دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > الرسالة التدمرية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 5 ذو الحجة 1429هـ/3-12-2008م, 03:07 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي ما من شيئين إلا ويجتمعان في شيء ويفترقان في شيء

وَمَا مِنْ شَيْئَيْنِ إِلاَّ وَيَجْتَمِعَانِ فِي شَيْءٍ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي شَيْءٍ، فَبَيْنَهُمَا اشْتِبَاهٌ مِنْ وَجْهٍ وَافْتِرَاقٌ مِنْ وَجْهٍ؛ وَلِهَذَا كَانَ ضَلاَلُ بَنِي آدَمَ مِنْ قِبَلِ التَّشَابُهِ وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ لاَ يَنْضَبِطُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَكْثَرُ مَا يُخِطئُ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّأويلِ وَالْقِيَاسِ، فَالتَّأْوِيلُ فِي الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، وَالْقِيَاسُ فِي الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَالتَّأْوِيلُ الْخَطَأُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُتَشَابِهةِ، وَالْقِيَاسُ الْخَطَأِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَعَانِي الْمُتَشَابِهَةِ.
وَقَدْ وَقَعَ بَنُو آدَمَ فِي عَامَّةِ مَا يَتَنَاوَلُهُ هَذَا الْكَلاَمُ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّلاَلاَتِ، حَتَّى آلَ الْأَمْرُ بِمَنْ يَدَّعِي التَّحْقِيقَ وَالتَّوْحِيدَ وَالْعِرْفَانَ مِنْهُمْ إِلَى أَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ وُجُودُ الرَّبِّ بِوُجُودِ كُلِّ مَوْجُودٍ فَظَنُّوا أَنَّهُ هُوَ، فَجَعلُوا وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ عَيْنَ وُجُودِ الْخَالِقِ، مَعَ أَنَّهُ لاَ شَيْءَ أَبْعَدُ عَنْ مُمَاثَلَةِ شَيْءٍ، أَوْ أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ، أَوْ مُتَّحِدًا بِهِ، أَوْ حَالاّ فِيهِ مِنَ الخَالِقِ مَعَ الْمَخْلُوقِ.
فَمَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ وُجُودُ الْخَالِقِ بِوُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ - حَتَّى ظَنُّوا وَجُودَهَا وَجُوَدَهُ - فَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ ضَلاَلًا مِنْ جِهَةِ الِاشْتِبَاهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى "الْوُجُودِ" فَرَأَوُا الْوُجُودَ وَاحِدًا، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ وَالْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ.
وَآخَرُونَ تَوَهَّمُوا أَنَّهُ إِذَا قِيلَ: الْمَوْجُودَاتُ تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى "الْوُجُودِ"، لَزِمَ التَّشْبِيهُ وَالتَّرْكِيبُ، فَقَالُوا: لَفَظُ "الْوُجُودِ" مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ، فَخَالَفُوا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُقَلاَءُ مَعَ اخْتِلاَفِ أَصْنَافِهِمْ مِنْ أَنَّ الْوُجُودَ يَنْقَسِمُ إِلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَام الْمَوْجُودَاتِ.
وَطَائِفَةٌ ظَنَّتْ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْمَوْجُودَاتُ تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى "الْوُجُودِ" لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فِي الْخَارِجِ عَنِ الأَذْهَانِ مَوْجُودٌ مُشْتَرِكٌ فِيهِ، وَزَعَمُوا أَنَّ فِي الْخَارِجِ عَنِ الْأَذْهَانِ كُلِّيَّاتٍ مُطْلَقَةً: مِثْلَ وُجُودٍ مُطْلَقٍ، وَحَيَوَانٍ مُطْلَقٍ، وَجِسْمٍ مُطْلَقٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَخَالَفُوا الْحِسَّ وَالْعَقْلَ وَالشَّرْعَ، وَجَعَلُوا مَا فِي الْأَذْهَانِ ثَابِتًا فِي الْأَعْيَانِ، وَهَذَا كُلُّه مِنْ أَنْوَاعِ الِاشْتِبَاهِ.
وَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَرَّق بَيْنَ الْأُمُورِ وَإِنِ اشْتَرَكَتْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَعُلِمَ مَا بَيْنَهَا مِنَ الجَمْعِ وَالْفَرْقِ، وَالتَّشَابُهِ وَالِاخْتِلاَفِ، وَهَؤُلاَءِ لاَ يُضِلُّونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنَ الكَلاَم؛ِ لِأَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحْكَمِ الْفَارِقُ الَّذِي يُبَيِّنُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الفَصْلِ وَالِافْتِرَاقِ.
وَهَذَا كَمَا أَنَّ لَفْظَ "إِنَّا " و "نَحْنُ " وَغَيْرَهَا مِنْ صِيَغِ الْجَمْعِ يَتَكَلَّمُ بِهَا الْوَاحِدُ الَّذِي لَهُ شُرَكَاءُ فِي الْفِعْلِ، وَيَتَكَلَّمُ بِهَا الْوَاحِدُ الْعَظِيمُ، الَّذِي لَهُ صِفَاتٌ تَقُومُ كُلُّ صِفَةٍ مَقَامَ وَاحِدٍ، وَلَهُ أَعْوَانٌ تَابِعُونَ لَهُ، لاَ شُرَكَاءُ لَهُ. فَإِذَا تَمَسَّكَ النَّصْرَانِيُّ بِقَوْلِهِ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) وَنَحْوِهِ عَلَى تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ، كَانَ الْمُحْكَمُ كَقَوْلِهِ: ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يَحْتَمِلُ إِلاَّ مَعْنًى وَاحِدًا - يُزِيلُ مَا هُنَاكَ مِنَ الاشْتِبَاهِ، وَكَانَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ صِيَغِ الْجَمْعِ مُبَيِّنًا لِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ العَظَمَةِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَطَاعَةِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ المَلاَئِكَةِ وَغَيْرِهمْ.
وَأَمَّا حَقِيقَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَمَا لَهُ مِنَ الجُنُودِ الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي أَفْعَالِهِ، فَلاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ هُوَ ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ)، وَهَذَا مِنْ تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللَّهُ.
وَبِخِلاَفِ الْمَلِكِ مِنَ البَشَرِ إِذَا قَالَ: قَدْ أَمَرْنَا لَك بِعَطَاءٍ. فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ هُوَ وَأَعْوَانُه - مِثْلُ كَاتِبِهِ، وَحَاجِبِهِ، وَخَادِمِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ أَمَرُوا بِهِ، وَقَدْ يُعْلَمُ مَا صَدَرَ عَنْهُ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِن اعْتِقَادَاتِهِ وَإِرَادَاتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لاَ يَعْلَمُ عِبَادُهُ الْحَقَائِقَ الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا مِنْ صِفَاتِهِ وَصِفَاتِ الْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلاَ يَعْلَمُونَ حَقَائِقَ مَا أَرَادَ بِخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ مِنَ الحِكْمَةِ، وَلاَ حَقَائِقَ مَا صَدَرَتْ عَنْهُ مِنَ المَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ.

  #2  
قديم 7 ذو الحجة 1429هـ/5-12-2008م, 02:55 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي تقريب التدمرية للشيخ: محمد بن صالح العثيمين

تَتِمَّةٌ
التَّشابُهُ الواقعُ في القرآنِ نوْعَانِ: حَقِيقِيٌّ وَنِسْبِيٌّ:
فالْحَقِيقِيُّ: مَا لاَ يعْلَمُهُ إلاَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ مثْلُ: حقيقةُ مَا أخْبَرَ اللهُ بهِ عنْ نفسِهِ، وعنِ اليَوْمِ الآخِرِ فإنَّا "وإنْ كُنَّا نَعْلَمُ معانِيَ تلكَ الأَخْبَارِ" لاَ نعْلَمُ حقَائِقَهَا وكُنْهَهَا كمَا قالَ اللهُ تعالى عنْ نفسِهِ: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)([1]). وقالَ: (لاَ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ)([2]). وقالَ عمَّا في اليومِ الآخِرِ: (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)([3]). وَفي الحَديثِ القُدُسِيِّ الثَّابِتِ في الصَّحِحَيْنِ عنِ النَّبيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ اللهَ قالَ: "أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ".

فَمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ عنْ نفسِهِ، وعنِ اليَوْمِ الآخِرِ فيهِ ألفَاظٌ متشابِهةٌ تُشْبِهُ معانِيها مَا نَعْلَمُهُ في الدُّنْيَا، كمَا أخْبَرَ عن نفسِهِ أنَّهُ حَيٌّ، عليمٌ، قديرٌ، سميعٌ، بصيرٌ، ونحوُ ذلكَ، ونحنُ نَعلَمُ أنَّ مَا دلَّتْ عليْهِ هذهِ الأسماءُ مِنَ الصِّفاتِ ليسَ مماثِلاً في الحقيقةِ لمَا للمَخْلُوقِ منْها، فحقيقتُهَا لاَ يَعْلَمُ معنَاهَا إلاَّ اللهُ. كمَا نَعْلَمُ أنَّ في الجَنَّةِ لَحماً، وَلَبَناً، وعَسَلاً، وماءً، وخَمْراً، ونحوَ ذلكَ، ولكنْ ليْسَ حقيقةُ ذلكَ منْ جنْسِ مَا في الدُّنْيَا، وحينئذٍ لاَ يَعلَمُ حقيقَتَها إلاَّ اللهُ تعالى.
والإِخْبارُ عنِ الغَائِبِ لا يُفْهَمُ إنْ لمْ يُعَبَّرْ عَنْهُ بالأسماءِ المعلومةِ معانِيَهَا في الشَّاهِدِ، ويُعْلَمُ بمَا في الغَائِبِ بواسطَةِ العِلْمِ بِمَا في الشَّاهِدِ، معَ العِلمِ بالفارِقِ المُمَيِّزِ، وأنَّ مَا أخبرَ اللهُ بهِ منَ الغَيْبِ أَعظمُ ممَّا يُعْلَمُ في الشَّاهِدِ.
وهذَا النَّوْعُ الَّذِي لا يَعلَمُهُ إلاّ اللهُ لاَ يُسْأَلُ عنْهُ لِتَعَذُّرِ الوُصُولِ إليْهِ.
وأَمَّا النِّسْبِيُّ: فَهُوَ مَا يكونُ مشْتَبِهاً على بعضِ النَّاسِ دونَ بعْضٍ، فيَعلَمُ منْهُ الرَّاسِخُونَ في العِلْمِ والإيمانِ مَا يَخْفى على غيرِهِمْ، إمَّا لنقْصٍ في عِلمِهِمْ أو"ْ تقْصيرٍ في طلَبِهِمْ، أَوْ قُصُورٍ في فَهْمِهِمْ، أوْ سوءٍ في قَصْدِهِمْ.
وهذَا النَّوْعُ يُسْأَلُ عنْ بيانِهِ، لأنَّهُ يُمْكِنُ الوصولُ إليْهِ إذْ ليسَ في القرآنِ شيْءٌ لا يَتبيَّنُ معنَاهُ لأحدٍ منَ النَّاسِ كيْفَ وقدْ قالَ اللهُ عزَّ وجَلَّ: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ)([4]). وقالَ: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) ([5]). وقالَ (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)([6]). وقالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا)([7]). وقال: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)([8]).
لهَذَا النَّوْعِ أمثلةٌ كثيرةٌ في المسائِلِ العِلْمِيَّةِ الخَبَريَّةِ، والمسائلِ العمليَّةِ الحُكْمِيَّةِ وغالِبُ المسائِلِ الَّتِي اخْتَلَفَ النَّاسُ فيهَا أوْ كلُّهَا منْ هذَا النَّوْعِ.
فمنْ أمثلةِ ذلكَ في المسائِلِ العِلْمِيَّةِ الخَبَريَّةِ: قولُهُ تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)([9]). حيثُ اشْتَبَهَ على النُّفَاةِ أهلِ التَّعطِيلِ ففَهِمُوا منْهُ انْتِفَاءَ الصِّفَاتِ عنِ اللهِ تعالى، ظَنًّا منْهُمْ أنَّ إثْبَاتَهَا يَستلزِمُ مماثَلةَ اللهِ تعالى لِلْمَخْلوقينَ فنَفَوْا عنِ اللهِ تعالى ما وَصَفَ بهِ نفسَهُ أوْ بعضَهُ، وأَعْرَضُوا عنِ الأدلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، والعَقْلِيَّةِ الدَّالَّةِ على ثبوتِ صفاتِ الكمالِ للهِ عزَّ وجَلَّ، وغَفَلُوا عنْ كوْنِ الاشْتِرَاكِ في أصْلِ المعْنى لا يَستلزِمُ المماثَلةَ في الحقيقةِ.
ثمَّ لوْ أَمْعَنوا في النَّظَرِ في هذَا المنْفِيِّ (لَيْسَ كمِثْلِهِ شيْءٌ). لَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُ يَدلُّ على ثُبوتِ الصِّفَاتِ لاَ على انتِفَائِهَا، لأنَّ نَفْيَ المماثَلةِ يَدلُّ على ثبوتِ أَصْلِ المَعْنى لكن لكمالِهِ تعالى لا يُماثِلُهُ شيْءٌ لا في ذاتِهِ، ولاَ في صِفَاتِهِ، ولولاَ ثَبوتُ أصلِ الصِّفَةِ لمْ يكُنْ لِنفْيِ المِثْلِ فائدةٌ.
ومنْ أمثلةِ ذلكَ في المسائِلِ العَمَلِيَّةِ الحُكْمِيَّةِ قولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتمُونِي أُصَلِّي". حيثُ اشْتَبَهَ على بعضِ النَّاسِ ففَهِمُوا منْهُ أنَّهُ شاملٌ للكَمِّيَّةِ والكَيْفِيَّةِ وبنُوا على ذلكَ أنَّهُ لا تَجوزُ الزِّيادةُ في صلاةِ اللَّيْلِ على العَدَدِ الَّذِي كانَ النَّبيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقومُ بهِ، فَلاَ يُزَادُ في التَّراوِيحِ في رَمَضَانَ على إحْدى عَشْرةَ، أوْ ثلاثَ عشْرَةَ ركْعَةً، ولكنْ منْ تَأَمَّلَ الحديثَ وَجَدَهُ دالاًّ على الكيْفيَّةِ فَقَطْ، دونَ الكَمِّيَّةِ إلا أنْ تكونَ الكَمِّيَّةُ في ضِمْنِ الكَيْفِيَّةِ كَعَدَدِ الصَّلاةِ الوَاحِدَةِ ويَدلُّ لذلكَ ما ثَبَتَ في صحيحِ البُخاريِّ وغيرِهِ مِنْ حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ عَلى المِنْبَرِ: مَا ترى في صلاةِ اللَّيْلِ؟ قالَ: "مَثْنى مَثْنى فإذَا خُشِيَ الصُّبْحُ صَلَّى واحدةً فأَوْتَرَ لَهُ مَا صَلَّى". وفي روايةٍ أنَّ السَّائِلَ قالَ: كيفَ صلاةُ اللَّيْلِ؟ ولوْ كانَ عددُ قيامِ الَّليْلِ محصوراً لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لهذَا السَّائلِ ولهذَا كانَ الرَّاجِحُ أنْ يُقْتَصَرَ في قيامِ اللَّيْلِ على إحدى عَشْرَةَ أوْ ثلاثَ عشْرةَ وإنْ زادَ على ذلكَ فلاَ بَأْسَ.
وأمثلةُ ذلكَ كثيرةٌ، تُعْلَمُ منْ كُتُبِ الفِقْهِ المعنِيَّةِ بذِكْرِ الخلافِ والتَّرْجِيحِ بينَ الأَقْوالِ، واللهُ المُسْتَعَانُ.

([1]) سورة طه، الآية: 110.

([2]) سورة الأنعام، الآية: 103.

([3]) سورة السجدة، الآية 17.

([4]) سورة النحل، الآية: 89.

([5]) سورة آل عمران، الآية: 138.

([6]) سورة القيامة، الآيتان: 18-19.

([7]) سورة النساء، الآية: 174

([8]) سورة البقرة، الآية: 185.

([9]) الشورى، الآية: 11.

  #3  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 04:26 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي توضيح مقاصد المصطلحات العلمية للشيخ: محمد بن عبد الرحمن الخميس


(32) (قَالَ) شَيْخُ الْإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فَمِن اشْتَبَهَ عليهِ وجودُ الخالقِ بوجودِ المخلوقاتِ كُلِّهَا..) إلى قولِهِ في ص 49:
(وَجَعَلُوا ما في الأذهانِ ثابتًا في الأعيانِ، وهذا كُلُّهُ نوعٌ من الاشْتِبَاهِ ).

الشرحُ:
أَقُولُ: يَقْصِدُ شَيْخُ الْإِسْلاَمِ: أنَّ كثيرًا مِمَّنْ يَدَّعِي التوحيدَ والتحقيقَ والعِرْفَانَ والعلمَ قد وَصَلُوا بضلالِهِم إلى حَدٍّ، اشْتَبَهَ عليهم وجودُ الخالقِ تَعَالَى بوجودِ المخلوقِ، فَظَنُّوا أنَّ وجودَ الخَلْقِ بِعَيْنِهِ وجودُ الخالقِ، ومَنْشَأُ هذا الظنِّ الفاسدِ: أنَّ الموجوداتِ كُلَّهَا تَشْتَرِكُ في مُسَمَّى الوجودِ بالمعنى العامِّ.

فاللَّهُ أَيْضًا مَوْجُودٌ والكونُ أَيْضًا مَوْجُودٌ، واسمُ الموجودِ يَشْمَلُ الخالقَ والمخلوقَ، فَظَنُّوا أنَّ وجودَ الخالقِ بِعَيْنِهِ وُجُودُ المخلوقِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بينَ وجودِ الواحدِ بالعَيْنِ وبينَ وجودِ الواحدِ بالنوعِ.

أي: هؤلاءِ لم يَعْرِفُوا الفرقَ بينَ حُكْمِ النَّوْعِ وبينَ حُكْمِ أفرادِهِ، معَ أنَّ حُكْمَ النوعِ يَخْتَلِفُ عن حُكْمِ أفرادِهِ، فَحُكْمُ النَّوْعِ عُمُومٌ مِن حيثُ العمومُ، وحُكْمُ الفردِ خُصُوصٌ مِن حيثُ الخصوصُ؛ إذْ مِن المعلومِ أنَّ حُكْمَ الإِنَّسانِ العامِّ الكُلِّيِّ غَيْرُ حُكْمِ زيدٍ وعمرٍو وبكرٍ وخالدٍ؛
إذْ لا شكَّ أنَّ الموجوداتِ تَشْتَرِكُ في الوجودِ عامًّا, ولَكِنْ إذا نَظَرْتَ إلى أفرادِ تلكَ الموجوداتِ يَخْتَلِفُ وجودُ كُلِّ فَرْدٍ.

وبهذا الاعتبارِ يَخْتَلِفُ وجودُ اللَّهِ تَعَالَى عن وجودِ المخلوقاتِ. فالمرادُ بالواحدِ بالعَيْنِ هو الفردُ من أفرادِ الكُلِّيِّ, نحوَ: زيدٍ، والمرادُ في الواحدِ بالنوعِ، هو الأمرُ الكُلِّيُّ العامُّ نحوَ: الإِنسانِ، والحيوانِ والموجوداتِ.
ثم بَيَّنَ شَيْخُ الْإِسْلاَمِ ضَلاَلَ أشخاصٍ آخَرِينَ، وهم الذين ظَنُّوا أنَّ لَفْظَ "الوجودِ" مِن قَبِيلِ المشتركِ اللَّفْظِيِّ، يَشْتَرِكُ فيهِ وجودُ الخالقِ ووجودُ المخلوقِ على حَدٍّ سواءٍ.

فَزَعَمُوا أنَّ الموجوداتِ كُلَّهَا تَشْتَرِكُ في مُسَمَّى الوجودِ بالاشتراكِ اللفظيِّ، وزَعَمُوا أنَّ هذا يَسْتَلْزِمُ التشبيهَ والتركيبَ، فَخَالَفَ هؤلاءِ إجماعَ العقلاءِ في قولِهِم: إِنَّ الوجودَ يَنْقَسِمُ إلى قديمٍ ومُحْدَثٍ، مع أنَّ القديمَ والمُحْدَثَ لَيْسَا سواءً في الوجودِ البَتَّةَ، وطائفةٌ ظَنَّتْ أَنَّهُ إذا كانت الموجوداتُ تَشْتَرِكُ في مُسَمَّى الوجودِ لَزِمَ أنْ يَكُونَ في الخارجِ موجودٌ مُشْتَرَكٌ فيهِ، فَزَعَمُوا أَنَّهُ تُوجَدُ في الخارجِ عن الأذهانِ كُلِّيَّاتٌ مُطْلَقَةٌ عامَّةٌ، نحوَ: وجودٌ مُطْلَقٌ، وحيوانٌ مُطْلَقٌ، وإِنسانٌ مُطْلَقٌ، فَخَالَفَ هؤلاءِ الحِسَّ والعقلَ والشَّرْعَ جميعًا؛ لأَنَّ العقلاءَ مُتَّفِقُونَ على أنَّ الأمورَ العامَّةَ والكُلِّيَّاتِ المُطْلَقَةَ أُمُورٌ ذهنيَّةٌ وُجُودُهَا ذِهْنِيٌّ, ولا يُوجَدُ في الخارجِ البَتَّةَ، وإِنَّما تُوجَدُ في الخارجِ أفرادُ تلكَ الأمورِ العامَّةِ، فالأمورُ العامَّةُ لا تُوجَدُ إِلاَّ في الذهنِ، ولكنَّ الأفرادَ بالخصوصِ تُوجَدُ في الخارجِ.

  #4  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 04:27 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التحفة المهدية للشيخ: فالح بن مهدي الدوسري


ومما هو معلومٌ أن ما من شيئين إلا وبينَهما اشتباهٌ من وجهٍ، وهو القدْرُ المشترَكُ، وافتراقٌ من وجهٍ آخَرَ، وهو الفارِقُ الذي يُزيلُ الاشتباهَ؛ وذلك مثلَ جنْسِ الوحيِ والتنزيلِ، قالَ تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} وقالَ عزَّ وجلَّ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ}. وقالَ سبحانَه: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} وقالَ: {هَلْ أُنَبِّؤُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}. فالكُهَّانُ والْمُتَنَبِّئُونَ، والأنبياءُ والمرسَلون، قد اشتَرَكوا في جنسِ الوحيِ والتنزيلِ؛ ولكن مع الفارقِ المميِّزِ بينَ من هو كاذبٌ في قولِه فاجرٌ في عملِه، يَنْزِلُ عليه وحيُ الشيطانِ بالخُبْثِ والبُهتانِ, ومن هو صادقٌ فى قولِه, بَرٌّ فى عملِه, يَنزلُ عليه وحيُ الرحمنِ بواسطةِ الروحِ الأمينِ ليُحْيِيَ به الأرواحَ والأبدانَ، ويُرْشِدُ به إلى ما يُصْلِحُ أمورَ الدنيا والدِّينِ، ومثلَ العرشِ والبَعوضِ، فكلٌّ منهما شيءٌ موجودٌ فهما مشترِكان في مُسمَّى الشيءِ والوجودِ مع اختلافِهما في الذاتِ والصفاتِ.

والخطأُ في تأويلِ النصِّ تفسيرُه بغيرِ مرادِ المتكلِّمِ به وتحريفُه عن مواضعِه. والخطأُ في القياسِ دَعْوى مُمَاثَلَةِ المعاني للمعاني؛ لِمَا بينَها من القَدْرِ المشترَكِ. ووجهُ خطئِهم من جهةِ التأويلِ تلاعبُهم بالنصوصِ، وإساءةُ الظنِّ بها، ونسبةُ قائلِها إلى التكلُّمِ بما ظاهِرُه الضلالُ والإضلالُ، وليس لهم على ذلك حُجَّةٌ من كتابٍ ولا سنَّةٍ، بل العمدَةُ عندَهم نُحاتَةُ الأفكارِ، وزُبالةُ الأذهانِ. ووجهُ خطئِهم من جهةِ القياسِ أنهم أَتَوْا بألفاظٍ مجمَلَةٍ ليست في الكتابِ ولا في السنَّةِ، مثلَ متحيِّزٍ ومحدودٍ، وجسمٍ ومركَّبٍ، ونحوَ ذلك، وجَعَلوا منها مقدِّماتٍ مُسَلَّماً بها عندَهم ومدلولاً عليها بنوعِ قياسٍ، وذلك القياسُ أوقَعَهم فيه مسلَكٌ سلَكُوه في إثباتِ حدوثِ العالَمِ بحدوثِ الأعراضِ؛ أو إثباتِ إمكانِ الجسمِ بالتركيبِ من الأجزاءِ، فوَجَبَ طرْدُ الدليلِ بالحدوثِ والإمكانِ لكلِّ ما شَمِلَه هذا الدليلُ.

والقياسُ الفاسدُ لا يَنْضَبِطُ كما أن التأويلَ الفاسدَ ليس له قانونٌ مستقيمٌ. وذلك أن كلاّ منهما غيرُ مُرْتَكِزٍ على نقْلٍ صحيحٍ أو عقلٍ صريحٍ. والتأويلُ الخطأُ يكونُ في النصوصِ المتشابِهةِ؛ وذلك كألفاظِ نصوصِ صفاتِ اللهِ وألفاظِ نصوصِ صفاتِ المخلوقين. قالَ تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وقالَ سبحانَه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقالَ: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} فتأَوَّلَت المبتَدِعَةُ مدلولَ نصوصِ صفاتِ اللهِ لِمَا بينَ النصوصِ من التشابُهِ. والقياسُ الخطأُ يكونُ في المعاني المتشابِهةِ حيثُ إن كلاّ من المَقِيسِ والمَقِيسِ عليه له نصيبٌ من المعنى الكلِّيِّ المشترَكِ.

قولُه:
وقد وَقَعَ بنو آدمَ في عامَّةِ ما يَتَناوَلُه هذا الكلامُ من أنواعِ الضلالاتِ، حتى آلَ الأمرُ بِمَن يدَّعِي التحقيقَ والتوحيدَ والعِرفانَ منهم إلى أن اشْتَبَهَ عليهم وجودُ الربِّ بوجودِ كلِّ موجودٍ فظَنُّوا أنه هو، فجَعَلوا وجودَ المخلوقاتِ عينَ وجودِ الخالقِ، مع أنه لا شيءَ أبعدُ عن مماثَلَةِ شيءٍ، أو أن يكونَ إيَّاه أو متَّحِداً به؛ أو حالاّ فيه من الخالقِ مع المخلوقِ.

فمن اشْتَبَهَ عليه وجودُ الخالقِ بوجودِ المخلوقاتِ كلِّها حتى ظَنوا وجودَها وجودَه فهم أعظمُ الناسِ ضَلالاً من جهةِ الاشتباهِ. وذلك أن الموجوداتِ تَشْتَرِكُ في مُسمَّى الوجودِ، فرَأَوُا الوجودَ واحداً ,ولم يُفرِّقوا بينَ الواحدِ بالعينِ والواحدِ بالنوعِ.

الشرْحُ:
يَقولُ المؤلِّفُ: إن كثيراً من الناسِ قد وَقَعوا في حَبائلِ الزَّيْغِ والضلالِ بسببِ الاشتباهِ، حتى آلَ الأمرُ بطائفةٍ من بني آدمَ تَدَّعِي أنها بَلَغَتْ في توحيدِ الله غايتَه، وفي العلْمِ والتحقيقِ نهايتَه أن اشتَبَه عليهم وجودُ ربِّ العالَمين بوجودِ كلِّ موجودٍ؛ فظَنُّوا أن المخلوقَ هو عينُ الخالقِ, مع أنه لا شيءَ أبعدُ عن مماثَلةِ شيءٍ من بُعدِ مماثَلةِ الخالقِ للمخلوقِ، ولا شيءَ أبعدُ من أن يكونَ متَّحِداً بشيءٍ من بُعْدِ اتِّحادِ الخالقِ بالمخلوقِ, ولا شيءَ أبعدُ من أن يكونَ حالاّ في شيءٍ من بُعدِ حُلولِ الخالقِ في المخلوقِ. وجِهةُ غلَطِهم أنهم ظَنُّوا أن الوجودَ شيءٌ واحدٌ غيرُ مُنْقَسِمٍ, وهؤلاءِ هم أهلُ الإلحادِ القائلون بوِحدةِ الوجودِ، وأنه ما ثَمَّ موجودٌ قديمٌ خالقٌ وموجودٌ حادثٌ مخلوقٌ؛ بل وجودُ هذا العالَمِ هو عينُ وجودِ اللهِ, وهو حقيقةُ وجودِ هذا العالَمِ. فليس عندَ القومِ ربٌّ وعبدٌ، ولا مالِكٌ ومملوكٌ، ولا راحمٌ ومرحومٌ، ولا عابدٌ ومعبودٌ، ولا مستعينٌ ومستعانٌ به، ولا هادٍ ولا مِهْدِيٌّ، ولا مُنْعِمٌ ومُنْعَمٌ عليه، ولا غَضبانُ ومغضوبٌ عليه؛ بل الربُّ هو نفسُ العبدِ وحقيقتُه، والمالِكُ هو عينُ المملوكِ، والراحمُ هو عينُ المرحومِ، والعابدُ هو نفسُ المعبودِ، فما ثَمَّ سوى ولا غيرُ بوجهٍ من الوجوهِ، وإنما الكائناتُ أجزاءٌ وأبعاضٌ له، بمنزِلَةِ أمواجِ البحرِ في البحرِ, وآخِرِ البيتِ من البيتِ، ومن شِعرِهم:

البحرُ لا شكَّ عندي في تَوحُّدِه وإن تَعدَّدَ بالأمواجِ والزَّبَدِ
فلا يَغُرَّنَّكَ ما شاهَدْتَ من صوَرٍ فالواحدُ الربُّ سارَ العينَ في العدَدِ

وقالَ ابنُ عربيٍّ الحاتميُّ شيخُ الصوفيَّةِ الناطقُ بلسانِهم:

العبدُ ربٌّ والربُّ عبدٌ يا ليتَ شِعرِي مَن المكلَّفْ
إن قلتُ عبدٌ فذاك ربٌّ أو قلتُ ربٌّ أنَّى يُكَلَّفْ

على أن ابنَ عربيٍّ متناقِضٌ مُضْطَرِبٌ في مسألةِ الاتِّحادِ، فاللهُ أعلَمُ بما ماتَ عليه، وبالجملةِ فهؤلاءِ أكفَرُ من اليهودِ والنصارى من جهةِ أن أولئك قالوا: إن الربَّ يَتَّحِدُ بعبدِه الذى قرَّبَه واصْطفاه بعدَ أن لم يَكُونا مُتَّحِدَيْنِ, وهؤلاءِ يقولون: ما زالَ الربُّ هو العبد,َوغيرُه من المخلوقاتِ ليس هو غيرَه، ومن جهةِ أن أولئك خَصُّوا ذلك بِمَن عظَّمُوه كالمسيحِ، وهؤلاءِ جَعَلُوه سارياً في الكلابِ والخنازيرِ والأقذارِ والأوساخِ، وإذا كان اللهُ تعالى قد قالَ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} الآيةُ. فكيفَ بِمَن قالَ: إن اللهَ هو الكفَّارُ والمنافِقون والصِّبيانُ والمجانينُ والأنجاسُ وكلُّ شيءٍ, وإذا كان اللهُ قد رَدَّ قولَ اليهودِ والنصارَى لَمَّا قالوا: نحن أبناءُ اللهِ وأحِبَّاؤُه. وقالَ لهم: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } الآيةَ. فكيف بمن يَزْعُمُ أن اليهودَ والنصارى ما هو إلا عينُ وجودِ الربِّ الخالقِ؟ ليسوا غيرَه, ولا سواه، ولا يُتَصَوَّرُ أن يُعذِّبَ إلا نفسَه، وأن كلَّ ناطقٍ في الكونِ فهو عينُ السامعِ.

والواحدُ بالعينِ هو الذي لا يَقْبَلُ التنويعَ والتقسيمَ, بل هو شيءٌ واحدٌ, والواحدُ بالنوعِ هو الذي يَقبلُ التنويعَ والتقسيمَ، فهو جِنسٌ تَنْدَرِجُ تحتَه أنواعٌ عديدةٌ.
واعلَمْ أن الحلولَ نوعان كما أن الاتِّحادَ نوعان. فهذه أربعةُ أقسامٍ:

الأوَّلُ: هو الحلولُ الخاصُّ: وهو قولُ النَّسْطُوريَّةِ من النصارى ونحوِهم؛ ممن يقولون إن اللاَّهوتَ حَلَّ في الناسوتِ كحلولِ الماءِ في الإناءِ، وهو قَولُ مَن وافقَ هؤلاءِ النصارى من غَالِيَةِ هذه الأمَّةِ، كغَالِيَةِ الرافضةِ الذين يقولون: إنه حلَّ بعليِّ بنِ أبي طالِبٍ وأئمَّةِ أهلِ بيتِه. وغَالِيَةُ النُّسَّاكِ: الذين يقولون بالحلولِ فيمَن يَعْتَقِدون فيه الوِلايةَ.

والثاني: هو الاتِّحادُ الخاصُّ: وهو قولُ يَعقوبيَّةِ النصارى، حيث يقولون: إن اللاَّهوتَ والناسوتَ اختَلَطَا وامتزجا وصارا شيئاً واحداً.

الثالثُ: هو الحلولُ العامُّ: وهو القولُ الذي ذكَرَه أئمَّةُ أهلِ السنَّةِ عن طائفةٍ من الجَهْميَّةِ المتَقدِّمِين، الذين يقولون إن اللهَ بذاتِه في كلِّ مكانٍ، ويَتَمَسَّكُون بمتشابِهِ القرآنِ, كقولِه سبحانَه: {وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} وقولُه: {وَهُوَ مَعَكُمْ}. والردُّ على هؤلاءِ كثيرٌ مشهورٌ في كلامِ أئمَّةِ السنَّةِ وأهلِ المعرفةِ.

الرابعُ: الاتِّحادُ العامُّ , وهو قولُ هؤلاءِ الملاحِدَةِ الذين يَزْعُمون أنه عينُ وجودِ الكائناتِ.

قولُه:
وآخرون تَوهَّمُوا أنه إذا قيلَ: الموجوداتُ تَشتركُ في مُسمَّى الوجودِ لزِمَ التشبيهُ والتركيبُ. فقالَوا: لفظُ الوجودِ مقولٌ بالاشتراكِ اللفظيِّ، فخالَفوا ما اتَّفقَ عليه العقلاءُ مع اختلافِ أصنافِهم من أن الوجودَ يَنقسمُ إلى قديمٍ ومُحْدَثٍ، ونحوِ ذلك من أقسامِ الموجوداتِ. وطائفةٌ ظنَّتْ أنه إذا كانت الموجوداتُ تَشتركُ في مُسمَّى الوجودِ لزِمَ أن يكونَ في الخارجِ عن الأذهانِ موجودٌ مشترِكٌ فيه، زَعَمُوا أن في الخارجِ عن الأذهانِ كلِّيَّاتٍ مُطلَقةً، مثلَ وجودٍ مُطلَقٍ، وحيوانٍ مُطلَقٍ، وجسمٍ مُطلَقٍ، ونحوَ ذلك. فخالَفُوا الحسَّ والعقلَ والشرْعَ، وجَعَلوا ما في الأذهانِ ثابتاً في الأعيانِ, وهذا كلُّه من نوعِ الاشتباهِ.

