بسم الله الرحمن الرحيم
المجموعة الرابعة
أولا نذكر مقصد السورة : و هو يتلخص في إثبات البعث و النشور الذي كذب به المشركون، و دحض تكذيبهم بذكر الأدلة الباهرة الدالة على قدرة الله العظيمة.
و الموضوعات الرئيسة في سورة النبأ:
1. تكذيب المشركين بالبعث و إنكارهم وقوع هذا الأمر.
2. الرد عليهم بالأدلة الباهرة الدلة على قدرة الله عز و جل.
3. بيان أهوال ما هو كائن يوم القيامة من تبدل أحوال المخلوقات، و ما فيه من ترهيب.
4. مآل المكذبين بالبعث و مآل المؤمنين به و موافقة الجزاء للعمل.
5.بيان مشهد عظيم من مشاهد القيامة وما في ذلك من الإنذار للمشركين.
فوائد سلوكية استفدتها من تدبر سورة النبأ:
1. إطالة النظر و التأمل في آيات الله المنظورة تورث محبته و تعظيمه.
2. من النعم ما يكون سبيلا لإدراك النعم، فلولا نعمة البصر ما أدرك المرء جميل خلق الله و عظيم إبداعه سبحانه، و كل هذا يقتضي شكر المنعم.
3. . فطرة الله التي فطر الناس عليها أن يسعوا في النهار في طلب العلم و الرزق، و أن يسكنوا في ظلمة الليل، فلا يخالف ذلك إلا من انتكست فطرته.
4. ( إن جهنم كانت مرصادا ) فالعاقل من يخشى من يترصد به و يرقبه، فكيف لو كانت جهنم هى التي ترصد و تتربص، أعاذنا الله منها.
( إضافي )
5. الله المنان سبق فضله سؤال خلقه، فارجع البصر لسبع أُحكمن و سراجا توهج و خيرات سحب إذ انهمرت، لخيرات الأرض تُخرج تدرك عظمة من تعبد.
6.لو تفكر المرء في أن أنفاسه معدودة و أقواله محسوبة و أعماله مكتوبة لاتقى الله حق تقاته.
7. من لطف الله بعباده أن سجل عليهم أعمالهم فرب خير فعلته و نسيته أنجاك في الدنيا و فزت بسببه بالجنة.
8. من كمال قدرة الله و حكمته، تنويع الأدلة، و ذلك لأصحاب البصائر قبل أصحاب الأبصار، و هذا يقتضي
9. أشد أنواع الخسارة أن ترحل عن الدنيا و لم تعرف الله و لم تعبده حق عبادته.
10.كيفية الرد على المشركين بالحجج القاطعة و الأدلة الدامغة.
1. فسّر بإيجاز قول الله تعالى:
{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآَبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26)}.
تفسير قوله تعالى: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21(
يخبر المولى تبارك و تعالى و خبره الصدق عن جهنم التي أعدت لمن كفر به و كذب بآياته، و قد تهيأت لاستقبال من خُلقت لهم، فاسمع ماذا قال الله تعالى في وصفها ، قال عز و جل : ( إن جهنم كانت مرصادا ) : و مرصادا أي مرصدة ، أي موضع معد مجهز مهيأ يُرصد فيه الكفار من قِبل خزنة النار، و قد قال عز و جل في غير آية: ( و إن منكم إلا واردها )، فإن الخلق يمرون عليها، فإما مؤمن ناج فائز يمر بسلام للجنة و هذا من آمن بربه و اتقاه في الدنيا ، و إما كافر جاحد مكذب هالك خاسر قد حُبس في جهنم، و هذا المعنى قاله الحسن و قتادة و قد ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره، و ذكره الشيخ الأشقر كذلك، و قد أضاف الشيخ الأشقر رحمه الله معنى آخر، -و القولان متقاربان - فذكر أنه قد تكون جهنم هى نفسها التي تتطلع للكفار أي هى التي تترصدهم ، فانظر كيف يكون وقع هذا الكلام على نفسك، حين تتصور أن جهنم، و هي أشد ما يكون من العذاب و الحر تتربص و تترصد بأهلها الذي حُق عليهم دخولها و المكث فيها، أعاذنا الله و إياكم منها، لا شك أن ذلك دافع للهروب منها و لو بأقل القليل و قد قال الصادق المصدوق صلوات ربي عليه و سلامه : ( اتقوا النار و لو بشق تمرة).
و قد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله قول للثوري جاء في تفسير هذه الآية، و هو ما يُعد في وصف جهنم فقال: عليها ثلاث قناطر.
تفسير قوله تعالى: (لِلطَّاغِينَ مَآَبًا (22)
و هنا تأتي هذه الآية مبينة متعلق الترصد، فقال عز و جل ( للطاغين مآبا)،
فإن جهنم كانت مرصادا، لمن هى مرصادا ؟ للطاغين. والطاغون جمع، مفردها طاغٍ ، و الطاغي هو المارد العاتي في الكفر، العاصي المخالف للحق الذي نزل من الله عز و جل، هذا معنى ما ذكره الحافظ ابن كثير في المراد بالطاغين.
و أما مآبا ، فقال: أي مرجعا و منقلبا و مصيرا، فالمآب : المرجع.
فأهل جهنم هم الطاغين و هى لهم المرجع و المصير الأبدي و قد قال تعالى في سورة الحديد: ( فاليوم لا يؤخذ منكم فدية و لا من الذين كفروا مآواكم النار هى مولاكم و بئس المصير).
تفسير قوله تعالى: (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23(
ما زلنا في سياق الحديث عن أهل جهنم، فهنا الحديث عن مدة بقاء أهل النار فيها فقال تعالى : ( لابثين فيها أحقابا ) : أي ماكثين فيها، و الأحقاب هى جمع حقبٍ ، و هو المدة من الزمان.
و قد اختلف السلف في تعيين الحقب اختلافا كثيرا، فمن قال أنها ثمانون سنة، كل سنة اثنا عشر شهرا، كل شهر ثلاثون يوما، كل يوم ألف سنة، و هذا رواه ابن جرير، و من قال أنها سبعون سنة و هو قول مروي عن جماعة من السلف، رواه ابن أبي حاتم ، و ذُكر أيضا أن الحقب الواحد ثلاثمائة سنة، و قيل أربعون سنة كل يوم منها كألف مما تعدون.
و قد ورد فيها حديث عن النبي صلى الله عليه و سلم فقال : ( واللّه لا يخرج من النّار أحدٌ حتّى يمكث فيها أحقاباً )، قال: والحقب بضعٌ وثمانون سنةً، والسّنة ثلاثمائةٍ وستّون يوماً ممّا تعدّون. قاله البزار.
و عن الربيع بن أنس قال : لا يعلم عدّة هذه الأحقاب إلاّ اللّه، ولكنّ الحقب الواحد ثمانون سنةً، والسّنة ثلاثمائةٍ وستّون يوماً، كلّ يومٍ كألف سنةٍ ممّا تعدّون. رواه ابن جرير.
و عن سالم : أمّا الأحقاب فليس لها عدّةٌ إلاّ الخلود في النّار، ولكن ذكروا أنّ الحقب سبعون سنةً، كلّ يومٍ منها كألف سنةٍ ممّا تعدّون.رواه ابن جرير
و قد أورد ابن جرير احتمالا آخر أن يكون ( لابثين فيها أحقابا) متعلق بالآية التالية لها و هى قوله تعالى : ( لا يذوقون فيها بردا و لا شرابا ) ، أي أنهم يمكثون أحقابا لا يذوقون لا بردا و لا شرابا ثم يعذبهم الله بنوع آخر من أنواع العذاب، ثم قال ابن جرير : والصّحيح أنّها لا انقضاء لها كما قال قتادة والرّبيع بن أنسٍ.
و حاصل الأقوال أن الحقب أزمنة غير متناهية، و أن الكافرين ماكثين في جهنم ما دامت الدهور، كلما انتهى و مضى حقب دخل آخر، و هكذا إلى الأبد.
و هذا معتقد أهل السنة و الجماعة أن النار لا تفنى، و أن أهلها لا يموتون فيها و يمكثون في عذاب أبدي، و قد قال تعالى : ( و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) فدلت هذه الآية على أن الكافرين خالدون في النار، و نظائر هذا في القرآن كثيرة، و قد صح في سنة النبي صلى الله عليه و سلم، أنه يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فيُذبح و يقال لأهل الجنة : يا أهل الجنة خلود فلا موت، و يقال لأهل النار : يا أهل النار خلود فلا موت.
وقد قال مقاتل بن حيّان: إنّ هذه الآية منسوخةٌ بقوله : ( فذوقوا فلن نزيدكم إلاّ عذاباً ) و هذا يدل على خلود الكافرين في النار و أنهم يزدادون عذابا و أنه غير مدفوع عنهم و ما هم منه بخارجين.
وقال خالد بن معدان: هذه الآية ، أي : ( لابثين فيها أحقابا ) وقوله: (إلاّ ما شاء ربّك) في أهل التّوحيد. رواهما ابن جريرٍ.
و هنا ذكر المشيئة لأن الله سبحانه و تعالى هو الذي يشاء و يختار، و قد سبق وعده أن الكافر مخلد في النار، و هنا السياق يتحدث عن الكافرين و لكن الشيء بالشيء يُذكر فإن عصاة المسلمين داخلين النار فمطهرين من ذنوبهم ثم خارجين منها بسبب أصل الإيمان الذي معهم، فلا يبقى موحد في النار و إن دخلها، فهذا يكون بسبب ذنوبه و قدر مكث عصاة المسلمين فيها بقدر ذنوبهم، و قد قال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) فالله تعالى قد يغفر لعبده الموحد فلا يدخله النار و قد يدخله ليُطهر و يُنقى ثم يخرج منها و هذا معلق بمشيئة الله عز و جل، و هذا دل عليه من السنة قول النبي صلى الله عليه و سلم : يخرج من النار من قال لا إله إلا الله و في قلبه وزن شعيرة من خير و يخرج من النار من قال لا إله إلا الله و في قلبه وزن برة من خير، و يخرج من النار من قال لا إله إلا الله و في قلبه وزن ذرة من خير).
تفسير قوله تعالى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24)
و هذه الآية بداية الحديث عن عذاب الكفار في النار فبعد أن ذكر المولى عز و جل أنهم خالدين في جهنم فلا خروج ، شرع يذكر عذابهم فيها، فقال عز و جل : ( لا يذوقون فيها بردا و لا شرابا ) : أي أنهم لا يجدون شيئا يبرد جلودهم التي تقاسي الحر الفظيع، و لا شيئا يشربونه يخفف حرارة جوفهم.
و قد ذكر السلف المراد ب ( بردا ) فمنهم من قال أنه البرد الذي هو ضد الحر، و هذا مفهوم من قول أبي العالية الذي استثنى من البرد الحميم ، و من الشراب الغساق، فيكون المعنى ( لا يذوقون فيها بردا و لا شرابا * إلا حميما و غساقا ) و كذلك قال الربيع بن أنس.
و قد ذهب من السلف من قال أنه (النوم ) كمجاهد و السدي و أبي عبيدة و هذا القول رواه ابن أبي حاتم، و نقله ابن جرير دون أن يعزي القول لأحد و استدل له بشعر الكندي فقال : بردت مراشفها عليّ فصدّني ....... عنها وعن قبلاتها البرد
و هذا من معاني البرد في اللغة لكنه معنى غير مشتهر، و القرآن يُفسر على المشهور المعروف من لغة العرب، لا من الشاذ المغمور.
و الشيخ الأشقر في تفسير هذه الآية ذكر أنهم لا يذوقون في جهنم أو في الأحقاب بردا ينفعهم من حرها ... إلى آخر تفسير الآية، و الحاصل أنه إذا كان مرجع الضمير يعود على الأحقاب فإن هذه الأحقاب تكون في جهنم، و هذا واضح.
تفسير قوله تعالى: (إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)
و المراد بالحميم هو الماء الحارّ هكذا ذكر الحافظ ابن كثير و الشيخ السعدي و الشيخ الأشقر، لكن أضاف ابن كثير فقال أن الحميم هو الحار الذي قد انتهى حرّه وحموّه، وعلة هذا استثناء أبي العالية الذي ذكرناه في الآية السابقة ، فقد استثنى من البرد الحميم ، و من الشراب الغساق.
فيكون المعنى : لا يذوقون فيها ما يبرد حرارتهم إلا ماء حار انتهى حره فصار باردا لا يطاق من شدة برده، و لا يذوقون فيها شرابا إلا صديد أهل النار وعرقهم وقروح جروحهم و دموعهم و هو غاية في النتن .
نسأل الله العفو و العافية.
تفسير قوله تعالى: (جَزَاءً وِفَاقًا (26)
ثم يشرع الله في بيان سبب ما لحق بهؤلاء القوم من العذاب الفظيع الذي لا يطاق و لا يُتصور، فقال : ( جزاء وفاقا ) و هذا نظيره في القرآن قوله تعالى : (ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه )، فمصيرهم الذي صاروا إليه كان بسبب شركهم بالله، و حاشاه أن يظلم أحد من خلقه، و أن يعذب من لا يستحق العذاب، و لما كان أعظم الذنوب الشرك كما قال تعالى في حق لقمان و هو يعظ ابنه : ( يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ) ، كان العذاب على الشرك موافقا لعظمة هذا الجرم الذي لا يغتفر في حق المولى.
2: حرّر القول في:
المراد بالمعصرات في قوله تعالى: {وأنزلنا من المعصرات ماء ثجّاجا}.
أولا المراد بالمعصرات كما ذكره المفسرون :
1. الرياح : قاله ابن عباس ، من طريق العوفي، و كذا رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس و قاله عكرمة ومجاهدٌ وقتادة ومقاتلٌ والكلبيّ وزيد بن أسلم و عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم ، ذكره ابن كثير.
و علة هذا القول أن الرياح تستدرّ المطر من السّحاب، أي أنها سبب نزول المطر من السحاب.
2. السحاب: قاله ابن عباس من طريق على ابن أبي طلحة، و قاله عكرمة وأبو العالية والضّحّاك والحسن والرّبيع بن أنسٍ والثّوريّ،و اختاره ابن جرير، ذكره ابن كثير و السعدي و الأشقر رحمهم الله.
وقال الفرّاء: هي السّحاب التي تتحلّب بالمطر ولم تمطر بعد، كما يقال: مرأةٌ معصرٌ إذا دنا حيضها ولم تحض.
( فالحاصل انها السحاب مع تقييد الفراء بأنها التي تتحلب بالمطر)
و كذلك قيدها الشيخ الأشقر فقال : هِيَ السَّحابُ الَّتِي تَنْعَصِرُ بالماءِ وَلَمْ تُمْطِرْ بَعْدُ.
3. السماوات : و هو قول الحسن و قتادة ، و هو قول قال بغرابته ابن كثير.
الترجيح : و قد اختار ابن جرير أن المراد بالمعصرات السحاب و كذلك رجحه ابن كثير و استدل لذلك بقول تعالى : ( اللّه الّذي يرسل الرّياح فتثير سحاباً فيبسطه في السّماء كيف يشاء ويجعله كسفاً فترى الودق يخرج من خلاله )
3. بيّن ما يلي:
أ: معنى الاختلاف في قوله تعالى: {الذي هم فيه مختلفون}.
أولا ما ذكره ابن كثير :
( الذي هم فيه مختلفون ) :أي النّاس فيه _ أي : في البعث_ على قولين؛ مؤمنٌ به وكافرٌ.
* و إنما قلت بمرجع الضمير ( فيه ) يقصد به البعث لأنه الأظهر عند ابن كثير و قد استدل لهذا بدلالة قوله تعالى : ( الذي هم فيه مختلفون ).
ثانيا ما ذكره الشيخ الأشقر :
و قد تطرق إلى تفصيل نوع الخلاف بعد اختياره بأن النبأ هو ( القرآن ) فقال : اخْتَلَفُوا فِي الْقُرْآنِ؛ فَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ سِحْراً، وَبَعْضُهُمْ شِعْراً، وَبَعْضُهُمْ كَهَانَةً، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: هُوَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ.
و بالنظر في كلام ابن كثير و الأشقر رحمهما الله، نجد أنهما استدلا بنفس الآية رغم اختلاف القولين المستدل عليهما.
فمن اختار القول بأن النبأ هو ( البعث) فيكون الاختلاف في وقوع هذا اليوم و قد استبعده المكذبون به، فقد وقعوا في الخلاف مع من صدق بوقوعه ، و هو واقع لا شك ، و لكنهم خالفوا الحق فقالوا بأنه أمر محال.
و من اختار القول بأن النبأ هو (القرآن)، فيكون الاختلاف بالنسبة لأقوال المشركين فيه فهم لم يتفقوا فيه على قول واحد، و أقوالهم الباطلة فيه بأنه ( سحر ، كهانة ، أساطير الأولين ، شعر ).
هذا و الله أعلم.
ب: الدليل على كتابة الأعمال.
قوله تعالى ( و كل شيء أحصيناه كتابا )
فالله سبحانه و تعالى قد أحصى الأنفاس و الأعمال و السكنات و الحركات و يعلم بذات الصدور.
الحمد لله رب العالمين