دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > خطة التأهيل العالي للمفسر > منتدى الامتياز

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 23 ربيع الأول 1438هـ/22-12-2016م, 03:55 AM
مريم أحمد أحمد حجازي مريم أحمد أحمد حجازي غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المتابعة الذاتية
 
تاريخ التسجيل: Jul 2014
المشاركات: 308
افتراضي

*بسم الله الرحمن الرحيم *
قال تعالى : } بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيْرَةٌ * وَ لَوْ أَلْقَى معاذيره { ] القيامة:11[
إن الحمد لله، نحمده و نستعينه ،ونستغفره ،ونستهديه و نعوذ بالله من شرور أنفسنا، و من سيئات أعمالنا ،من يهده الله فلا مضل له، و من يضلل فلا هادي له، و أشهد أن لا إله إلا الله و حده لا شريك له . و أشهد أن محمدًا عبده و رسوله .....................أما بعد :
لنسمع و نتأمل قول الله جلّ و علا في هذه الآية الكريمة ‘ التي تتضمن مع قلة الكلمات المذكورة فيها معانٍ عظيمة ؛ قال تعالى : } بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَو أَلقَى مَعَاذِيرَهُ {
الإنسان على نفسه بصيرة ، كل إنسان منا على نفسه بصيرة ، ليس هذا فحسب بل قال بعدها
و لو ألقى معاذيره . سنذكر بمشيئة الله :
*ما المراد بالبصيرة ؟ كيف يكون الإنسان على نفسه بصرة ؟ ما المراد بالمعاذير ؟
مع ما ييسره الله من المعاني المندرجة تحت هذه النقاط
أولاً : ذكر أهل العلم في المراد ( بالبصيرة ) عدة أقوال :
- سمعه و بصره و يداه و رجلاه و جوارحه ، رواه الطبري و غيره عن ابن عباس
وقال ابن قتيبة : فلما كانت جوارحه منه أقامها مقامه . فالمعنى : جوارحه تشهد عليه بما عمل ، كما قال تعالى : } يوم تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون { - أن يكون (بصيرةٌ) بمعنى : مبصر شديد المراقبة ؛ أي : الإنسان شاهد على نفسه وحده بعمله عدي بحرف (على) لتضمنه معنى المراقبة ، و هو معنى قوله تعالى : } اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا { و هاء (بصيرة ) للمبالغة مثل هاء : علامة ،و نسابة أي :الإنسان عليمٌ بصيرٌ قويُّ العلم بنفسه يومئذ . رواه الطبري عن ابن عباس و ابن زيد و قتادة و غيرهم وروى الشوكاني عن الأخفش قال : جعله هو البصيرة كما تقول للرجل : أنت حجة على نفسك . و ما أجمل ما ذكره القاسمي في محاسن التأويل عن القاشاني : ( بصيرةٌ) حجّة بينة ، يشهد بعمله ، لبقاء هيئات أعماله المكتوبة في نفسه ، و رسوخها في ذاته ، فلا حاجة أن ينبأ من خارج . و جعل الحجة بصيرة لأن صاحبها يبصرها .أي كما قال الحسن : بصير بعيوب نفسه . -و قيل : الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من خير و شر , رواه ابن عطية عن ابن عباس و ذكره الشوكاني في تفسيره .