الشرْحُ:
هذه طائفةٌ أخرى من بني آدمَ وقَعَتْ في مَأْزِقِ الضلالِ بسببِ الاشتباهِ حيث ظَنُّوا أن الخالِقَ إذا وُصِفَ بالوجودِ, والمخلوقُ يُوصَف بالوجودِ لزِمَ التشبيهُ، ولزِمَ أن يكونَ الخالقُ مَرَكَّباً من الصفةِ والذاتِ، وهذا تشبيهٌ للخالقِ والمخلوقِ. هذا هو زعْمُ هذه الطائفةِ من الجَهْميَّةِ والمعتزلةِ، وهو قولٌ واضحُ الفسادِ، وبيِّنُ البُطلانِ، فإن الموجودَ لا يكونُ مركَّباً من ذاتِه وصفَتِه.

واتِّفاقُ الموجودَيْن في مُسمَّى الوجودِ لا يعني أن يكونَ وجودُ أحدِهما مثلَ وجودِ الآخَرِ, كما لا يَلزَمُ ذلك في سائرِ الصفاتِ، وقد سَبقَ بيانُ هذا في غيرِ هذا الموضعِ, ومن أجْلِ أن هؤلاءِ لا يُمكِنُ أن يَجْحَدوا وجودَ اللهِ قالوا: (إن اشتراكَ الخالقِ والمخلوقِ في الوجودِ إنما هو من بابِ الاشتراكِ اللفظيِّ) فخالَفُوا بهذا القولِ سائرَ العقلاءِ على اختلافِ أصنافِهم, وتبايُنِ فنونِهم, حيث اتَّفَقوا على أن الوجودَ مُنْقَسِمٌ إلى واجبٍ وممكِنٍ، وقديمٍ ومُحْدَثٍ، كما تَنقسمُ سائرُ الأسماءِ العامَّةِ الكُلِّيَّةِ, لا كما تَنقسمُ الألفاظُ المشترَكةُ؛ كلفظِ سُهَيلٍ الْمَقُولِ على الكوكبِ، وعلى سُهَيْلِ بنِ عمرٍو. فإن تلك لا يُقالُ فيها: إن هذا يَنقسمُ إلى كذا وكذا، ولكن يُقالُ: إن هذا اللفظَ يُطلَقُ على هذا المعنى وعلى هذا المعنى، مع العلْمِ بأن المعانيَ الكلِّيَّةَ قد تكونُ متفاضِلَةً في مواردِها، بل أكثرَ كذلك. وهذا هو المُسمَّى بالمُتَواطِئِ المشكِّكِ، وقد تكونُ متساويةً في مواردِها، وهذا هو المتواطئُ العامُّ. فالوجودُ ونحوُه من الأسماءِ أسماءٌ عامَّةٌ كلِّيَّةٌ, سواءٌ متواطئةً أو مشكِّكَةً ليست ألفاظاً مشترَكةً اشتراكاً لفظيًّا فقط.

وطائفةٌ من الفلاسفةِ ضلَّتْ أيضاً بسببِ الاشتباهِ؛ حيث ظَنوا أن الموجوداتِ إذا كانت تَشْتَرِكُ في مُسمَّى الوجودِ لزِمَ أن يكونَ هناك شيءٌ موجودٌ متشَخِّصٌ تَشتركُ فيه. وهذا غلَطٌ واضحٌ فإنه إذا قيلَ يَشتركان في الوجودِ المُطلَقِ الكلِّيِّ، فذاك المُطلَقُ الكلِّيُّ لا يكونُ مُطلَقاً كلِّيًّا إلا في الذهنِ. فليس في الخارجِ مُطلَقٌ كلِّيٌّ يَشتركان فيه، بل هذا له حِصَّةٌ منه، وهذا له حِصَّةٌ منه، وكلٌّ من الحقيقتين مُمْتازَةٌ عن الأخرى, والكلِّيَّاتُ هي الكلِّيَّاتُ الخمْسُ: الجنسُ، والنَّوْعُ، والفصْلُ، والخاصَّةُ، والعرَضُ العامُّ. والقولُ فيها واحدٌ، فليس فيها ما يُوجدُ في الخارجِ كلِّيًّا، ولا تكونُ مُطلَقةً إلا في الأذهانِ لا في الأعيانِ.

والحاصلُ أن قولَ هذه الطائفةِ: بأن الكلِّيَّاتِ المُطلَقةَ مثلَ: وجودٍ ضِدَّ عدَمٍ، وحيوانٍ ضِدَّ جَمادٍ، وجسمٍ ضِدَّ عَرَضٍ، وإنسانٍ ضدَّ فرسٍ تُوجدُ في الشاهدِ والعِيانِ. وأن الموجوداتِ إذا كانت مشترِكةً في مُسمَّى الوجودِ لزِمَ وجودُ شيءٍ متشخِّصٍ تَشتركُ فيه قولٌ باطلٌ مخالِفٌ للمعقولِ والمحسوسِ، كما أنه مخالِفٌ للنصوصِ، وهذه الطوائفُ كلُّها إنما ضلَّتْ بسببِ الاشتباهِ وعدَمِ التفريقِ، بينما تَشتركُ فيه الموجوداتُ وما يَمتازُ به بعضُها عن بعضٍ.


قولُه:
ومَن هَداهُ اللهُ فرَّقَ بينَ الأمورِ وإن اشترَكَتْ من بعضِ الوجوهِ، وعَلِمَ ما بينَهما من الجمْعِ والفرْقِ، والتشابُهِ والاختلافِ، وهؤلاءِ لا يَضلُّون بالمتشابِهِ من الكلامِ؛ لأنهم يَجْمَعون بينَه وبينَ المُحْكَمِ الفارِقِ الذي يُبَيِّنُ ما بينَهما من الفصْلِ والافتراقِ, وهذا كما أن لفظَ (إنا) و (نحن) وغيرَهما من صِيَغِ الجمْعِ يَتكلَّمُ بها الواحدُ له شركاءُ في الفعْلِ، ويَتكلَّمُ بها الواحدُ العظيمُ الذي له صفاتٌ تقومُ كلُّ صفةٍ مقامَ واحدٍ، وله أعوانٌ تابعون له، لا شركاءَ له. فإذا تَمسَّكَ النصرانيُّ بقولِه تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} ونحوَه على تعدُّدِ الآلهةِ، كان المحكومُ كقولِه تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ونحوَ ذلك مما لا يَحتمِلُ إلا معنًى واحداً يُزيلُ ما هناك من الاشتباهِ، وكان ما ذكَرَه من صيغةِ الجمْعِ مُبَيِّناً لما يَسْتَحِقُّه من العظمةِ والأسماءِ والصفاتِ وطاعةِ المخلوقاتِ من الملائكةِ وغيرِهم.

وأما حقيقةُ ما دَلَّ عليه ذلك من حقائقِ الأسماءِ والصفاتِ، وما له من الجنودِ الذين يَستعملُهم في أفعالِه، فلا يَعلمُهم إلا هو: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ}. وهذا تأويلُ المتشابِهِ الذي لا يَعلمُه إلا اللهُ، بخلافِ المَلِكِ من البَشَرِ، إذقالَ: قد أَمَرْنا لك بعَطاءٍ، فقد عَلِمَ أنه هو وأعوانُه، مثلَ كاتبِه وحاجِبِه وخادِمِه ونحوَ ذلك أُمرُوا به، وقد يَعْلَمُ ما صَدرَ عنه ذلك الفعْلُ من اعتقاداتِه وإراداتِه ونحوَ ذلك.

واللهُ سبحانَه وتعالى لا يُعَلِّمُ عِبادَه الحقائقَ التي أَخبرَ عنها من صفاتِه وصفاتِ اليومِ الآخرِ، ولا يَعلمون حقائقَ ما أراد بخلقِه وأمرِه من الحكمةِ ولا حقائقَ ما صَدرَتْ عنه من المشيئةِ والقدرةِ.

الشرْحُ:
يَقولُ المؤلِّفُ: إن مَن أَنارَ اللهُ بَصِيرتَهم وهَداهم لتمييزِ الحقِّ من الباطلِ؛ لا يَضِلُّون بسببِ ما بينَ الأمورِ من اشتباهٍ من بعضِ الوجوهِ، وهؤلاءِ هم العلماءُ الذين يَعْرِفون ما يَدُلُّ عليه كتابُ اللهِ وسنَّةُ رسولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويَعرفون القدْرَ المشترَكَ بينَ الشيئين، وما يَمتازُ به كلُّ واحدٍ عن الآخرِ، فيَرُدُّون المُشْكِلَ وغيرَ الواضحِ إلى قَطْعيِّ الدَّلالةِ وواضحِ المعنى، فيَزولُ الاشتباهُ، ويَتَّضِحُ ما بينَ الشيئين، وما يَمتازُ به كلُّ واحدٍ عن الآخَرِ، فيَرُدُّون المُشْكِلَ وغيرَ الواضحِ إلى قَطعيِّ الدَّلالةِ وواضحِ المعنى، فيَزولُ الاشتباهُ، ويَتَّضِحُ ما بينَ الشيئين من جهةِ الجمْعِ وجهةِ الافتراقِ بواسطةِ ردِّهم المتشابِهَ إلى الْمُحْكَمِ.

وكمثالٍ على التشابُهِ الخاصِّ الذي يُوَضِّحُه المحكَمُ ويُزيلُ ما به من الاشتباهِ مثَّلَ المؤلِّفُ بلفظِ (إنا ) و (نحن) كقولِه تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} وقولِه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} وقولِه: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}, ونحوَ ذلك كقولِه: {نَتْلُو عَلَيْكَ} وقولِه: {فَرَضْنَا} و {رَفَعْنَا} حيث تَمسَّكَ النصارى بمثْلِ هذه النصوصِ، واستَدَلُّوا بها على أن اللهَ ثالثُ ثلاثةٍ – تعالى اللهُ عن قولِهم عُلُوًّا كبيراً – وقد غَفَلُوا عن كونِ هذه الصيغةِ في أصلِ وضعِها العربيِّ يَتكلَّمُ بها الواحدُ المعظِّمُ نفسَه، ويَتكلَّمُ بها الواحدُ الذي معه شركاءُ في فِعلِه. فيُؤْتَى لهؤلاءِ النصاري بالآياتِ المصرِّحَةِ بوحدانيَّةِ اللهِ كقولِه تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} و {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}. ونحوَ ذلك من الآياتِ المصرِّحةِ ببُطلانِ ما يدَّعون، والمزيلةِ للاشتباهِ الذي به يُلَبِّسُون. فهذه الصيغةُ في كلامِ العربِ للواحدِ العظيمِ المتحدِّثِ عن نفسِه، وللعظيمِ الذي له أعوانٌ يُطيعونه؛ فإذا فَعَلَ أعوانُه فعْلاً بأمرِه قالَ: نحن فَعَلْنا. كما يقولُ الملِكُ: نحن فَتَحْنا هذا البلدَ، وهزَمْنا هذا الجيشَ ونحوَ ذلك؛ وحينئذٍ فالربُّ – تَباركَ وتعالى – يَتكَلَّمُ بـ (إنا) و (نحن) لما له من العظمةِ والجلالِ, وعديدُ الأسماءِ والصفاتِ التي لا يُحْصِيها إلا هو، وما له من الجنودِ الذين هم عبيدُه وتحتَ قهرِه يُدَبِّرُهم كيفَ يشاءُ، فهم {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}. كما وصَفَهم اللهُ في سورةِ الأنبياءِ، فهو سبحانَه أحقُّ بالتكلُّمِ بـ (إنا) و (نحن) ونحوَ ذلك.

فنحن إذاً نَفهمُ مرادَ اللهِ بقولِه: (إنا) و (نحن) وإن كنا نَجهلُ حقيقةَ ما دَلَّ عليه ذلك من كيفيَّةِ صفاتِ اللهِ وحقيقةِ ذاتِه المقدَّسةِ، كما نَجهلُ حقيقةَ ذواتِ الملائكةِ وكيفيَّةَ صفاتِهم، ولا نَعلمُ عددَهم ولا كيف يأمرُهم اللهُ يفعلون. أما الملِكُ من البشرِ إذا تكلَّمَ بـ (إنا) و (نحن) فقد يكونُ مرادُه تعظيمَ نفسِه فهو الفاعلُ وحدَه، دونَ وُزرائِه وحُجَّابِه وخُدَّامِه، وقد يكونُ مرادُه بهذه الصيغةِ التعبيرَ عن نفسِه مع من يُشاركُه في تدبيرِ ملْكِه, حيث كانوا شركاءَ له، وليسوا خُدَّاماً يَأْتَمِرون بأمرِه. كما أن البشرَ قد تَعْلَمُ الأسرارَ التي من أجْلِها يَتَصَرَّفون.

والربُّ تباركَ وتعالى بخلافِ ذلك كلِّه، فله الكبرياءُ والعظمةُ الكاملةُ، وله جنودٌ هم عبيدُه, لا شركاؤُه، ولا يَعلمُ خلْقُه كيفيَّةَ صفاتِه وكيفيَّةَ ما أَخبرَ به في الآخرةِ، كما لا يَعلمُ حقيقةَ حكمتِه في خلْقِه، وحقيقةَ مشيئتِه العامَّةِ وقدرتِه الشاملةِ، إلا هو سبحانَه وتعالى.

  #5  
قديم 16 ذو الحجة 1429هـ/14-12-2008م, 04:31 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي التوضيحات الأثرية للشيخ: فخر الدين بن الزبير المحسِّي


عامَّةُ الضَّلالِ من جِهَةِ المُتَشَابِهِ
قولُه : ( وما من شَيْئَيْنِ إلا ويَجْتَمِعانِ في شيءٍ, ويَفْتَرِقانِ في شيءٍ ، فبينَهما اشتباهٌ من وَجْهٍ, وافتراقٌ من وَجْهٍ ، فلهذا كان ضَلالُ بني آدَمَ من قِبَلِ التَّشَابُهِ، والقِياسُ الفاسِدُ لا يَنْضَبِطُ, كما قالَ الإمامُ أحمدُ:" أَكْثَرُ ما يُخْطِئُ الناسُ من جِهَةِ التأويلِ والقِياسِ ، فالتأويلُ: في الأَدِلَّةِ السمعيَّةِ، والقِياسُ في الأَدِلَّةِ العَقْليَّةِ. وهو كما قالَ . والتأويلُ الخطأُ: إنما يكونُ في الألفاظِ المُتَشَابِهَةِ، والقِياسُ الخطأُ إنما يكونُ في المعاني المُتَشَابِهَةِ. وقد وَقَعَ بنو آدَمَ في عامَّةِ ما يَتَنَاوَلُه هذا الكلامُ من أنواعِ الضَّلاَلاتِ).

التوضيحُ

أي: ما من شيئينِ إلا وبَيْنَهما اجتماعٌ وافتراقٌ، وهذا عامٌّ في كلِّ شيءٍ لإدخالِه ((مِن)) الزائدةِ على النكِرَةِ بعدَ النفيِ مِمَّا يُفِيدُ تأكيدَ التنصيصِ على العُمومِ كما هو مُحَرَّرٌ في مَظَانِّه، فيَشْمَلُ الاشتباهَ في الألفاظِ والذواتِ والصِّفاتِ والدلائلِ العَقْليَّةِ وغيرِها . فمَثَلاً:
السَّوَادُ والبَيَاضُ يَشْتَرِكان في اللَّوْنِيَّةِ ويَخْتَلِفانِ في حقيقةِ الصِّفَةِ.
والحديثُ الصحيحُ والموضوعُ يَشْتَرِكان في كونِهما كَلاَمًا مَنْسُوبًا إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ويَخْتَلِفَانِ في الصِّدْقِ والكَذِبِ. والأشياءُ المُتَمَاثِلَةُ تَشْتَرِكُ, لكنها تَخْتَلِفُ في الْحَيِّزِ والمكانِ، وهكذا... وهذا البابُ هو سَبَبُ ضَلالِ بني آدَمَ كما قالَ الإمامُ أحمدُ:-
" أَكْثَرُ ما يُخطِئُ الناسُ من جهةِ التأويلِ والقِياسِ, " فالتأويلُ في الأَدِلَّةِ السمعيَّةِ, والقِياسُ في الأَدِلَّةِ العَقْليَّةِ، فخَطَأُ التأويلِ في الألفاظِ المُتَشَابِهةِ, والقِياسِ في المعاني المُتَشَابِهَةِ .

أمْثِلَةٌ لطوائفَ ضَلَّتْ من جِهةِ المُتَشَابِهِ
الطائفةُ الأُولى أهْلُ وَحْدَةِ الوُجودِ

قولُه : ( حتى آلَ الأمْرُ بِمَن يَدَّعِي التحقيقَ والتوحيدَ والعِرفانَ منهم إلى أن اشْتَبَهَ عليهم وجودُ الربِّ بوجودِ كلِّ موجودٍ ، فظَنُّوا أنه هو, فَجَعَلوا وُجودَ المخلوقاتِ عينَ وُجودِ الخالِقِ، مع أنه لا شيءَ أَبْعَدُ عن مُمَاثَلَةِ شيءٍ أو أن يكونَ إِيَّاهُ ، أو مُتَّحِدًا به، أو حالًّا فيه, من الخالِقِ مع المخلوقِ . فمَن اشْتَبَهَ عليه وُجودُ الخالِقِ بوجودِ المخلوقاتِ كلِّها حتى ظَنَّ وجودَها وُجُودَه, فهم أَعْظَمُ الناسِ ضَلالاً من جِهةِ الاشتباهِ, وذلك: أنَّ الموجوداتِ تَشْتَرِكُ في مُسَمَّى الوجودِ، فرَأَوا الوجودَ واحدًا, ولم يُفَرِّقُوا بينَ الواحدِ بالعينِ والواحدِ بالنوعِ ) .

التوضيحُ

هذه الطائفةُ الأُولى, وهي طائفةٌ ادَّعَت التحقيقَ والتوحيدَ والمعرِفَةَ للهِ تعالى, وهم أهْلُ الإلحادِ القائلونبوَحْدَةِ الوجودِ . وهنا مسائلُ.

الأُولى : معنى وَحْدَةِ الوُجودِ والاتِّحادِ والْحُلولِ. وَحْدَةُ الوجودِ والاتِّحادُ العامُّ بمعنًى واحدٍ، وهو كونُ الشيئين شيئًا واحدًا ، أي أن يكونَ وجودُ الكائناتِ هو عينَ وجودِ اللهِ تعالى، وأشارَ إليه شيخُ الإسلامِ هنا بقولِه:" أو أن يكونَ إيَّاهُ أو مُتَّحِدًا به" وأمَّا الْحُلولُ فهو أن يَحِلَّ أحَدُ الشيئين في الآخَرِ ، فهو إثباتٌ لوُجُودَيْنِ وأمَّا الاتِّحادُ فهو وجودٌ واحدٌ.

الثانيةُ : أقسامُ الْحُلولِ والاتِّحادِ : كلٌّ من الْحُلولِ والاتِّحادِ على قِسمينِ؛ حُلولٌ عامٌّ وحلولٌ خاصٌّ واتِّحادٌ عامٌّ واتِّحادٌ خاصٌّ.

فالْحُلولُ العامُّ: هو اعتقادُ أنَّ اللهَ تعالى في كلِّ شيءٍ ، وهو اعتقادُ الجَهْمِيَّةِ الأُولى القائلينَ بأنَّ اللهَ في كلِّ مَكانٍ, تعالى اللهُ عن قولِهم عُلُوًّا كبيرًا.

الْحُلولُ الخَاصُّ : هو اعتقادُ أنَّ اللهَ تعالى حَلَّ في بَعْضِ مخلوقاتِه مع إثباتِ خالقٍ ومخلوقٍ ، كاعتقادِ بعضِ فِرَقِ النَّصَارى أنَّ اللاهوتَ حَلَّ في الناسوتِ ، واعتقادِ غُلاةِ الرَافِضَة أنَّ اللهَ حَلَّ في عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، واعتقادِ طوائفَ من الصوفيَّةِ أنَّ اللهَ يَحِلُّ في بَعْضِ مَشَائِخِهِمْ .

الاتِّحادُ الخَاصُّ: هو اعتقادُ أنَّ اللهَ تعالى اتَّحَدَ ببعضِ مخلوقاتِه كاعتقادِ بعضِ طوائفِ النَّصَارى أنَّ الاهوتَ اتَّحَدَ بالنَّاسُوتِ, فصارَ شيئًا واحدًا.

الاتِّحادُ العامُ: وقد أَشَرْتُ إليه في التعريفِ ، وهو اعتقادُ اتِّحادِ وجودِ الخالِقِ بالمخلوقِ ، وهو معنى وَحْدَةِ الوُجودِ ، وعليه فالظاهِرُ أنَّ الاتِّحادَ أَعَمُّ من وَحْدَةِ الوُجودِ ، ووَحْدَةَ الوُجودِ نوعٌ من الاتِّحادِ واللهُ أَعْلَمُ. وهذا الأخيرُ هو قولُ أهْلِ الإلحادِ المقصودينَ بهذه الفِقْرَةِ.

الثالثةُ: أَمْثِلَةٌ للقائلينَ بوَحْدَةِ الوُجودِ: منهم ابنُ عَرَبيٍّ, وعقيدتُه في ذلك مشهورةٌ، ومن أقوالِه : " فالإلهُ المُطْلَقُ لا يَسَعُه شيءٌ؛ لأنه عينُ الاشياءِ، وعينُ نفسِه ، والشيءُ لا يُقالُ فيه : يَسَعُ نفسَه ولا يَسَعُها ، فَافْهَمْ " .

وقالَ :

العبْدُ رَبٌّ والرَّبُّ عَبْدٌ = يا ليت شِعْرِي مَن الْمُكَلَّفُ.
إن قلتُ عَبْدٌ فَذَاكَ رَبٌّ = أو قُلتُ ربٌّ أَنَّى يُكَلَّفُ

وابنُ سَبْعِينَ . ومن أقوالِه الشنيعةِ : " مَن سَمَّى نفسَه اللهَ قالَ لَكَ : إن كلَّ شيءٍ وجميعَ مَن تُنَادِي أَنَا " .
وابنُ الفارِضِ صاحبُ تائيَّةِ الإلحادِ المشهورةِ . وفيها مُخَاطِبًا إِلَهَهُ.

كِلانَا مُصَلٍّ واحدٌ ساجِدٌ إلى = حقيقتِه بالجَمْعِ في كلِّ سَجْدَةِ.

سبَبُ ضَلالِ هذه الطائفةِ أَمْرَانِ :
أنَّ المَوْجوداتِ تَشْتَرِكُ في مُسَمَّى الوُجودِ فَرَأَوا الوُجودَ واحدًا .
أنهم لم يُفَرِّقُوا بينَ الواحدِ بالعينِ, وهو الواحدُ الْمُعَيَّنُ في الخارِجِ الذي يَمْنَعُ وُجودُه الشرِكَةَ فيه، فهو غيرُ قابِلٍ للتَّنَوُّعِ، والواحدُ بالنوعِ وهو الكُلِّيُّ الذِّهْنِيُّ الذي تَشْتَرِكُ فيه الأفرادُ ويَقْبَلُ التَّنَوُّعَ, فإذا وُجِدَ في الخارِجِ كان مُخْتَصًّا .

مع أنه معلومٌ بضرورةِ العقْلِ والفِطرةِ أنه لا شيءَ أَبْعَدُ عن مُمَاثَلَةِ شيءٍ من الخالِقِ مع المخلوقِ فَضْلاً عن الْحُلولِ فيه، وفَضْلاً عن الاتِّحادِ به ، فإنَّ القولَ بالاتِّحادِ أَعْظَمُ إلحادًا مِن القولِ بالْحُلولِ ؛ لأنَّ القولَ بالاتِّحادِ إثباتٌ لمَوْجودٍ واحدٍ فقط، والقولَ بالْحُلولِ إثباتٌ لمَوْجودَيْنِ, خالِقٍ ومخلوقٍ ، كما سَبَقَ توضيحُه.

الطائفةُ الثانيةُ

قولُه: ( وآخَرُون تَوَهَّمُوا أنه إذا قيلَ : المَوْجوداتُ تَشْتَرِكُ في مُسَمَّى الوُجودِ لَزِمَ التشبيهُ والتركيبُ، فقالوا: لَفْظُ " الوُجودِ" مَقُولٌ بالاشتراكِ اللفظيِّ، فَخَالَفُوا ما اتَّفَقَ عليه العُقلاءُ مع اختلافِ أصنافِهم : من أنَّ " الوُجودَ" يَنْقَسِمُ إلى قديمٍ ومُحْدَثٍ، ونحوَ ذلك من أقسامِ المَوْجوداتِ) .

التوضيحُ

وآخَرُونَ من الجَهْمِيَّةِ والمُعْتَزِلَةِ وبعضِ الفَلاسِفَةِ تَوَهَّمُوا أنه إذا قيلَ: المَوْجوداتُ تَشْتَرِكُ في مُسَمَّى الوُجودِ لَزِمَ التشبيهُ والتركيبُ ، فقالوا : إن لفْظَ (الوُجودِ) مَقُولٌ بالاشتراكِ اللفظيِّ, أي: أنه لفْظٌ واحدٌ يَدُلُّ على عِدَّةِ معانٍ كلَفْظِ ( العينِ) يَدُلُّ على الجارِيَةِ والباصِرَةِ والذهَبِ وغيرِها، ولفظِ ( الْقُرْءِ) يَدُلُّ على الْحَيْضِ والطُّهْرِ ، فقالوا : إن الوُجودَ مِثْلُ ذلك.

وقولُهم هذا باطِلٌ مخالِفٌ لِمَا اتَّفَقَ عليه العُقلاءُ من أن لفْظَ ( الوُجودِ) مُتَوَاطِئٌ, أي: مُتَّحِدٌ لفظًا ومعنًى, ولكنه مُنْقَسِمٌ إلى وُجودٍ قديمٍ ووُجودٍ مُحْدَثٍ مِثْلَ لفظِ العلْمِ فإنه مُتَوَاطِئٌ مُنْقَسِمٌ إلى علْمٍ ضروريٍّ وعِلْمٍ نَظَرِيٍّ وهكذا.

