تمهيد
من أهمّ ما يُعنى به السالكون سؤالان مهمّان كم أقضّا من مضجعٍ، وأسبلا من مدمع، وصالا في الأذهان وجالا، وتبعهما ما تبعهما من التفكر والنظر، وهما السؤالان المعروفان بسؤالَي الحال والعاقبة:
- هل أنا مهتدٍ؟!
- وهل ستكون عاقبتي حسنة؟!
فالسؤال الأول عن حال العبد من حيث الهداية والضلال، هل هو سائر على الصراط المستقيم الذي يحبّه الله ويرضاه أو هو منحرف عنه.
والسؤال الثاني عن عاقبته وعواقب أعماله، هل تؤول إلى ثواب أو عقاب.
وهذان السؤالان عليهما مدار السعادة والشقاء في الدنيا والآخرة.
وقد بيّن الله تعالى جواب هذين السؤالين في هذه الآية الكريمة ببيان بديع فيه شفاء لكل ما يعتلج في النفس من هذا الشأن؛ فقال تعالى: {ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور}.
فقوله تعالى: {ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى} فيه الجواب التام على السؤال الأول.
وقوله تعالى: {وإلى الله عاقبة الأمور} فيه جواب يغني عن كلّ جواب على السؤال الثاني.
وجاء الجواب عن هذين السؤالين في هذه الآية الكريمة بأسلوب الشرط والجزاء المتفاضلين؛ فانتظمت الآية على وجازة ألفاظها وحسن تركيبها جميع مراتب السالكين؛ فعلى قدر مرتبة الوفاء بالشرط يكون النصيب من الجزاء.
فمن فقه ذلك حق الفقه قاده فقهه بإذن ربه إلى اليقين والاستقامة، واستغنى به عن كثير من الشرح والتطويل.
فالشرط قائم على أصلين لا بدّ من اجتماعهما:
الشرط الأول: إسلام الوجه إلى الله، وهذا يستلزم إخلاص العبادة والقصد لله جلّ وعلا؛ والانقياد إليه تعالى؛ فيكون القلب والتوجه سليماً لله تعالى لا شراكة فيه لأحد.
والشرط الثاني: الإحسان في عبادة الله، وذلك يستلزم أن يكون العمل خالصاً لله تعالى صواباً على سنة رسول الله ﷺ.
وهذان الأصلان يتفاضل فيهما السالكون تفاضلاً كبيراً:
- فأما الإخلاص فيدخله التفاضل من جهتين:
إحداهما: قوّة الاحتساب في القلب، وتعظيم النيّة لله تعالى، وتخليصها من الشوائب.
والأخرى: الاستكثار من العبادات الخالصة؛ فكلّ عبادة خالصة يزداد بها المؤمن إيماناً وإخلاصاً لله تعالى.
- وأما إحسان العبادة فيدخله التفاضل من أربع جهات:
الأولى: قوة الإخلاص فيها.
والثاني: حسن اتباع هدي النبي ﷺ
والثالثة:تعدد المقاصد الحسنة في العمل الواحد.
والرابعة: اقتران الأعمال؛ فكثير من الأعمال يقترن بها من الأعمال الصالحة ما يعظّمها.
والمسلمون يتفاضلون في إسلامهم بتفاضلهم في هذين الأصلين؛ فهم على درجات كثيرة لا يحصيهم إلا من خلقهم واحصى أعمالهم جلّ وعلا؛ فأحسنهم قياماً بالشرط أعظمهم نصيباً من الجزاء، وكلّ مسلم لديه أصل الإيمان فلديه أصل الوفاء بهذا الشرط من الإخلاص والمتابعة ثم يزداد نصيبه الجزاء كلما ازداد إخلاصاً لله تعالى، وإحساناً لاتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.
وفي الصحيحين من حديث معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: ((إذا أَحْسَنَ أحدكم إسلامه؛ فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف))