النهي عن كتابة غير القرآن في أوّل الإسلام
نهى النبي صلى الله عليه وسلم في أوّل الإسلام عن أن يُكتب عنه شيء غير القرآن، ففي صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد وغيرهما من حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)).
وقد قيل في الحكمة من ذلك أن لا يختلط القرآن بغيره من حديث النبي صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين مع حداثة الإسلام قبل أن تستقرّ معرفة القرآن ويشتهر حفظه.
ثمّ إنّ النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم أذن لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما بكتابة الحديث، وكان شابّا كاتباً جامعاً للقرآن كثير التلاوة والعبادة، حتى كان يصوم كلّ يوم، ويقرأ القرآن كلَّ ليلة؛ فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يقرأ القرآن في أقلّ من سبع ليالٍ، وفي رواية في أقلّ من ثلاث، وعن سرد الصوم، وأذن له أن يصوم يوماً ويفطر يوماً.
- قال مجاهد بن جبر، عن عبد الله بن عمرو، قال: أنكحني أبي امرأة ذات حسب، فكان يتعاهد كنته، فيسألها عن بعلها، فتقول: نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشاً، ولم يفتش لنا كنفاً منذ أتيناه، فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: «القني به»، فلقيته بعد، فقال: «كيف تصوم؟»
قال: كل يوم.
قال: «وكيف تختم؟»
قال: كل ليلة.
قال: «صم في كل شهر ثلاثة، واقرإ القرآن في كل شهر».
قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك.
قال: «صم ثلاثة أيام في الجمعة».
قلت: أطيق أكثر من ذلك.
قال: «أفطر يومين وصم يوما».
قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك.
قال: «صم أفضل الصوم صوم داود صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ في كل سبع ليال مرة» رواه البخاري في صحيحه.
- وفي رواية في صحيح البخاري: قال: «اقرإ القرآن في كل شهر»، قال: إني أطيق أكثر فما زال، حتى قال: «في ثلاث».
- قال ابن جريج: سمعت ابن أبي مليكة يحدّث عن يحيى بن حكيم بن صفوان أن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: جمعت القرآن فقرأته في ليلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني أخشى أن يطول عليك الزمان وأن تملّ، اقرأ به في كل شهر).
قلت: (أي رسول الله، دعني أستمتع من قوتي ومن شبابي).
قال: ((اقرأ به في عشرين)).
قلت: (أي رسول الله، دعني أستمتع من قوتي ومن شبابي).
قال: ((اقرأ به في عشر)).
قلت: يا رسول الله، دعني أستمتع من قوتي ومن شبابي.
قال: ((اقرأ به في كل سبع)).
قلت: (يا رسول الله، دعني أستمتع من قوتي ومن شبابي).
(فأبى). رواه عبد الرزاق وأحمد وابن ماجة.
قال أبو عبد الله البخاري: (قال بعضهم: في ثلاث، وفي خمس، وأكثرهم على سبع).
أي أنّ الرواة اختلفوا في عدد الليالي في هذا الحديث وأكثرهم على سبع، ويؤيّده أنّ مجاهداً روى عنه أنه قال: (ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذاك أني كبرت وضعفت)
قال مجاهد: فكان يقرأ على بعض أهله السبع من القرآن بالنهار، والذي يقرؤه يعرضه من النهار، ليكون أخفَّ عليه بالليل، وإذا أراد أن يتقوى أفطر أياماً وأحصى، وصام مثلهن كراهية أن يترك شيئاً فارق النبي صلى الله عليه وسلم عليه
ولعل الإذن لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما كان لأجل أمْن اللبس عليه لرسوخ معرفته بالقرآن من كثرة قرائته له وحفظه إياه، وقد أذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب عنه في حال الرضا والغضب، ففي مسند الإمام أحمد والمعجم الكبير للطبراني من طريق يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كنت أكتب كلَّ شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم -أريد حفظه- فنهتني قريش، وقالوا: أتكتب كلَّ شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بَشَرٌ يتكلَّم في الغضب والرضا؟!
فأمسكت عن الكتاب؛ فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأومأ بإصبعه إلى فيه؛ فقال: (( اكتب، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق )).
- وقال عمرو بن دينار: أخبرني وهب بن منبه، عن أخيه، قال: سمعت أبا هريرة، يقول: «ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب» رواه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي في الكبرى وغيرهم.
وكان لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما صحيفة سمّاها الصادقة كتب فيها ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم.
- قال أبو راشد الحبراني: أتيت عبد الله بن عمرو بن العاص، فقلت له: حدثنا ما سمعتَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى بين يدي صحيفة؛ فقال: هذا ما كتب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظرت فيها، فإذا فيها أن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله، علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا بكر، قل: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا أنت، رب كل شيء ومليكه، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم)). رواه الإمام أحمد في المسند والبخاري في الأدب المفرد والترمذي في سننه.
قوله: ( كتب لي) أي: أذن لي بكتابته أو أملى عليّ؛ فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن كاتباً.
- وقال أبو قبيل المعافري: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص، وسئل: أي المدينتين تفتح أولا: القسطنطينية أو رومية؟ فدعا عبد الله بصندوق له حَلَق؛ فأخرج منه كتابا فجعل يقرأه؛ فقال: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل: أي المدينتين يفتح أولا قسطنطينية أو رومية؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((مدينة هرقل تفتح أولا)) يعني قسطنطينية). رواه أحمد وابن أبي شيبة والحاكم والدارمي والطبراني من طريق يحيى بن أيوب الغافقي عن أبي قبيل.
- وقال إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله: حدثنا مجاهد قال: أتيت عبد الله بن عمرو فتناولت صحيفةً من تحت مفرشه؛ فمنعني؛ قلت: ما كنتَ تمنعني شيئا؟!!
قال: (هذه الصادقة، هذه ما سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه ليس بيني وبينه أحد، إذا سَلِمَتْ لي هذه وكتاب الله تبارك وتعالى والوهط؛ فما أبالي ما كانت عليه الدنيا). رواه الخطيب البغدادي في تقييد العلم بهذا السياق، وإسحاق بن يحيى ضعيف الحديث، قال البخاري: يتكلّمون في حفظه، ومن أهل الحديث من يعتبر حديثه، وقد تابعه ليث بن أبي سليم عند الدارمي وابن عبد البرّ في جامع بيان العلم وفضله بسياق مختصر.
والوهط بستان في الطائف تصدّق به عمرو بن العاص وكان ابنه عبد الله يقوم عليه.
وقد قدّر بعض المتأخرين عدد أحاديث الصحيفة الصادقة بنحو ألف حديث، ولعلّ هذا التقدير راجع إلى عدّ مرويات عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، فقد اشتهر عمرو بن شعيب برواية هذه الصحيفة.