الطائفةُ الثالثةُ

قولُه : ( وطائفةٌ ظَنَّتْ أنه إذا كانت المَوْجوداتُ تَشْتَرِكُ في مُسَمَّى الوُجودِ لَزِمَ أن يكونَ في الخارجِ عن الأذهانِ: مَوْجودٌ مُشْتَرَكٌ فيه، وزَعَمُوا أنَّ في الخارِجِ عن الأذهانِ كُلِّيَّاتٍ مُطْلَقةً، مِثْلَ وُجودٍ مُطْلَقٍ، وحيوانٍ مُطْلَقٍ، وجِسْمٍ مُطْلَقٍ ، ونحوَ ذلك فخالَفُوا الْحِسَّ والعَقْلَ والشرْعَ، وجَعَلُوا ما في الأذهانِ ثابتًا في الأعيانِ، وهذا كلُّه من أنواعِ الاشتباهِ) .

التوضيحُ

وطائفةٌ من الفَلاسِفَةِ ظَنَّتْ أنه إذا كانت المَوْجوداتُ تَشْتَرِكُ في مُسَمَّى الوُجودِ لَزِمَ أن يكونَ في الخارِجِ عن الأذهانِ مَوْجودٌ مُشْتَرَكٌ كُلِّيٌّ, أي: مُطْلَقٌ عن التقييدِ ، فقالوا بالوُجودِ المُطْلَقِ والحيوانِ المُطْلَقِ والجسْمِ المُطْلَقِ، وهذا مُخَالِفٌ للحِسِّ؛ إذ لا تُوجَدُ هذه الْمُسَمَّيَاتُ في الخارِجِ إلا مُقَيَّدَةً بأفرادٍ، وكذلك خَالَفُوا العَقْلَ حيث جَعَلُوا عينَ ما في الذِّهْنِ في الخارِجِ، وخالَفُوا الشرْعَ كذلك إذ جاءَ بأحكامٍ تَتَعَلَّقُ بأفرادٍ في الواقعِ. وهذا كلُّه من أَعْظَمِ أنواعِ الاشتباهِ. وقد سَبَقَ هذا في مَبْحَثِ الروحِ.

ملحوظةٌ هامَّةٌ :
هناك فَرْقٌ بينَ المشترَكِ اللفظيِّ والمشتَرَكِ الكلِّيِّ:
فالمشترَكُ اللفظيُّ أو الاشتراكُ اللفظيُّ هو اتِّحادُ اللفظِ وتَعَدُّدُ المعنى كالعينِ والقُرْءِ.
والمشترَكُ الكلِّيُّ هو الذي يَشْتَرِكُ فيه أفرادٌ كثيرون ، كجميعِ الألفاظِ العامَّةِ في الذهْنِ فيُقالُ (الوُجودُ) مُشْتَرَكٌ كلِّيٌّ في الذِّهْنِ ولا يقالُ: مُشترَكٌ لفظيٌّ . فالقولُ بأنَّ اتِّفاقَ الأسماءِ بينَ الخالقِ والمخلوقِ من قَبِيلِ الاشتراكِ اللفظيِّ هو عينُ القولِ المنسوبِ إلى المُعْتَزِلَةِ ، فَتَنَبَّهْ جَيِّدًا .
طريقُ الهدايةِ الجمْعُ بينَ المُحْكَمِ والمُتَشَابِهِ

قولُه : (ومَن هَدَاهُ اللهُ سبحانَه فَرَّقَ بينَ الأمورِ وإن اشْتَرَكَتْ من بعضِ الوُجوهِ، وعَلِمَ ما بينَها من الجمْعِ والفرْقِ والتَّشَابُهِ والاختلافِ، وهؤلاءِ لا يَضِلُّونَ بالمُتَشَابِهِ من الكلامِ؛ لأنهم يَجْمَعُون بينَه وبينَ المُحْكَمِ الفارِقَ الذي يُبَيِّنُ ما بينَهما من الفصْلِ والافتراقِ، وهذا كما أنَّ لَفْظَ "إنَّا" و" نحن" وغيرِهما من صِيَغِ الْجَمْعِ يَتَكَلَّمُ بها الواحدُ، له شُرَكاءُ في الفعْلِ، ويَتَكَلَّمُ بها الواحِدُ العظيمُ الذي له صِفاتٌ تَقومُ كلُّ صفةٍ مَقامَ واحدٍ، وله أعوانٌ تابِعون له، لا شُركاءُ له. فإذا تَمَسَّكَ النصرانيُّ بقولِه تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} ونحوَه على تَعَدُّدِ الآلِهَةِ، كان المُحْكَمُ ، كقولِه تعالى : { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ونحوَ ذلك مِمَّا لا يَحْتَمِلُ إلا معنًى واحدًا يُزِيلُ ما هناك من الاشتباهِ, وكان ما ذَكَرَه من صِيَغِ الجمْعِ مُبَيِّنًا لما يَسْتَحِقُّه من العَظَمَةِ والأسماءِ والصِّفاتِ ، وطاعةِ المخلوقاتِ من الملائكةِ وغيرِهم ) .

التوضيحُ

طريقُ الهدايةِ مَعرِفَةُ الفرْقِ بينَ الأمورِ والجمْعُ بينَ المُحْكَمِ والمُتَشَابِهِ، وَرَدُّ المُتَشَابِهِ إلى المُحْكَمِ، ومِثالُ ذلك لفظُ "إنَّا" و" نحن" يَتَكَلَّمُ به الواحدُ الذي له شُرَكَاءُ في الفِعْلِ ، ويَتَكَلَّمُ به الواحدُ العظيمُ الذي له صفاتٌ تقومُ به، وله أعوانٌ تابِعون, لا شُركاءُ له، فإذا تَمَسَّكَ النصرانيُّ بقولِه تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ } ونحوَه كقولِه تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} وقولِه : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} وقولِه : { نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} على تَعَدُّدِ الآلِهَةِ كان المُحْكَمُ قولَه : {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ونحوَه كقولِه تعالى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} وقولِه : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فكان ما ذَكَرَه من صِيَغِ الجمْعِ مُبَيِّنًا لعَظَمَتِه وصفاتِه وطاعةِ مخلوقاتِه له.

المُتَشَابِهُ الذي لا يَعْلَمُه إلا اللهُ

قولُه : ( وأمَّا حقيقةُ ما دَلَّ عليه ذلك من حقائقِ الأسماءِ والصِّفاتِ وما له من الجنودِ الذين يَسْتَعْمِلُهُم في أفعالِه فلا يَعْلَمُه إلا هو {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } وهذا تأويلُ المُتَشَابِهِ الذي لا يَعْلَمُه إلا اللهُ ، بخِلافِ الْمَلِكِ من البشَرِ، إذا قالَ: " قد أَمَرْنَا لك بعَطَاءٍ" فقد عُلِمَ أنه هو وأعوانَه - مِثْلَ كاتبِه وحاجِبِه وخادِمِه ونحوَ ذلك – أَمَرُوا به ، وقد يُعْلَمُ ما صَدَرَ عنه ذلك الفِعْلُ من اعتقاداتِه ، وإراداتِه ونحوَ ذلك . واللهُ سبحانَهُ وَتَعَالَى لا يُعْلِمُ عِبادَه الحقائقَ التي أَخْبَرَ عنها من صفاتِه، وصِفاتِ اليومِ الآخِرِ، ولا يَعْلَمُون حقائقَ ما أرادَ بخلْقِه وأَمْرِه من الحكْمَةِ، ولا حقائقَ ما صَدَرَتْ عنه من المشيئةِ والقُدرةِ) .


التوضيحُ

سَبَقَ أنَّ المُتَشَابِهَ أمْرٌ نِسْبِيٌّ وهذا فيما يَتعلَّقُ بالمعنى، وأمَّا حقائقُ ما يُخْبِرُ اللهُ تعالى به فإنه من المُتَشَابِهِ المُطْلَقِ الذي لا يَعْلمُه إلا اللهُ, وهو مرادُ الجمهورِ في قراءةِ الوَقْفِ ، وهذا مَضمونُ هذه القاعدةِ، لذلك فإنَّ صِيَغَ الجمْعِ التي اسْتَخْدَمَها اللهُ تعالى في حَقِّه فَهِمْنَا منها أنَّ المرادَ بيانُ عَظَمَتِه وصِفاتِه ومخلوقاتِه، وأمَّا حقائقُ صفاتِه وحقائقُ جنودِه الذين يَسْتَعْمِلُهم فلا يَعْلَمُهما إلا اللهُ تعالى، كما قالَ تعالى : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } وقالَ : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} وهذا بخِلافِ مُلوكِ البشَرِ إذا قالَ: ( قد أَمَرْنَا بكذا) يُعْلَمُ مرادُه وأعوانُه, بل ويُعْلَمُ سببُ صُدورِ الفعْلِ وإرادتِه ، واللهُ تعالى لا تُعْلَمُ حقائقُ ما صَدَرَتْ عنه من المشيئةِ والْقُدرةِ والحكْمَةِ، وهذا خُلاصَةُ قولِه تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ} .

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
ما, من

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:05 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir