بسم الله الرحمان الرحيم
ا
قال تعالى :{{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
أولا: سبب سؤال إبراهيم ربه .
ذكر أهل العلم في سبب سؤال إبراهيم عليه الصلاة والسلام ربه كيفية إحياء الموتى أقوال:
القول الأول:
كان السبب أن الخليل عليه السلام رأى دابة قد تقسمتها السباع والطير،فسأل ربه أن يريه كيفية إحيائه إياها مع تفرق لحومها في بطون السباع والطيور ، ليرى ذلك عيانا فيزداد يقينا برؤيته ذلك عيانا إلى علمه به خبرا فأراه الله ذلك. وهو قول قتادة والضحاك وابن جريج.. كما ذكره ابن جرير ونسبه ابن الجوزي إلى ابن عباس والحسن،وعطاء الخراساني، ومقاتل.
وقد ساق الطبري روايات عن السلف في ذلك منها :
- عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أن خليل الله إبراهيم عليه السلام أتى على دابة توزعتها الدواب والسباع فقال: { رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي}
وعن الضحاك قال: مر إبراهيم عليه السلام على دابة ميتة قد بليت وتقسمتها الرياح والسباع فقام ينظر فقال: سبحان الله كيف يحيي الله هذه ، وقد علم أن الله قادر على ذلك فذلك قوله {رب أرني كيف تحيي الموتى}
- وقال ابن زيد: رأى الدابة تتقسمها السباع والحيتان لأنها كانت على حاشية البحر.
القول الثاني:
كان سبب مسألته ربه ذلك المناظرة والمحاجة التي جرت بينه وبين النمرود.
وتلك المناظرة قد ذكرها الله في قوله تعالى:{ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك .. } الآية وهو وقول ابن إسحاق
قال ابن كثير: ( ذكروا لسؤال إبراهيم عليه السلام أسباباً منها : أنه لما قال لنمرود: {ربي الذي يحيي ويميت } أحب أن يترقى من علم اليقين بذلك إلى عين اليقين، وأن يرى ذلك مشاهدة، فقال :{ رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي}.
فبعد تلك المناظرة طلب إبراهيممن ربه أن يريه كيف يحيي الموتى؛ ليتضح استدلاله عياناً بعد أن كان بياناً.
القول الثالث:
كانت مسألته ربه ذلك عند البشارة التي أتته من الله سبحانه بأنه اتخذه خليلا، فسأل ربه أن يريه علامة على ذلك يطمئن قلبه بأنه قد اصطفاه لنفسه خليلا ،ويكون ذلك مؤيدا لما عنده من اليقين...وهو قول السدي وسعيد ابن جبير كما ذكره ابن جرير ونسبه ابن الجوزي إلى ابن مسعود وابن عباس
-عن سعيد بن جبير: (ولكن ليطمئن قلبي) قال: بالخُلَّة. .
القول الرابع :
كانت مسألته لكون إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان شاكا .في قدرة الله على إحياء الموتى...ذكره ابن جرير الطبري .و استدل عليه بالحديث والآثار
وسأفرد لهذه المسألة بحثا خاصا إن شاء الله تعالى
القول الخامس
أنه سأل ذلك ليزيل عوارض الوسواس، ذكره ابن الجوزي ونسبه إلى عطاء بن أبي رباح.
عن ابن جريج ، قال سالت عطاء عن قوله : { رب ارني كيف تحي الموتى } قال : دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال : { رب ارني كيف تحي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى } رواه ابن أبي حاتم
وقد يدخل في هذا المعنى ما رواه الطبري عن ابن زيد أنه قال:.. مر إبراهيم بحوت نصفه في البرّ، ونصفه في البحر، فما كان منه في البحر فدواب البحر تأكله، وما كان منه في البرِّ فالسباع ودواب البر تأكله، فقال له الخبيث:. يا إبراهيم، متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فقال: يا رب، أرني كيف تحيي الموتى! قال: أولم تؤمن؟ قال: بلى! ولكن ليطمئن قلبي!
القول السادس :
سأل من أجل أن يطمئن قلبه بأن قومه يعلمون أن الله يحيي الموتى.
ومن المعلوم أن أقوام الأنبياء كثيراً ما يسألونهم، ويطلبون منهم أموراً باطلة تارة، وتارة حقا ، كما سأل بنو إسرائيل موسى عليه السلام أن يريهم الله جهرة ،وكما سأل أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء كثيرة من مثل ذلك، فقد يكون إبراهيم عليه السلام سئل ذلك ، فأراد أن يشاهدوه فيزول الإنكار عن قلوبهم..وفي كلام ابن عطية إشارة إلى هذا القول.
القول السابع:
سأل لأنه كان مشتاقاً ومحباً أن يرى ذلك.
ذكر ابن الجوزي : أن قلب الخليل كان متعلقا برؤية إحياء الموتى، فأراد أن يطمئن قلبه بالنظر، وقيل كانت نفسه تائقة إلى رؤية ذلك ، وطالب الشيء قلق إلى أن يظفر بطلبته(
مناقشة:
هذه أشهر الأقوال التي ذكرت في سبب سؤال الخليل عليه السلام لربه ذلك السؤال.
هذه الأقوال منها ما هو منسوب إلى السلف ومنها ما هو مجهول النسبة لقائله
وما كان منسوبا للسلف مأخوذة من الأخبار الإسرائيلية. وليس فيها شيء مرفوع إلى الصادق صلى الله عليه وسلم.
فيمكن أن يكون أحد تلك الأقوال هو الحق ، ويمكن أن يكون سأل لسبب آخر لم يذكر، أو سأل بدون سبب، وليس في تقديم أحد الأقوال على غيره دليل صحيح يعتمد عليه.
وعلى كل حال ، ولأي سبب سأل الخليل عليه الصلاة والسلام ربه ذلك السؤال لا يعود نقص عليه من ذلك ، ولا يقدح في عصمته عليه الصلاة والسلام .
-و الذي يفهم من كلام الطبري أنه يميل إلى القوم الخامس وهو أن سيدنا إبراهيم عرض له عارض ومن عوارض الوسواس و الذي أداه إلى ذلك حديث أبي هريرة المرفوع" فنحن حق بالشك من إبراهيم" فعلم من دلالة الحديث أنه عرض له من الوساوس ما يجعله يشك ..واستدلال الطبري بالحديث لا يستقيم له لما سنراه لاحقا إن شاء الله
- والذي ظهر لي-والله أعلم- أن إبراهيم كان قانتا لله حنيفا وكان غواصا طالبا للمعرفة يتأمل في كل شيء ويتقصى بفكره باحثا وراء الحقيقة طالبا لها؛ كما يدل على ذلك آيات كثيرة من كتاب الله. فقد يمكن أن يكون أي شيء أثار فكره ؛كما يمكن أن يكون هو سأل من عند نفسه لكون طبيعة نفسه التفكر والسؤال والبحث عن الحقيقة .
فقال "ليطمئن قلبي" فأراد أن يعلم بالحس كما علم بالقول الحق ، وبالعيان كما علم بالبرهان.
ثم ظهر لي نظر آخر؛ أن هناك مناسبة بين هذه القصة وبين من قال أن سبب سؤال إبراهيم كونه رأى دابة تأكلها و تزقهما السباع والطير فسأل ربه أن يريه كيفية إحيائه إياها مع تفرق لحومها في بطون السباع والطيور؛ فأمره الله تعالى أن يفعل نفس الأمر نفس الصورة التي رءاها وهو تمزيق الطير وتقطيعه وتفريق أجزاءه ليتبن له ويذهب ما كان يجد في قلبه .. فإن ثبتت الأخبار في ذلك وصحت .تكون -والله أعلم- أقرب الأقوال إلى الصواب
ثانيا : تفسير الآية
{قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى}
{وَإِذْ} في محل نصب ؛ بمعنى واذكر إذ سأل الخليل عليه الصلاة والسلام ربه قائلا: (رب أرني كيف تحيي الموتى ) .
قوله "رب ": دليل أن إبراهيم عليه السلام مقر بأنه خالقه ومربيه والقائم على أمره .
الرؤية : إدراك المرئي بالنظر إليه بالعين أو بالقلب؛ والمراد بها في الآية الرؤية بالعين.
قال القرطبي في تفسيره : ( لم يُرد رؤية القلب وإنما أراد رؤية العين.)
{أرني}: يريد أن يعلم بالحس كما علم بالقول الحق ، وبالعيان كما علم بالبرهان .
كيف:سؤال عن الكيفية لا عن الإمكان ؛ سؤال عن كيفية الإحياء لا عن الإحياء ؛ بدافع زيادة اليقين ..لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام مؤمن بالبعث بل على يقين بالبعث وإحياء الموتى فهو أب الموحدين
قال ابن عطية :" وكَيْفَ في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء؛والإحياء متقرر" اهـ ...ولذا لما سأل الخليل عليه السلام ربه ذلك قال له سبحانه وتعالى "أولم تؤمن" الهمزة للتقرير ؛ واو عاطفة؛ وقدمت الهمزة لأن لها الصدارة
والعطف على مقدر والمعنى . أتسأل ولم تؤمن بأني قادر على الإحياء كيف أشاء .
قال ابن الجوزي: ( أي أولست قد آمنت أني أحيي الموتى).
و ذكر السعدي: أن الله قال له: { أولم تؤمن } ليزيل الشبهة عن خليله.
فالخليل كان تواقاً إلى مشاهدة الإحياء عياناً ليجمع بين يقين القلب والنظر ، ومن هنا قال مجيباً على سؤال الله له: {بلى ولكن ليطمئن قلبي}
بلى :حرف جواب لتثبت الإيمان المنفي. والمعنى بلى آمنت بذلك ؛ وأنا مصدق ومؤمن بذلك.
وإذا كان إبراهيم مؤمنا فلماذا طلب ما طلب ؟ فقد قال مستدركا ولكن ليطمئن قلبي
: [ ليطمئن قلبي ]
{ لِّيَطْمَئِنَّ } اللامُ لامُ كي ، . ولا بد من تقدير محذوف ليصح تعليق اللام، أي ولكن سألتك كيفية الإحياء ليطمئن قلبي، بمشاهدة ذلك عياناً.
الطُّمأنينة " السكونُ ، وهي مصدرُ " اطمأنَّ " بوزن اقشعرَّ .
قال الراغب " السكون وعدم الانزعاج.. .
قال ابن فارس.(طَمَنَ) الطَّاءُ وَالْمِيمُ وَالنُّونُ أُصَيْلٌ بِزِيَادَةِ هَمْزَةٍ. يُقَالُ: اطْمَأَنَّ الْمَكَانُ يَطْمَئِنُّ طُمَأْنِينَةً. وَطَامَنْتُ مِنْهُ: سَكَّنْتُ."
وقيده ابن القيم بالسكون إلى الشيء قال رحمه الله :{ الطُّمَأْنِينَةُ سُكُونُ الْقَلْبِ إِلَى الشَّيْءِ. وَعَدَمُ اضْطِرَابِهِ وَقَلَقِهِ.}
وفي الفرق بينها وبين السكينة قال رحمه الله : الطُّمَأْنِينَةُ مُوجِبُ السَّكِينَةِ. وَأَثَرٌ مِنْ آثَارِهَا. وَكَأَنَّهَا نِهَايَةُ السَّكِينَةِ.
وقد اختلف أهل العلم في "المراد بالطمأنينة" ؛ وهذا الاختلاف انسحب عن اختلافهم في سبب سؤال إبراهيم ربه.
أولا: ليطئمن قلبي لصحة الخلة . وأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك
كما قال ابن جبير: (ولكن ليطمئن قلبي) قال: بالخُلَّة. رواه ابن جرير
عن ابن عباس ، قوله : { قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } يقول : انك تجيبني إذا دعوتك ، وتعطيني إذا سألتك
ثانيا: إنما ذلك لكي يطمئن قومي أنك قادر على إحياء الموتي
عن عكرمة ، في قوله : { قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } قال : لكي يعلموا انك تحي الموتى .رواه ابن أبي حاتم
ثالثا: ليزداد قلبي يقينا
قيل أن الاطمئنان الذي طلبه إبراهيم عليه السلام هو الاستدلال بالعيان بعد الاستدلال بالبرهان ؛ليزداد بذلك إيماناً ويقيناً، ويترقى من علم اليقين إلى عين اليقين، وذلك عندما يرى كيفية الإحياء، ولم يكن بذلك شاكاً في القدرة، ولا جاهلاً بمعنى الإحياء. وهذا قول جمهور أهل العلم
قال الطبري : معنى قوله { ليطمئن قلبي} ليسكن ويهدأ باليقين الذي يستيقنه.
قال الشوكاني: (بلى علمت وآمنت بأنك قادر على ذلك ، ولكن سألت ليطمئن قلبي باجتماع دليل العيان إلى دلائل الإيمان) اهـ.. فإن الحس يحمل الإنسان على الإذعان أكثر مما يحمل الدليل العقلي.
ومن أقوال السلف .
- عن سعيد بن جبير { ولكن ليطمئن قلبي } قال : ليوقن . رواه ابن أبي حاتم
-قال الضحاك والربيع: ليزداد يقينا. رواه ابن جرير
-عن سعيد بن جبير ، في قوله : { ولكن ليطمئن قلبي } قال ليزداد إيمانا رواه ابن جرير
-وعن قتادة قال : أراد نبي الله إبراهيم ليزداد يقيناً إلى يقينه . رواه ابن جرير
- وقال الحسن :كان إبراهيم موقناً ولكن ليس الخبر كالمعاينة. رواه ابن جرير
وقيل لأزيد إيمانا مع إيماني ذكره ابن عطية ولم ينسبه إلى أحد.
-وقد رد ابن عطية على هذا القول بحجة أن اليقين لا يتبعض ؛ فلا معنى للزيادة المذكور في كلام المفسرين إلا السكون عن الفكر في صورة الإحياء.
رابعا: ليطمئن قلبي ويسكن فكري بالنظر
قيل إن حيرة إبراهيم كانت في الكيفية لا في أصل القضية . فطلب ما طلب ليطمئن عقله الحائر الذي حاولة في معرفة كيفية الإعادة وهي فوق القدرة العقلية البشرية .
قال ابن الجوزي: كان قلبه متعلقا برؤية إحياء الموتى ، فأراد : ليطمئن قلبه بالنظر ، قاله ابن قتيبة .
وقال غيره : كانت نفسه تائقة إلى رؤية ذلك ، وطالب الشيء قلق إلى أن يظفر بطلبته
قال ابن عطية :( والطمأنينة : اعتدال وسكون ، فطمأنينة الأعضاء معروفة، وطمأنينة القلب: هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد. والفكر في صورة الإحياء غير محظور كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها ، إذ هي فكر فيها عبر ، فأراد الخليل أن يعاين فيذهب فكره في صورة الإحياء).
قال ابن جزي { ولكن ليطمئن قلبي } أي : بالمعاينة .
فمعنى الطمأنينة التي رامها الخليل حينئذ: سكون القلب عن الجولان في كيفيات الإحياء بظهور التصوير المشاهد لها عياناً . وعدم حصول هذه الطمأنينة قبل المشاهدة لا ينافي حصول الإيمان بالقدرة على الإحياء على أكمل الوجوه .
وهذا القول قريب من الذي قبله إلا أن بينهما فرقا ؛ فكان الدافع للسؤال في القول الأول هو تعزيز الأدلة و الانتقال من الدليل النظري العلمي إلى الدليل الحسي المشاهد؛و بذلك يرتقي من علم اليقين إلى عين اليقين ؛فيسكن القلب و يطمئن إذا زاد اليقين
أما الدافع في هذا القول الأخير هو إسكان الفكر الذي يجول و يبحث عن كيفية الإحياء؛ فإذا علم ذلك وشاهدها سكن فكره وقلبه بعد ذهاب الاضطراب عنه
وهما متلازمان ؛ ولعل هذا هو أقرب الأقوال للصواب فإن إبراهيم كان مديم النظر كثير التفكر طالبا الحقيقة وباحثا لها فأراد أن يصل إلى مرتبة الكمال؛ إلى تمام وكمال اليقين إلى الحق اليقين .- والله أعلم.
-وقد استدل بعض أهل العلم بالآية أن الإيمان والاعتقاد عموما يزد وينقص .
قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ
لم يبين سبحانه وتعالى نوع الطير ؛ وقد اختلف المفسرون في تعيينها؛ قيل الْغُرْنُوقُ، وَالطَّاوُسُ، وَالدِّيكُ، وَالْحَمَامَةُ؛وقيل الوز وفرغ النعام والديك والطاووس وقيل غير ذلك ..ولا طائل في البحث عنها ؛ وأغلب تلك الروايات من الإسرائيليات التي لا يمكن الوقوف على صحتها فلا حكم عليها صدقا ولا كذبا
قال ابن كثير :اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ: مَا هِيَ؟ وَإِنْ كَانَ لَا طَائِلَ تَحْتَ تَعْيِينِهَا"
فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ:
وفي " صرهن " قراءتان : بكسر الصاد وبضمها.بكسر الصاد من صار يصير ؛ وبضمها من صار يصور .
قال الفراء : " وهما لغتان . فأما الضمُّ فكثير ، وأما الكسر ففي هُذَيل وسُلَيم ."
وقد اختلف في معناها.؛ قيل هما بمعنى ؛ واختلف فيه على أقوال:
أحدها : معناه انْتُفْهُنَّ بريشهن ولحومهن ، قاله مجاهد .
والثاني : قَطِّعْهُن؛ يقال صار يصير صيراً إذا قطع ، وانصار الشيء إنصاراً إذا انقطع ، وهو قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن . قال الضحاك : هي بالنبطية صرتا ، وهي التشقق . وقال أبو الأسود : هي بالسريانية.. وعبر عنه قتادة بقوله : فصلهن.
. قال الفراء : هو مقلوب من صريت أصرى صرياً إذا قطعت
والثالث : اضْمُمْهُن إليك وأجمعهن؛ يقال : صار يصور صوراً ، إذا اجتمع ومنه قيل لجماعة النحل صور ، قاله عطاء ، وابن زيد .
والرابع : أَمِلْهُن إليك ، ووجههن ، يقال : صرت الشيء أصوره إذا أملته ، ورجل أصور إذا كان مائل العنق..والصور : الميل ، ومنه قول الشاعر في وصف إبل :
تظَلُّ مُعقّلات السوق خرساً *** تصور أنوفها ريح الجنوب
الخامس: أوثقهن؛ وهو من الصِّرًّو وهو الشد..قاله ابن عباس
وقيل أن معنى الضم مختلف عن معنى الكسر .وفي اختلافهما قولان :
أحدهما : قاله أبو عبيدة أن معناه بالضم : اجْمَعْهن ، وبالكسر : قَطِّعْهُنّ .
والثاني : قاله الكسائي ومعناه بالضم أَمِلْهُنّ ، وبالكسر : أقْبِلْ بهن .
ولعل أكثر المعاني وأقربها صحة وهو الذي عليه جمهور أهل اللغة : القطع .والإمالة إلى الشيء
وأما باقي المعاني فقد تكون من دلالة التضمن أو دلالة اللزوم..فإن القطع لا يكون إلا بعد الذبح ونتف الريش واللحم
ويظهر بمجموع ما قيل في معنى فصرهن : أن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذبح الطيور ونتف ريشهن وقطعهن ثم جمعهن وخلط بينهم وأملهن وحولهن إليه ثم جعل على كل جبل منهم جزء . .
ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا .
في "جزءا" قراءات : إسكان الزاي و ضمها وهما لغتان كما قال ابن عاشور
جزَّا :بشد الزاي وهي لغة في الوقف أجري الوصل مجراه
والجزء من كل شيء هو البعض منه
.لم يبين الله عزوجل أي تلك الجبال المقصودة ولا عددها ؛ فقيل كانت أربع أجبل بحسب عدد الطير ؛و قيل سبع؛ وقيل : الجبال التي وصل إليها حينئذ من غير حصر بعدد .
وفي تعين كيفية وضعها أقوال :
-قيل:أنه أمر أن يضع على أربعة أجبل جزءا من ذلك المجموع
-قيل : " أمر أن يذبحن ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن ثم يجزئهن على أربعة أجبل " .وهو قول قتادة
وقيل : " اجعل لُحُومَهُنَّ وريشهن على سبعة أجبل وهي الأجبال التي التي كانت الطير والسباع حين تأكل الدابة تطير إليها وتسير نحوها وتتفرق فيها. قاله ابن جريج والسدي
- وقيل أن لفظ "كل" يدل على الإحاطة فلا حصر لعدد الجبال؛ بل أمر أن يجعل على كل جبل يليه جزءا . و هي التي كان يصل إبراهيم إليها وقت تكليف الله إياه . وهو قول مجاهد
عن مجاهد: قال "(ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا) ثم بددهن أجزاءً على كل جبل = ثم (ادعهن) ، تعالين بإذن الله. فكذلك يُحيي الله الموتى. مثل ضربه الله لإبراهيم صلى الله عليه وسلم. رواه ابن جرير.
- وأبعد الأقوال من قال: اجعل جزءا على كل ربع من أرباع الدنيا كأن المعنى اجعلها في أركان الأرض الأربعة. روي عن ابن عباس
ولا دليل يبين عدد تلك الجبال إلا ما ورد من أخبار إسرائيلية لا تقوى للاعتماد عليها ؛ وهي من الأخبار المسكوت عنها في شرعنا فيتوقف فيها لا يحكم عليها بالصدق ولا بالكذب..وعليه كان لزاما الرجوع لنص الآية فهو الفيصل .. والآية نصت على لفظ "كل" مما يدل على العموم.
والسؤال المطروح هل المراد بالعموم هنا عموم كلي أم العموم النسبي
هل المطلوب أن يضع إبراهيم على كل الجبال الأرض جزء من تلك الطيور المجموعة المقطعة ؛أم على كل جبال يعرفه ويمكن له الوصول إليه..فلا شك أن القول متعذر لاستحالة تحقيقه ووقوعه ..فيبقى الثان هو المراد وهو الذي قاله مجاهد. والله أعلم
ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا...
ثم أمره الله عز وجل أن يدعوهن ، فدعاهن ، فجعل ينظر إلى الأجزاء من كل طائر من تلك الطيور يتصل بعضها ببعض والتحمت ببعضها ، وعاد كل جزء إلى ما كان عليه قبل التقطيع ، حتى قام كل طائر على حدته .
وقد ورد أخبار في بيان كيف كان ذلك اتصلت تلك الطيور والتحمت كلها من الأخبار الإسرائيلية التي لا يمكن الاعتماد ولا التعويل عليها.
سعيا : مشية المجد الراغب فيما يمشى إليه ؛ أي وأتينه يمشين سعياً .
ليكون ذلك أبلغ له في الرؤية التي سألها عليه السلام ؛ فيتأكد منها ويزادا إيمانا ويقينا
.قال ابن عطية : { ولو جاءته مشيا لزالت هذه القرينة، ولو جاءت طيرانا لكان ذلك على عرف أمرها، فهذا أغرب منه...}. ولهذا قال الله سبحانه وتعالى : { واعلم أن الله عزيز حكيم }.
أمره بذبح هذه الطيور، ثم تقطيعها، وتفريقها على عدة جبال، ثم دعاها فلبت النداء، واجتمعت الأجزاء المتفرقة، والتحمت كما كانت من قبل، ودبت فيها الحياة، وطارت محلقة في الفضاء، فسبحان الله ما أعظم شأنه، وأجلَّ قدرته.
ونلحظ في هذه القصة أن الله عزوجل صور لإبراهيم هيئة البعث بالضبط مثل ما تكون يوم القيامة .
-فتقطيع الطير وتشتيتها وتفرقها وتمزقها دليل على عظم قدرة الله عزوجل على جمع أجزاء العباد ولو تنافرت وتباعدت
-وفي أمره بدعاء الطير إشارة إلى أن البعث يكون إثرة دعوة الداعي و الخلق يستجيب لدعوته . الله عزوجل يدعوهم بكلمة التكوين (كونوا أحياء) فيكونوا أحياء، كما قال تعالى :{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ}
وقال:{ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ}
-وفي أمره أن يميل الطير إليه حتى تعرفه وتستجيب لدعوته إشارة أن الناس كلهم يستجيبون لربهم خالقهم؛ فهو الذي فطرهم على الربوبية؟ كما قال تعالى :{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا}
فكان في قصته تقريبا حسي لهيئة البعث ومعنى الإحياء ؛ وتصوير صغير لليوم البعث ؛ وإن لم يكن بيانا كاملا للكيفية ؛ لأن الكيفية عند الله العليم الخبير علمها . {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [.
{ واعلم أن الله عزيز حكيم }.
سبحانه له صفة العزة عزة القوة والغلبة وعزة القهر وعزة القدرة لا يغلبه شيء ولا يمتنع عنه شيء وما شاء كان بلا ممانع لأنه القاهر لكل شيء ،
وله صفة الحكم والحكمة التي بها إتقان كل شيء
فهو سبحانه عزيز حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
ثالثا : هل سيدنا إبراهيم كان شاكا ؟
الآية يرد على ظاهرها إشكالا أن الخليل عليه الصلاة والسلام طلب من ربه أن يريه إحياء الموتى عيانا لكي يطمئن قلبه، فهل كان عليه السلام يشك في إحياء الموتى - وهو النبي المعصوم عليه الصلاة والسلام .
وقد اختلف أهل العلم في ذلك على قولين
القول الأول: أن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يكن شاكا
وهو قول جمهور المفسرين؛حجتهم في ذلك
1 - أن قوله :{ كيف تحي الموتى} سؤال عن كيفية الإحياء وصورته وليس عن وقوعه؛ فلم يقل: "{ هل تحيي الموتى)
قال ابن عطية : ( وإذا تأملت سؤاله عليه السلام ، وسائر ألفاظ الآية ، لم تعط شكا، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حال شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسئول، نحو قولك : كيف علم زيد ؟ وكيف نسج الثوب ؟ ونحو هذا، ومتى قلت : كيف ثوبك ، وكيف زيد فإنما السؤال عن حال من أحواله ... وقد تكون " كيف " خبرا عن شيء شأنه أن يستفهم عنه " بكيف " ، نحو قولك : كيف شئت فكن)
فإبراهيم عليه السلام إنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها ، وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها،فأراد عليه السلام أن يترقى من علم اليقين إلى عين اليقين. فقوله" أرني كيف " طلب مشاهدة الكيفية(
وقال ابن جزي : "كيف" سؤال عن حال الإحياء وصورته لا عن وقوعه)
2 – أن الألف في قوله : {أولم تؤمن} للتقرير. كما ذهب إليه جماهير المفسرين ؛أي قد آمنت فلم تسأل ؟ فرد بقوله( بلى ) ، وهذا يزيل كل لبس، وينفي كل توهم في نسبة الشك في القدرة إلى إبراهيم
قال أبو المظفر السمعاني : ( فإن قال قائل : أكان إبراهيم شاكا فيه حتى احتاج إلى السؤال؟ ... فالجواب أنه لم يكن شاكاً فيه، ولكنه إنما آمن بالخبر والاستدلال، فأراد أن يعرفه عياناً.)
وقد أخبر عليه السلام عن نفسه أنه مؤمن مصدق، وإنما أراد أن يرى الهيئة.
القول الثاني:
قيل إنه عليه الصلاة والسلام كان شكا وهو الذي ذهب إليه ابن جرير الطبري
حجة من يثبت شك الخليل عليه السلام .
1- ظاهر الآية فقد سأل الخليل عليه السلام ربه أن يريه إحياء الموتى، وعلل رغبته تلك بأنه يريد الحصول على الاطمئنان.
2-ما ورد من روايات تدل على ذلك ومنها :
ما رواه الطبري عن ابن زيد أن الخليل صلى الله عليه وسلم مر بحوت، نصفه في البر ،ونصفه في البحر ،فما كان منه في البحر فدواب البحر تأكله ،وما كان منه في البر فالسباع ودواب البر تأكله ، فقال له الخبيث : يا إبراهيم متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فقال: يا رب أرني كيف تحيي الموتى {قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي)
فالباعث على سؤال إبراهيم لربه ما دخل قلبه - مما يدخل قلوب البشر - من وساوس الشيطان، حيث قال له إبليس الخبيث ذلك.
وإلى هذا أشار ابن الجوزي بقوله : (سأل ذلك ليزيل عوارض الوسواس).
3-أن بعض السلف جعل هذه الآية أرجى آية في كتاب الله.
روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما في القرآن عندي آية أرجي منها)
4– حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: { رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} ، ورحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد ، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي)
وقد مال الطبري إلى ترجيح هذا القول فقال:( وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما صح به الخبر عن رسول الله أنه قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم { قال رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن } ،وأن تكون مسألته ربه ما سأله أن يريه من إحياء الموتى لعارض من الشيطان عرض في قلبه كما ذكر،فسؤال إبراهيم حينئذ ربه أن يريه كيف يحيي الموتى ليعاين ذلك عيانا ،فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يلقي في قلبه مثل الذي ألقى فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك، فقال له ربه: { أولم تؤمن } يقول : أولم تصدق يا إبراهيم بأني على ذلك قادر، قال: بلى يا رب ، لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئن قلبي فلا يقدر الشيطان أن يلقي في قلبي مثل الذي فعل عند رؤيتي هذا الحوت.)
مناقشة الأدلة
أولاً : أن ما استدلوا به من أن ظاهر الآية يدل على ما ذهبوا إليه لا يسلم،فإن الرؤية إما أن تكون قلبية أو بصرية وإبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم إنما أراد الرؤية البصرية، وهذه لا يتعلق بها شك ، والشك إنما يتعلق بالرؤية القلبية ، وهذا منتف قطعاً عن الخليل وقد أثبته بقوله { بلى} أي بلى أؤمن بذلك.
وأما الطمأنينة التي رامها الخليل من سؤاله فهي: السكون باجتماع دليل العيان مع دليل القلب ليس إلا ...
ثانياُ : استدلالهم بما ورد عن ابن زيد وغيره ليس فيه دلالة ظاهرة على ما ذهبوا إليه ، بل فيه إشارة إلى أن إبليس لعنه الله قذف في قلب إبراهيم عليه السلام شيئا مما يقذفه في قلوب البشر ، ويمكن أن يحمل ذلك على حب المعاينة ومشاهدة كيفية الإحياء، وأما حمله على الشك فلا يسلم به خاصة والقضية تتعلق بنبي معصوم .
قال ابن عطية: وأما قول عطاء بن أبي رباح: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فمعناه من حب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به، ولهذا قال النبي عليه السلام: «ليس الخبر كالمعاينة».
ثم إن هذه الرواية من باب الأخبار الإسرائيلية، فلا تقبل إذا خالفت شيئاً مما ثبت في ديننا ، وقد ثبت أن الله عصم أنبياءه من المعاصي، والقول بأن الشيطان قذف في قلب الخليل الشك في إحياء الأموات يخالف ما ثبت من عصمة الأنبياء .
ثالثاً : دليلهم أن بعض السلف جعل الآية أرجى آية، يجاب عليه بما يلي:
1-أن قول ابن عباس رضي الله عنهما اجتهاد منه مردود عليه .لأنه يفهم منه أن الشك تسرب إلى قلب إبراهيم عليه السلام ، وهذا قدح في الخليل ، مردود بعصمة الأنبياء.
–2-يمكن أن يحمل قول ابن عباس رضي الله عنهما :"أنها أرجى آية "من حيث أن الإيمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقير وبحث. ولذلك قال : فرضى من إبراهيم قوله "بلى"
رابعاً : استدلالهم بحديث أبي هريرة رضي الله عنه " نحن أحق بالشك من إبراهيم " لا يستقيم لهم فقد ذكر الحافظ ابن كثير أن لفظة الشك الواردة فيه لا تفهم على ظاهرها فقال في ذلك : ( ليس المراد ههنا بالشك ما قد يفهمه من لا علم عنده بلا خلاف)
لفظ الشك في الحديث إما أن يحمل على ظاهره و هو استواء أمرين لا مزية لأحدها على الأخر أو يحمل على غير ذلك
أولا: الشك بمعنى استواء الطرفين.
قد بين العلماءمعنى هذا الحديث بل ؛عدوه من فضائل إبراهيم .
فقالوا المراد من الحديث: تنزيه إبراهيمعليه الصلاةونبينا محمدعليه الصلاةعن الشك في قدرة الله على إحياء الموتى، والقطع بعدم دلالة الحديث على ذلك، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم.
فكأنهقال في الحديث : إن إبراهيملم يشك، ولو كان الشك متطرقاً إليه لكنا نحن أحق بالشك منه، فإذا كنا نحن لم نشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، فإبراهيممن باب أولى ألا يشك. قال ذلكعلى سبيل التواضع وهضم النفس.وإلى هذا القول ذهب جمهور العلماء.
قال النووي : ( اختلف أهل العلم في معنى " نحن أحق بالشك من إبراهيم " على أقوال كثيرة : أحسنها وأصحها ...أن الشك مستحيل في حق إبراهيم، فإن الشك في إحياء الموتى لو كان متطرقا إلى الأنبياء لكنت أنا أحق به من إبراهيم ، وقد علمتم أني لم أشك، فاعلموا أن إبراهيم عليه السلام لم يشك)
قال الخطابي: " مذهب الحديث التواضع والهضم من النفس، وليس في قوله : ( نحن أحق بالشك من إبراهيم )؛ اعتراف بالشك على نفسه، ولا على إبراهيم، لكن فيه نفي الشك عن كل واحد منهما"
وقال ابن الجوزي: " مخرج هذا الحديث مخرج التواضع وكسر النفس"
ثانيا : حمل معنى الشك على غير معناه الظاهر
ذكر أهل العلم أن الشك في اللغة والشرع له إطلاقات أوسع من المعنى الاصطلاحي
الشك في الاصطلاح ما تساوى فيه كلا الاحتمالين، ولم يترجح فيه أحد الطرفين.
أما في لغة العرب واستخدامات القرآن فهو أوسع استعمالاً، إذ الشك خلاف اليقين، فيطلق على الظن، وعلى الجهل وعدم العلم بالشيء أيضاً.
قال تعالى: ( وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه مالهم به من علمٍ إلا اتباع الظن ) .
قال البيضاوي في تفسير هذه الآية : " الشك كما يطلق على ما لا يرجح أحد طرفيه، يطلق على مطلق التردد، وعلى ما يقابل العلم، ولذلك أكده بقوله (ما لهم بذلك من علم) ... ويجوز أن يفسر الشك بالجهل، والعلم بالاعتقاد الذي تسكن إليه النفس جزماً كان أو غيره "
وكذا قوله تعالى مخاطباً رسوله: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) أي: إن كنت يا محمد لا علم عندك بما جاء في التوراة والإنجيل من صفاتك وشأنك، فاسأل أهل الكتاب عن ذلك، فإنهم على علم بك لما ورد في كتبهم من خبرك وصفاتك، فإنهم يعرفونك كما يعرفون أبناءهم.
- أن النبي صلى لله عليه وسلم سمّى التفاوت بين الإيمان والاطمئنان شكاً، فأطلق على ما دون طمأنينة القلب التي طلبها إبراهيماسمَ الشك، وإلا فإبراهيم كان مؤمناً موقناً، ليس عنده شك يقدح في يقينه، ولكن الرسولصلى الله عليه وسلم عبّر عن هذا المعنى بهذه العبارة. وهذا من إطلاقات الشرع للفظة الشك . وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ومعلوم أن إبراهيم كان مؤمناً كما أخبر الله عنه بقوله: ( أولم تؤمن قال بلى ) ولكن طلب طمأنينة قلبه كما قال: ( ولكن ليطمئن قلبي ) فالتفاوت بين الإيمان والاطمئنان سماه النبيصلى الله عليه وسلم شكاً لذلك بإحياء الموتى"..
ومقصوده –والله أعلم – أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق على تلك المنزلة التي بين الإيمان و الطمأنينة؛ ألا وهى منزلة عين اليقين بالشك فإن كان إبراهيم خليل الرحمان و أب الأنبياء طلبها وأراد الوصول إليها فنحن أحق بها منه ؛ لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلبها لأنه قد حصل له عين اليقين ما يقر به قلبه ويطمأن ويصل إلى تمام وكمال الإيمان .
فقد أسري به في ليلة المعراج فكلم الله ؛ و رأى وشاهد بعينه الجنة والنار؛ وأراه الله الشيطان و وزويت له الأرض .إلى غير ذلك من المشاهد التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم
و أقرب الأقوال بالصواب القول الأول أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يكن شاكا في قدرة الله عزوجل
. لأنه لا يجر إلى محذور شرعي بخلاف الأول الذي فيه قدح لعصمة النبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
تم بحمد لله
جزاكم الله خيرا