وقد خَتَمَ المصنِّفُ مباحثَ علمِ التجويدِ بمباحثِ الوقفِ إيماءً إلى حُسْنِ المقطعِ، ولقد أحسنَ في ذلك وأجادَ فيما أفادَ، واللهُ الهادي إلى الرشادِ، والمُلْهِمُ إلى السدادِ.
(وقد تقَضَّى نظميَ المُقَدِّمَةَ) بفتحِ ياءِ الإضافةِ، على استعمالٍ لغةً، لا كما قالَ المصريُّ: إنه للضرورةِ، و (النَّظْمُ) مصدرٌ ويحتملُ أنْ يرادَ به المعنى المفعولُ، واللامُ في (المُقَدِّمَة) للعهدِ الذي تَقَدَّمَ، وبيَنْها وبينَ ما يجيءُ من لفظةِ (تَقَدَّمَه) صنعةُ الجناسِ، نحوُ قولِه تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ للدِّينِ القَيِّمِ} على ما هو مقرَّرٌ وَمُحَرَّرٌ في صنيعِ البديعِ (منِّي لقارئِ القرآنِ تَقْدِمَه) (تَقَضَّى) أصلُه: تَقَضَّضَ، فَأَبْدَلُوا من الضادِ الأخيرِ ياءً، لاستثقالِهم ثلاثَ ضاداتٍ متوالياتٍ، مُشْتَقٌّ من: انْقَضَّ الحائطُ: سقطَ، والمرادُ هاهنا: نَقَضَ نَظْمِي المقدِّمَةَ، وفي بعضِ النسخِ: (وقد انْقَضَى) والأَوَّلُ أصحُّ، كذا ذَكَرَه الروميُّ، لكن كونُ (تَقَضَّى) مُضاعَفًا غيرُ صحيحٍ، بلْ هو ناقصٌ، ففي الصحاحِ: تَقَضَّى وانْقَضَى بمعنًى واحدٍ أي: وإنْ كانَ بابُهما مُخْتَلِفًا، نعم بابُ التَّفَعُّلِ أصلُه للتكَلُّفِ، فمَعْناها الانقضاءُ شيئًا فشيئًا ,والظاهرُ أنَّ المرادَ هنا مجرَّدُ الانتهاءِ، أي: وقد انتهى نظمي لهذه المقدِّمَةِ في علمِ تجويدِ القِراءةِ، وهي مني لقارئِ القرآنِ تُحْفَةٌ مُتَقَدِّمَةٌ وهديَّةٌ مُتَّصِلَةٌ، فجزاه اللهُ عنا خيرَ الجزاءِ والمثوبةِ، فَتَقْدِمَةٌ مبتدأٌ مؤخَّرٌ، وقالَ اليمنيُّ: حالَ كونِها تَقْدِمَةً.قلتُ: (فمنِّي) بها مُتَعَلِّقَةٌ، ثمَّ يجوزُ أنْ يكونَ قارئُ القرآنِ مُفْرَدًا مرادًا به الجنسُ، أو جمعًا حُذِفَ نونُه للإضافةِ.
(والحمدُ للهِ لها خِتَامُ ) بكسرِ الخاءِ، وجملةُ (الحمدُ للهِ) ممَّا يُخْتَمُ به للمقدِّمَةِ؛ ليكونَ الشكرُ أولًا وآخِرًا على جزيلِ النعمةِ وجميلِ المِنَّةِ؛ وليكونَ ختامُه مِسْكًا، كما قالَ اللهُ تعالى في حقِّ رَحيقِ الجنَّةِ: {يُسْقَوْنَ مِن رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ} أي: آخرَ ما يَجِدُونَ رائحةَ المسكِ بعدَ تمامِ الشَّرْبَةِ في مقامِ اللَّذةِ. وأصلُ الختامِ: الطينُ الذي يُخْتَمُ به الإناءُ للعصْمَةِ، أو الحُرْمَةِ، ففيه تلويحٌ إلى تأكيدِ خَتْمِ المقدِّمَةِ، وتلميحٌ إلى ذِكْرِ صاحبِ خَتْمِ النبوَّةِ؛ولذا قالَ (ثُمَّ الصلاةُ بعدَ السلامِ) أي: ثمَّ الصلاةُ على خاتمِ الأنبياءِ بعدَ حمدِ اللهِ تعالى لها ختامٌ، وكذا السلامُ، ويحتملُ أنْ يكونَ السلامُ مَعْطُوفًا على الصلاةِ، وخبرُهما محذوفٌ؛ لأنَّهُ مَعْلُومٌ بقرينةِ المقامِ، ولتعينِه عليه السلامُ بهذا المرامِ؛ ولذا جاءَ في نسخةٍ بعدَ قولِه: ( على النبيِّ أحمدٍ وآلِه) بتنوينِ أحمدَ للضرورةِ، وفي نسخةِ بدلٌ لفظُ المصطفى، وهو أَوْلَى كما لايَخْفَى (وصحبِه وتابعي مِنْوَالِه) بكسرِ الميمِ، أي: طريقِه وحالِه في أفعالِه وأقوالِه، وفي بعضِ نسخٍ:
على النبيِّ المصطفى المُخْتَارِ = وآله وصحبِه الأطهارِ
وحاصلُه أنَّ الصلاةَ والسلامَ لها ختامٌ، كما أنَّ الحمدَ للهِ سبحانَه، لها ختامٌ ولايَبْعُدُ أنْ يقالَ: الصلاةُ والسلامُ والحمدُ ختامٌ، ففيه إيماءٌ إلى معنى كلمتي التوحيدِ المطلوبِ وجودُهما عندَ الخاتمةِ لأربابِ التأييدِ، ويحتملُ أنْ يكونَ قولُه (والسلامُ) كَلاَمًا مبتدأً ما له تمامٌ اكتفاءً بالمرامِ، كما هو عادةُ بعضِ الكرامِ، من ختمِ كتابِهم بلفظِ والسلامُ كما قيلَ:
وكنتُ ذخرتُ أفكاري لوقتٍ = فكانَ الوقتُ وقتَكَ والسلامُ
وكنتُ كطالبِ الدنيا لِحُرٍّ = فأنتَ الحُرُّ وانقطعَ الكَلاَمُ
وسلامٌ على المُرْسَلِينَ والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.