مطلب فِي هَجْرِ مَنْ أَعْلَنَ بِالْمَعَاصِي
(وَهِجْرَانُ) مَصْدَرُ هَجَرَهُ هَجْرًا بِالْفَتْحِ وهجرا بِالْكَسْرِ صَرَمَهُ قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْهَجْرُ ضِدُّ الْوَصْلِ يَعْنِي صَرْمَ وَقَطْعَ (مَنْ) أَيْ إنْسَانٍ مُكَلَّفٍ (أَبْدَى) أَيْ أَظْهَرَ وَأَعْلَنَ ذَلِكَ الْمُكَلَّفُ (الْمَعَاصِيَ) جَمْعُ مَعْصِيَةٍ وَهِيَ مَا يُعَابُ فَاعِلُهَا ضِدُّ الطَّاعَةِ . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَعَاصِي فِعْلِيَّةً أَوْ قَوْلِيَّةً أَوْ اعْتِقَادِيَّةً(سُنَّةٌ) مِنْ سُنَنِ الْمُصْطَفَى يُثَابُ الْإِنْسَانُ عَلَى فِعْلِهَا حَيْثُ كَانَ الْهَجْرُ لِلَّهِ تَعَالَى وَغَضَبًا لِارْتِكَابِ مَعَاصِيهِ أَوْ لِإِهْمَالِ أَوَامِرِهِ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه: إذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ لَمْ يَأْثَمْ إنْ جَفَاهُ حَتَّى يَرْجِعَ , وَإِلَّا كَيْفَ يَتَبَيَّنُ لِلرَّجُلِ مَا هُوَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَرَ مُنْكَرًا وَلَا جَفْوَةً مِنْ صَدِيقٍ . وَقَدْ هَجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَعْبًا وَصَاحِبِيهِ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِهَجْرِهِمْ خَمْسِينَ يَوْمًا . وَهَجَرَ نِسَاءَهُ شَهْرًا . وَهَجَرَتْ سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ رضي الله عنها ابْنَ أُخْتِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مُدَّةً . وَهَجَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَاتُوا متهاجرين رضوان الله عليهم أجمعين أَمَّا هِجْرَانُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَعْبًا وَصَاحِبَهُ وَهُمَا (مُرَارَةُ بْنُ رَبِيعَةَ) الْعَامِرِيُّ وَ (هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ) الْوَاقِفِيُّ فَلِتَخَلُّفِهِمْ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ . وَأَمَّا هِجْرَانُهُ أَهْلَهُ شَهْرًا فَلِكَلَامٍ أَغْضَبَهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَلَبِ بَعْضِ أُمُورٍ وشئون مِنْهُ حَتَّى أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُخَيِّرَهُنَّ , فَخَيَّرَهُنَّ فَاخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ . وَأَمَّا هِجْرَانُ سَيِّدَتِنَا وَأُمِّنَا عَائِشَةَ رضي الله عنها ابْنَ أُخْتِهَا الْإِمَامَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهم فَلِفَرْطِ كَرَمِهَا رضي الله عنها وَعَدَمِ اكْتِرَاثِهَا بِالدُّنْيَا فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ رضي الله عنه: إنَّ هَذَا سَفَهٌ أَوْ كَلَامٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى أَوْجَبَ غَضَبَ عَائِشَةَ وَآلَتْ أَنْ لَا تُكَلِّمَهُ أَبَدًا . وَلَفْظُ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ فِي بَيْعٍ أَوْ عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لَأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا فَقَالَتْ قَالَ هَذَا؟قَالُوا نَعَمْ . قَالَتْ هُوَ لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ لَا أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا فَاسْتَشْفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إلَيْهَا حِينَ طَالَتْ الْهِجْرَةُ , فَقَالَتْ لَا وَاَللَّهِ لَا أُشَفِّعُ فِيهِ أَبَدًا " . قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِإِيرَادِ أَثَرِ عَائِشَةَ هَذَا أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ حَدِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْهِجْرَةِ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ بَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِمَنْ هَجَرَ بِغَيْرِ مُوجِبٍ لِذَلِكَ . وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَفِيهِ فَطَالَتْ هِجْرَتُهَا إيَّاهُ فَنَغَّصَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي أَمْرِهِ كُلِّهِ فَاسْتَشْفَعَ بِالْمُهَاجِرِينَ فَلَمْ تَقْبَلْ . وَأَخْرَجَهُ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ وَزَادَ فِيهِ: فَاسْتَشْفَعَ إلَيْهَا بِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ فَقَالَ لَهَا أَيُّ حَدِيثٍ أخبرتنيه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ الصَّرْمِ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَلَمْ تَقْبَلْ , أَيْ لِأَنَّ الْحَدِيثَ عِنْدَهَا مَخْصُوصٌ كَمَا تَقَدَّمَ . فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ وَهُمَا مِنْ بَنِي زُهْرَةَ وَقَالَ لَهُمَا أَنْشُدُكُمَا بِاَللَّهِ لَمَا أَدْخَلْتُمَانِي عَلَى عَائِشَةَ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْذُرَ قَطِيعَتِي . فَأَقْبَلَ بِهِ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مُشْتَمِلِينَ بِأَرْدِيَتِهِمَا حَتَّى اسْتَأْذَنَا عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَا السَّلَامُ عَلَيْك وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ أَنَدْخُلُ؟قَالَتْ عَائِشَةُ اُدْخُلُوا . قَالُوا كُلُّنَا؟قَالَتْ نَعَمْ اُدْخُلُوا كُلُّكُمْ وَلَا تَعْلَمُ أَنَّ مَعَهُمَا ابْنَ الزُّبَيْرِ . فَلَمَّا دَخَلُوا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ , الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَفِيهِ أَنَّهُ بَكَى وَبَكَتْ وَأَعْتَقَتْ فِي نَذْرِهَا ذَلِكَ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ . وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ بَعَثَتْ إلَى الْيَمَنِ بِمَالٍ قَالَ فَابْتِيعَ لَهَا بِهِ أَرْبَعُونَ رَقَبَةً فَأَعْتَقَتْهَا كَفَّارَةً لِنَذْرِهَا . وَأَرْسَلَ لَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ بِعَشْرِ رِقَابٍ فَأَعْتَقَتْهُمْ وَلَعَلَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْبَعِينَ بِأَنْ كَمَّلَتْ عَلَيْهِمْ . قَالَ أَبُو دَاوُدَ رضي الله عنه: إذَا كَانَتْ الْهِجْرَةُ لِلَّهِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا يَعْنِي مِنْ أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ بِالْهِجْرَانِ بِشَيْءٍ , فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هَجَرَ بَعْضَ نِسَائِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا . وَابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه هَجَرَ ابْنًا لَهُ إلَى أَنْ مَاتَ . وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ هَجَرَ جَمَاعَةً مِمَّنْ أَجَابُوا فِي الْمِحْنَةِ مِثْلَ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرِهِمَا مَعَ فَخَامَةِ شَأْنِهِمْ , حَتَّى ذَكَرَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رضي الله عنه عَمِلَ أَبْيَاتًا فِي شَأْنِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَأَرْسَلَهَا إلَيْهِ وَهِيَ: يَا ابْنَ الْمَدِينِيِّ الَّذِي عَرَضَتْ لَهُ دُنْيَا فَجَادَ بِدِينِهِ لِيَنَالَهَا مَاذَا دَعَاك إلَى انْتِحَالِ مَقَالَةٍ قَدْ كُنْت تَزْعُمُ كَافِرًا مَنْ قَالَهَا أَمْرٌ بَدَا لَك رُشْدُهُ فَتَبِعْته أَمْ زِينَةُ الدُّنْيَا أَرَدْت نَوَالَهَا؟وَلَقَدْ عَهِدَتْك مَرَّةً مُتَشَدِّدًا صَعْبَ الْمَقَالَةِ لِلَّتِي تُدْعَى لَهَا إنَّ الْمُرْزَى مَنْ يُصَابُ بِدِينِهِ لَا مَنْ يُرْزَأُ نَاقَةً وَفِصَالَهَا ذَكَرَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه بِسَنَدٍ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ رحمه الله . وَكَمْ إمَامٍ هَجَرَ لِلَّهِ خِدْنًا كَانَ أَعَزَّ عَلَيْهِ لَوْلَا انْتِهَاكُهُ لِمَحَارِمِ مَوْلَاهُ مِنْ رُوحِهِ , فَصَارَ بِذَلِكَ كَالْجَمَادِ بَلْ أَدْنَى . فَلَا نُطِيلُ الْكَلَامَ بِحِكَايَاتِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ خَيْرِ الْأَنَامِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ مَعَ كَعْبٍ وَصَاحِبَيْهِ وَهِيَ مَشْهُورَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَذْكُورَةٌ . (وَقَدْ) حَرْفُ تَحْقِيقٍ , وَتَّاتِي لِلتَّقْلِيلِ كَ (قَدْ يَصْدُقُ الْكَذُوبُ) وَلِلتَّكْثِيرِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: قَدْ أَتْرُكُ الْفُرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ وَلِلتَّوَقُّعِ قَدْ يَقْدُمُ الْغَائِبُ وَتَقْرِيبِ الْمَاضِي مِنْ الْحَالِ قَدْ قَامَ زَيْدٌ وَكَذَا لِتَقْرِيبِ الْمُسْتَقْبَلِ كَقَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ وَلِلنَّفْيِ كَقَوْلِهِمْ: قَدْ كُنْت فِي خَيْرٍ فَتَعْرِفَهُ بِنَصْبِ تَعْرِفُ . وَمَعْنَى هَذَا كَمَا ذَكَرْنَا لِلتَّحْقِيقِ (قِيلَ) فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ أَصْلُهُ قول بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ الْوَاوِ اُسْتُثْقِلَتْ الضَّمَّةُ عَلَى الْقَافِ فَحُذِفَتْ ثُمَّ نُقِلَتْ كَسْرَةُ الْوَاوِ إلَى الْقَافِ فَصَارَتْ قول فَقُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا فَصَارَتْ قِيلَ (أَنْ يَرْدَعَهُ) أَيْ إنْ كَانَ الْهِجْرَانُ يَرْدَعُ مَنْ أَظْهَرَ الْمَعَاصِيَ أَيْ يَكُفُّهُ وَيَزْجُرُهُ وَيَرُدُّهُ , يُقَالُ رَدَعَهُ كَمَنَعَهُ كَفَّهُ وَرَدَّهُ (أَوْجَبَ) ذَلِكَ عَلَيْهِ (وَآكَدِ) الْوُجُوبَ لِأَنَّ مَا لَمْ يَتِمَّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ . وَإِنْ حَرْفُ شَرْطٍ جَازِمٌ , وَيَرْدَعْهُ فِعْلُ الشَّرْطِ , وَأَوْجِبْ جَوَابُهُ , وأكد مَعْطُوفٌ وَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِلْقَافِيَّةِ . وَقِيلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَا دَامَ مُعْلِنَا وَلَاقِهِ بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍّ مُرْبَدِ(وَقِيلَ) أَوْجَبَ هَجْرَهُ (عَلَى) سَبِيلِ (الْإِطْلَاقِ) مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ بِكَوْنِهِ يَرْتَدِعُ بِهَذَا الْهَجْرِ أَوْ لَا . فَمَتَى ارْتَكَبَ مَعَاصِيَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْجِبْ عَلَى نَفْسِك وَإِخْوَانِك الْمُتَشَرِّعِينَ هِجْرَانَهُ (مَا دَامَ مُعْلِنَا) أَيْ مُدَّةَ دَوَامِ إعْلَانِهِ لِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي . وَالْإِعْلَانُ الظُّهُورُ وَالْبَيَانُ وَهُوَ ضِدُّ السِّرِّ وَالْإِخْفَاءِ . قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى : يُسَنُّ هَجْرُ مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي الْفِعْلِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ والاعتقادية , وَقِيلَ: يَجِبُ إنْ ارْتَدَعَ بِهِ وَإِلَّا كَانَ مُسْتَحَبًّا . وَقِيلَ : يَجِبُ هَجْرُهُ مُطْلَقًا إلَّا مِنْ السَّلَامِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ . وَقِيلَ تَرْكُ السَّلَامِ عَلَى مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى يَتُوبَ فَرْضُ كِفَايَةٍ , وَيُكْرَهُ لِبَقِيَّةِ النَّاسِ تَرْكُهُ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ سَيِّدِنَا الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه تَرْكُ السَّلَامِ وَالْكَلَامِ مُطْلَقًا . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو حُسَيْنٍ فِي التَّمَامِ: لَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ فِي وُجُوبِ هَجْرِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَفُسَّاقِ الْمِلَّةِ . وَظَاهِرُ إطْلَاقِهِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُجَاهِرِ وَغَيْرِهِ كَالْمُبْتَدِعِ وَالْفَاسِقِ فَيَنْبَغِي لَك إنْ كُنْت مُتَّبِعًا سُنَنَ مَنْ سَلَفَ أَنَّ كُلَّ مَنْ جَاهَرَ بِمَعَاصِي اللَّهِ لَا تُعَاضِدْهُ وَلَا تُسَاعِدْهُ وَلَا تُقَاعِدْهُ وَلَا تُسَلِّمْ عَلَيْهِ بَلْ اُهْجُرْهُ(وَلَاقِهِ) فِعْلُ أَمْرٍ مِنْ الْمُلَاقَاةِ (بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍّ) عَلَى وَزْنِ مُسْتَمِرٍّ هُوَ الْغَلِيظُ , يُقَالُ اكْفَهَرَّ وَجْهُهُ عَبَسَ وَقَطَبَ . وَفِي الْحَدِيثِ" اُلْقُوَا الْمُخَالِفِينَ بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍّ " قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَيْ عَابِسٍ قَطُوبٍ . وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه" إذَا لَقِيَتْ الْكَافِرَ فَأَلْقَهُ بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍّ " وَقَوْلُهُ (مُرْبَدِ) صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ . وَالْمُرْبَدُّ الْمُلَوَّنُ وَزْنًا وَمَعْنًى . قَالَ فِي الْقَامُوسِ: تَرَبَّدَ تَغَيَّرَ , وَتَرَبَّدَتْ السَّمَاءُ تَغَيَّمَتْ وَتَعَبَّسَتْ انْتَهَى . وَقَالَ غَيْرُهُ: تَرَبَّدَ لَوْنُهُ وَأَرْبَدَ أَيْ تَلَوَّنَ وَصَارَ كَلَوْنِ الرَّمَادِ . وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي الْجَمْهَرَةِ: وَالرُّبْدَةُ لَوْنٌ أَكْدَرُ مِنْ الْوَرْقَاءِ , يَعْنِي الْحَمَامَةَ الرَّبْدَاءَ . يُقَالُ نَعَامَةٌ رَبْدَاءُ وَظَلِيمٌ أَرْبَدَ . قَالَ وَتَرَبَّدَ وَجْهُ الرَّجُلِ إذَا احْمَارَّ حُمْرَةً فِيهَا سَوَادٌ عِنْدَ الْغَضَبِ . وَرَبَدَ السَّيْفُ فربده , يُقَالُ سَيْفٌ ذُو رُبْدٍ أَيْ فِيهِ شِبْهُ غُبَارٍ أَوْ مدب نَمْلٍ . انْتَهَى . وَفِي قَصِيدَةِ بِشْرِ بْنِ أَبِي عَوَانَةَ الْعَبْدِيِّ الْجَاهِلِيِّ الَّتِي كَتَبَهَا إلَى أُخْتِهِ فَاطِمَةَ , كَانَ قَدْ خَرَجَ فِي ابْتِغَاءِ مَهْرِ ابْنَةِ عَمِّهِ فَعَرَضَ لَهُ أَسَدٌ فَقَتَلَ الْأَسَدَ , كَمَا ذَكَرَهُ فِي قُرَاضَةِ الذَّهَبِ وَقَالَ فِي ذَلِكَ:
أَفَاطِمُ لَوْ شَهِدْت بِبَطْنٍ خَبْتٍ = وَقَدْ لَاقَى الْهِزَبْرُ أَخَاك بِشْرَا
إذًا لَرَأَيْت لَيْثًا رَامَ لَيْثًا = هِزَبْرًا أَغْلَبًا لَاقَى هِزَبْرَا
تَبَهْنَسَ إذْ تَقَاعَسَ عَنْهُ مُهْرِي = مُحَاذَرَةً فَقُلْت عُقِرْت مُهْرَا
أَنِلْ قَدَمَيَّ ظَهْرَ الْأَرْضِ إنِّي = رَأَيْت الْأَرْضَ أَثْبَتَ مِنْك ظَهْرَا
فَحِينَ نَزَلْت مَدَّ إلَيَّ طَرْفًا = تَخَالُ الْمَوْتَ يَلْمَعُ مِنْهُ شَزْرَا
فَقُلْت لَهُ وَقَدْ أَبْدَى نِصَالًا = مُحَدِّدَةً وَوَجْهًا مُكْفَهِرَّا
تَدَلَّ بِمِخْلَبٍ وَبِحَدِّ نَابٍ = وَبِاللَّحَظَاتِ تَحْسَبِهِنَّ جَمْرَا
وَفِي يُمْنَايَ مَاضِي الْحَدِّ أَبْقَى = بِمِضْرَبِهِ قِرَاعَ الدَّهْرِ أَسْرَا
إلَى آخِرِهَا . وَهِيَ قَصِيدَةٌ عَظِيمَةٌ . وَالشَّاهِدُ فِي قَوْلِهِ وَوَجْهًا مُكْفَهِرَّا يَعْنِي عَابِسًا قَطُوبًا
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ : الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم آثَرُوا فِرَاقَ أَنْفُسِهِمْ لِأَجْلِ مُخَالَفَتِهَا لِلْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . فَهَذَا يَقُولُ زَنَيْت فَطَهِّرْنِي , وَنَحْنُ لَا نَسْخُو أَنْ نُقَاطِعَ أَحَدًا فِيهِ لِمَكَانِ الْمُخَالَفَةِ . وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِ النَّاظِمِ وَهِجْرَانُ مَنْ أَبْدَى الْمَعَاصِيَ , وَمِنْ قَوْلِهِ مَا دَامَ مُعْلِنًا أَنَّ مُرْتَكِبَ الْمَعَاصِي الْمُسْتَتِرَ لَا يُهْجَرُ وَهُوَ صَحِيحٌ قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه: إذَا عُلِمَ مِنْ الرَّجُلِ الْفُجُورُ أَيُخْبَرُ بِهِ النَّاسُ؟قَالَ بَلْ يُسْتَرُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ دَاعِيَةً . قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَيُتَوَجَّهُ أَنَّ فِي مَعْنَى الدَّاعِيَةِ مَنْ اُشْتُهِرَ وَعُرِفَ بِالشَّرِّ وَالْفَسَادِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَإِنْ أَسَرَّ الْمَعْصِيَةَ . وَهُوَ يُشْبِهُ قَوْلَ الْقَاضِي فِيمَنْ أَتَى مَا يُوجِبُ حَدًّا إنْ شَاعَ عَنْهُ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَذْهَبَ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ لِيَأْخُذَهُ بِهِ وَإِلَّا سَتَرَ نَفْسَهُ . قَالَ الْقَاضِي: فَإِنْ كَانَ يَسْتَتِرُ بِالْمَعَاصِي فَظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه أَنَّهُ لَا يُهْجَرُ . قَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: لَيْسَ لِمَنْ يَسْكَرُ وَيُقَارِفُ شَيْئًا مِنْ الْفَوَاحِشِ حُرْمَةٌ وَلَا وَصْلَةٌ إذَا كَانَ مُعْلِنًا بِذَلِكَ مُكَاشِفًا . وَقَالَ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ الْمُجَانَبَةِ : أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يُهْجَرُ أَهْلُ الْمَعَاصِي وَمَنْ قَارَفَ الْأَعْمَالَ الرَّدِيَّةَ أَوْ تَعَدَّى حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَعْنَى الْإِقَامَةِ عَلَيْهِ أَوْ الْإِضْرَارِ . وَأَمَّا مَنْ سَكِرَ أَوْ شَرِبَ أَوْ فَعَلَ فِعْلًا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَحْظُورَةِ ثُمَّ لَمْ يُكَاشِفْ بِهَا وَلَمْ يَلْقَ فِيهَا جِلْبَابُ الْحَيَاءِ فَالْكَفُّ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ وَعَنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْإِمْسَاكُ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ أَسْلَمُ . وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: إنَّ الْمُسْتَتِرَ بِالْمُنْكَرِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَيُسْتَرُ عَلَيْهِ , فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ فُعِلَ مَا يَنْكَفُّ بِهِ إذَا كَانَ أَنْفَعَ بِهِ فِي الدِّينِ . وَإِنَّ الْمُظْهِرَ لِلْمُنْكَرِ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ عَلَانِيَةً , وَلَا تَبْقَى لَهُ غِيبَةٌ , وَيَجِبُ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَانِيَةً بِمَا يَرْدَعُهُ عَنْ ذَلِكَ . وَيَنْبَغِي لِأَهْلِ الْخَيْرِ أَنْ يَهْجُرُوهُ مَيِّتًا إذَا كَانَ فِيهِ كَفٌّ لِأَمْثَالِهِ فَيَتْرُكُونَ تَشْيِيعَ جِنَازَتِهِ . انْتَهَى . وَهَذَا لَا يُنَافِيهِ وُجُوبُ الْإِغْضَاءِ عَنْهُ , فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُهُ وُجُوبُ الْإِنْكَارِ سِرًّا جَمْعًا بَيْنَ الْمَصَالِحِ . وَلِذَا يَقُولُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي بَعْضِ الْمَحَالِّ : تُعْتَبَرُ الْمَصْلَحَةُ قَالَ فِي الْآدَابِ: وَكَلَامُهُمْ ظَاهِرٌ أَوْ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ السَّتْرِ عَلَى هَذَا يَعْنِي الَّذِي لَمْ يُعْلِنْ بِالْمَعْصِيَةِ . وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ الْحَلَالُ يُسْتَحَبُّ . قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ : وَلَمْ أَجِدْ بَيْنَ الْأَصْحَابِ خِلَافًا فِي أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا لَهُ أَنْ يُقِيمَهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُقِيمَهَا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ " فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ سَتْرَهُ لَا يَجِبُ , وَأَنَّهُ يُنْكَرُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِهِ .
وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَشْهُورًا بِالشَّرِّ وَالْفَسَادِ أَمْ لَا . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ " مَنْ رَأَى عَوْرَةً فَسَتَرَهَا كَانَ كَمَنْ أَحْيَا مَوْءُودَةً " قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " قَالَ أَمَّا السَّتْرُ الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ هُنَا فَالْمُرَادُ بِهِ السَّتْرُ عَلَى ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ مَعْرُوفًا بِالْأَذَى وَالْفَسَادِ , وَأَمَّا الْمَعْرُوفُ بِذَلِكَ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُسْتَرَ عَلَيْهِ بَلْ يَرْفَعُ قِصَّتَهُ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إنْ لَمْ يَخَفْ مِنْ ذَلِكَ مَفْسَدَةً , لِأَنَّ السَّتْرَ عَلَى هَذَا يُطْمِعُهُ فِي الْإِيذَاءِ وَالْفَسَادِ وَانْتِهَاكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَجَسَارَةِ غَيْرِهِ عَلَى مِثْلِ فِعْلِهِ . وَهَذَا كُلُّهُ فِي سِتْرِ مَعْصِيَةٍ مَضَتْ وَانْقَضَتْ , أَمَّا مَعْصِيَةٌ رَآهُ عَلَيْهَا وَهُوَ بَعْدُ مُتَلَبِّسٌ فَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ بِإِنْكَارِهَا عَلَيْهِ وَمَنْعِهِ مِنْهَا عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَحِلُّ تَأْخِيرُهَا , فَإِنْ عَجَزَ لَزِمَهُ رَفْعُهَا إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ . انْتَهَى . وَلَمَّا كَانَ السَّتْرُ مَطْلُوبًا وَفَاعِلُهُ مِنْ أَهْلِ الْإِحْسَانِ مَحْسُوبًا , كَانَ عَدَمُ التَّجَسُّسِ عَلَى ذَلِكَ أَوْلَى أَحْرَى . كَمَا أَخْبَرَ بِهِ الَّذِي هُوَ أَعْلَمُ وَأَدْرَى . وَلِذَا قَالَ النَّاظِمُ رحمه الله تعالى: