرَّقَ بينَ الْجَرْحِ والتعديلِ في بيانِ السببِ: على أَنَّا نقولُ أيضاً: إنْ كان الذي يُرْجَعُ إليه في الْجَرحِ عَدْلاً مَرْضِيًّا في اعتقادِه وأفعالِه، عارِفاً بصِفَةِ العَدالةِ والجرْحِ وأسبابِهما، عالِماً باختلافِ الفُقهاءِ في أحكامِ ذلك قُبِلَ قولُه فيمن جَرَحَه مُجْمَلاً ولا يُسألُ عن سَبَبِه.
(279) وقَدَّمُوا الْجَرْحَ وقِيلَ إنْ ظَهَرْ مَن عَدَّلَ الأَكْثَرَ فهو الْمُعْتَبَرْ
إذا تَعَارَضَ الْجَرْحُ والتعديلُ في راوٍ واحدٍ فجَرَحَه بعضُهم وعَدَّلَه بعضُهم ففيه ثلاثةُ أقوالٍ:
(أحَدُها) أنَّ الْجَرْحَ مقَدَّمٌ مُطْلَقاً ولو كان الْمُعَدِّلُونَ أكثرَ، ونَقَلَه الخطيبُ عن جُمهورِ العُلماءِ، وقالَ ابنُ الصَّلاحِ: إنه الصحيحُ، وكذا صَحَّحَه الأُصُولِيُّونَ كالإمامِ فخْرِ الدِّينِ والآمِدِيِّ؛ لأنَّ مع الجارِحِ زيادةَ علْمٍ لم يَطَّلِعْ عليها الْمُعَدِّلُ، ولأنَّ الجارِحَ مُصَدِّقٌ للمعَدِّلِ فيما أخبَرَ به عن ظاهِرِ حالِه إلاَّ أنه يُخبِرُ عن أمْرٍ باطِنٍ خَفِيٍّ عن الْمُعَدِّلِ.
(والقولُ الثاني) أنه إنْ كانَ عددُ الْمُعَدِّلِينَ أكثَرَ قُدِّمَ التعديلُ، حكاه الخطيبُ في (الكِفايةِ) وصاحبُ (المحصولِ)، وذلك لأنَّ كثرةَ الْمُعَدِّلِينَ تُقَوِّي حالَهم، وتُوجِبُ العمَلَ بخَبَرِهم، وقِلَّةَ الجارحينَ تُضَعِّفُ خَبَرَهم، قالَ الخطيبُ: هذا خطأٌ ويُعَدُّ ممن تَوَهَّمَه؛ لأنَّ الْمُعَدِّلِينَ وإنْ كَثُرُوا ليسوا يُخْبِرُونَ عن عَدَمِ ما أَخْبَرَ به الجارحونَ، ولو أخْبَرُوا بذلك لكانت شَهادةً باطلةً على نَفْيٍ.
و(القولُ الثالثُ) أنه يَتعارضُ الجَرْحُ والتعديلُ فلا يُرَجَّحُ أحَدُهما إلاَّ بِمُرَجِّحٍ، حكاه ابنُ الحاجِبِ، وكلامُ الخطيبِ يَقتضِي نَفْيَ هذا القولِ الثالثِ فإنه قالَ: اتَّفَقَ أهْلُ العلْمِ على أنَّ مَن جَرَحَه الواحدُ والاثنانِ وعَدَّلَه مثلُ عَدَدِ مَن جَرَحَه فإنَّ الْجَرْحَ به أَوْلَى، ففي هذه الصورةِ حكايةُ الإجماعِ على تقديمِ الْجَرْحِ خِلافَ ما حكاه ابنُ الحاجِبِ.
وقولِي (الأكثَرَ) هو في موضِعِ الحالِ، وجاءَ مُعَرَّفاً كما قُرِئَ في الشاذِّ قولُه تعالى: (لَيَخْرُجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) على أنَّ يَخْرُجُ ثلاثِيٌّ قاصِرٌ، والأذَلَّ في مَوْضِعِ الحالِ.
(280) ومُبْهَمُ التعديلِ ليس يَكتفِي به الْخَطيبُ والفقيهُ الصَّيْرَفِي
(281) وقيلَ يَكْفِي نحوُ أنْ يُقَالاَ حَدَّثَنِي الثِّقَةُ بل لو قالاَ
(282) جَميعُ أَشْيَاخِي ثِقاتُ لو لَمْ أُسَمِّ لا يُقْبَلُ مَن قدْ أَبْهَمْ
(283) وبعضُ مَن حَقَّقَ لم يَرُدَّهُ مِن عالِمٍ في حَقِّ مَن قَلَّدَهُ
التعديلُ على الإبهامِ مِن غيرِ تَسميةِ الْمُعَدَّلِ كما إذا قالَ حَدَّثَنِي الثِّقَةُ ونحوِ ذلك مِن غيرِ أنْ يُسَمِّيَهُ لا يُكْتَفَى به في التوثيقِ، كما ذَكَرَه الخطيبُ أبو بكرٍ والفقيهُ أبو بكرٍ الصَّيْرَفِيُّ وأبو نَصْرِ بنُ الصَّبَّاغِ مِن الشافعيَّةِ وغيرِهم، وحكى ابنُ الصَّبَّاغِ في (العُدَّةِ) عن أبي حَنيفةَ أنه يُقبلُ، وهو ماشٍ على قولِ مَن يَحْتَجُّ بالْمُرْسَلِ وأَوْلَى بالقَبولِ.
والصحيحُ الأوَّلُ؛ لأنه وإنْ كانَ ثِقَةً عندَه فرُبَّمَا لو سَمَّاهُ لكانَ مِمَّنْ جَرَحَه غيرُه بجَرْحٍ قادِحٍ، بل إضرابُه عن تَسميتِه رِيبَةٌ تُوقِعُ تَرَدُّداً في القلْبِ، بل زادَ الخطيبُ على هذا بأنه لو صَرَّحَ بأنَّ جميعَ شيوخِه ثِقاتٌ، ثم روى عمَّن لم يُسَمِّه أنْ لا نَعملَ بتزكيتِه له.
قالَ الْخَطيبُ في (الكفايةِ): إذا قالَ العاِلُم: كلُّ مَن رَوَيْتُ عنه فهو ثِقَةٌ وإنْ لم أُسَمِّهِ ثم روى عمَّن لم يُسَمِّهْ فإنه يكونُ مُزَكِّياً له، غيرَ أنَّا لا نَعملُ على تَزكيتِه لِجَوازِ أنْ نَعْرِفَه إذا ذكَرَه بخِلافِ العدالةِ.
نعم إذا قالَ العالِمُ: كلُّ مَن أَرْوِي لكم عنه وأُسَمِّيهِ فهو عَدْلٌ رَضِيٌّ مقبولُ الحديثِ، كان هذا القولُ تَعديلاً لكلِّ مَن روى عنه وسَمَّاهُ، هكذا جَزَمَ به الْخَطيبُ، قالَ: وممن سَلَكَ هذه الطريقةَ عبدُ الرحمنِ بنُ مَهْدِيٍّ.
زادَ البَيقهيُّ مع ابنِ مَهْدِيٍّ مالِكَ بنَ أنَسٍ ويحيى بنَ سعيدٍ القَطَّانَ، قالَ: وقد يُوجَدُ في روايةِ بعضِهم الراويةُ عن بعضِ الضُّعفاءِ لِخَفَاءِ حالِه عليه، كروايةِ مالِكٍ عن عبدِ الكريمِ بنِ أبي الْمُخَارِقِ، وفي التعديلِ على الإبهامِ قولانِ آخرانِ:
(أحدُهما) أنه يُقْبَلُ مُطْلَقاً كما لو عَيَّنَه؛ لأنه مأمونٌ في الحالتينِ معاً.
(القولُ الثاني) وهو ما حَكاهُ ابنُ الصلاحِ عن اختيارِ بعضِ الْمُحَقِّقِينَ أنه إنْ كانَ القائلُ لذلك عالِماً أَجْزَأَ ذلك في حقِّ مَن يُوافِقُه فِي مَذْهَبِه، كقولِ مالِكٍ: أخْبَرَنِي الثِّقَةُ، وكقولِ الشافعِيِّ ذلك أيضاً في مَواضِعَ، وعليه يَدُلُّ كلامُ ابنِ الصَّبَّاغِ في (العُدَّةِ)، فإنه قالَ: إنَّ الشافعِيَّ لم يُورِدْ ذلك احتجاجاً بالخبَرِ على غيرِه، وإنما ذَكَرَ لأصحابِه قِيامَ الْحُجَّةِ عندَه على الحكْمِ، وقد عَرَفَ هو مَن رَوَى عنه ذلك، وقد بَيَّنَ بعضُ العلماءِ ما أَبْهَمَا مِن ذلك باعتبارِ شُيُوخِهما، فحيث قالَ مالِكٌ عن الثِّقَةِ عندَه عن بُكيرِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الأَشَجِّ، فالثِّقَةُ مَخْرَمَةُ بنُ بُكيرٍ، وحيث قالَ: عن الثقةِ عن عمرِو بنِ شُعيبٍ،
فقيلَ: الثِّقةُ عبدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ.
وقيلَ: الزُّهْرِيُّ. ذكَرَ ذلك أبو عمرَ بنُ عبدِ الْبَرِّ.
وقالَ أبو الحسَنِ محمَّدُ بنُ الْحُسينِ بنِ إبراهيمَ الأَبُرِيُّ السِّجِسْتَانِيُّ في كتابِ (فضائلِ الشافعيِّ): سَمِعْتُ بعضَ أهْلِ المعرفةِ بالحديثِ يقولُ: إذا قالَ الشافعيُّ في كتابِه: أنا الثقةُ عن ابنِ أبي ذِئْبٍ. فهو ابنُ أبي فَدِيكٍ، وإذا قالَ: أخْبَرَنا الثِّقةُ عن الليثِ بنِ سعْدٍ . فهو يحيى بنُ حَسَّانَ، وإذا قالَ: أنا الثِّقةُ عن الوليدِ بنِ كثيرٍ . فهو أبو أسامةَ، وإذا قالَ: أنا الثِّقَةُ عن الأوزاعِيِّ. فهو عمرُو بنُ أبي سَلمةَ، وإذا قالَ: أنا الثِّقةُ عن ابنِ جُريجٍ. فهو مسلِمُ بنُ خالِدٍ، وإذا قالَ: أنا الثِّقَةُ عن صالِحٍ مولى التَّوْأَمَةِ. فهو إبراهيمُ بنُ أبي يَحْيَى.
(284) ولم يَرَوْا فُتياهُ أو عَمْلَهُ على وِفاقِ الْمَتْنِ تَصحيحًا لَهُ
(285) وليس تَعديلاً على الصحيحِ روايةُ العَدْلِ على التصريحِ
أيْ: ولم يَرَوْا فُتيا العالِمِ على وَفْقِ حديثٍ حُكْماً منه بصِحَّةِ ذلك الحديثِ؛ لإمكانِ أنْ يكونَ ذلك منه احتياطاً أو لدليلٍ آخَرَ وَافَقَ ذلك الخبَرَ، وأمَّا رِوايةُ العدْلِ عن شيخٍ بصريحِ اسْمِه فهل ذلك تعديلٌ له أمْ لا، فيه ثلاثةُ أقوالٍ:
(أحَدُها) أنه ليس بتعديلٍ؛ لأنه يَجوزُ أنْ يُرْوَى عن غيرِ عَدْلٍ، وهذا قولُ أكثَرِ العُلماءِ مِن أهْلِ الحديثِ وغيرِهم، وهو الصحيحُ كما قالَ ابنُ الصَّلاحِ.
(والثاني) أنه تعديلٌ مطْلَقاً، إذ لو عَلِمَ فيه جَرْحاً لذَكَرَه، ولكان غَاشًّا في الدِّينِ لو عَلِمَه ولم يَذْكُرْه حَكاهُ الخطيبُ وغيرُه، قالَ أبو بكرٍ الصَّيْرَفِيُّ: وهذا خَطَأٌ؛ لأنَّ الراويةَ تعريفٌ له والعدالةَ بالْخِبْرَةِ، وأجابَ الخطيبُ بأنه قد لا يَعْلَمُ عدالتَه ولا جَرْحَه.
(والثالثُ) أنه إنْ كانَ ذلك العَدْلُ الذي روى عنه لا يَرْوِي إلاَّ عن عَدْلٍ كانت رِوايتُه تَعديلاً وإلاَّ فلا، وهذا هو المختارُ عندَ الأُصُولِيِّينَ كالسيْفِ الآمِدِيِّ وأبي عمرِو بنِ الحاجِبِ وغيرِهما، أمَّا إذا روى عنه مِن غيرِ تصريحٍ باسْمِه فإنه لا يكونُ تَعديلاً بل ولو عَدَّلَه على الإبهامِ لم يُكْتَبْ به كما تقَدَّمَ.
(286) واخْتَلَفُوا هل يُقْبَلُ الْمَجهولُ وهْوَ على ثلاثةٍ مَجعولُ
(287)مجهولُ عَيْنٍ مَن لَهُ راوٍ َفَقْط ورَدَّهُ الأَكْثَرُ والقِسْمُ الوَسَطْ
(288)مجهولُ حالٍ باطِنٍ وظاهِرِ وحُكْمُه الرَّدُّ لَدَى الْجَمَاهِرِ
(289)والثالثُ المجهولُ للعَدَالَهْ في باطِنٍ فَقَطْ فقد رَأَى لَهْ
(290) حُجِّيَّةً في الحكْمِ بعضُ مَن مَنَعْ ما قَبْلَه منهم سُلَيْمٌ فقَطَعْ
(291)به وقالَ الشيخُ إنَّ العَمَلاَ يُشْبِهُ أنه على ذا جُعِلاَ
(292)في كُتُبٍ مِنَ الحديثِ اشْتُهِرَتْ خِبْرَةُ بعضِ مَن بها تَعَذَّرَتْ
(293)في باطِنِ الأَمْرِ وبعضٌ يَشْهَرُ ذا القِسْمِ مَستوراً وفيه نَظَرُ
اخْتَلَفَ العُلماءُ في قَبولِ روايةِ المجهولِ، وهو على ثلاثةِ أقسامٍ:
(مجهولِ العَيْنِ) و (مجهولِ الحالِ ظاهراً وباطناً) و (مجهولِ الحالِ باطناً).
(القسْمُ الأوَّلُ مجهولُ العَيْنِ) وهو مَن لم يَرْوِ عنه إلاَّ راوٍ واحدٌ، وفيه أقوالٌ:
(الصحيحُ) الذي عليه أكثَرُ العلماءِ مِن أهْلِ الحديثِ وغيرِهم أنه لا يُقْبَلُ.
(والثاني) يُقْبَلُ مُطْلَقاً، وهذا قولُ مَن لم يَشترِطْ في الراوي مَزيداً على الإسلامِ.
و(الثالثُ) إنْ كانَ الْمُنْفَرِدُ بالروايةِ عنه لا يَرْوِي إلاَّ عن عَدْلٍ كابنِ مَهْدِيٍّ ويحيى بنِ سعيدٍ ومَن ذُكِرَ معهما، واكْتَفَيْنَا في التعديلِ بواحِدٍ قُبِلَ وإلاَّ فلا.
(والرابعُ) إنْ كانَ مَشهوراً في غيرِ العِلْمِ بالزُّهْدِ أو النَّجْدَةِ قُبِلَ وإلاَّ فلا، وهو قولُ ابنِ عبدِ الْبَرِّ، وسيَأْتِي نقْلُه عنه.
(والخامِسُ) إنْ زَكَّاهُ أحَدٌ مِن أئِمَّةِ الْجَرْحِ والتعديلِ مع روايةِ واحِدٍ عنه قُبِلَ وإلاَّ فلا، وهو اختيارُ أبي الْحَسَنِ بنِ القَطَّانِ في كتابِ (بيانِ الوهْمِ والإيهامِ).
قالَ الخطيبُ في (الكِفايةِ): المجهولُ عندَ أصحابِ الحديثِ هو كلُّ مَن لم يُشْتَهَرْ بطَلَبِ العلْمِ في نفْسِه ولا عَرَفَه العُلماءُ به، ومَن لم يُعْرَفْ حديثُه إلاَّ مِن جِهةِ راوٍ واحدٍ مِثلُ عمرٍو ذي مُرٍّ وجَبَّارٍ الطائِيِّ وعبدِ اللهِ بنِ أَعَزَّ الْهَمْدَانِيِّ والهيثَمِ بنِ حَنَشٍ ومالِكِ بنِ أعَزَّ وسعيدِ بنِ ذي حُدَّانَ، وقيسِ بنِ كُرْكُمٍ وخَمْرِ بنِ مالِكٍ، قالَ: وهؤلاءِ كلُّهم لم يَرْوِ عنهم غيرُ أبي إسحاقَ السَّبِيعِيِّ.
ومثلُ سَمعانَ بنِ مُشَنَّجٍ والْهَزهازِ بنِ ميزنٍ لا يُعْرَفُ عنهما راوٍ إلاَّ الشَّعْبِيُّ.
ومثلِ بكرِ بنِ قرواشٍ وحَلاَّمِ بنِ جَزْلٍ لم يَرْوِ عنهما إلاَّ أبو الطُّفَيْلِ عامِرُ بنُ واثِلَةَ، ومِثلُ يَزيدَ بنِ سُحَيْمٍ لم يَرْوِ عنه إلاَّ خَلاَّسُ بنُ عمرٍو، ومثلُ جُرَيِّ بنِ كُليبٍ لم يَرْوِ عنه إلاَّ قَتادةُ بنُ دِعَامَةَ، ومثلُ عُميرِ بنِ إسحاقَ لم يَرْوِ عنه سِوَى عبدِ اللهِ بنِ عَوْنٍ وغيرِ مَن ذَكَرْنا.
ورُوِّينَا عن محمَّدِ بنِ يَحيى الذُهْلِيِّ قالَ: إذا روى عن الْمُحَدِّثِ رجلانِ ارْتَفَعَ عنه اسمُ الْجَهالةِ، وقالَ الخطيبُ: أقَلُّ ما تَرتفِعُ به الْجَهالةُ أخٌ يَرْوِي عنه اثنانِ فصاعِداً مِن المشهورينَ بالعلْمِ، إلاَّ أنه لا يَثْبُتُ له حكْمُ العَدالةِ برِوَايَتِهِما عنه، واعترَضَ عليه ابنُ الصلاحِ بأنَّ الْهَزهازَ روى عنه الثورِيُّ أيضاً.
قلتُ: وروى عنه أيضاً الْجَرَّاحُ بنُ مَلِيحٍ فيما ذَكَرَه ابنُ أبي حاتمٍ، وسَمَّى أباهُ مازِنًا بالألِفِ لا بالياءِ، ولعلَّ بعضَهم أمالَه فكَتَبَه بالياءِ، وخَمْرُ بنُ مالِكٍ روى عنه أيضاً عبدُ اللهِ بنُ قَيسٍ، وذكَرَه ابنُ حِبَّانَ في الثِّقاتِ وسَمَّاهُ خُمَيْرَ بنَ مالِكٍ، وذكَرَ الخِلافَ فيه في التصغيرِ والتكبيرِ ابنُ أبي حاتمٍ، وكذلك الْهَيثمُ بنُ حَنَشٍ روى عنه أيضاً سَلَمَةُ بنُ كُهيلٍ، قاله أبو حاتمٍ الرازيُّ، وأمَّا عبدُ اللهِ بنُ أعَزَّ ومالِكُ بنُ أعَزَّ فقدْ جَعَلَهما ابنُ مَاكُولاَ واحداً اختُلِفَ على أبي إسحاقَ في اسْمِه.
وبكْرُ بنُ قرواشٍ روى عنه أيضاً قَتادةُ فيما ذكَرَه البُخاريُّ وابنُ حِبَّانَ في الثِّقاتِ وسَمَّى ابنُ أبي حاتمٍ أباه قُريشاً، وحَلاَّمُ بنُ جَزْلٍ ذكَرَه البخاريُّ في تاريخِه فقالَ: حَلاَّبٌ أيْ بباءٍ موَحَّدَةٍ، وخَطَّأَهُ ابنُ أبي حاتمٍ في كتابٍ جَمَعَ فيه أوهامَه في التاريخِ وقالَ: إنما هو حَلاَّمٌ أيْ بالميمِ، ثم تَعَقَّبَ ابنُ الصلاحِ بعضَ كلامِ الخطيبِ المتقَدِّمِ بأنْ قالَ: قد خَرَّجَ البخاريُّ حديثَ جماعةٍ ليس لهم غيرُ راوٍ واحدٍ منهم مِرْدَاسٌ الأَسْلَمِيُّ لم يَرْوِ عنه غيرُ قَيسِ بنِ أُبَيٍّ، وخَرَّجَ مسلِمٌ حديثَ قومٍ ليس لهم غيرُ راوٍ واحدٍ منهم ربيعةُ بنُ كعْبٍ الأسلَمِيُّ، لم يَرْوِ عنه غيرُ أبي سَلمةَ بنِ عبدِ الرحمنِ، وذلك منهما مُصَيَّرٌ إلى أنَّ الراوي قد يَخْرُجُ عن كونِه مَجهولاً مَردوداً بروايةِ واحدٍ عنه، والخِلافُ في ذلك مُتَّجِهٌ نحوَ اتِّجاهِ الخِلافِ المعروفِ في الاكتفاءِ بواحدٍ في التعديلِ.
قلتُ: لم يَنْفَرِدْ عن مِرداسٍ قيسٌ بل روى عنه أيضاً زيادُ بنُ عِلاَقةَ فيما ذكَرَه الْمِزِّيُّ في (التهذيبِ) وفيه نَظَرٌ ، ولم يَنفرِدْ عن ربيعةَ أبو سَلمةَ بل روى عنه أيضاً نُعيمٌ الْمُجْمِرُ وحَنظلةُ بنُ عليٍّ، وأيضاً فمِرداسٌ وربيعةُ مِن مَشاهيرِ الصحابةِ، فمِرداسٌ مِن أهلِ الشجرةِ وربيعةُ مِن أهلِ الصُّفَّةِ.
وقد ذَكَرَ أبو مسعودٍ إبراهيمُ بنُ محمَّدٍ الدِّمَشْقِيِّ في جُزءٍ له أجابَ فيه عن اعتراضاتِ الدارقُطنيِّ على كتابِ مُسلِمٍ فقالَ: لا أعْلَمُ روى عن أبي عليٍّ عمرِو بنِ مالِكٍ الْجَنْبِيِّ أحَدٌ غيرُ أبي هانئٍ، قالَ: وبِروايةِ أبي هانئٍ وحْدَه لا يَرتفعُ عنه اسمُ الْجَهالةِ إلاَّ أنْ يكونَ مَعروفاً في قَبيلتِه أو يَرْوِيَ عنه أحَدٌ معروفٌ مع أبي هانئٍ فيَرتفعُ عنه اسمُ الْجَهالةِ، وقد ذَكَرَ ابنُ الصلاحِ في النوعِ السابعِ والأربعينَ عن ابنِ عبدِ الْبَرِّ قالَ: كلُّ مَن لم يَرْوِ عنه إلاَّ رجُلٌ واحدٌ فهو عندَهم مجهولٌ، إلاَّ أنْ يكونَ رجُلاً مَشهوراً في غيرِ حَمْلِ العلْمِ، كاشتهارِ مالِكِ بنِ دِينارٍ بالزهْدِ وعمرِو بنِ مَعْدِي كَرِبَ بالنجْدَةِ اهـ.
فشُهرةُ هَذينِ بالصُّحبةِ عندَ أهْلِ الحديثِ آكَدُ في الثِّقةِ به مِن مالِكٍ وعمرٍو واللهُ أعْلَمُ.
(والقِسمُ الثاني مجهولُ الحالِ في العَدالةِ في الظاهِرِ والباطنِ) مع كونِه معروفَ العينِ بروايةِ عَدْلَيْنِ عنه وفيه أقوالٌ:
(أحَدُها) وهو قولُ الجماهيرِ كما حكاهُ ابنُ الصلاحِ أنَّ رِوايتَه غيرُ مقبولةٍ.
(والثاني) تُقْبَلُ مُطْلَقاً وإنْ لم تُقْبَلْ روايةُ القِسْمِ الأَوَّلِ، قالَ ابنُ الصَّلاحِ: وقد يَقْبَلُ روايةَ المجهولِ العدالةِ مَن لا يَقبلُ روايةَ مجهولِ العَيْنِ.
(والثالثُ) إنْ كانَ الراويانِ أو الرُّواةُ عنه فيهم مَن لا يَرْوِي عن غيرِ عَدْلٍ قُبِلَ وإلاَّ فلا.
(والقِسمُ الثالثُ مجهولُ العدالةِ الباطِنَةِ) وهو عدْلٌ في الظاهِرِ، فهذا يَحْتَجُّ به بعضُ مَن رَدَّ القِسمينِ الأَوَّلَيْنِ، وبه قَطَعَ الإمامُ سُليمُ بنُ أيُّوبَ الرازيُّ قالَ: لأنَّ الإخبارَ مَبْنِيٌّ على حُسْنِ الظنِّ بالراوِي، ولأنَّ روايةَ الأخبارِ تكونُ عندَ مَن تَتَعَذَّرُ عليه مَعرفةُ العدالةِ في الباطِنِ فاقتَصَرَ فيها على مَعرفةِ ذلك في الظاهِرِ، وتُفارِقُ الشهادةَ فإنها تكونُ عندَ الحكَّامِ ولا يَتَعَذَّرُ عليهم ذلك فاعْتُبِرَ فيها العدالةُ في الظاهِرِ والباطنِ.
قالَ ابنُ الصَّلاحِ: ويُشبُه أنْ يكونَ العمَلُ على هذا الرأيِ في كثيرٍ مِن كتُبِ الحديثِ المشهورةِ في غيرِ واحدٍ مِن الرُّاوةِ الذين تَقَادَمَ العهْدُ بهم، وتَعَذَّرَت الْخِبرةُ الباطنةُ بهم واللهُ أعْلَمُ، وأَطْلَقَ الشافعيُّ كلامَه في اختلافِ الحديثِ أنه لا يُحْتَجُّ بالمجهولِ.
وحَكَى البَيهقيُّ في الْمَدخلِ أنَّ الشافعيَّ لا يَحتَجُّ بأحاديثِ المجهولينَ، ولَمَّا ذَكَرَ ابنُ الصلاحِ هذا القِسمَ الأخيرَ قالَ: وهو الْمَستورُ فقد قالَ بعضُ أَئِمَّتِنا: الْمَستورُ مَن يكونُ عَدْلاً في الظاهِرِ ولا تُعْرَفُ عدالتُه باطِناً. انتهى كلامُه.
وهذا الذي نَقَلَ كلامَه آخِراً ولم يُسَمِّهِ هو البَغَوِيُّ فهذا لفْظُه بحروفِه في (التهذيبِ) وتَبِعَه عليه الرافعيُّ، وحكى الرافعيُّ في الصوْمِ وجهينِ في قَبولِ روايةِ المستورِ مِن غيرِ ترجيحٍ وقالَ النوويُّ في شرْحِ (المهذَّبِ) إنَّ الأَصَحَّ قَبولُ روايتِه.
وقولِي: (وفيه نَظَرْ) ليس في كلامِ ابنِ الصلاحِ فهو مِن الزوائدِ التي لم تَتَمَيَّزْ، ووَجْهُ النظَرِ الذي أَشَرْتُ إليه هو أنَّ في عِبارةِ الشافعيِّ في اختلافِ الحديثِ ما يَقتضِي أنَّ ظاهِرَيِ العدالةِ مَن يَحْكُمُ الحاكِمُ بشَهادَتِهما فقالَ في جوابِ سؤالٍ أو رَدِّه: فلا يَجوزُ أنْ يُتْرَكَ الحكْمُ بشَهادتِهما إذا كانا عَدْلَيْنِ في الظاهِرِ.
فعلى هذا لا يُقالُ لِمَن هو بهذه الْمَثابةِ مَستورٌ، نعم في كلامِ الرافعيِّ في الصوْمِ أنَّ العَدالةَ الباطِنَةَ هي التي يُرْجَعُ فيها إلى أقوالِ الْمُزَكِّينَ، ونَقَلَ الرُّويانيُّ في (البحْرِ) عن نصِّ الشافعيِّ في (الأمِّ) أنه لو حَضَرَ العَقْدَ رجلانِ مُسْلِمانِ ولا يُعرفُ حالُهما مِن الفِسْقِ والعدالةِ انْعَقَدَ النِّكاحُ بهما في الظاهِرِ، قالَ: لأنَّ الظاهِرَ مِن المسلمينَ العدالةَ.
(294) والْخُلْفُ في مُبْتَدِعٍ ما كُفِّرَا قِيلَ يُرَدُّ مُطْلَقاً واسْتُنْكِرَا
(295) وقيلَ بل إذا اسْتَحَلَّ الكَذِبَا نُصرةَ مَذْهَبٍ له ونُسِبَا
(296)للشافعِيِّ إذ يقولُ أَقْبَلُ مِن غيرِ خَطَّابِيَّةٍ ما نَقَلُوا
(297)والأكثرونَ ورَآهُ الأَعْدَلاَ رَدُّوا دُعاتَهم فقطْ ونَقَلاَ
(298)فيه ابنُ حِبَّانَ اتِّفاقاً ورَوَوْا عن أهْلِ بِدْعٍ في الصحيحِ ما دَعَوْا
اخْتَلَفُوا في روايةِ مُبْتَدِعٍ لم يُكَفَّرْ في بِدعتِه على أقوالٍ:
فقيلَ تُرَدُّ روايتُه مُطْلَقاً؛ لأنه فاسقٌ ببدعتِه، وإنْ كانَ مُتَأَوِّلاً، فتُرَدُّ كالفاسِقِ مِن غيرِ تأويلٍ، كما استوى الكافِرُ الْمُتَأَوِّلُ وغيرُ المتأوِّلِ، وهذا يُرْوَى عن مالِكٍ كما قالَ الْخَطيبُ في (الكفايةِ)، وقالَ ابنُ الصَّلاحِ: إنه بعيدٌ مُبَاعِدٌ للشائعِ عن أئِمَّةِ الحديثِ: فإنَّ كُتُبَهم طافِحَةٌ بالروايةِ عن الْمُبْتَدِعَةِ غيرِ الدُّعاةِ كما سيأتي.
(والقولُ الثاني) أنه إنْ لم يَكُنْ ممن يَسْتَحِلُّ الكَذِبَ في نُصرةِ مَذْهَبِه أو لأَهْلِ مَذْهَبِه قُبِلَ، سواءٌ دَعَا إلى بِدْعَتِه أمْ لا، وإنْ كانَ ممن يَسْتَحِلُّ ذلك لم تُقْبَلْ، وعَزَا الخطيبُ إِذَنِ القولَ للشافعيِّ لقوله: أَقْبَلُ شَهادةَ أهْلِ الأهواءِ إلاَّ الْخَطَّابِيَّةَ مِن الرافضةِ؛ لأنهم يَرَوْنَ الشَّهادةَ بالزُّورِ لِمُوَافِقِيهِمْ.
قالَ: وحكى هذا أيضاً عن ابنِ أبي ليلى والثوريِّ وأبي يوسفَ القاضي، وروى البَيهقيُّ في الْمَدخلِ عن الشافعيِّ قالَ: ما في أهْلِ الأهواءِ قَوْمٌ أَشْهَدَ بالزورِ مِن الرافِضَةِ.
(والقولُ الثالثُ) أنه إنْ كانَ داعيةً إلى بِدعتِه لم يُقْبَلْ، وإنْ لم يكنْ داعيةً قُبِلَ، وإليه ذَهَبَ أحمدُ كما قالَ الْخَطيبُ، قالَ ابنُ الصَّلاحِ: وهذا مَذهبُ الكثيرِ أو الأكثَرِ وهو أعْدَلُها وأَوْلاَهَا، قالَ ابنُ حِبَّانَ: الداعيةُ إلى البِدَعِ لا يَجوزُ الاحتجاجُ به عندَ أئِمَّتِنَا قاطِبَةً لا أعْلَمُ بينَهم فيه اخْتِلافاً، وهكذا حكى بعضُ أصحابِ الشافعيِّ أنه لا خِلافَ بينَ أصحابِه أنه لا يَقبلُ الداعيةَ، وأنَّ الْخِلافَ بينَهم فيمَن لم يَدْعُ إلى بِدعتِه.
فقولِي: (ونَقَلَ فيه ابنُ حِبَّانَ اتِّفَاقاً) أيْ: في رَدِّ رِوايةِ الداعيةِ وفي قَبولِ غيرِ الداعيةِ أيضاً، واقْتَصَرَ ابنُ الصلاحِ على حكايةِ الاتِّفاقِ عنه في الصورةِ الأُولَى.
وأمَّا الثانيةُ فإنه قالَ في (تاريخِ الثِّقاتِ) في ترجمةِ جعفرِ بنِ سليمانَ الضُّبَعِيِّ ليس بينَ أهْلِ الحديثِ مِن أئِمَّتِنَا خِلافٌ أنَّ الصَّدوقَ الْمُتْقِنَ إذا كان فيه بِدعةٌ ولم يَكنْ يَدعو إليها أنَّ الاحتجاجَ بأخبارِه جائزٌ، فإذا دَعَا إلى بِدعتِه سَقَطَ الاحتجاجُ بأخبارِه.
وفي الْمَسألةِ قولٌ رابعٌ لم يَحْكِهِ ابنُ الصلاحِ أنه تُقْبَلُ أخبارُهم مُطْلَقاً، وإنْ كانوا كُفَّاراً أو فُسَّاقاً بالتأويلِ، حكاه الْخَطيبُ عن جماعةٍ مِن أهْلِ النَّقْلِ والْمُتَكَلِّمِينَ.
وقولِي: (ورَآهُ الأَعْدَلاَ) أي: ابنُ الصلاحِ، وهي جُملةٌ مُعْتَرِضَةٌ بينَ الْمُبْتَدَأِ والخبَرِ، وفي الصحيحين كثيرٌ مِن أحاديثِ الْمُبْتَدِعَةِ غيرِ الدُّعاةِ احتجاجاً واستشهاداً كعِمرانَ بنِ حِطَّانَ وداودَ بنِ الْحُصينِ وغيرِهما.
وفي تاريخِ نَيْسَابُورَ للحاكمِ في ترجمةِ مُحَمَّدِ بنِ يَعقوبَ بنِ الأَخْرَمِ أنَّ كتابَ مسلِمٍ مَلْآنٌ مِن الشيعةِ.
وقولِي: (والْخُلْفُ في مُبْتَدِعٍ ما كُفِّرَا) احترازٌ عن الْمُبْتَدِعِ الذي يُكَفَّرُ ببدعتِه كالْمُجَسِّمَةِ إنْ قُلنا بتكفيرِهم على الْخِلافِ فيه، فإنَّ ابنَ الصلاحِ لم يَحْكِ فيه خِلافاً وحكاه الأُصُولِيُّونَ، فذَهَبَ القاضي أبو بكرٍ إلى ردِّ رِوايتِه مُطْلَقاً كالكافِرِ المخالِفِ والمسلِمِ الفاسِقِ، ونَقَلَه السيفُ الآمِدِيُّ عن الأكثرينَ، وبه جَزَمَ أبو عمرِو بنُ الحاجِبِ، وقالَ صاحِبُ (المحصولِ): الْحَقُّ أنه إنِ اعتَقَدَ حُرمةَ الكَذِبِ قَبِلْنَا رِوايتَه وإلاَّ فلا؛ لأنَّ اعتقادَ حُرمةِ الكَذِبِ تَمْنَعُه منه، واللهُ أعْلَمُ.
(299) وللْحُمَيْدِي والإمامِ أَحْمَدَا بأنَّ مَن لِكَذِبٍ تَعَمَّدَا
(300) أيْ في الحديثِ لم نَعُدْ نَقْبَلُهُ وإنْ يَتُبْ والصَّيْرَفِيِّ مِثْلُهُ
(301)وأَطْلَقَ الكِذْبَ وزادَ أنَّ مَنْ ضُعِّفَ نَقْلاً لم يُقَوَّ بعْدَ أنْ
(302)وليس كالشاهِدِ والسَّمعانِي أبو الْمُظَفَّرِ يَرَى في الْجَانِي
(303)بكَذِبٍ في خَبَرٍ إسقاطَ مَا له مِن الحديثِ قد تَقَدَّمَا
مَن تَعَمَّدَ كَذِباً في حديثِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ فإنه لا تُقبلُ رِوايتُه أَبَداً وإنْ تابَ وحَسُنَتْ تَوبتُه، كما قالَه غيرُ واحدٍ مِن أهْلِ العلْمِ، منهم أحمدُ بنُ حَنبلٍ وأبو بكرٍ الْحُمَيْدِيُّ، أمَّا الكذِبُ في حديثِ الناسِ وغيرِه مِن أسبابِ الفِسْقِ، فإنه تُقبلُ رِوايةُ التائبِ منه.
قالَ ابنُ الصَّلاحِ: وأطْلَقَ الإمامُ أبو بكرٍ الصَّيْرَفِيُّ الشافعيُّ فيما وَجَدْتُ له في شَرْحِه لرسالةِ الشافعيِّ فقالَ: كلُّ مَن أسْقَطْنَا خَبَرَه مِن أهْلِ النقْلِ بكَذِبٍ وَجَدْنَاهُ عليه لم نَعُدْ لقَبولِه بتوبةٍ تَظهرُ، ومَن ضَعَّفْنَا نقْلَه لم نَجْعَلْهُ قَوِيًّا بعدَ ذلك, وذَكَرَ أنَّ ذلك مما افْتَرَقَتْ فيه الروايةُ والشَّهادةُ.
قلتُ: الظاهِرُ أنه إنما أرادَ الكَذِبَ في حديثِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ لا مُطْلَقاً - بدليلِ قولِه: (مِنْ أهْلِ النَّقْلِ) أيْ للحديثِ، ويَدُلُّ على ذلك أنه قَيَّدَ ذلك بالْمُحَدِّثِ فيما رأيتُه في كتابِه (الدلائلُ والأعلامُ) فقالَ: وليس يَطعنُ على الْمُحَدِّثِ إلاَّ أنْ يَقولَ: عَمَدْتُ الكَذِبَ. فهو كاذِبٌ في الأَوَّلِ ولا نَقبلُ خَبَرَه بعدَ ذلك. انتهى.
وقولِي: (والصَّيْرَفِيِّ) هو مجرورٌ معطوفٌ على قولِي: (وللحُمَيْدِيِّ).
وقولِي: (بعدَ أنْ) أيْ: بعدَ أنْ ضُعِّفَ، فحُذِفَ لدَلالةِ ضُعِّفَ المتَقَدِّمَةِ عليه.
وذَكَرَ أبو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ، أنَّ مَن كَذَبَ في خَبَرٍ واحدٍ وَجَبَ إسقاطُ ما تَقَدَّمَ مِن حديثِه قالَ ابنُ الصَّلاحِ: وهذا يُضَاهِي مِن حيثُ المعنى ما ذَكَرَه الصَّيْرَفِيُّ.
(304) ومَن روى عن ثِقَةٍ فكَذَّبَهْ فقد تَعَارَضَا ولكنْ كَذِبَهْ
(305) لا تُثْبِتَنْ بقَوْلِ شَيْخِه فقَدْ كَذَّبَه الآخَرُ وارْدُدْ ما جَحَدْ
(306)وإنْ يَرُدَّه بلاَ أَذْكُرُ أَوْ ما يَقتضِي نسيانَهُ فقد رَأَوْا
(307)الحكْمَ للذاكِرِ عندَ الْمُعْظَمِ وحُكِيَ الإسقاطُ عن بعضِهمِ
(308)كقِصَّةِ الشاهِدِ واليمينِ إِذْ نَسِيَهُ سُهيلٌ الذي أُخِذْ
(309)عنه فكان بعدُ عن رَبِيعَهْ عن نفْسِه يَرويهِ لن يُضِيعَهْ
(310)والشافعِي نَهَى ابنَ عبدِ الْحَكَمِ يَرْوِي عن الحيِّ لِخَوْفِ التُّهَمِ
إذا روى ثِقَةٌ عن ثِقَةٍ حَدِيثاً فكَذَّبَه الْمَرْوِيُّ عنه صريحاً كقولِه: كَذَبَ عَلَيَّ. أو بنفْيٍ جازِمٍ، كقولِه: ما رَوَيْتُ هذا له. فقد تَعارَضَ قولُهما فَيُرَدُّ ما جَحَدَه الأَصْلُ؛ لأنَّ الراويَ عنه فَرْعُه، ولكنْ لا يَثْبُتُ كَذِبُ الفرْعِ بتكذيبِ الأصْلِ له في غير هذا الذي نَفاهُ، بحيث يكونُ ذلك جَرْحاً للفَرْعِ؛ لأنه أيضاً مُكَذِّبٌ لشيخِه في نَفْيِه لذلك، وليس قَبولُ جَرْحِ كلٍّ منهما بأَوْلَى مِن الآخَرِ فتَسَاقَطا.
وقولِي: في آخِرِ البيتِ: (كَذِبَهُ) مفعولٌ مُقَدَّمٌ لقَوْلِي: (لا تُثْبِتَنَّ).
وقولِي: (وارْدُدْ ما جَحَدْ) أي: ارْدُدْهُ مِن حديثِ الفرْعِ إذا نَفَى الأصْلُ تحديثَه للفرْعِ به خاصَّةً، ولا تَرُدَّهُ مِن حديثِ الأصْلِ نفْسِه إذا حَدَّثَ به كما صَرَّحَ به القاضي أبو بكرٍ فيما حَكاهُ الخطيبُ عنه، وكذا إذا حَدَّثَ به فَرْعٌ آخَرُ ثِقةٌ عنه ولم يُكَذِّبْهُ الأصْلُ فهو مقبولٌ، وهذا واضحٌ.
أمَّا إذا لم يُكَذِّبْهُ الأصْلُ صريحاً ولكنْ قالَ: لا أَذْكُرُه ولا أَعْرِفُه، ونحوَ ذلك فمَّا يَقتضِي جوازَ أنْ يكونَ نَسِيَهُ، فذلك لا يَقتضِي رَدَّ رِوايةِ الفرْعِ عنه، ومع ذلك فقد اخْتُلِفَ فيه هل يكونُ الحكْمُ للفرْعِ الذاكِرِ أو للأصلِ الناسِي، فذَهَبَ جُمهورُ أهْلِ الحديثِ وجُمهورُ الفُقهاءِ والمتكلِّمينَ إلى قَبولِ ذلك، وأنَّ نِسيانَ الأَصْلِ لا يُسقِطُ العملَ بما نَسِيَه.
قالَ ابن الصلاحِ: وهو الصحيحُ. وذهَبَ بعضُ أصحابِ أبى حَنيفةَ إلى إسقاطِه بذلك، وحكاه ابنُ الصَّبَّاغِ في (العُدَّةِ) عن أصحابِ أبي حَنيفةَ، مِثالُهُ حديثٌ رواه أبو دَاودَ والتِّرمذيُّ وابنُ ماجَهْ مِن روايةِ رَبيعةَ بنِ أبي عبدِ الرحمنِ عن سُهيلِ بنِ أبى صالِحٍ عن أبيه عن أبى هُريرةَ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ قَضَى باليمينِ مع الشاهِدِ.
زادَ أبو داودَ في روايةٍ أنَّ عبدَ العزيزِ الدارَوَرْدِيَّ قالَ: فذكَرْتُ ذلك لسُهيلٍ فقالَ: أخْبَرَنِي ربيعةُ وهو عِندي ثِقةٌ أَنِّي حَدَّثْتُه إيَّاهُ ولا أَحْفَظُه. قالَ عبدُ العزيزِ: وقد كانت أصَابَتْ سُهَيْلاً عِلَّةٌ أذْهَبَتْ بعضَ عقْلِه ونَسِيَ بعضَ حديثِه، فكان سُهيلٌ بعدُ يُحَدِّثُه عن ربيعةَ عنه عن أبيه.
ورواه أبو داوُدَ أيضاً مِن روايةِ سُليمانَ بنِ بِلالٍ عن ربيعةَ قالَ سُليمانُ: فلَقِيتُ سُهيلاً فسَأَلْتُه عن هذا الحديثِ فقالَ: لا أعْرِفُه، فقُلْتُ له: إنَّ ربيعةَ أخْبَرَنِي به عنك، قالَ: فإنْ كانَ ربيعةُ أخْبَرَكَ عَنِّي فحَدَّثَ به عن ربيعةَ عَنِّي.
وقد مَثَّلَ ابنُ الصلاحِ بحديثٍ آخَرَ تَرَكْتُ التمثيلَ به لِمَا سأَذْكُرُه، وهو حديثٌ رواه الثلاثةُ الْمَذْكُورون مِن روايةِ سُليمانَ بنِ مُوسى عن الزُّهريِّ عن عُروةَ عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها مَرفوعاً: ((إِذَا نُكِحَت الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ)).
فذكَرَ التِّرمذيُّ أنَّ بعضَ أهْلِ الحديثِ ضَعَّفَه مِن أجْلِ أنَّ ابنَ جُريجٍ قالَ: ثم لَقيتُ الزُّهْرِيَّ فسَأَلْتُه فأَنْكَرَه، وإنما تَرَكْتُ التمثيلَ بهذا الْمِثالِ لعَدَمِ صِحَّةِ إنكارِ الزُّهْرِيِّ له، فقد ذَكَرَ التِّرمذيُّ بعدَه عن ابنِ مَعينٍ أنه لم يَذْكُرْ هذا الحرْفَ على ابنِ جُريجٍ إلاَّ إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ قالَ: وسَمَاعُه عن ابنِ جُريجٍ ليس بذاك إنما صَحَّحَ كُتُبَه على كُتُبِ عبدِ المجيدِ بنِ عبدِ العزيزِ بنِ أبي رَوَّادٍ ما سَمِعَ مِن ابنِ جُريجٍ.
وضَعَّفَ يحيى روايةَ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ عن ابنِ جُريجٍ، وقد جَمَعَ غيرُ واحدٍ مِن الأئمَّةِ أخبارَ مَن حَدَّثَ ونَسِيَ ، منهم الدارقُطنيُّ والخطيبُ. قالَ الخطيبُ في (الكفايةِ): ولأجْلِ أنَّ النِّسيانَ غيرُ مأمونٍ على الإنسانِ فيُبادِرُ إلى جُحودِ ما روى عنه وتكذيبِ الراوي له، كَرِهَ مَن كَرِهَ مِن العُلماءِ التحديثَ عن الأحياءِ، ثم روى عن الشَّعبيِّ أنه قالَ لابنِ عَوْنٍ: لا تُحَدِّثْنِي عن الأحياءِ.
وعن مَعْمَرٍ أنه قالَ لعبدِ الرزَّاقِ: إنْ قَدَرْتَ ألاَّ تُحَدِّثَ عن رَجُلٍ حَيٍّ فافعَلْ. وعن الشافعيِّ أنه قالَ لابنِ عبدِ الحكَمِ: إيَّاكَ والروايةَ عن الأحياءِ. وفي روايةِ البَيهقيِّ في المدخَلِ: لا تُحَدِّثْ عن حَيِّ، فإنَّ الْحَيَّ لا يُؤْمَنُ عليه النِّسيانُ. قاله له حين روى عن الشافعيِّ حكايةً فأَنْكَرَها ثم ذَكَرَها.
(311) ومَن رَوَى بأُجْرَةٍ لم يَقْبَلِ إسحاقُ والرازيُّ وابنُ حَنْبَلِ
(312) وهْو شَبيهُ أُجْرَةِ القُرآنِ يَخْرِمُ مِن مُروءةِ الإنسانِ
(313) لكنْ أبو نُعيمٍ الفضلُ أَخَذْ وغيرُه تَرَخُّصًا فإنْ نَبَذْ
(314) شُغْلاً به الكَسْبُ أَجِزْ إِرْفاقَا أَفْتَى به الشيخُ أبو إسحاقَا
اخْتَلَفُوا في قَبولِ رِوايةِ مَن أخَذَ على التحديثِ أَجْراً. فذَهَبَ أحمدُ وإسحاقُ وأبو حاتمٍ الرازيُّ إلى أنه لا يُقْبَلُ، ورَخَّصَ في ذلك آخَرونَ، منهم أبو نُعيمٍ الفَضْلُ بنُ دُكينٍ شيخُ البُخارِيِّ وعليُّ بنُ عبدِ العزيزِ البَغَوِيُّ، فأَخَذُوا العِوَضَ على التحديثِ.
قالَ ابنُ الصَّلاحِ: وذلك شَبيهٌ بأَخْذِ الأُجرةِ على تعليمِ القرآنِ ونحوِه، غيرَ أنَّ في هذا مِن حيثُ العُرْفِ خَرْماً للمُروءةِ، والظنُّ يُساءُ بفَاعِلِه إلاَّ أنْ يَقترنَ ذلك بعُذْرٍ يَنفِي ذلك عنه، كمِثْلِ ما حَدَّثَنِيهِ به الشيخُ أبو الْمُظَفَّرِ عن أبيه الحافِظِ أبي سعيدٍ السَّمْعَانِيِّ أنَّ أبا الفضْلِ محمَّدَ بنَ ناصِرٍ ذَكَرَ أنَّ أبا الْحُسينِ بنَ النقورِ فَعَلَ ذلك لأنَّ الشيخَ أبا إسحاقَ الشِّيرَازِيَّ أَفْتَاهُ بجَوازِ أخْذِ الأُجْرَةِ على التحديثِ؛ لأنَّ أصحابَ الحديثِ كانوا يَمنعونَه عن الكَسْبِ لعِيالِه.
فقولِي: (يَخْرِمُ مِن مُروءةِ الإنسانِ) أيْ: أخْذُ الأُجْرَةِ على التحديثِ لا على القرآنِ، فعلى هذا يكونُ يَخْرِمُ خَبَراً بعدَ خَبَرٍ.
(315) ورُدَّ ذو تَسَاهُلٍ في الْحَمْلِ كالنوْمِ والأَدَا كَلاَ مِن أَصْلِ
(316) أو قَبِلَ التلقينَ أو قد وُصِفَا بالْمُنْكَراتِ كَثرةً أو عُرِفَا
(317) بِكثرةِ السهْوِ وما حَدَّثَ مِن أصْلٍ صحيحٍ فهو رَدٌّ ثم إِنْ
(318) بُيِّنْ له غَلَطُه فما رَجَعْ سَقَطَ عندَهم حديثُه جُمَعْ
(319) كذا الْحُمَيْدِيُّ مع ابنِ حَنْبَلِ وابنُ المبارَكِ رَأَوْا في العَمَلِ
(320) قالَ وفيه نظَرٌ نعمْ إذا كان عِناداً منه ما يُنْكَرُ ذا
أيْ: ورَدُّوا رِوايةَ مَن عُرِفَ بالتساهُلِ في سَماعِ الحديثِ وتَحَمُّلِه كالنَّوْمِ، أيْ: كمَنْ يَنامُ هو أو شيخُه في حالةِ السَّمَاعِ ولا يُبالِي بذلك.
وكذلك رَدُّوا رِوايةَ مَن عُرفَ بالتساهُلِ في حالةِ الأداءِ للحديثِ كأنْ يُؤَدِّيَ لا مِن أصْلٍ صحيحٍ مقابَلٍ على أصْلِه أو أصْلِ شيخِه على ما سيَأْتِي، وكذا رَدُّوا رِوايةَ مَن عُرِفَ بقَبولِ التَّلْقِينِ في الحديثِ، وهو أنْ يُلَقَّنَ الشيءَ فيُحَدِّثَ به مِن غيرِ أنْ يَعلمَ أنه مِن حديثِه كموسى بنِ دِينارٍ ونحوِه.
وكذا رَدُّوا حديثَ مَن كَثُرَت الْمَناكيرُ والشواذُّ في حديثِه كما قالَ شُعبةُ: لا يَجيئُك الحديثُ الشاذُّ إلاَّ مِن الرجُلِ الشاذِّ. وقيلَ له أيضاً: مَن الذي تَتْرُكُ الروايةَ عنه؟ قالَ: إذا أَكْثَرَ عن المعروفِ مِن الروايةِ ما لا يُعْرَفُ بكثرةٍ مِن حديثِه وأَكْثَرَ الغَلَطَ.
وكذلك رَدُّوا روايةَ مَن عُرِفَ بكثرةِ السهْوِ في رواياتِه إذا لم يُحَدِّثْ مِن أصْلٍ صحيحٍ، فقولِي: (وما حَدَّثَ مِن أصْلٍ) هو في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ: ورُدَّ حديثَ مَن عُرِفَ بكثرةِ السهْوِ في حالِ كونِه ما حَدَّثَ مِن أصْلٍ صحيحٍ، أمَّا إذا حَدَّثَ مِن أصْلٍ صحيحٍ فالسماعُ صحيحٌ، وإنْ عُرِفَ بكثرةِ السهْوِ ؛ لأنَّ الاعتمادَ حينئذٍ على الأَصْلِ لا على حِفْظِه ، قالَ الشافعيُّ في (الرسالةِ): مَن كَثُرَ غَلَطُه مِن الْمُحَدِّثِينَ ولم يكنْ له أصْلُ كتابٍ صحيحٍ لم يُقْبَلْ حديثُه كما يكونُ مِن أكْثَرِ الغَلَطِ في الشهاداتِ لم تُقْبَلْ شَهادتُه.
وقولِي: (فهو رَدٌّ) أيْ: مَردودٌ. وأمَّا مَن أصَرَّ على غَلَطِه بعدَ البَيانِ فوَرَدَ عن ابنِ المبارَكِ وأحمدَ بنِ حَنبلٍ والْحُمَيْدِيِّ وغيرِهم أنَّ مَن غَلَطَ في حديثٍ وبُيِّنَ له غلَطُه فلم يَرجعْ عنه وأصَرَّ على رِوايةِ ذلك الحديثِ سقَطَتْ رِواياتُه ولم يُكتَبْ عنه.
قالَ ابنُ الصَّلاحِ: وفي هذا نَظَرٌ وهو غيرُ مُسْتَنْكَرٍ إذا ظَهَرَ أنَّ ذلك منه على جِهةِ العِنادِ أو نحوُ ذلك، وقالَ ابنُ مَهْدِيٍّ لشُعبةَ: مَن الذي تَتْرُكُ الروايةَ عنه؟ قالَ: إذا تَمَادَى في غَلَطٍ مُجْمَعٍ عليه ولم يَتَّهِمْ نفْسَه عندَ اجتماعِهم على خِلافِه أو رَجُلٌ يُتَّهَمُ بالكذِبِ.
وقالَ ابنُ حِبَّانَ: إنْ بَيَّنَ له خَطأَهُ وعَلِمَ فلم يَرْجِعْ عنه وتَمَادَى في ذلك كان كَذَّاباً بعِلْمٍ صحيحٍ.
(321) وأَعْرَضُوا في هذه الدُّهورِ عن اجتماعِ هذه الأمورِ
(322)لعُسْرِها بل يُكْتَفَى بالعاقِلِ المسلِمِ البالِغِ غيرِ الفاعِلِ
(323)للفِسْقِ ظَاهِراً وفي الضبْطِ بأَنْ يَثْبُتَ ما رَوَى بِخَطِّ مُؤْتَمَنْ
(324)وأنه يَرْوِي من أصلٍ وَافَقَا لأَصْلِ شَيخِهِ كما قد سَبَقَا
(325) لنَحْوِ ذاك البَيهقيُّ فلَقَدْ آلَ السماعُ لتَسلسُلِ السنَدْ
أعْرَضَ الناسُ في هذه الأعصارِ الْمُتَأَخِّرَةِ عن اعتبارِ مجموعِ هذه الشروطِ لعُسْرِها وتَعَذُّرِ الوفاءِ بها، فيُكْتَفَى في أهْلِيَّةِ الشيخِ بكونِه مُسْلِماً بالِغاً عاقِلاً، غيرَ متظاهِرٍ بالفِسْقِ، وما يَخْرِمُ الْمُروءةَ على ما تَقَدَّمَ، ويُكتفَى في اشتراطِ ضَبْطِ الراوِي بوُجودِ سَمَاعِه مُثْبَتاً بخَطِّ ثِقَةٍ غيرِ مُتَّهَمٍ، وبروايتِه مِن أصْلٍ مُوَافِقٍ لأَصْلِ شيخِه، وقد سَبَقَ إلى نحوِ ذلك البَيهقيُّ لَمَّا ذَكَرَ تَوَسُّعَ مَن تَوَسَّعَ في السماعِ مِن بعضِ مُحَدِّثِي زمانِه الذين لا يَحفظونَ حديثَهم، ولا يُحسنونَ قراءتَه مِن كُتبِهم، ولا يَعْرِفونَ ما يُقرأُ عليهم بعدَ أنْ تكونَ القِراءةُ عليهم مِن أصْلِ سَمَاعِهم، وذلك لتَدوينِ الأحاديثِ في الجوامِعِ التي جَمَعَها أئِمَّةُ الحديثِ.
قالَ: فمَن جاءَ اليومَ بحديثٍ لا يُوجَدُ عندَ جَمِيعِهم لم يُقْبَلْ منه، ومَن جاءَ بحديثٍ مَعروفٍ عندَهم فالذي يَرويهِ لا يَتَفَرَّدُ بروايتِه، والْحُجَّةُ قائمةٌ بحديثِه بروايةِ غيرِه والقصْدُ مِن روايتِه والسماعِ منه أنْ يَصيرَ الحديثُ مسَلْسَلاً بحَدَّثَنا وأَخْبَرَنا، وتَبْقَى هذه الكرامةُ التي خُصَّتَ بها هذه الأُمَّةُ شَرَفاً لنَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ.
ولذلك قالَ السلَفِيُّ في جُزءٍ له جَمَعَه في شرْطِ القراءةِ: إنَّ الشيوخَ الذين لا يَعرفونَ حديثَهم الاعتمادُ في رِوايتِهم على الثِّقَةِ الْمُقَيِّدِ عنهم لا عليهم، وإنَّ هذا كلَّه تَوَسُّلٌ مِن الْحُفَّاظِ إلى حفْظِ الأسانيدِ، إذ لَيْسُوا مِن شَرْطِ الصحيحِ إلاَّ على وَجْهِ الْمُتَابَعَةِ، ولولا رُخصةُ العلماءِ لَمَا جازَت الكتابةُ عنهم ولا الرِّوايةُ إلاَّ عن قَوْمٍ منهم دونَ آخَرينَ اهـ.
وهذا هو الذي اسْتَقَرَّ عليه العمَلُ، قالَ الذَّهَبِيُّ في مُقَدِّمَةِ كتابِه (الميزانِ) العُمدةُ في زَمانِنا ليس على الرُّواةِ بل على الْمُحَدِّثِينَ والْمُقَيِّدِينَ الذين عُرِفَتْ عدالتُهم وصِدْقُهم في ضَبْطِ أسماءِ السامعينَ.
قالَ: ثم مِن المعلومِ أنه لا بُدَّ مِن صَوْنِ الراوي وسَتْرِه.