و نلاحظ أن المراد بالبصيرة يحتمل جميع المعاني المذكورة :
إن هذه الآية جاءت في سياق الكلام عن وصف يوم القيامة ، هذا اليوم العظيم الذي سيحاسب الله تعالى فيه عباده لتمام حكمته و عدله و رحمته و قدرته ، فلو تأمل من ينكر البعث و الجزاء قليلاً بعقله لعلم أن هذا اليوم حق ، و أن هذا الكون البديع في خلقه و صنعته بما اشتمل من المخلوقات الكثيرة المبهرة ؛ لم يكن ليوجد عبثًا بدون حكمة أو غاية ، يظلم الظالم و يقتل القاتل و يسرق السارق ثم يموتون و يموت المظلومون المقهورون ؛ و لا حساب و لا جزاء. و الله إن العقول لتأبى ذلك و ترده و لا ينكره إلا جاحد مكابر معاند للحق .إذًن : إذا علمنا يقينًا أنّا مبعوثون محاسبون على أعمالنا و أقوالنا ، بل في هذا اليوم سيكون علينا بصائر من أنفسنا تشهد علينا ، من أنفسنا قبل أي شئ آخر ؛ جوارحنا ، جلودنا ،فتأمل قوله تعالى في سورة فصلت : } حتّى إذَا ما جآءُوها شَهدَ عَلَيهِمْ سَمْعُهُمْ و أبْصَارُهُمْ و جُلُودُهُمْ بِما كانوا يَعمَلُونَ *و قَالوا لِجُلُدِهمْ لِمَ شَهِدتُّم عَلَيْنَا قَالوا أنْطَقَنَا اللهُ الَّذِى أَنْطَقَ كُلَّ شيءٍ و هُوَ خَلَقَكُم أوَّلَ مَرَّةٍ و إلَيْهِ تُرْجَعُونَ { فالله تعالى يختم على الأفواه عندما ينكر الإنسان عمله بل و يحلف على ذلك و يطلب شاهد فيختم الله على أفواههم و ينطق عزّ و جلّ يده التي بطش بها ، و رجله التي مشى بها ، ينطق جلده ، فلا يستطيع بعدها أن يتكلم أو يكذّب ، فيقول كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم : عنكن كنت أناضل ، فتأمل قوله تعالى في تتمة الآيات السابقة : } وَ مَا كُنْتُم تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُم سَمْعُكُمْ ولآ أَبْصَارُكُم و لاَ جُلُودُكُمْ و لَكِنْ ظَنَنْتُمْ أنَّ اللهَ لا يَعلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ{
(ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون) إن الله عزّ و جلّ عدلٌ سبحانه ، ما عذّب الكافرين إلا لاستحقاقهم العذاب ، طلبوا شهودًا و نسوا أن الله العظيم كامل الصفات الذي يعلم السرّ و أخفى ، الذي يتساوى في علمه الخفي و الجلي سبحانه ، أنه رآهم و سمعهم و علم ما في سرائرهم و جميع أحوالهم ، و أنّه كفى به شهيدًا سبحانه و تعالى . نسوا بل تناسوا أنهم هم يعلمون في داخل أنفسهم حقّ العلم عندما يكذبون و يحلفون أنهم ما فعلوا و ما فعلوا.... أنهم كاذبون
فتأمل يا رعاك الله كيف يخبرنا تعالى و يحذرنا مما سيكون يوم القيامة حتى نتذكر و نحيي القلوب بآياته العظيمة فنستشعر مراقبة الله تعالى و أنه يرانا و يعلم جميع أحوالنا و أنّا ميتون و مبعوثون ليوم نحاسب فيه و يكون هذا المشهد الذي ذكر حقيقة ، و هي قريبة قادمة ....... فعلينا التبصر بما يصلح دنيانا و آخرتنا و تسخير ما رزقنا الله من أجسادنا و أرواحنا و كل طاقاتنا وأملاكنا لما خلقنا لأجله ألا و هو طاعة الله عزّ و جلّ . إن ما سبق في التعامل مع أنفسنا لتكون لنا بصيرة شاهدة لنا لا علينا يوم لا ينفع مال و لا بنون و وليّ و لا حميم
*و لنا فائدة و وقفة أخرى في هذه الآية و هي : قول قتادة في تفسير هذه الآية فيما رواه الطبري
قال : إذا شئت – والله- رأيته بصيرًا بعيوب الناس و ذنوبهم غافلاً عن ذنوبه ، و كان يقال : إن في الإنجيل مكتوبًا : يا ابن آدم ،تبصر القذاة في عين أخيك، و تترك الجِذل في عينك لا تبصره .و الجذل : الجذع
و هذه في التعامل مع الغير ، فياله من معنى رائع و مفيد لمن تأمله : بصيرًا بعيوب الناس و غافل عن عيوبه" فكم يحدث هذا الخلق الذميم من مساوئ في المجتمع الإسلامي ؛ من تفرقة ،و بغض يحصل بين الناس بسبب: تتبع عيوبهم و مساوئهم و الكلام عليهم و قد يصل إلى الاستهزاء بهم والكثير من التبعات السيئة لهذا الفعل ، وخاصة في زماننا مع كثرة وسائل الاتصالات الحديثة . و الحقيقة أنّ علينا أن نعكس ذلك فيكون : أن نبصر عيوبنا و نغفل عن عيوب غيرنا ؛ هذه الحقيقة و هذا ما أمرنا الله به ، فلو كلّ إنسان فعل ذلك اشتغل على نفسه يصلحا لكنا مجتمعًا صالحًا و متحابًا مترابطًا . و كم يوجد في السيرة و عن السلف ما يحمل الكثير من هذه المعاني التي لا يتسع المقام لذكرها ، فعلينا تدبر هذا و العمل به جاهدين سائلين الله التوفيق و السداد و الرشاد .
ننتقل الآن إلى الآية التالية و الكلام عن المراد بالمعاذير :
إن الإنسان عليه بصيرة على أفعاله فلن تقبل معاذيره و قيل في المعاذير أقوال :
الأول : الأعذار ، جمع عذر ؛ أي : و لو اعتذر و جادل عن نفسه بالقول مما قد أتى من المآثم ، و ركب من المعاصي ، و جادل بالباطل فعليه من يكذب عذره و لن ينفعه ذلك و هو قول أكثر السلف مثل : مجاهد و قتادة و سعيد ابن جبير و ابن زيد و أبو العالية و مقاتل وغيرهم و عليه أكثر المفسرين و هو اختيار الطبري و ابن كثير
و مثله قوله تعالى : }يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم { و قوله : } و لا يؤذن لهم فيعتذرون {و قول الشاعر : فما حسن أن يعذر المرء نفسه و ليس له من سائر الناس عاذر
الثاني : المعاذير جمع معذار ، و هو الستر ، و المعاذير الستور ، و الستر بلغة اليمن يقال له : معذار قاله الضحاك و السدي فيما رواه الطبري ، أي : و لو أرخى الستور و غلّق الأبواب . فيخرج في معنى (ألقى) قولان : 1-قال ، و منه : } فألقوا إيهم القول{ على القول الأول
2- أرخى ، على القول الثاني
قال الطبري أولى الأقوال معناه : و لو اعتذر لأن ذلك أشبه المعاني بظاهر التنزيل .
فإن الإنسان لو جادل عن نفسه يوم القيامة و اعتذر بغير الحق ، فشهادة نفسه عليه أحق من اعتذاره بالباطل . قال القاسمي في محاسن التأويل : فيه إشارة إلى أن ما عليه المشركون من الشرك و عبادة الأوثان و إنكار البعث منكر باطل ، تنكره قلوبهم ، و أنهم في دفاعهم يجادلون بالباطل ، و لا غرو أن ينكر القلب ما تدفعه الفطرة السليمة ، و الدين دين الفطرة . الكافر يعلم يومئذٍ أعماله التي استحق العقاب عليها ، و يحاول أن يعتذر و هو يعلم أن لا عذر له و لو أفصح عن جميع معاذيره .
من فائد هذه الآية العظيمة :
*اسعى في تفتيش عيوبك و التخلص منها على قدر طاقتك ‘ فإن هذا من جهاد النفس المحمود و لا تركن إلى عيوبك أو أخطائك بأن يزينها الشيطان لك بحجة أنك نشأت عليها ، أو اعتدت عليها ، فلا أحد من الناس أعرف منك بنفسك و ما فيها من العيوب .
* عليك أن تدرك حقيقة أنه لا أحد يعرفك أكثر من نفسك ؛ فإن مدحك المادحون و أثنى عليك المثنون ، فهل ستجد في نفسك شيئًا من المسّرة و ليس فيك ما مدحت به ؟ أم أنك لن تغتر بمدحهم بما ليس فيك؟ و هل يا ترى إن ذمك أحدهم أو انتقصك و لو شيئًا يسيرًا ،فهل ستجد في نفسك ضيق و حزن؟ إن من عرف نفسه لم يغتر بمدح ، و لن يتضرر بذم .*ومن أعظم الفوائد اعتراف العبد بالذنب و الخطأ فإنه مقام الأنبياء و الصديقين و الصالحين فمن اعترف بذنبه تاب منه و تركه و لم يستكبر . # و ختامًا : اجعل لنفسك بصيرة في الدنيا تهديك و ترشدك إلى الصراط المستقيم الذي يحبه الله تعالى و رسوله الموصل لرضى الله و جنات النعيم . نسأل الله سبحانه التوفيق و الهداية و البصيرة في الخير كله .
هذا و الله أعلم و الصلاة و السلام على نبينا محمد
**المراجع :
*جامع البيان في تأويل القرآن للطبري ت(310 هـ)
*المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية ت(542هـ)
*التحرير و التنوير لابن عاشور ت ( هـ13903)
*معاني القرآن و إعجازه للزجاج ت (311 هـ)
*تفسير القرآن العظيم لابن كثير ت(774 هـ)
*فتح القدير للشوكاني ت (1250هـ)
*فتح البيان في مقاصد القرآن لصديق بن حسن القنوجي البخاري
*زاد المسير لابن الجوزي
*محاسن التأويل للقاسمي ت (1332هـ)
*موسوعة الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور (المجلد الرابع)
*أضواء البيان للشنقيطي
*تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للعلامة عبد الرحمن السعدي
*التفسير الموضوعي
*الدر المصون في علوم الكتاب المكنون للسمين الحلبي ت(756هـ)

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 24 ربيع الأول 1438هـ/23-12-2016م, 09:00 AM
أمل عبد الرحمن أمل عبد الرحمن غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 8,163
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مريم أحمد أحمد حجازي مشاهدة المشاركة
*بسم الله الرحمن الرحيم *
قال تعالى : } بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيْرَةٌ * وَ لَوْ أَلْقَى معاذيره { ] القيامة:11[
إن الحمد لله، نحمده و نستعينه ،ونستغفره ،ونستهديه و نعوذ بالله من شرور أنفسنا، و من سيئات أعمالنا ،من يهده الله فلا مضل له، و من يضلل فلا هادي له، و أشهد أن لا إله إلا الله و حده لا شريك له . و أشهد أن محمدًا عبده و رسوله .....................أما بعد :
لنسمع و نتأمل قول الله جلّ و علا في هذه الآية الكريمة ‘ التي تتضمن مع قلة الكلمات المذكورة فيها معانٍ عظيمة ؛ قال تعالى : } بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَو أَلقَى مَعَاذِيرَهُ {
الإنسان على نفسه بصيرة ، كل إنسان منا على نفسه بصيرة ، ليس هذا فحسب بل قال بعدها
و لو ألقى معاذيره . سنذكر بمشيئة الله :
*ما المراد بالبصيرة ؟ كيف يكون الإنسان على نفسه بصرة ؟ ما المراد بالمعاذير ؟
مع ما ييسره الله من المعاني المندرجة تحت هذه النقاط
أولاً : ذكر أهل العلم في المراد ( بالبصيرة ) عدة أقوال :
- سمعه و بصره و يداه و رجلاه و جوارحه ، رواه الطبري و غيره عن ابن عباس
وقال ابن قتيبة : فلما كانت جوارحه منه أقامها مقامه . فالمعنى : جوارحه تشهد عليه بما عمل ، كما قال تعالى : } يوم تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون { - أن يكون (بصيرةٌ) بمعنى : مبصر شديد المراقبة ؛ أي : الإنسان شاهد على نفسه وحده بعمله عدي بحرف (على) لتضمنه معنى المراقبة ، و هو معنى قوله تعالى : } اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا { و هاء (بصيرة ) للمبالغة مثل هاء : علامة ،و نسابة أي :الإنسان عليمٌ بصيرٌ قويُّ العلم بنفسه يومئذ . رواه الطبري عن ابن عباس و ابن زيد و قتادة و غيرهم وروى الشوكاني عن الأخفش قال : جعله هو البصيرة كما تقول للرجل : أنت حجة على نفسك . و ما أجمل ما ذكره القاسمي في محاسن التأويل عن القاشاني : ( بصيرةٌ) حجّة بينة ، يشهد بعمله ، لبقاء هيئات أعماله المكتوبة في نفسه ، و رسوخها في ذاته ، فلا حاجة أن ينبأ من خارج . و جعل الحجة بصيرة لأن صاحبها يبصرها .أي كما قال الحسن : بصير بعيوب نفسه . -و قيل : الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من خير و شر , رواه ابن عطية عن ابن عباس و ذكره الشوكاني في تفسيره .
و نلاحظ أن المراد بالبصيرة يحتمل جميع المعاني المذكورة :
إن هذه الآية جاءت في سياق الكلام عن وصف يوم القيامة ، هذا اليوم العظيم الذي سيحاسب الله تعالى فيه عباده لتمام حكمته و عدله و رحمته و قدرته ، فلو تأمل من ينكر البعث و الجزاء قليلاً بعقله لعلم أن هذا اليوم حق ، و أن هذا الكون البديع في خلقه و صنعته بما اشتمل من المخلوقات الكثيرة المبهرة ؛ لم يكن ليوجد عبثًا بدون حكمة أو غاية ، يظلم الظالم و يقتل القاتل و يسرق السارق ثم يموتون و يموت المظلومون المقهورون ؛ و لا حساب و لا جزاء. و الله إن العقول لتأبى ذلك و ترده و لا ينكره إلا جاحد مكابر معاند للحق .إذًن : إذا علمنا يقينًا أنّا مبعوثون محاسبون على أعمالنا و أقوالنا ، بل في هذا اليوم سيكون علينا بصائر من أنفسنا تشهد علينا ، من أنفسنا قبل أي شئ آخر ؛ جوارحنا ، جلودنا ،فتأمل قوله تعالى في سورة فصلت : } حتّى إذَا ما جآءُوها شَهدَ عَلَيهِمْ سَمْعُهُمْ و أبْصَارُهُمْ و جُلُودُهُمْ بِما كانوا يَعمَلُونَ *و قَالوا لِجُلُودِهمْ لِمَ شَهِدتُّم عَلَيْنَا قَالوا أنْطَقَنَا اللهُ الَّذِى أَنْطَقَ كُلَّ شيءٍ و هُوَ خَلَقَكُم أوَّلَ مَرَّةٍ و إلَيْهِ تُرْجَعُونَ { فالله تعالى يختم على الأفواه عندما ينكر الإنسان عمله بل و يحلف على ذلك و يطلب شاهد فيختم الله على أفواههم و ينطق عزّ و جلّ يده التي بطش بها ، و رجله التي مشى بها ، ينطق جلده ، فلا يستطيع بعدها أن يتكلم أو يكذّب ، فيقول كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم : عنكن كنت أناضل ، فتأمل قوله تعالى في تتمة الآيات السابقة : } وَ مَا كُنْتُم تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُم سَمْعُكُمْ ولآ أَبْصَارُكُم و لاَ جُلُودُكُمْ و لَكِنْ ظَنَنْتُمْ أنَّ اللهَ لا يَعلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ{
(ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون) إن الله عزّ و جلّ عدلٌ سبحانه ، ما عذّب الكافرين إلا لاستحقاقهم العذاب ، طلبوا شهودًا و نسوا أن الله العظيم كامل الصفات الذي يعلم السرّ و أخفى ، الذي يتساوى في علمه الخفي و الجلي سبحانه ، أنه رآهم و سمعهم و علم ما في سرائرهم و جميع أحوالهم ، و أنّه كفى به شهيدًا سبحانه و تعالى . نسوا بل تناسوا أنهم هم يعلمون في داخل أنفسهم حقّ العلم عندما يكذبون و يحلفون أنهم ما فعلوا و ما فعلوا.... أنهم كاذبون
فتأمل يا رعاك الله كيف يخبرنا تعالى و يحذرنا مما سيكون يوم القيامة حتى نتذكر و نحيي القلوب بآياته العظيمة فنستشعر مراقبة الله تعالى و أنه يرانا و يعلم جميع أحوالنا و أنّا ميتون و مبعوثون ليوم نحاسب فيه و يكون هذا المشهد الذي ذكر حقيقة ، و هي قريبة قادمة ....... فعلينا التبصر بما يصلح دنيانا و آخرتنا و تسخير ما رزقنا الله من أجسادنا و أرواحنا و كل طاقاتنا وأملاكنا لما خلقنا لأجله ألا و هو طاعة الله عزّ و جلّ . إن ما سبق في التعامل مع أنفسنا لتكون لنا بصيرة شاهدة لنا لا علينا يوم لا ينفع مال و لا بنون و وليّ و لا حميم
*و لنا فائدة و وقفة أخرى في هذه الآية و هي : قول قتادة في تفسير هذه الآية فيما رواه الطبري
قال : إذا شئت – والله- رأيته بصيرًا بعيوب الناس و ذنوبهم غافلاً عن ذنوبه ، و كان يقال : إن في الإنجيل مكتوبًا : يا ابن آدم ،تبصر القذاة في عين أخيك، و تترك الجِذل في عينك لا تبصره .و الجذل : الجذع
و هذه في التعامل مع الغير ، فياله من معنى رائع و مفيد لمن تأمله : بصيرًا بعيوب الناس و غافل عن عيوبه" فكم يحدث هذا الخلق الذميم من مساوئ في المجتمع الإسلامي ؛ من تفرقة ،و بغض يحصل بين الناس بسبب: تتبع عيوبهم و مساوئهم و الكلام عليهم و قد يصل إلى الاستهزاء بهم والكثير من التبعات السيئة لهذا الفعل ، وخاصة في زماننا مع كثرة وسائل الاتصالات الحديثة . و الحقيقة أنّ علينا أن نعكس ذلك فيكون : أن نبصر عيوبنا و نغفل عن عيوب غيرنا ؛ هذه الحقيقة و هذا ما أمرنا الله به ، فلو كلّ إنسان فعل ذلك اشتغل على نفسه يصلحا لكنا مجتمعًا صالحًا و متحابًا مترابطًا . و كم يوجد في السيرة و عن السلف ما يحمل الكثير من هذه المعاني التي لا يتسع المقام لذكرها ، فعلينا تدبر هذا و العمل به جاهدين سائلين الله التوفيق و السداد و الرشاد .
ننتقل الآن إلى الآية التالية و الكلام عن المراد بالمعاذير :
إن الإنسان عليه بصيرة على أفعاله فلن تقبل معاذيره و قيل في المعاذير أقوال :
الأول : الأعذار ، جمع عذر ؛ أي : و لو اعتذر و جادل عن نفسه بالقول مما قد أتى من المآثم ، و ركب من المعاصي ، و جادل بالباطل فعليه من يكذب عذره و لن ينفعه ذلك و هو قول أكثر السلف مثل : مجاهد و قتادة و سعيد ابن جبير و ابن زيد و أبو العالية و مقاتل وغيرهم و عليه أكثر المفسرين و هو اختيار الطبري و ابن كثير
و مثله قوله تعالى : }يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم { و قوله : } و لا يؤذن لهم فيعتذرون {و قول الشاعر : فما حسن أن يعذر المرء نفسه و ليس له من سائر الناس عاذر
الثاني : المعاذير جمع معذار ، و هو الستر ، و المعاذير الستور ، و الستر بلغة اليمن يقال له : معذار قاله الضحاك و السدي فيما رواه الطبري ، أي : و لو أرخى الستور و غلّق الأبواب . فيخرج في معنى (ألقى) قولان : 1-قال ، و منه : } فألقوا إيهم القول{ على القول الأول
2- أرخى ، على القول الثاني
قال الطبري أولى الأقوال معناه : و لو اعتذر لأن ذلك أشبه المعاني بظاهر التنزيل .
فإن الإنسان لو جادل عن نفسه يوم القيامة و اعتذر بغير الحق ، فشهادة نفسه عليه أحق من اعتذاره بالباطل . قال القاسمي في محاسن التأويل : فيه إشارة إلى أن ما عليه المشركون من الشرك و عبادة الأوثان و إنكار البعث منكر باطل ، تنكره قلوبهم ، و أنهم في دفاعهم يجادلون بالباطل ، و لا غرو أن ينكر القلب ما تدفعه الفطرة السليمة ، و الدين دين الفطرة . الكافر يعلم يومئذٍ أعماله التي استحق العقاب عليها ، و يحاول أن يعتذر و هو يعلم أن لا عذر له و لو أفصح عن جميع معاذيره .
من فائد هذه الآية العظيمة :
*اسعى في تفتيش عيوبك و التخلص منها على قدر طاقتك ‘ فإن هذا من جهاد النفس المحمود و لا تركن إلى عيوبك أو أخطائك بأن يزينها الشيطان لك بحجة أنك نشأت عليها ، أو اعتدت عليها ، فلا أحد من الناس أعرف منك بنفسك و ما فيها من العيوب .
* عليك أن تدرك حقيقة أنه لا أحد يعرفك أكثر من نفسك ؛ فإن مدحك المادحون و أثنى عليك المثنون ، فهل ستجد في نفسك شيئًا من المسّرة و ليس فيك ما مدحت به ؟ أم أنك لن تغتر بمدحهم بما ليس فيك؟ و هل يا ترى إن ذمك أحدهم أو انتقصك و لو شيئًا يسيرًا ،فهل ستجد في نفسك ضيق و حزن؟ إن من عرف نفسه لم يغتر بمدح ، و لن يتضرر بذم .*ومن أعظم الفوائد اعتراف العبد بالذنب و الخطأ فإنه مقام الأنبياء و الصديقين و الصالحين فمن اعترف بذنبه تاب منه و تركه و لم يستكبر . # و ختامًا : اجعل لنفسك بصيرة في الدنيا تهديك و ترشدك إلى الصراط المستقيم الذي يحبه الله تعالى و رسوله الموصل لرضى الله و جنات النعيم . نسأل الله سبحانه التوفيق و الهداية و البصيرة في الخير كله .
هذا و الله أعلم و الصلاة و السلام على نبينا محمد
**المراجع :
*جامع البيان في تأويل القرآن للطبري ت(310 هـ)
*المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية ت(542هـ)
*التحرير و التنوير لابن عاشور ت ( هـ13903)
*معاني القرآن و إعجازه للزجاج ت (311 هـ)
*تفسير القرآن العظيم لابن كثير ت(774 هـ)
*فتح القدير للشوكاني ت (1250هـ)
*فتح البيان في مقاصد القرآن لصديق بن حسن القنوجي البخاري
*زاد المسير لابن الجوزي
*محاسن التأويل للقاسمي ت (1332هـ)
*موسوعة الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور (المجلد الرابع)
*أضواء البيان للشنقيطي
*تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للعلامة عبد الرحمن السعدي
*التفسير الموضوعي
*الدر المصون في علوم الكتاب المكنون للسمين الحلبي ت(756هـ)
أحسنت بارك الله فيك وزادك من فضله.
وأسلوبك الوعظيّ مؤثّر جميل، نفع الله بك.
ويلاحظ عنايتك باختيار مصادر الرسالة وتنوّعها، وكثرة استشهادك بالنظائر التي أفادت في فهم الآيات وبيانها.
وقد أحسنتِ في الإشارة إلى فوائد الآية في نهاية الرسالة مما أفاد في بيان مقصودها وتحقيقه.
والملاحظة على الرسالة هو:
تأثّرها بالأسلوب العلمي في بعض فقراتها:
- فنسبة الأقوال وعرضها في الأسلوب الوعظي لا يشترط أن تكون كنظيرتها في الأسلوب العلمي، بل تسند إلى الأشهر كابن عباس مثلا، ويضاف إليه الآخرون إجمالا، حتى لا يبعد ذلك عن المقصود.
- لا حاجة للتعرّض للخلاف إذا لم يكن له فائدة في الخطاب الوعظي، كما فعلتِ في معنى "المعاذير"، فالقول الثاني يمكن أن يفيد في الرسالة، لكن إذا اقتصرتِ على القول الأرجح فلا داعي للإشارة إلى الثاني، لأنه لا فائدة من ذكره تعود على المتلقّين.
بالنسبة للنقل عن المفسّرين:
- لخّصي بأسلوبك ما قاله الطبري وابن قتيبة والقاسمي ...، ولا تنقلي كلامهم بالنصّ لأن هذه الرسائل تدريب على تلخيص كلام المفسّرين وصياغته بأسلوب الطالب كما هو معلوم من عنوان هذه الدورة.
- الذي يستحب نقله بالنصّ -مع نسبته- خاصّة في الخطاب الوعظيّ هو العبارات المؤثّرة التي يصعب الإتيان بما يماثلها عند التلخيص، فهذا مما يستحسن نقله بنصّه لما يرجى منه من حسن التأثير في نفوس السامعين، ويشترط فيه أيضا عدم الإكثار.
رسالتك بحاجة إلى تنسيق أفضل، ويظهر لي أنها مرسلة من جهاز لا يخدم التنسيق، ولكن أردنا التنبيه للفائدة.
التقويم: أ
أحسن الله إليك، وأجرى الخير على يديك.

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
تطبيقات, على

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:12 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir