بسم الله الرحمان الرحيم
قال هلال لضيفه منذر الثوري: (ألا أمضي بك يا منذر إلى الشيخ، لعلَّنا نؤمن ساعة؟( ؛ قال منذر: بلى، فو الله ما أقْدَمَني الكوفة إلا الرَّغبة في لقاء شيْخِك الرَّبيع بن خُثَيْم، والحنين في العَيْش ساعة في رِحاب إيمانه.)…
هم القوم حباهم الله واختارهم.,وأصبح الجلوس معهم سببا لزيادة الإيمان؛ بل الناس يحرصون ويتكلفون المشاق للوصول إليهم ..لكن يا ترى كيف وصولوا لتلك المنزلة. ؟ .. أي السبيل الذي سلكوه وساروا عليه...ما الخطوات إلى خطوها حتى بلغوا ما بلغوه من المنزلة والشأن العظيم
..تعالوا بنا نستكشف تلك الشخصية؛.ونتطلع على بعض جوانبها لعل نظفر بما ينير الدرب ويعين على السير للحوق بهم .
الربيع بن خيثم بن عابد بن عبد الله الثوري. ويكنى أبا زيد..تابعي جليل ثقة مخضرم أدرك زمان النبي -صلى الله عليه وسلم-. لم ير النبي صلى الله عليه وسلم .وكان يرسل عنه..
نشأ منذ نعومة أظفاره في طاعة الله، وفطم نفسه منذ حداثته على تقواه،.عُرف بالزهد والتقوى و شدة العبادة وحسن الخلق والسمت..أثنى عليه أهل العلم ؛ بل صار إجماعا منهم على توثيقه و تزكيته وعلو منزلته وعظيم شأنه...قال عنه عامر الشعبي "كان من معادن الصدق".. وقال عنه يحيى بن معين "لا يُسأل عن مثله"
نزل الكوفة فصحب عبد بن مسعود . فتعلّم من علمه وهديه وسمته، وحصّل خيراً كثيراً.. فصار من خيار أصحابه.قال عامر الشعبي:"كان الربيع أروع أصحاب عبد الله "...
عُرف الربيع بحسن الخلق و طول الصمت قلة الكلام..حتى قيل عنه "أنه لو جلست معه عاما بأكمله فانه لا يكلمك إذا لم تكلمه.. فقد رسم لنفسه منهجا سار عليه بأن يجعل كلامه ذكرا و صمته تفكرا وفكرا ..بل وأصبح ينصح من استنصحه بذلك ...جاء ابن الكواء إلى الربيع بن خثيم ، فقال : دلني على من هو خير منك . قال : نعم ، من كان منطقه ذكرا ، وصمته تفكرا ومسيره تدبرا فهو خير مني .
نزنه لسانه عن قول الفحش و السوء والتكلم في الناس وعيبهم .فقد شهد له بذلك من صاحبه عشرين عاما أنه ما سمع منه كلمة تعاب. ولما قيل له ما لنا نراك لا تذم أحدا قال رحمه الله..." ما أنا عن نفسي براض فأتفرغ من ذمي إلى ذم الناس، إن الناس خافوا الله على ذنوب العباد وأمنوا على ذنوبهم).
عُرف الربيع بشدة العبادة والخشية لله ؛ حريصا على تحقيق الإخلاص معتنيا به بعيدا عما يفسده فكان يقول: كل ما لا يبتغى به وجه الله عز وجل يضمحل
وكان رحمه الله شديد التستر في العبادة يخاف على نفسه الرياء و السمعة لدرجة أنه ما رئي متطوعا في مسجد قومه إلا مرة..وعن ذلك قالت سرية الربيع: كان عمل الربيع كله سراً إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه.
كان كثير الصلاة باليل شديد البكاء من خشية الله؛ حتى أشفق عليه أهل بيته فكانت أمه تتقول له:..: يا بني، يا ربيع، ألا تنام، فيقول: يا أماه من جن عليه الليل وهو يخاف البيات حق له أن لا ينام.
وقالت ابنته له يوما ...يا أبتاه ما لي أرى الناس ينامون ولا تنام؟ قال: إن جهنم لا تدعني أنام.
وقال نسير قال: بت بالربيع ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ ... }الآية فمكث ليلته حتى أصبح، ما يجوز هذه الآية إلى غيرها، ببكاء شديد.
كما أنه رحمه الله عرف بالورع بالزهد و التقلل من الدنيا و الإقبال على الآخرة .فما سُمع منه ذكرا لأمر الدنيا قط .
عن علقمة بن مرثد قال: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين، منهم الربيع بن خثيم.....وقال عامر الشعبي:" كان الربيع أشد أصحاب بن مسعود ورعا
كان مجلا لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم محبا له محتقرا لنفسه أمامهم
قال نسير بن ذعلوق: كان الربيع بن خثيم يبكي حتى تبتل لحيته من دموعه ويقول: «أدركنا قوما كنا في جنوبهم لصوصا"
و الذي يلفت النظر أن الربيع كان كثيرا لذكر الموت لا يغيب عليه؛ يستعد له كل يوم ؛
فكان يقول:" ما غائب ينتظره المؤمن خير من الموت"..كذا المؤمن العاقل لا تغيب عنه هذه الساعة التي لا بدَّ منها...ولعل هذا السبب الذي جعل الربيع يصفو بنفسه ويزكيها ويعلوا بها إلى الدرجات العالية.
.فذكر اليوم الآخر واستحضار ما يكون فيه وتكرار ذلك على القلب له شأن كبير في إصلاح القلب والنفس وحسن الإقبال على الله.
.لهذا يعد ركن الإيمان باليوم الآخر من أعظم ما يستعين به العبد في إصلاح نفسه وتزكيته وتربيتها ؛فحري بالعبد الناصح لنفسه أن يعتني بهذا الركن تعلما ودراسة واستحضارا وتكرارا .
أحب الناسُ شيخنا الجليل واعتنوا بكلامه وأقواله وأحواله فأصبحوا ينقلونها..شحذا للهمم وتأسيا بالأخيار وأهل الفضل لما في وصاياها من أثر ولكلامه من حكم .
**فمما نقل عنه عن منذر الثوري قال: كان الربيع بن خثيم يقول ":السرائر التي تختفي على الناس وهي لله بواد، التمسوا دواءهن التمسوا دواءهن.
ثم يقول: وما دواءهن؟ دواءهن أن تتوب فلا تعود.
**روى عبد الملك بن الأصبهاني، عمن حدثه عن الربيع بن خثيم أنه قال لأصحابه: تدرون ما الداء والدواء والشفاء؟ قالوا: لا.
قال: الداء الذنوب، والدواء الاستغفار، والشفاء أن تتوب فلا تعود.
**عن أبي يعلى قال: كان الربيع إذا قيل له: كيف أصبحت يا أبا يزيد؟ قال: أصبحنا ضعفاء مذنبين نأكل أرزاقنا وننتظر آجالنا.
*و قال الربيع بن خيثم رحمه الله تعالى: (أقلوا الكلام إلا من تسع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وقراءة القرآن، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، ومسألة خير، وتعوذ من شر)
هذا هو شيخنا الجليل الربيع بن خيثم صاحب السمت الحسن والخلق الرفيع؛ العالم الرباني ؛ كيف لا يكون كذلك و قد تربى على يدي عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأقرب الصحابة هدْيًا وسمْتًا من النبي عليه الصلاة والسلام... صاحبه طويلا ولا زمه وأخذ عنه علما غزيرا .. وأحبّ الأستاذُ تلميذَه حُبَّ الأب لوحيده؛ وكان يكرمه ويعتني به ؛ حتى كان الربيع بن خيثم إذا دخل على ابن مسعود لم يكن له إذن لأحد حتى يفرغ كل واحد من صاحبه، فقال له ابن مسعود: يا أبا يزيد: لو رآك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأحبكوما رأيتك إلا ذكرت المخبتين .
روى الربيع عن بن مسعود ، وأبى أيوب الأنصارى وكان قليل الرواية
ومما روى عنه الشعبي، وسعيد بن مسروق الثوري أبو سفيان، وبكر بن ماعز، وأبو رزين، ومنذر الثوري، ونسير بن ذعلوق، وغيرهم.
كما أن للربيع كانت له عناية في تفسير القران كيف لا يكون له ذلك و قد تتلمذ في أكبر مدارس التفسير مدرسة الكوفة ولأهل الكوفة منقبة عظيمة..وإذا انضاف إلى ذلك أن شيخها الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود. فلا تسأل بعدها عن حال طلابها..قال الشعبي : ما رأيت قوما قط أكثر علما ، ولا أعظم حلما ، ولا أكف عن الدنيا من أصحاب عبد الله ، ولولا ما سبقهم به الصحابة ، ما قدمنا عليهم أحدا.
اعتنى عالمنا الجليل بالقران تفسيرا وبيانا لمعانيه وعملا به؛ ناصحا للأمة في ذلك
أحب القران فأقبل عليه بكليته فانتفع به و انتفع الناس معه
قال رحمه الله : سُورَة من كتاب الله- يقصد سورة الإخلاص - يَرَاهَا النَّاس قَصِيرَة وأراها عَظِيمَة طَوِيلَة يحب الله محبها لَيْسَ لَهَا خلط فَأَيكُمْ قَرَأَهَا فَلَا يجمعن
إِلَيْهَا شَيْئا اسْتِقْلَالا بهَا فَإِنَّهَا تُجزئه.
كان شديد الوقوف مع حدود كتاب الله محلا لحلاله محرما لحرامه
أخرج بن عبد البر في جامعه ..قال الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمَ: إِيَّاكُمْ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ فِي شَيْءٍ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا أَوْ نَهَى عَنْهُ، فَيَقُولَ اللَّهُ: كَذَبْتَ لَمْ أُحَرِّمْهُ وَلَمْ أَنْهَ عَنْهُ.
قَالَ: أَوْ يَقُولَ: إِنَّ اللَّهَ أَحَلَّ هَذَا وَأَمَرَ بِهِ، فَيَقُولَ: كَذَبْتَ لَمْ أُحِلَّهُ وَلَمْ آمُرْ بِهِ.
وقد نقلت لنا كتب التفسير أقواله في بيان معاني القران
-**روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع في معنى قوله تعالى :": {وأحاطت به خطيئته}، قال :هو الذي يموت على خطيئته قبل أن يتوب.)
**وَأخرج عبد بن حميد عَن الرّبيع بن خَيْثَم {وَإِذا الْبحار فجرت} قَالَ: فجر بَعْضهَا فِي بعض فَذهب مَاؤُهَا
**وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن أبان بن تغلب قَالَ: كَانَ الرّبيع بن خَيْثَم يقْرَأ هَذَا الْحَرْف فِي النَّحْل {وَالَّذين هَاجرُوا فِي الله من بعد مَا ظلمُوا لنبوئنهم فِي الدُّنْيَا حَسَنَة}
وَيقْرَأ فِي العنكبوت (لَنَثْويَنَّهُمْ من الْجنَّة غرفا) (العنكبوت آيَة 58) وَيَقُول: التَّنَبُّؤ فِي الدُّنْيَا والثواء فِي الْآخِرَة
**كما أنه رحمه الله كان له استنباطات في آيات القران ؛ ففي تفسير قوله تعالى" وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا" وقال الربيع بن خيثم: «ما للنفساء عندي دواء إلا الرطب، ولا للمريض إلا العسل» .
** ولم يكتف رحمه الله بتفسير القران بل كان عاملا به مستحضرا لأحكامه وهداياته في حياته
أخرج ابْن سعد عَن أم الْأسود سَرِيَّة الرّبيع بن خَيْثَم قَالَت: كَانَ الرّبيع يُعجبهُ السكر يَأْكُلهُ فَإِذا جَاءَ السَّائِل نَاوَلَهُ فَقلت: مَا يصنع بالسكر الْخبز لَهُ خير قَالَ: إِنِّي سَمِعت الله يَقُول: {ويطعمون الطَّعَام على حبه}
**ومما زاده جمالا في تعامله بالقران أنه كان يُعلم أصحابه وطلابه الأدب في التعامل مع ما يحدث من مستجدات ونوازل وفتن ويستدل على ذلك بالقران.. فلما سئل عن قتل الحسين استرجع و تأوّه وتلا قوله تعالى : { قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ" فهذا أدب جم؛ ينبغي أن يحفظ؛ فإذا ذكر ما حدث بين الصحابة نقول كما قال الربيع الله يحكم بين عباده يوم القيامة.
توفي العالم الرباني بالكوفة في ولاية عبيد الله بن زياد عليها.قبل سنة خمس وستين .
رحمه الله تعالى رحمه واسعة وغفر له وأسكنه الفردوس الأعلى
فوائد:
-أعظم ما يسعى العبد في هذه الدنيا أن يحقق في قلبه تعظيم الله عزوجل محبة وخشية وتقوى
-كلما اعتنى العبد واشتغل بإصلاح نفسه وتهذيبها كلما أمسك لسانه عن الناس وكلما زاد رفعة ومحبة عندهم
-الاعتناء بتحقيق الإيمان باليوم الأخر واستحضاره في جميع شؤون الحياة فهو مما يزيد العبد صلاحا وإصلاحا
-شدة معرفة الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم لقول بن مسعود لو أراك رسول الله لأحبك