مجلس مذاكرة القسم الخامس عشر من تفسير سورة البقرة
لمجموعة الأولى:
1. فصّل القول في تفسير قول الله تعالى:
{ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام}..
سبب نزول الآية:
ورد في سبب نزولها أقوال:
قيل : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي ، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فزعم أنه يريد الإسلام ، وحلف أنه ما قدم إلا لذلك ، ثم خرج فأفسد أموالاً من أموال المسلمين .وهو قول السدي ذكره المفسرون الثلاثة ولم يذكر غيره الزجاج
- عن السدي قال : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي ، وهو حليف لبني زهرة . وأقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، فأظهر له الإسلام ، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه ، وقال : إنما جئت أريد الإسلام ، والله يعلم أني صادق . وذلك قوله : وَيَشْهِدُ اللّهَ عَلَى ما فِي قَلْبه ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فمرّ بزرع لقوم من المسلمين وحمر ، فأحرق الزرع ، وعقر الحمرُ ، فأنزل الله عز وجل : وَإذَا تَوَلى سَعَى فِي الأرْض لِيُفْسِدَ فِيها ويُهلِكَ الحَرْثَ وَالنّسْل . روه ابن جرير
وتعقب ابن عطية هذا القول بقوله: ما ثبت قط أن الأخنس أسلم.
وقيل نزلت : في قوم من أهل النفاق تكلموا في السرية التي أصيبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرّجيع .وهو قول ابن عباس ذكره ابن عطية و ابن كثير
-عن ابن عباس ، قال : لما أصيبت هذه السرية أصحاب خبيب بالرجيع بين مكة والمدينة ، فقال رجال من المنافقين : يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا هكذا ، لا هم قعدوا في بيوتهم ، ولا هم أدّوا رسالة صاحبهم
، فنزلت هذه الآيات في صفات المنافقين. ثم ذكر المستشهدين في غزوة الرجيع في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ الآية.
-وقيل: الآية عامة في المنافقين كلّهم وفي المؤمنين كلّهم. وهو قول قتادة، ومجاهدٍ، والرّبيع ابن أنسٍ، وغير واحدٍ. ذكره ابن عطية وابن كثير وصححه .
ومما يقوي هذا المعنى ما رواه الترمذي أن في بعض كتب الله تعالى: «أن من عباد الله قوما ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، يجترون الدنيا بالدين، يقول الله تعالى: أبي يغترون وعلي يجترون؟ حلفت لأسلطن عليهم فتنة تدع الحليم منهم حيران» .
-عن سعيد بن أبي هلالٍ، عن القرظيّ، عن نوف -وهو البكاليّ، وكان ممّن يقرأ الكتب -قال: إنّي لأجد صفة ناسٍ من هذه الأمّة في كتاب اللّه المنزّل: قوم يحتالون على الدّنيا بالدّين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرّ من الصّبر، يلبسون للنّاس مسوك الضّأن، وقلوبهم قلوب الذّئاب. يقول اللّه تعالى: فعليّ يجترئون! وبي يغترون! حلفت بنفسي لأبعثنّ عليهم فتنةً تترك الحليم فيها حيران. قال القرظيّ: تدبّرتها في القرآن، فإذا هم المنافقون، فوجدتها: {ومن النّاس من يعجبك قوله في الحياة الدّنيا ويشهد اللّه على ما في قلبه} الآية.رواه ابن جرير
عن أبي أبو معشرٍ نجيح قال: سمعت سعيدًا المقبريّ يذاكر محمّد بن كعبٍ القرظيّ، فقال سعيدٌ: إنّ في بعض الكتب: إنّ لله عبادًا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرّ من الصّبر، لبسوا للنّاس مسوك الضّأن من اللّين، يجترّون الدّنيا بالدّين. قال اللّه تعالى: عليّ تجترئون! وبي تغترّون!. وعزّتي لأبعثنّ عليهم فتنةً تترك الحليم منهم حيران. فقال محمّد بن كعبٍ: هذا في كتاب اللّه. فقال سعيدٌ: وأين هو من كتاب اللّه؟ قال: قول اللّه: {ومن النّاس من يعجبك قوله في الحياة الدّنيا} الآية. فقال سعيدٌ: قد عرفت فيمن أنزلت هذه الآية. فقال محمّد بن كعبٍ: إنّ الآية تنزل في الرّجل، ثمّ تكون عامّةً بعد. رواه ابن جرير
وقد صحح ابن كثير كون الآية عامة استنادا لما ورد من الآثار.
ولأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ فحكم الآية غير مختص بالسبب الذي نزلت لأجله بل شامل له ولغيره كما قال محمد بن كعب القرضي إنّ الآية تنزل في الرّجل، ثمّ تكون عامّةً بعد
ومما يقوي العموم تعليق الحكم على الوصف ؛ الآية ذمت أقواما لاتصافهم بصفات توجب الذم ؛ فتبين من ذلك أن الموجب للمذمة هو تلك الصفاتفيلزم أن كل من كان موصوفا بتلك الصفات أن يكون مستوجبا للذم
فتكون الآية عامة في كل ما فِي قَلْبِهِ اختلاف سريرته وعلانيته ؛ كل مبطن للكفر أو نفاق أو كذب أو إضرار وهو يظهر بلسانه خلاف ذلك.
وفي الآية أيضا بيان أن من الخلق من يظهر قولا جميلا وهو ينوي قبيحا
"ومن الناس " و «من» إما موصولة بمعنى الذي أو نكرة موصوفة.
"من يعجبك قوله في الحياة الدنيا " تستحسن مقالته في مدة حياته الدنيا فكلامه دائما جميل و رائق وطريف و وتميل إليه إذا تكلم في شأن الحياة الدنياالتي هي مبلغ علمه .
".وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ "معطوف على قوله : يعجبك ، " ويشهد" بنصب لفظ الجلالة والمعنى ؛ يحلف بالله على الإيمان بك والمحبة لك وأنّ الذي في قلبه موافق للسانه و يقول : اللهم اشهد عليّ بهذا القول؛ أو يقول إن الله يشهد أن ما ينطق به لساني هو الذي في قلبي. وعلى هذا المعنى يكون الذي في قلبه هو الخير الذي أظهر على زعمه.
وقيل المعنى أنه يظهر للناس الإسلام ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق و عليه يكون الذي في قلبه هو الكفر
وقرأ أبو حيوة وابن محيصن «ويشهد الله» بإسناد الفعل إلى اسم الجلالة. والمعنى يظهر للناس الخير والإيمان ويدعي الصدق و الله عزوجل شاهد على الذي في قلبه من الكفر والكذب و النفاق ويعلم قبح نفسه وخبث طويته ؛ وعليه يكون الذي في قلبه هو الشر الذي أضمره.
والقراءة العامة أبلغ في ذمه لأنه قوي على نفسه التزم الكلام الحسن ثم ظهر من باطنه خلافه. أفاده ابن عطية
{ وَهُوَ أَلَدُّ الخصام }. . أي شديد الخصومة .
الألد الشديد الخصومة ، واللديدان جانبا الوادي . كأن كلاً من المتخاصمين في جانب .
يقال منه لددت يا هذا وأنت تلد لدّاً ولدادا ، وإذا أردت أنه غلب خصمه قلت لِدّه يلده لداً .
ويقال : رجل ألدّ وإمرأة لدّاء ورجال ونساء لدّ .
قال الله تعالى { وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } [ مريم : 97 ] .
و في الحديث المرفوع : " إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم " . رواه عبد الرّزّاق
قال الشاعر :
إن تحت الأحجار حزماً وجوداً *** وخصيماً ألدّ ذا مغلاق
وقال الراجز :
تلدّ أقران الرجال اللدّ
وقال الزجاج : إشتقاقه من لديدي العنق وهما صفحتاه.
وسمي المخاصم لد ؛للدلالة على أنه صعب صعب الشكيمة يلوي الحجج في كل جانب. فيشبه انحرافه المشي في لديدي الوادي
أو أنه في أي وجه أخذ من يمين أو شمال في أبواب الخصومة غلب في ذلك ؛ أخذا من لديدي العنق أي صفحتاه
وقيل : معناه الأعوج أي أعوج الخصام ؛ فهو في حال خصومته يكذب ، ويفتر ويفجر ؛ ويزورّ عن الحقّ ولا يستقيم معه.
ولا خلا بينهما ؛ وكلا القولين متقارب المعنى ، لأن الاعوجاج في الخصومة من الجدال واللدد
وقوله ألد الخصام : وصف له بالمبالغة في شدة الخصومة؛ أي هو أشد الخصماء والدهم) خصومة ...
وقيل "ألد الخصام" على معنى "في" والمعنى ألد في الخصام
واستدل أهل العلم من الآية أن أَنَّ الْجِدَالَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِمَا ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ سَوَاءٌ.
2. حرّر القول في تفسير قوله تعالى:
{كان الناس أمّة واحدة}.
اختلف أهل التفسير في معنى الأمة وفي المراد بالناس الذين وصفوا بكونهم أمة على أقوال:
أولا : كانوا أمة واحدة في الخلقة على الفطرة .
ويكون المراد بالناس
1- بنو آدم حين أخرجهم الله نسما من ظهر آدم كانوا على الفطرة؛ من الإقرار بالتوحيد والخضوع بالعبادة ؛يوم استخراجهم من ذرية آدم؛ ولم يكونوا أمة واحد قط غير ذلك اليوم.
-عن أبي بن كعب، قال: كانوا أمة واحدة حيث عُرضوا على آدم، ففطَرهم يومئذ على الإسلام، وأقرُّوا له بالعبودية، وكانوا أمة واحدة مسلمين كلهم، ثم اختلفوا من بعد آدم فكان أبيّ يقرأ:"كان الناسُ أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين" إلى"فيما اختلفوا فيه". وإن الله إنما بعث الرسل وأنزل الكتب عند الاختلاف. رواه ابن جرير
ث
ثانيا : كانوا على أمة واحدة أي على الهدى جميعا متفقين على الحق ؛ كانوا مسلمين ثم اختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وهو قول ابن عباس .. كما قال تعالى "{ (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) .
عن ابن عباس، قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله"كان الناس أمةً واحدةً فاختلفوا". رواه ابن جرير
و يدخل في المراد بالناس :
1- آدم وحده؛ كان آدم ذا دين واحد، فاختلف ولده بعده.
1- آدم وحواء.؛ كان آدم وحواء أمة واحدة في الطاعة . وسميا بالجماعة لأنهما أصل لها .
2- القرون العشرة التي كانت بين آدم و نوح؛ كانوا على الهدى جميعًا ، " فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين منذرين " فكان أول نَبي بعث نوحًا . وهو قول ابن عباس قال: كان بين نوحٍ وآدم عشرة قرونٍ، كلّهم على شريعةٍ من الحقّ. فاختلفوا، فبعث اللّه النّبيّين مبشّرين ومنذرين.
3- نوح ومن كان معه في سفينته؛ كانوا مسلمين ثم بعد ذلك اختلفوافبعث الله النبيين مبشرين منذرين.
ثالثا : أمة واحدة في الكفر متفقين ومجتمعين عليه فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين و يكون المراد ب الناس
1- الناس الذين بعث فيهم نوح ؛ ويشمل كل مدة بعث نوح عليه السلام
-قال ابن عباس أيضا: كان الناس أمة واحدة كفارا، يريد في مدة نوح ؛ كانوا كفّارًا، {فبعث اللّه النّبيّين مبشّرين ومنذرين}
رابعا " أمة بمعنى كانوا متفقين في خلو الشرائع و جهلهم بالحقائق
الناس هم الجنس كله ومعنى كونهم أمة أي في خلوهم من الشرائع وجهلهم بالحقائق
الترجيح
وقد رجح ابن كثير القول الثاني .كون الناس كانوا أمة واحد على الحق و الإسلام ثم اختلفوا وكفروا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وكان أول رسول أرسل هو نوح عليه الصلاة والسلام..ورجحه من وجوه:
- صحة السند..أن الخبر؛ الأثر الذي رواه ابن جرير عن ابن عباس أصح سندا من غيره من الآثار
-قوة المعنى.. المعنى الذي ذكره ابن عباس أقوى في المعنى لدلالة سياق الآية عليه؛ فقوله تعالى : " {وأنزل معهم الكتاب بالحقّ ليحكم بين النّاس فيما اختلفوا فيه } ..دليل على أنه حصل خلاف..وقوله ..{وما اختلف فيه إلا الّذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغيًا بينهم} دليل أن هذا الخلاف لم يحصل إلا بسبب البغي بعد مجيء الحجج والبينات.
فكان الناس على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم نوحا
كان هناك فراق و اختلاف وشقاق في الحق..
-أما من قال أن الناس كانوا أمة في الكفر لم يحتج للقول بكونهم اختلفوا حتى يبعث إليهم النبيين مبشرين ومنذرين.بل كفرهم مستوجب لبعثة النبيين
والله أعلم.
3. اكتب رسالة مختصرة بالأسلوب الوعظي في تفسير قوله تعالى:
{زيّن للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتّقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب}.
شاءت مشيئة رب العالمين أن جعل الحياة حلوة خضرة؛ حُلوةٌ في مذاقِها، خَضِرةٌ في مرآها، رفع سماءها وأحسن بناءها فكان سقفا محفوظا؛ وجعل أرضها مهدا للناس سهلة المسلك يسيرة السير عليها ؛ وأرسى فيها الجبال فكانت رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍو أخرج من الأرض أنواعا من النبات بألون شتى وصنوف متنوعة ؛ .وأنزل من المزن ماء عذبا فكان هنئيا مرئيا لكل من شربه..وسخر البحار للناس فجرى فيه السفن لنفع العباد والبلاد ؛ و جعل فيه أنواع من اللحم الطري...إلى غير ذلك من أنواع الزينة التي أودعها الله عزوجل في هذه الحياة . من زخارف ورياش ومتاع وذهب وفضة وغيرها ؛ من حيوان ونبات ومعادن .
كل ذلك زينة لها ولأهلها .
كما قال تعالى : {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ }]
{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ }
وقال تعالى : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ }
والزينة هي الزخرف الذي يبرق أمام الأعين فيغريها ، ثم يندثر ويتلاشى ؛ فهي كسراب الماء الذي يراه السالك في الطريق ، و ليس له من الحقيقة شيء .. فكذلكم الحياة الدنيا لو تخلت عن زينتها لبدت على حقيقتها .
و تزيين الحياة الدنيا كان لأجل الابتلاء و الاختبار؛ و تمييز المحسن الذي لا يغتر بها من المسيء الذي ينغمس فيها و في ملذاتها و شهواتها سواء كانت حلالا أو حراما.
كما قال تعالى {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } .
فانخدع بها الكافر واغتر بزينتها ورونقها ومنظرها البهيج و لذاتها المتنوعة فركن إليها وجعلها مطلبه وغايته ومنتهى إراداته. وسقف آماله.فسعى وعمل لها؛ لقلة عقله و دناءة همته؛ و لما انطوى عليه من خبث سريرته وسوء طويته؛ و فسهل تسلط شيطانه عليه وإغوائه .
أما المؤمن فقد أدرك هذه الحقيقة ....الدنيا دار اختبار و بلاء ومعبرا وممرا و جسرا يعبره فيوصله إلى دار القرار؛ إلى جنات الخلد والفوز بالنعيم الأدبي السرمدي الذي لا يزول ولا يفنى.
كما قال الشاعر
إذا الدُّنيا تأمَّلها حَكيمٌ تبيَّنَ أنَّ معناهَا عُبورُ
فيرى ما فيها من المتعة عونا على الطاعة ما دام فيما أحلّ الله له ..فجعل التقوى سلاحه الذي يغلب به شهوات نفسه ؛ ومقياسه الذي يقيس به هذه الشهوات والملذات فما كان منها حلالا علمه بالضوابط الشرعية المسموح به..وما كان منها حراما فتركه لأنه يعلم أن كل ملذات –محرمة- إنما هي بريد إلى نار تلظى كما قال صلى الله عليه و سلم:" و حفت النار بالشهوات"، وآثار رضا رب العالمين واحتسب ذلك على ربه أن يجزيه خيرا يوم يلقاه فذهنه لا يغب عليه قوله تعالى "مالك يوم الدين" اليوم الذي يقف فيه بين يدي رب العالمين ؛فيكون فيها كما أمره رسوله:" كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"، فتجد واقفا عند حدود الله لا يتعداها بل لا يقربها، لأنه يوقن بقول ربه:" و من يعص الله و رسوله و يتعدى حدوده يدخله نارا خالدا فيها و له عذاب مهين" فلا يطمئن لها و لا يركن إليها البتة، قلبه متعلق بدار الآخرة، حيث الحياة الحقيقية.
أما الكافر فهذه الحقيقة غائبة عنه لا يؤمن بيوم الدين ولا بالوقوف بين يدي رب العالمين بل لسان حاله و مقاله:"ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا و ما يهلكنا إلا الدهر" ؛ فلم يكن له ما يمنعه ولا يحجزه عن المعاصي فطال أمله وساء عمله... فلا حدود عنده، و لا تمييز عنده بين حلال و حرام، و هذا من أسباب سخريته بالمؤمن الذي يعلم حدود الله و يقف عندها، و كل حركة و سكنة عنده بميزان
كما قال تعالى :"إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون و إذا مروا بهم يتغامزون..."-.
، و كما قال جل شأنه معاتبا للكافرين:" إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا و ارحمنا و أنت خير الراحمين، فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري و كنتم منهم تضحكون"- .
وظن ذلك المسكين أن ميزان السعادة ومقياسها كثرة النيل من شهوات الدنيا ومناصبها والرفعة.فمن كان له النصيب الأوفر منه فهو السيد المطاع وهو الصاحب الحبيب وهو ذو الحظ العظيم.. ومن كان غير ذلك فهو المسكين المخذول الحقير..
وهكذا كلما اختل الميزان والنظار الذي ينظر به للأشياء اختلت الرؤية الصحيحة لها ..فلا منظار صحيح للعبد لهذه الدنيا لأن بمنظار الشرع فبه تتبين له حقائق الأشياء..
والله عزوجل يقول ". فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17):}
فليس الأمر كما يظن من لا عقل له ولا فقه له في شأن هذه الدنيا فعطايا الله إنما هي للابتلاء و الاختبار لا متعلق له بالإيمان والتقوى و الكفر و الشرك.
كما قال تعالى :{ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17"}
فليست العطايا لأجل الإيمان و ليس المنع لأجل الكفر فلو كان الأمر كذلك لما سقى الله الكافر من الدنيا شربة ماء
كما جاء في الحديث : " لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَاشَرْبَةَ مَاءٍ "
*
فيا عبد الله اتق الدنيا وشهواتها وملذاتها كما جاء في الحديث "اتقوا الدنيا"..وكن على حذر منها واجعل لنفسك وقاية من غرورها وخداعها بالزهد فيها ؛و الكف عن الغلو في طلبها واجعلها دار ممر لا دار قرار
واستعين على ذلك بطاعة الله تعالى، وبكثرة الذكر والدعاء، ولا تنافس فيها مع المتنافسين، واتركها لهم
واجعلها مزرعة للآخرة ومنطلقاً إليها، ولا تنسى نصيبك منها.
وأكثر من ذكر الموت وحاسب نفسك قبل أن تحاسب.
كما قال الشاعر
وشمِّر للترحُّلِ باجتهادٍ فقدْ أزفَّ الترحُّلُ والمسِيرُ
وخُذْ حِصناً مِن التَّقوى ليومٍ يقلُّ به المُدافعُ والنَّصيرُ
ولا تغترَّ بالدُّنيا وحاذِر فقدْ أودى بِها بَشرٌ كثيرُ
فكمْ سَارتْ عَليها مِن ملوكٍ كأنَّهم عَليها لَمْ يَسيروا
وكمْ شَادوا قُصوراً عَالياتٍ فهلْ وسِعتهم إلَّا القُبورُ
فهل يَغترُ بالدُّنيا لبيبٌ وهل يصبو إلى الدُّنيا بَصيرُ
واعلم أن الرفعة عند رب العالمين بالإيمان والتقوى كما قال تعالى " {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}.
{"والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة""}
فيا لها من تسلية؟؟ ويا لها من بشارة ؟ ويا لها من تعزية للمؤمن في هذه الحياة الدنيا وما يلقاه من تعب ونصب فيها و فقر وسخرية من أهل الكفر و الشرك والنفاق... فاجعلها نصب عينك واستعين بها على السير إلى ربك..فإن الطريق قصير و الوصول قريب "وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب"
يومها ترى كرامة الله لك..يوم يرفعك منزلة ومكانة على الكفار و المشركين ...الذي يرفعك هو رب العزة رب العالمين فيكفيك شرفا أن يباهى الله بك يوم القيامة ...فهذا خبر من رب العالمين يطمئن المؤمن على آخرته ..ألا تحب أن تكون منهم...وقد عرفت حقيقة الدنيا وحقيقة عطايا الله..كله اختبار وابتلاء...فأحسن في اختبارك يحسن الله لك في جزاء
إنما الجزاء من جنس العمل.