ومما هو معلومٌ أن ما من شيئين إلا وبينَهما اشتباهٌ من وجهٍ، وهو القدْرُ المشترَكُ، وافتراقٌ من وجهٍ آخَرَ، وهو الفارِقُ الذي يُزيلُ الاشتباهَ؛ وذلك مثلَ جنْسِ الوحيِ والتنزيلِ، قالَ تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} وقالَ عزَّ وجلَّ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ}. وقالَ سبحانَه: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} وقالَ: {هَلْ أُنَبِّؤُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}. فالكُهَّانُ والْمُتَنَبِّئُونَ، والأنبياءُ والمرسَلون، قد اشتَرَكوا في جنسِ الوحيِ والتنزيلِ؛ ولكن مع الفارقِ المميِّزِ بينَ من هو كاذبٌ في قولِه فاجرٌ في عملِه، يَنْزِلُ عليه وحيُ الشيطانِ بالخُبْثِ والبُهتانِ, ومن هو صادقٌ فى قولِه, بَرٌّ فى عملِه, يَنزلُ عليه وحيُ الرحمنِ بواسطةِ الروحِ الأمينِ ليُحْيِيَ به الأرواحَ والأبدانَ، ويُرْشِدُ به إلى ما يُصْلِحُ أمورَ الدنيا والدِّينِ، ومثلَ العرشِ والبَعوضِ، فكلٌّ منهما شيءٌ موجودٌ فهما مشترِكان في مُسمَّى الشيءِ والوجودِ مع اختلافِهما في الذاتِ والصفاتِ.
والخطأُ في تأويلِ النصِّ تفسيرُه بغيرِ مرادِ المتكلِّمِ به وتحريفُه عن مواضعِه. والخطأُ في القياسِ دَعْوى مُمَاثَلَةِ المعاني للمعاني؛ لِمَا بينَها من القَدْرِ المشترَكِ. ووجهُ خطئِهم من جهةِ التأويلِ تلاعبُهم بالنصوصِ، وإساءةُ الظنِّ بها، ونسبةُ قائلِها إلى التكلُّمِ بما ظاهِرُه الضلالُ والإضلالُ، وليس لهم على ذلك حُجَّةٌ من كتابٍ ولا سنَّةٍ، بل العمدَةُ عندَهم نُحاتَةُ الأفكارِ، وزُبالةُ الأذهانِ. ووجهُ خطئِهم من جهةِ القياسِ أنهم أَتَوْا بألفاظٍ مجمَلَةٍ ليست في الكتابِ ولا في السنَّةِ، مثلَ متحيِّزٍ ومحدودٍ، وجسمٍ ومركَّبٍ، ونحوَ ذلك، وجَعَلوا منها مقدِّماتٍ مُسَلَّماً بها عندَهم ومدلولاً عليها بنوعِ قياسٍ، وذلك القياسُ أوقَعَهم فيه مسلَكٌ سلَكُوه في إثباتِ حدوثِ العالَمِ بحدوثِ الأعراضِ؛ أو إثباتِ إمكانِ الجسمِ بالتركيبِ من الأجزاءِ، فوَجَبَ طرْدُ الدليلِ بالحدوثِ والإمكانِ لكلِّ ما شَمِلَه هذا الدليلُ.
والقياسُ الفاسدُ لا يَنْضَبِطُ كما أن التأويلَ الفاسدَ ليس له قانونٌ مستقيمٌ. وذلك أن كلاّ منهما غيرُ مُرْتَكِزٍ على نقْلٍ صحيحٍ أو عقلٍ صريحٍ. والتأويلُ الخطأُ يكونُ في النصوصِ المتشابِهةِ؛ وذلك كألفاظِ نصوصِ صفاتِ اللهِ وألفاظِ نصوصِ صفاتِ المخلوقين. قالَ تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وقالَ سبحانَه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقالَ: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} فتأَوَّلَت المبتَدِعَةُ مدلولَ نصوصِ صفاتِ اللهِ لِمَا بينَ النصوصِ من التشابُهِ. والقياسُ الخطأُ يكونُ في المعاني المتشابِهةِ حيثُ إن كلاّ من المَقِيسِ والمَقِيسِ عليه له نصيبٌ من المعنى الكلِّيِّ المشترَكِ.
قولُه:
وقد وَقَعَ بنو آدمَ في عامَّةِ ما يَتَناوَلُه هذا الكلامُ من أنواعِ الضلالاتِ، حتى آلَ الأمرُ بِمَن يدَّعِي التحقيقَ والتوحيدَ والعِرفانَ منهم إلى أن اشْتَبَهَ عليهم وجودُ الربِّ بوجودِ كلِّ موجودٍ فظَنُّوا أنه هو، فجَعَلوا وجودَ المخلوقاتِ عينَ وجودِ الخالقِ، مع أنه لا شيءَ أبعدُ عن مماثَلَةِ شيءٍ، أو أن يكونَ إيَّاه أو متَّحِداً به؛ أو حالاّ فيه من الخالقِ مع المخلوقِ.
فمن اشْتَبَهَ عليه وجودُ الخالقِ بوجودِ المخلوقاتِ كلِّها حتى ظَنوا وجودَها وجودَه فهم أعظمُ الناسِ ضَلالاً من جهةِ الاشتباهِ. وذلك أن الموجوداتِ تَشْتَرِكُ في مُسمَّى الوجودِ، فرَأَوُا الوجودَ واحداً ,ولم يُفرِّقوا بينَ الواحدِ بالعينِ والواحدِ بالنوعِ.
الشرْحُ:
يَقولُ المؤلِّفُ: إن كثيراً من الناسِ قد وَقَعوا في حَبائلِ الزَّيْغِ والضلالِ بسببِ الاشتباهِ، حتى آلَ الأمرُ بطائفةٍ من بني آدمَ تَدَّعِي أنها بَلَغَتْ في توحيدِ الله غايتَه، وفي العلْمِ والتحقيقِ نهايتَه أن اشتَبَه عليهم وجودُ ربِّ العالَمين بوجودِ كلِّ موجودٍ؛ فظَنُّوا أن المخلوقَ هو عينُ الخالقِ, مع أنه لا شيءَ أبعدُ عن مماثَلةِ شيءٍ من بُعدِ مماثَلةِ الخالقِ للمخلوقِ، ولا شيءَ أبعدُ من أن يكونَ متَّحِداً بشيءٍ من بُعْدِ اتِّحادِ الخالقِ بالمخلوقِ, ولا شيءَ أبعدُ من أن يكونَ حالاّ في شيءٍ من بُعدِ حُلولِ الخالقِ في المخلوقِ. وجِهةُ غلَطِهم أنهم ظَنُّوا أن الوجودَ شيءٌ واحدٌ غيرُ مُنْقَسِمٍ, وهؤلاءِ هم أهلُ الإلحادِ القائلون بوِحدةِ الوجودِ، وأنه ما ثَمَّ موجودٌ قديمٌ خالقٌ وموجودٌ حادثٌ مخلوقٌ؛ بل وجودُ هذا العالَمِ هو عينُ وجودِ اللهِ, وهو حقيقةُ وجودِ هذا العالَمِ. فليس عندَ القومِ ربٌّ وعبدٌ، ولا مالِكٌ ومملوكٌ، ولا راحمٌ ومرحومٌ، ولا عابدٌ ومعبودٌ، ولا مستعينٌ ومستعانٌ به، ولا هادٍ ولا مِهْدِيٌّ، ولا مُنْعِمٌ ومُنْعَمٌ عليه، ولا غَضبانُ ومغضوبٌ عليه؛ بل الربُّ هو نفسُ العبدِ وحقيقتُه، والمالِكُ هو عينُ المملوكِ، والراحمُ هو عينُ المرحومِ، والعابدُ هو نفسُ المعبودِ، فما ثَمَّ سوى ولا غيرُ بوجهٍ من الوجوهِ، وإنما الكائناتُ أجزاءٌ وأبعاضٌ له، بمنزِلَةِ أمواجِ البحرِ في البحرِ, وآخِرِ البيتِ من البيتِ، ومن شِعرِهم:
البحرُ لا شكَّ عندي في تَوحُّدِه وإن تَعدَّدَ بالأمواجِ والزَّبَدِ
فلا يَغُرَّنَّكَ ما شاهَدْتَ من صوَرٍ فالواحدُ الربُّ سارَ العينَ في العدَدِ
وقالَ ابنُ عربيٍّ الحاتميُّ شيخُ الصوفيَّةِ الناطقُ بلسانِهم:
العبدُ ربٌّ والربُّ عبدٌ يا ليتَ شِعرِي مَن المكلَّفْ
إن قلتُ عبدٌ فذاك ربٌّ أو قلتُ ربٌّ أنَّى يُكَلَّفْ
على أن ابنَ عربيٍّ متناقِضٌ مُضْطَرِبٌ في مسألةِ الاتِّحادِ، فاللهُ أعلَمُ بما ماتَ عليه، وبالجملةِ فهؤلاءِ أكفَرُ من اليهودِ والنصارى من جهةِ أن أولئك قالوا: إن الربَّ يَتَّحِدُ بعبدِه الذى قرَّبَه واصْطفاه بعدَ أن لم يَكُونا مُتَّحِدَيْنِ, وهؤلاءِ يقولون: ما زالَ الربُّ هو العبد,َوغيرُه من المخلوقاتِ ليس هو غيرَه، ومن جهةِ أن أولئك خَصُّوا ذلك بِمَن عظَّمُوه كالمسيحِ، وهؤلاءِ جَعَلُوه سارياً في الكلابِ والخنازيرِ والأقذارِ والأوساخِ، وإذا كان اللهُ تعالى قد قالَ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} الآيةُ. فكيفَ بِمَن قالَ: إن اللهَ هو الكفَّارُ والمنافِقون والصِّبيانُ والمجانينُ والأنجاسُ وكلُّ شيءٍ, وإذا كان اللهُ قد رَدَّ قولَ اليهودِ والنصارَى لَمَّا قالوا: نحن أبناءُ اللهِ وأحِبَّاؤُه. وقالَ لهم: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } الآيةَ. فكيف بمن يَزْعُمُ أن اليهودَ والنصارى ما هو إلا عينُ وجودِ الربِّ الخالقِ؟ ليسوا غيرَه, ولا سواه، ولا يُتَصَوَّرُ أن يُعذِّبَ إلا نفسَه، وأن كلَّ ناطقٍ في الكونِ فهو عينُ السامعِ.
والواحدُ بالعينِ هو الذي لا يَقْبَلُ التنويعَ والتقسيمَ, بل هو شيءٌ واحدٌ, والواحدُ بالنوعِ هو الذي يَقبلُ التنويعَ والتقسيمَ، فهو جِنسٌ تَنْدَرِجُ تحتَه أنواعٌ عديدةٌ.
واعلَمْ أن الحلولَ نوعان كما أن الاتِّحادَ نوعان. فهذه أربعةُ أقسامٍ:
الأوَّلُ: هو الحلولُ الخاصُّ: وهو قولُ النَّسْطُوريَّةِ من النصارى ونحوِهم؛ ممن يقولون إن اللاَّهوتَ حَلَّ في الناسوتِ كحلولِ الماءِ في الإناءِ، وهو قَولُ مَن وافقَ هؤلاءِ النصارى من غَالِيَةِ هذه الأمَّةِ، كغَالِيَةِ الرافضةِ الذين يقولون: إنه حلَّ بعليِّ بنِ أبي طالِبٍ وأئمَّةِ أهلِ بيتِه. وغَالِيَةُ النُّسَّاكِ: الذين يقولون بالحلولِ فيمَن يَعْتَقِدون فيه الوِلايةَ.
والثاني: هو الاتِّحادُ الخاصُّ: وهو قولُ يَعقوبيَّةِ النصارى، حيث يقولون: إن اللاَّهوتَ والناسوتَ اختَلَطَا وامتزجا وصارا شيئاً واحداً.
الثالثُ: هو الحلولُ العامُّ: وهو القولُ الذي ذكَرَه أئمَّةُ أهلِ السنَّةِ عن طائفةٍ من الجَهْميَّةِ المتَقدِّمِين، الذين يقولون إن اللهَ بذاتِه في كلِّ مكانٍ، ويَتَمَسَّكُون بمتشابِهِ القرآنِ, كقولِه سبحانَه: {وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} وقولُه: {وَهُوَ مَعَكُمْ}. والردُّ على هؤلاءِ كثيرٌ مشهورٌ في كلامِ أئمَّةِ السنَّةِ وأهلِ المعرفةِ.
الرابعُ: الاتِّحادُ العامُّ , وهو قولُ هؤلاءِ الملاحِدَةِ الذين يَزْعُمون أنه عينُ وجودِ الكائناتِ.
قولُه:
وآخرون تَوهَّمُوا أنه إذا قيلَ: الموجوداتُ تَشتركُ في مُسمَّى الوجودِ لزِمَ التشبيهُ والتركيبُ. فقالَوا: لفظُ الوجودِ مقولٌ بالاشتراكِ اللفظيِّ، فخالَفوا ما اتَّفقَ عليه العقلاءُ مع اختلافِ أصنافِهم من أن الوجودَ يَنقسمُ إلى قديمٍ ومُحْدَثٍ، ونحوِ ذلك من أقسامِ الموجوداتِ. وطائفةٌ ظنَّتْ أنه إذا كانت الموجوداتُ تَشتركُ في مُسمَّى الوجودِ لزِمَ أن يكونَ في الخارجِ عن الأذهانِ موجودٌ مشترِكٌ فيه، زَعَمُوا أن في الخارجِ عن الأذهانِ كلِّيَّاتٍ مُطلَقةً، مثلَ وجودٍ مُطلَقٍ، وحيوانٍ مُطلَقٍ، وجسمٍ مُطلَقٍ، ونحوَ ذلك. فخالَفُوا الحسَّ والعقلَ والشرْعَ، وجَعَلوا ما في الأذهانِ ثابتاً في الأعيانِ, وهذا كلُّه من نوعِ الاشتباهِ.
الشرْحُ:
هذه طائفةٌ أخرى من بني آدمَ وقَعَتْ في مَأْزِقِ الضلالِ بسببِ الاشتباهِ حيث ظَنُّوا أن الخالِقَ إذا وُصِفَ بالوجودِ, والمخلوقُ يُوصَف بالوجودِ لزِمَ التشبيهُ، ولزِمَ أن يكونَ الخالقُ مَرَكَّباً من الصفةِ والذاتِ، وهذا تشبيهٌ للخالقِ والمخلوقِ. هذا هو زعْمُ هذه الطائفةِ من الجَهْميَّةِ والمعتزلةِ، وهو قولٌ واضحُ الفسادِ، وبيِّنُ البُطلانِ، فإن الموجودَ لا يكونُ مركَّباً من ذاتِه وصفَتِه.
واتِّفاقُ الموجودَيْن في مُسمَّى الوجودِ لا يعني أن يكونَ وجودُ أحدِهما مثلَ وجودِ الآخَرِ, كما لا يَلزَمُ ذلك في سائرِ الصفاتِ، وقد سَبقَ بيانُ هذا في غيرِ هذا الموضعِ, ومن أجْلِ أن هؤلاءِ لا يُمكِنُ أن يَجْحَدوا وجودَ اللهِ قالوا: (إن اشتراكَ الخالقِ والمخلوقِ في الوجودِ إنما هو من بابِ الاشتراكِ اللفظيِّ) فخالَفُوا بهذا القولِ سائرَ العقلاءِ على اختلافِ أصنافِهم, وتبايُنِ فنونِهم, حيث اتَّفَقوا على أن الوجودَ مُنْقَسِمٌ إلى واجبٍ وممكِنٍ، وقديمٍ ومُحْدَثٍ، كما تَنقسمُ سائرُ الأسماءِ العامَّةِ الكُلِّيَّةِ, لا كما تَنقسمُ الألفاظُ المشترَكةُ؛ كلفظِ سُهَيلٍ الْمَقُولِ على الكوكبِ، وعلى سُهَيْلِ بنِ عمرٍو. فإن تلك لا يُقالُ فيها: إن هذا يَنقسمُ إلى كذا وكذا، ولكن يُقالُ: إن هذا اللفظَ يُطلَقُ على هذا المعنى وعلى هذا المعنى، مع العلْمِ بأن المعانيَ الكلِّيَّةَ قد تكونُ متفاضِلَةً في مواردِها، بل أكثرَ كذلك. وهذا هو المُسمَّى بالمُتَواطِئِ المشكِّكِ، وقد تكونُ متساويةً في مواردِها، وهذا هو المتواطئُ العامُّ. فالوجودُ ونحوُه من الأسماءِ أسماءٌ عامَّةٌ كلِّيَّةٌ, سواءٌ متواطئةً أو مشكِّكَةً ليست ألفاظاً مشترَكةً اشتراكاً لفظيًّا فقط.
وطائفةٌ من الفلاسفةِ ضلَّتْ أيضاً بسببِ الاشتباهِ؛ حيث ظَنوا أن الموجوداتِ إذا كانت تَشْتَرِكُ في مُسمَّى الوجودِ لزِمَ أن يكونَ هناك شيءٌ موجودٌ متشَخِّصٌ تَشتركُ فيه. وهذا غلَطٌ واضحٌ فإنه إذا قيلَ يَشتركان في الوجودِ المُطلَقِ الكلِّيِّ، فذاك المُطلَقُ الكلِّيُّ لا يكونُ مُطلَقاً كلِّيًّا إلا في الذهنِ. فليس في الخارجِ مُطلَقٌ كلِّيٌّ يَشتركان فيه، بل هذا له حِصَّةٌ منه، وهذا له حِصَّةٌ منه، وكلٌّ من الحقيقتين مُمْتازَةٌ عن الأخرى, والكلِّيَّاتُ هي الكلِّيَّاتُ الخمْسُ: الجنسُ، والنَّوْعُ، والفصْلُ، والخاصَّةُ، والعرَضُ العامُّ. والقولُ فيها واحدٌ، فليس فيها ما يُوجدُ في الخارجِ كلِّيًّا، ولا تكونُ مُطلَقةً إلا في الأذهانِ لا في الأعيانِ.
والحاصلُ أن قولَ هذه الطائفةِ: بأن الكلِّيَّاتِ المُطلَقةَ مثلَ: وجودٍ ضِدَّ عدَمٍ، وحيوانٍ ضِدَّ جَمادٍ، وجسمٍ ضِدَّ عَرَضٍ، وإنسانٍ ضدَّ فرسٍ تُوجدُ في الشاهدِ والعِيانِ. وأن الموجوداتِ إذا كانت مشترِكةً في مُسمَّى الوجودِ لزِمَ وجودُ شيءٍ متشخِّصٍ تَشتركُ فيه قولٌ باطلٌ مخالِفٌ للمعقولِ والمحسوسِ، كما أنه مخالِفٌ للنصوصِ، وهذه الطوائفُ كلُّها إنما ضلَّتْ بسببِ الاشتباهِ وعدَمِ التفريقِ، بينما تَشتركُ فيه الموجوداتُ وما يَمتازُ به بعضُها عن بعضٍ.
قولُه:
ومَن هَداهُ اللهُ فرَّقَ بينَ الأمورِ وإن اشترَكَتْ من بعضِ الوجوهِ، وعَلِمَ ما بينَهما من الجمْعِ والفرْقِ، والتشابُهِ والاختلافِ، وهؤلاءِ لا يَضلُّون بالمتشابِهِ من الكلامِ؛ لأنهم يَجْمَعون بينَه وبينَ المُحْكَمِ الفارِقِ الذي يُبَيِّنُ ما بينَهما من الفصْلِ والافتراقِ, وهذا كما أن لفظَ (إنا) و (نحن) وغيرَهما من صِيَغِ الجمْعِ يَتكلَّمُ بها الواحدُ له شركاءُ في الفعْلِ، ويَتكلَّمُ بها الواحدُ العظيمُ الذي له صفاتٌ تقومُ كلُّ صفةٍ مقامَ واحدٍ، وله أعوانٌ تابعون له، لا شركاءَ له. فإذا تَمسَّكَ النصرانيُّ بقولِه تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} ونحوَه على تعدُّدِ الآلهةِ، كان المحكومُ كقولِه تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ونحوَ ذلك مما لا يَحتمِلُ إلا معنًى واحداً يُزيلُ ما هناك من الاشتباهِ، وكان ما ذكَرَه من صيغةِ الجمْعِ مُبَيِّناً لما يَسْتَحِقُّه من العظمةِ والأسماءِ والصفاتِ وطاعةِ المخلوقاتِ من الملائكةِ وغيرِهم.
وأما حقيقةُ ما دَلَّ عليه ذلك من حقائقِ الأسماءِ والصفاتِ، وما له من الجنودِ الذين يَستعملُهم في أفعالِه، فلا يَعلمُهم إلا هو: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ}. وهذا تأويلُ المتشابِهِ الذي لا يَعلمُه إلا اللهُ، بخلافِ المَلِكِ من البَشَرِ، إذقالَ: قد أَمَرْنا لك بعَطاءٍ، فقد عَلِمَ أنه هو وأعوانُه، مثلَ كاتبِه وحاجِبِه وخادِمِه ونحوَ ذلك أُمرُوا به، وقد يَعْلَمُ ما صَدرَ عنه ذلك الفعْلُ من اعتقاداتِه وإراداتِه ونحوَ ذلك.
واللهُ سبحانَه وتعالى لا يُعَلِّمُ عِبادَه الحقائقَ التي أَخبرَ عنها من صفاتِه وصفاتِ اليومِ الآخرِ، ولا يَعلمون حقائقَ ما أراد بخلقِه وأمرِه من الحكمةِ ولا حقائقَ ما صَدرَتْ عنه من المشيئةِ والقدرةِ.
الشرْحُ:
يَقولُ المؤلِّفُ: إن مَن أَنارَ اللهُ بَصِيرتَهم وهَداهم لتمييزِ الحقِّ من الباطلِ؛ لا يَضِلُّون بسببِ ما بينَ الأمورِ من اشتباهٍ من بعضِ الوجوهِ، وهؤلاءِ هم العلماءُ الذين يَعْرِفون ما يَدُلُّ عليه كتابُ اللهِ وسنَّةُ رسولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويَعرفون القدْرَ المشترَكَ بينَ الشيئين، وما يَمتازُ به كلُّ واحدٍ عن الآخرِ، فيَرُدُّون المُشْكِلَ وغيرَ الواضحِ إلى قَطْعيِّ الدَّلالةِ وواضحِ المعنى، فيَزولُ الاشتباهُ، ويَتَّضِحُ ما بينَ الشيئين، وما يَمتازُ به كلُّ واحدٍ عن الآخَرِ، فيَرُدُّون المُشْكِلَ وغيرَ الواضحِ إلى قَطعيِّ الدَّلالةِ وواضحِ المعنى، فيَزولُ الاشتباهُ، ويَتَّضِحُ ما بينَ الشيئين من جهةِ الجمْعِ وجهةِ الافتراقِ بواسطةِ ردِّهم المتشابِهَ إلى الْمُحْكَمِ.
وكمثالٍ على التشابُهِ الخاصِّ الذي يُوَضِّحُه المحكَمُ ويُزيلُ ما به من الاشتباهِ مثَّلَ المؤلِّفُ بلفظِ (إنا ) و (نحن) كقولِه تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} وقولِه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} وقولِه: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}, ونحوَ ذلك كقولِه: {نَتْلُو عَلَيْكَ} وقولِه: {فَرَضْنَا} و {رَفَعْنَا} حيث تَمسَّكَ النصارى بمثْلِ هذه النصوصِ، واستَدَلُّوا بها على أن اللهَ ثالثُ ثلاثةٍ – تعالى اللهُ عن قولِهم عُلُوًّا كبيراً – وقد غَفَلُوا عن كونِ هذه الصيغةِ في أصلِ وضعِها العربيِّ يَتكلَّمُ بها الواحدُ المعظِّمُ نفسَه، ويَتكلَّمُ بها الواحدُ الذي معه شركاءُ في فِعلِه. فيُؤْتَى لهؤلاءِ النصاري بالآياتِ المصرِّحَةِ بوحدانيَّةِ اللهِ كقولِه تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} و {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}. ونحوَ ذلك من الآياتِ المصرِّحةِ ببُطلانِ ما يدَّعون، والمزيلةِ للاشتباهِ الذي به يُلَبِّسُون. فهذه الصيغةُ في كلامِ العربِ للواحدِ العظيمِ المتحدِّثِ عن نفسِه، وللعظيمِ الذي له أعوانٌ يُطيعونه؛ فإذا فَعَلَ أعوانُه فعْلاً بأمرِه قالَ: نحن فَعَلْنا. كما يقولُ الملِكُ: نحن فَتَحْنا هذا البلدَ، وهزَمْنا هذا الجيشَ ونحوَ ذلك؛ وحينئذٍ فالربُّ – تَباركَ وتعالى – يَتكَلَّمُ بـ (إنا) و (نحن) لما له من العظمةِ والجلالِ, وعديدُ الأسماءِ والصفاتِ التي لا يُحْصِيها إلا هو، وما له من الجنودِ الذين هم عبيدُه وتحتَ قهرِه يُدَبِّرُهم كيفَ يشاءُ، فهم {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}. كما وصَفَهم اللهُ في سورةِ الأنبياءِ، فهو سبحانَه أحقُّ بالتكلُّمِ بـ (إنا) و (نحن) ونحوَ ذلك.
فنحن إذاً نَفهمُ مرادَ اللهِ بقولِه: (إنا) و (نحن) وإن كنا نَجهلُ حقيقةَ ما دَلَّ عليه ذلك من كيفيَّةِ صفاتِ اللهِ وحقيقةِ ذاتِه المقدَّسةِ، كما نَجهلُ حقيقةَ ذواتِ الملائكةِ وكيفيَّةَ صفاتِهم، ولا نَعلمُ عددَهم ولا كيف يأمرُهم اللهُ يفعلون. أما الملِكُ من البشرِ إذا تكلَّمَ بـ (إنا) و (نحن) فقد يكونُ مرادُه تعظيمَ نفسِه فهو الفاعلُ وحدَه، دونَ وُزرائِه وحُجَّابِه وخُدَّامِه، وقد يكونُ مرادُه بهذه الصيغةِ التعبيرَ عن نفسِه مع من يُشاركُه في تدبيرِ ملْكِه, حيث كانوا شركاءَ له، وليسوا خُدَّاماً يَأْتَمِرون بأمرِه. كما أن البشرَ قد تَعْلَمُ الأسرارَ التي من أجْلِها يَتَصَرَّفون.
والربُّ تباركَ وتعالى بخلافِ ذلك كلِّه، فله الكبرياءُ والعظمةُ الكاملةُ، وله جنودٌ هم عبيدُه, لا شركاؤُه، ولا يَعلمُ خلْقُه كيفيَّةَ صفاتِه وكيفيَّةَ ما أَخبرَ به في الآخرةِ، كما لا يَعلمُ حقيقةَ حكمتِه في خلْقِه، وحقيقةَ مشيئتِه العامَّةِ وقدرتِه الشاملةِ، إلا هو سبحانَه وتعالى.