ثم بدأ في أضرب الخبر ، فهي ثلاثة؛ لأن المخبر إما أن يكون جاهلا بالأمر خالي الذهن , ليس لديه إنكار ولا مكابرة ولا تردد , فهذا يسمى المقام الابتدائي.
القسم الثاني: أن يكون المخبر مترددا في الأمر , هل حصل أو لم يحصل؟ فيحتاج إلى تأكيد يزيل عنه التردد , وهذا الذي يسمى بمقام التردد.
المقام الثالث: هو أن يكون المخاطب منكرا للأمر أصلا , وهذا يسمى مقام الإنكار.
فالمقامان الأخيران يحصل فيهما التأكيد ، ويتفاوتان في ذلك؛ فمقام التردد يحصل فيه التوكيد فقط , ومقام الإنكار لا بد فيه من التأكيد , وربما احتيج إلى زيادة توكيد , فالمقام الأول ما إذا خاطبت إنسانا خالي الذهن فقلت له: مات زيد رحمه الله , أو جاء فلان , فلا تحتاج إلى أن تقول: والله لقد جاء فلان , أو إن فلانا قادم؛ لأنه لا يتردد ولا ينكر وهو خالي الذهن , لكن إذا كان مترددا تقول له: إن فلانا قد وصل , وإذا كان منكرا تقول: والله لقد وصل فلان.
فلهذا قال: " حيث كان قصد المـُخبِر بخبره إفادة الخاطب " وهذا هو القسم الأول كما ذكرنا فائدة الإخبار , ينبغي أن يقتصر في الكلام على قدر الحاجة؛ حذرا من اللغو , لا يأتي الإنسان إلا بما هو مفيد؛ لأن اللغو منهي عنه أصلا , وأفعال العقلاء مصونة عن العبث , فينبغي للإنسان أن يقتصر على ما يفيد من الكلام , فإن كان المخاطب خالي الذهن من الحكم , معناه ليس لديه إثبات ولا نفي , أول مرة يسمع هذا الأمر , فإن كان المخاطب خالي الذهن من الخبر ألقي إليه خبرا مجردا عن التوكيد , نحو: أخوك قادم , زيد أتى , وإن كان مترددا فيه طالب لمعرفته حسن تأكيده , كقولك: إن أخاك قادم , وإن كان منكرا له وجب توكيده بمؤكد أو مؤكدين بحسب الإنكار , أو أكثر , على حسب درجة الإنكار , نحو:
إن أخاك قادم , أو إنه لقادم , أو تالله إنه لقادم.
إن أخاك قادم: هذا مؤكد واحد , وهو إن.
إنه لقادم: مؤكدان: إن ، ولام الابتداء.
والله إنه لقادم: ثلاثة مؤكدات: القسم ، وإن ، ولام الابتداء.
فهذه من وسائل التوكيد , ومن ذلك قول الله تعالى: {فاضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون} بين الله في كتابه المقام الأول , فأول ما جاؤوا ماذا قالوا؟ قالوا: أرسلنا إليكم , دون حاجة إلى تأكيد , فحينئذ أنكر القوم أو آمنوا وسلموا وأقروا؟ أنكروا؛ {إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث} , هذا إذن مقام الإنكار , لكنه في بداية الإنكار , ماذا قالوا؟ {قالوا إنا إليكم مرسلون} هل أقروا أو زادوا في الإنكار؟ زادوا في الإنكار؛ {قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون} , فاحتاج الرسل إلى زيادة تأكيد {قالوا ربنا يعلم} , هذا القسم {إنا} هذه إنّ , {إليكم} تقدم المعمول , {لمرسلون} لام الابتداء , فأكدوا بكل المؤكدات , ثم أتوا بالجملة الاعتراضية التي تفيد تأكيدا زائدا , ومع {وما علينا إلا البلاغ المبين} , فهذا جاءت فيه المقامات الثلاثة كلها.
فالخبر بالنسبة لخلوه من التأكيد واشتماله عليه ثلاثة أضرب , كما رأيت في هذا الكلام وفي آية سورة ياسين التي قلنا , فيسمى الضرب الأول: ابتدائيا.
والضرب الثاني: طلبيا أو ترددياً.
والضرب الثالث: إنكارياً.
ويكون التوكيد بإن , أو بأن , أو بلام الابتداء , أو بأحرف التنبيه , أو بالقسم , أو بنوني التوكيد , فلا تتصلان حينئذ إلا بالفعل ، أو بالحروف الزائدة , الحروف الزائدة مثل (من) مع النفي , {ما جاءنا من بشير ولا نذير} هذه (من) هنا أداة توكيد , تسمى حرفاً زائداً , لكن معنى الزيادة فيها أنها ليست لمعنى من معانيها المعروفة إذا هي لمجرد التوكيد , فإذا قلنا: هذا الحرف زائدا في القرآن أو في السنة , فليس معناه أنه لا معنى له , وكذلك من كلام العرب ليس معنى ذلك أنه لا معنى له بل له معنى , لكن ذلك المعنى ليس من معانيه المعهودة في اللغة؛ إذ يقصد به التوكيد والمبالغة .
وكذلك التكرير , تكرير اللفظ أيضا هو من توكيده , وهو التوكيد اللفظي , وكذلك (قد) التحقيقية , وأنها تدل على التحقيق وهو تأكيد , وكذلك (أما) الشرطية , أما إن فعلت كذا فاعلم أنه كذا , فتدل على التأكيد أيضاً. إذاً هذه هي مسائل التأكيد.