بسم الله الرحمن الرحيم
س1: ما معنى الوقف في القرآن؟ وما سبب وقوف بعض أهل الحديث؟
الوقف في القرآن يعني: القول بأن القرآن كلام الله والتوقف في مسألة هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق.
أما سبب توقف بعض أهل الحديث في هذه المسألة فيعود لثلاثة أمور:
الأول: إن القول بخلق القرآن قول محدث، فقالوا لا نقول إنّه مخلوق، ولا نقول إنّه غير مخلوق، بل نبقى على ما كان عليه السلف قبل إحداث القول بخلق القرآن؛ فنقول: القرآن كلام الله ، ونسكت.
الثاني: ظن بعض المحدثين أنّ الكلام في هذه المسألة كلَّه من الخوض المنهي.
الثالث: أنهم كرهوا الكلام فيما ليس تحته عمل، واستدلوا بقول مالكٍ: "الكلام في الدين كلُّه أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه، القدرَ ورأيَ جهم، وكلَّ ما أشبهه، ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل، فأما الكلام في الله فأحبُّ إليَّ السكوتُ عن هذه الأشياء؛ لأن أهل بلدنا ينهون عن الكلام إلا فيما تحته عمل" . والصحيح أن الأمر ليس كما ظنوا فإن الناس قد خاضوا في المسألة وفتنوا بها، وانتشرت الفتنة فوجب على أهل العلم حينئد الصدح بالحق وإزالة اللبس ونفي التشكيك في صفات الله.
............................................................................................................
س2: عدد مما درست من امتحن من أهل الحديث في مسألة الخلق بالقرآن مبيّنا أنواع الأذى الذي لحق بهم.
امتحن وعذب في هذه الفتنة عشرات الأئمة من أهل الحديث عليهم رحمة الله، منهم:
1- عفّان بن مسلم الصفّار شيخ الإمام أحمد امتحن رحمه الله في هذه الفتنة فامتنع عن القول بخلق القرآن فقطع عليه ما كان يجري له من بيت المال.
2- أحمد بن أبي الحواري الناسك العابد، امتحن فلم يجب فسجن فقيل له قل: ما في القرآن من الجبال والشجر مخلوق. فأجاب على هذا، وكتب إسحاق أمير دمشق بإجابته إلى الخليفة.
3- أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر الغسّاني قاضي دمشق وشيخ من شيوخ الإمام أحمد امتحن فقال فامتنع عن القول بخلق القرآن فلما فلما رأى السيف أجاب مترخّصاً بعذر الإكراه، فتركه وأمر بحبسه لأنه قالها خوفا من القتل.
4- وعبيد الله القواريري، والحسن بن حماد الحضرمي الملقّب بِسَجّادة امتحنا وحبسا ثم أجابا بالقول في خلق القرآن فخلي عنهما فعذرا بالإكراه كما قال الإمام أحمد.
5- أبو نعيم الفضل بن دكين وكان شيخاً كبيراً قد قارب التسعين امتحن فامتنع عن القول بخلق القرآن وقال: "أدركت الكوفة وبها أكثر من سبعمائة شيخ، الأعمش فمن دونه يقولون: القرآن كلام الله... ولا تكلم أحد بهذه المقالة إلا رمي بالزندقة" فطعن في عنقه ومات بعد يوم من جراحته
6- أبي يعقوب يوسف بن يحيى البويطي؛ عالم مصر ومفتيها، وتلميذ الشافعي وأعلم أصحابه امتحن فامتنع فقال له والي مصر: "قل فيما بيني وبينك! فقال: لا أقوله، ليس بي أنا، ولكن بي أن يقتدي بي مائة ألف يقولون: قال أبو يعقوب، ولا يدرون المعنى والسبب؛ فيضلون، ولا أقوله أبدا" فقيد وحملت عليه الأثقال والقيود والأغلال حتى مات بها وقد كان يقول: إنما خلق الله الخلق بـ"كن"، فإذا كانت مخلوقة، فكأن مخلوقا خلق بمخلوق، ولئن أدخلت عليه لأصدقنه -يعني: الواثق- ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم).
7- أحمد بن نصر الخزاعي وكان شيخاً أبيض الرأس واللحية، فأُوقف على النطع مقيّداً؛ وامتحنه الواثق بنفسه، قال له: ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله... فناظره فيه فامتنع عن الإجابة وأثبت رؤية الله فاستباح الخليفه دمه بعد استشارة قضاته فتولى قتله بنفسه فضربه بالسيف حتى مات ثم عُلّق رأسه رحمه الله في بغداد، وصُلب جسده في سامرا، وبقي مصلوباً ستّ سنين ؛ ثمّ جمع رأسه وجسده ودفع إلى أهله فدفنوه، واجتمع لتشييعه ودفنه ما لا يحصى من العامّة.
8-فضل بن نوح الأنماطي؛ امتحن فلم يجب فضُرب، ثمّ فرّق بينه وبين امرأته.
9- محمّد بن نوح امتحن مع الإمام أحمد فامتنع فحبس فمرض واشتد عليه المرض فمات، وقد قال فيه الإمام أحمد: ما رأيت أحداً على حداثة سنّه أقومَ بأمر الله من محمّد بن نوح، وإنّي لأرجو أن يكون قد خُتم له بخير.
10- الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- ناصر السنة وقامع البدعة امتحن فامتنع عن القول بخلق القرآن وعقد له عدة مناظرات مع أهل الكلام فحجهم ثم إنه سجن وهدد بالقتل في عهد المأمون ثم كفاه الله آذاه بدعوته فمات المأمون ثم اشتدت عليه المحنة مرة اخرى في عهد المعتصم فضرب حتى قيل: إنه ضرب أكثر من ثلاثين سوطا وأغمي عليه عدة مرات، ثم ندم المعتصم على ضربه لشيخ مسن فأطلق صراحه وظل يعالج جراحه ويطبب وقتا حتى عافاه الله.
.......................................................................................
س3: اعرض بإيجاز اختلاف المواقف من مسألة اللفظ.
مسألة اللفظ من المسائل التي كان لها ذيوع وانتشار وافتتن بها الناس وتعددت مواقفهم فيها وفيما يأتي عرض موجز لها:
1/ الجهمية الذين يقولون بخلق القرآن، ويتستَّرون باللفظ، وهؤلاء من أشد الناس فرحا بهذه المقالة؛ لأنها أخف عليهم، وأقرب إلى قبول الناس لها؛ ومن ثم يتدرجون معهم حتى يصلون إلى القول بخلق القرآن صراحة، وقد اشتدّ تحذير العلماء من فتنة الجهمية هذه وذموهم وبينوا فساد قولهم.
2/ طائفة خاضت في علم الكلام وتأثّرت ببعض قول الجهمية دون الأصول، وعلى رأسهم الشرّاك؛ الذي كان يقول: "إن القرآن كلام الله؛ فإذا تلفظنا به صار مخلوقاً"، ولا ريب أن هذا صريح قول الجهمية عند التحقيق، ولا شك (إنّ من قال: إنّ القرآن يكون مخلوقًا بالألفاظ، فقد زعم أنّ القرآن مخلوقٌ).
3- الظاهرية وعلى رأسهم داوود بن عليّ بن خلف الظاهري إمام الظاهرية وله قولاً في القرآن لم يسبق إليه فقد قال:(أما الذي في اللوح المحفوظ: فغير مخلوق، وأما الذي هو بين الناس: فمخلوق). وحين حدثت الفتنة قال: (لفظي بالقرآن مخلوق)، واشتهر عنه أنه القول بأن القرآن مُحدث أي مخلوق كما هو مشتهر عند المعتزلة لكنّها ليست على المعنى الذي أراده المعتزلة وإنما يقصد أنّ الله يحدث من أمره ما يشاء؛ فيكون حديثًا أي جديداً عند إنزاله أو وقوعه.
4/ أهل الحديث، كالإمام أحمد وإسحاق بن راهويه والبخاري وأبي ثور وجماعة، فهؤلاء منعوا الكلام في اللفظ مطلقاً لا لتباسه؛ وبدّعوا الفريقين: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، ومن قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق؛ وذلك خوفا من التوصل بهذا اللفظ إلى إرادة القول بخلق القرآن، وكانوا شديدي الحذر من حيل الجهمية وتلبيسهم، وحذروا الناس منهم أشد الحذر.
5/ طائفة من أهل الحديث كمحمد بن يحيى الذهلي شيخ البخاري وأبو نصر السجزي وغيرهم صرحوا بأنّ اللفظ بالقرآن غير مخلوق، وهم يريدون أنّ القرآن غير مخلوق، وأخطؤوا في استعمال هذه العبارة والتبس الأمر عليهم؛ حتى إنّ منهم من نسب ذلك إلى الإمام أحمد كما تقدّم عن أبي طالب وأنّ الإمام أحمد أنكر عليه وتغيّظ عليه وأنّه رجع عن ذلك؛ لكن بقي على ذلك بعض أصحاب الإمام أحمد، ثم قال بهذا القول بعض أتباعهم.
...................................................................................................
س4: ما سبب إصرار الإمام أحمد على عدم الترخّص بعذر الإكراه في محنة القول بخلق القرآن، وبيّن ما استفدّته من خبر محنته.
لعل السبب في ذلك يعود إلى أمرين:
الأول: قوة إيمانه وشدة تدينه فقد كان يحدث فيقول:"إنّ من كان قبلكم كان يُنشر أحدهم بالمنشار، ثمّ لا يصدّه ذلك عن دينه".
الثاني: خشيته رحمه الله من أن يفتتن الناس في دينهم ولا يتصدى أحد لهذه القتنه فيلتبس على الناس دينهم ويخفى عليهم الحق، وخاصة أنه كان رأس أهل الحديث في زمانه فأعناق الناس مشرئبة لمعرفة رأيه.
وفي هذه القصة فوائد وعبر جليلة لعل من أعظمها:
-أن الله ناصر دينه ولوكره المبطلون، وأن هناك طائفة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله.
- وأنه يجب على العالم وطالب العلم مراعاة حال العامة والحرص على سلامة دينهم، ولو كان على حساب نفسه.
- وأن على العالم إذا وقع في محنة وعلم أنه إن أخذ بالرخصة ضاع الحق والتبس على الناس دينهم وفتنوا؛ أن يصبر على البلاء ويبين الحق ولا يخاف في الله لومة لائم ويتحمل ما يصيبه ابتغاء وجه الله.
- وأنه لاحرج بأخذ الرخصة إذا أكره العالم وأوذي وحبس في الله كما قال تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان).
..................................................................................................
س5: ما سبب ظهور بدعة ابن كلاب؟ وما موقف أئمة أهل السنة منه؟
ظهرت بدعة ابن كلاب بسبب تقصيره في معرفة السنة واتباعة للطرق الكلامية والحجج المنطقية عندما أراد الرد على من قال بأن القرآن مخلوق من المعتزلة فأدى خوضه فيما نهي عنه إلى التسليم لبعض أصول أهل البدع الباطلة وغره إفحام بعض كبرائهم فأحدث أقوالا مبتدعة مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة منها قوله في القرآن: أنه حكاية عن المعنى القديم القائم بالله تعالى، وأنّه ليس بحرف ولا صوت، ولا يتجزأ ولا يتباعض، ولا يتفاضل إلخ.
وقد أنكر أئمّة أهل السنة على ابن كلاب طريقته المبتدعة، وما أحدث من الأقوال، وحذّروا منه ومن طريقته فكان الإمام أحمد بن حنبل من أشد الناس على عبد الله بن سعيد بن كلاب، وعلى أصحابه مثل الحارث وغيره، كما ذكر ذلك ابن خزيمة.
اعتذر على التأخير لظروف خارجة عن إرادتي.