المجموعة الأولى:
1: فسّر قول الله تعالى:
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)} البقرة
قال ابن كثير رواية عن ابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته إلى بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء فأنزل الله (فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام)
التقلب: النظر إلى السماء ،كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتظر أن ينزل عليه الوحي إلى أي قبلة يصلي، وفي هذا اثبات العلو لله تعالى بخلاف من قال أن الناس اعتاد من السماء الرحمة والمطر.
سبب تخصيص الوجه :قال ابن عطية : لأنه أعلم وأشرف وهو المستعمل في طلب الرغائب ، وبتقلب الوجه يتقلب البصر ، وقال قتادة والسدي وغيرهما : يقلب وجهه بالدعاء إلى الله ، أن يحوله إلى قبلة مكة ، وقيل : كان يقلب ليؤذن له في الدعاء ، وفي هذا سمو منه صلى الله عليه وسلم فهو انتظر أمر الله ولم يسأل ، والمعنى : أنك تردد وجهك وتصرف نظرك في السماء تشوقا لنزول الوحي .
ترضاها : تحبها ، فهي قبلة الأنبياء من قبله
وحب النبي صلى الله عليه وسلم يعود إلى أقوال :
-قال مجاهد : لقول اليهود ماعلم محمد دينه حتى اتبعنا
-قال ابن عباس : ليصيب قبلة ابراهيم
-قال السدي : ليستألف العرب التي تحبها
فول وجهك شطر المسجد الحرام : قال ابن عطية : هو أمر بالتحول ونسخ لقبلة الشام ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم
وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره : أمر للأمة بنسخ القبلة ، واستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض
وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق : فأهل الكتاب من اليهود والنصارى يعلمون من كتبهم أن الله تعالى سيوجه نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة ، وأن استقبالها هو الحق الواجب، ولكنهم كانوا يتكاتمون ذلك بينهم حسداً.
وما الله بغافل عما يعملون : وفيها قراءة أخرى ( عما تعملون ) :فعلى القراءتين هي خطاب لأهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فيها تحذير ووعيد، فالله سبحانه لا يخفى عليه شيء وغير غافل عن الأعمال .
2: حرّر القول في كل من:
أ: الحكمة من الأمر بالصلاة إلى بيت المقدس ثم إلى الكعبة، مع الاستدلال
في قوله تعالى : ( وماجعلنا القبلة التي كنت عليها ) أي وماجعلنا صرف القلبة التي كنت عليها إلا فتنة
فكان الأمر أولا بالتوجه إلى بيت المقدس لأنها قبلة الأنبياء و تألفا لليهود الذين كانوا في المدينة –وهم يعلمون من كتبهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيوجه إلى الكعبة - ، وبقي على ذلك ستة عشر شهرا ، ثم صرفه تعالى وأمته إلى الكعبة وقال أهل العلم في ذلك :
-قال ابن كثير : شرع الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسبلم أولا التوجه إلى بيت المقدس ثم صرفه إلى الكعبة ليظهر حال من يتبعك ويطيعك حيثما توجهت ، ممن ينقلب على عقبيه مرتدا، لأن هذه الفعلة كبيرة إلا على الذين أيقنوا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم ، بخلاف من في قلبه مرض أو شك فسينقلب على عقيبه ، وقال ابن جريج : بلغني أن ناساً ممن كان أسلم رجعوا عن الاسلام .
-قال قتادة والسدي وغيرهم : القبلة في قوله تعالى : ( وماجعلنا القلبة التي كنت عليها ) بيت المقدس ، والمعنى لم نجعلها حين أمرناك بها أولا إلا فتنة ، لنعلم من يتبعك من العرب الذين إنما يألفون مجد مكة ، أو من اليهود على ماقال الضحاك من أن الأحبار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن بيت المقدس قبلة الأنبياء فإن صلت إليه اتبعناك ،فأراد الله امتحانهم فأمره بالصلاة إلى بيت المقدس فلم يؤمنوا.
ويظهر من قول أهل العلم أن توجيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس أول الأمر ثم صرفه إلى الكعبة فيه فتنة واختبار : لليهود فكشف الله كذبهم وخداعهم ، وفيه فتنه لمن كان الاسلام واختبارا لصدق إيمانهم ويقينهم بنيوة الرسول صلى الله عليه وسلم فثبت من صدق في إيمانه ومنهم السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، وضل من كان بين شك وتردد.
ب: هل كانت الصلاة إلى بيت المقدس بوحي متلوّ؟
قال ابن عباس : أول من نسخ من القرآن القبلة ، وهل كانت الصلاة إلى بيت المقدس بوحي متلو؟؟فيه أقوال :
-كان بوحي متلو
-كان بوحي غير متلو، ، وهو الراجح وعليه جمهور أهل العلم
-كان بالتخيير للنبي صلى الله عليه وسلم ، قال الربيع: خُير رسول الله صلى الله عليه وسلم في النواحي فاختار بيت المقدس، ليستألف بها أهل الكتاب
-كان باجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم كما حكاه أبو العالية وعكرمة والحسن البصري.
3: بيّن ما يلي:
أ: متعلّق "كما" في قوله تعالى: {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا} الآية
-قال الزجاج وابن عطية أن ( كما) تصلح أن تكون جوابت لما قبلها ( لعلكم تهتدون)
-وقال ابن عطية : والأجود عندي أن الكاف في قوله ( كما) رد على قوله لأتم أي إتماما ، فتتم النعمة ببيان سنة ابراهيم عليه السلام كما أجاب دعوته في قوله ( ربنا وابعث فيهم رسولا) فهو في محل نصب على الحال .
-قيل : هو في معنى التأخير متعلق بقوله تعالى : ( فاذكروني) وقال الزجاج : هو الأجود عندي ، كما أرسلنا فيكم رسول منكم ) يقول : كما فعلت فاذكروني .
ب: كيف كان تحويل الصلاة إلى الكعبة دليل على عناية الله بهذه الأمة
بيان عناية الله تعالى بهذه الأمة حيث بعث فيهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم استجابة لدعوة خليل الرحمن عليه السلام ،,تم عليهم هذه النعمة بأن صرفهم إلى قبلته عليه السلام وضلت عنها الأمم السابقة ، وقد روى الإمام أحمد، بسنده عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني في أهل الكتاب: إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة، التي هدانا الله له وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلّوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين .
وقال أبو العالية : لليهودي وجهة هو موليها ، وللنصراني وجهة هو موليها ، وهداكم أنتم أيها الأمة الموقونوه للقلبة التي هي القلبة .
فلله تعالى الفضل والمنة .
ج: مناسبة قوله تعالى: {ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع} لما قبله.
سبقت هذه الآية ذكر الشهداء ومنزلتهم عند ربهم ، وجاءت هذه الآية لتبين أن سنة الله تعالى في هذه الدنيا الابتلاء ، فلا تحزنوا على من فارقتكم من قرابتكم وأحبتكم ، وعلى غير ذلك من الابتلاءات ، ثم خفف عليهم الأمر بالبشرى لمن صبر ، فمن صبر أثابه الله ومن قنط أحل به عذابه ، ولذلك قال :
( وبشر الصابرين )