الْمُصَحَّفُ:
يقولُ الحافظُ: إنْ كانَ التَّغْييرُ بالنِّسبةِ إلى النَّقْطِ فالْمُصَحَّفُ.
مِثالُهُ:يَسَارٌ وبَشَّارٌ.
سببُ التَّصْحِيفِ:
مَنْشَأُ التصحيفِ في الغالِبِ مِن الكُتُبِ التي كانتْ مَوجودةً عندَهم، فلم يَكُونُوا يَنْقُطُونَ الكلماتِ،
فيَسَارٌ وبَشَّارٌ رَسْمُهما واحدٌ، فإذا لم تُنْقَطْ لا تَستطيعُ أنْ تَعرفَ المقصودَ، مَثَلاً:محمَّدُ بنُ يَسَارٍ، هل ابنُ يَسَارٍ أو ابنُ بَشَّارٍ؟
لكنَّ الذي يَستطيعُ أنْ يُحَدِّدَ هوَ الإمامُ الناقدُ العارفُ الذي يَعْرِفُ مُحَمَّداً، وهذا بتحديدِ طَبقتِهِ مِنْ خلالِ السَّنَدِ، هلْ هوَ مِن الأَعْلَى أوْ مِن الوَسَطِ أوْ مِن الأَنْزَلِ؟
وبتحديدِ الشيوخِ والتلاميذِ وكَثرةِ تَرْدَادِهِ في طَبقةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ طَبقاتِ السَّنَدِ.
لكن الذي ليسَ بعَارِفٍ أوْ إنسانٌ ناسخٌ للكُتُبِ يُمْكِنُ أنْ يَقَعَ في اللَّبْسِ، ومِنْ هنا يَنْشَأُ التَّصْحِيفُ في الكُتُبِ الْمَخطوطةِ؛ لأنَّ هناكَ أُنَاساً يُقالُ لهم: الوَرَّاقُونَ.
والوَرَّاقُ:
إنسانٌ مُسْتَأْجَرٌ يَنْسَخُ،ووُجِدَ بَدَلٌ منهم وهيَ الْمَطابِعُ في هذا العصْرِ.
ومِنْ أمْثِلَةِ التصحيفِ الفِعْلِيَّةِ:
ما وَقَعَ للإمامِ يحيى بنِ مَعينٍ - وهوَ إمامٌ ووَقَعَ في التصحيفِ- فهناكَ رجُلٌ اسمُهُ العوَّامُ بنُ مُرَاجِمٍ، تَصَحَّفَ على يَحْيَى بنِ مَعِينٍ إلى العَوَّامِ بنِ مُزَاحِمٍ.
ومِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضاً:
أبو جَمْرَةَ بنُ عِمرانَ الضُّبَعِيُّ، ففي صُورةِ خَطِّهِ فيها إِيهامٌ، فيَتَصَحَّفُ كثيراً إلى أبي حَمْزَةَ، والسببُ أنَّ اسمَ حَمْزَةَ مَشهورٌ، واسمَ جَمْرَةَ غيرُ مَشهورٍ.
الْمُحَـرَّفُ:
يقولُ الحافظُ: (إنْ كانَ بالنِّسبةِ إلى الشَّكْلِ فالمحرَّفُ).
مِثالُهُ:
عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، الذي لا يَعْرِفُهُ يقولُ: عُبَيْدةُ.
مثالٌ آخَرُ:
بَشيرٌ وبُشَيْرٌ.
لكنْ هلِ التصحيفُ والتحريفُ يَقْصُرَانِ على هذا؟
بحُكْمِ الْمُطَالَعَةِ في كُتُبِ المصطَلَحِ والكتُبِ التي تَعْتَنِي بالتصحيفِ، نَجِدُ أنَّ الحافظَ ابنَ حَجَرٍ، اخْتَصَرَ اختصاراً وقَسَّمَهُ إلى هذا التقسيمِ، ولا أَعْرِفُ مَنْ قَسَّمَهُ بهذهِ الصورةِ، ولكنَّهم يُعَبِّرُونَ دائماً بالتحريفِ والتصحيفِ على مَعْنًى واحدٍ تَقريباً.
والتحريفُ والتصحيفُ يَنقسِمُ عندَهم إلى قِسمَيْنِ:
1-تَصحيفٌ لَفْظِيٌّ.
2-وتَصحيفٌ مَعْنَوِيٌّ.
التصحيفُ الْمَعنويُّ: يَقَعُ في مُتُونِ الأحاديثِ، ولفْظُ الْحَدِيثِ لم يَتَغَيَّرْ فيهِ شيءٌ، لا بالشَّكْلِ ولا بالنَّقْطِ، لكنَّ فَهْمَ معنى الْحَدِيثِ يَتغيَّرُ.
مِثالُهُ:
أبو مُوسَى الزَّمِنُ، وكان مِنْ قَبيلةِ عَنَزَةَ، في حديثِ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ إذا أَرادَ أنْ يُصَلِّيَ تُغْرَسُ بينَ يَدَيْهِ الْعَنَزَةُ ليَجعلَها سُتْرَةً في الصلاةِ، والعَنَزَةُ مثلُ الْحَرْبَةِ.
فأبو موسى رَحِمَهُ اللَّهُ قالَ: نحنُ قومٌ لنا شَرَفٌ - يعني قَبيلةَ عَنَزَةَ - صَلَّى إلينا رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ!! فهوَ صَحَّفَ المعنَى بهذهِ الصورةِ.
- يقولُ السُّيُوطِيُّ في (تَدريبِ الرَّاوِي) بأنَّهُ اطَّلَعَ على مِثالٍ أَعْجَبَ في هذا الْحَدِيثِ؛ فبَعْضُهُم قالَ: إنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ صلَّى إلى شَاةٍ؛ فحَسِبَ قولَهُ: عَنَزَةَ، أنَّها بِسُكُونِ النونِ (عَنْزَةٌ)، وَعَبَّرَ بالمعنى فقالَ: صَلَّى إلى شاةٍ.
- ومِنْ أَمثِلَتِهِ: ما ذَكَرَهُ ابنُ الْجَوْزِيِّ - لعلَّهُ نَقَلَهُ عن الْخَطَّابِيِّ، أوْ عن الدَّارَقُطْنِيِّ - أنَّ أحَدَ الْمُحَدِّثِينَ حينَما ذَكَرَ حديثَ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ ((نَهَى أَنْ يَسْقِيَ الرَّجُلُ مَاءهُ زَرْعَ غَيْرِهِ)).
فكانَ هناكَ أُنَاسٌ جُلوسٌ فتَلَوَّمُوا، وقالُوا: واللَّهِ لقدْ كُنَّا نَسْقِي مَزَارِعَنا ونُسَرِّحُ الماءَ إلى جِيرَانِنَا؛ فَأَخَذُوا يَسْتَغْفِرونَ اللَّهَ تعالى على هذا الفِعْلِ!
والسَّبَبُ أنَّهُم أَسَاؤُوا فَهْمَ هذا الْحَدِيثِ، معَ أنَّ المقصودَ مِن الْحَدِيثِ السَّبَايَا مِن النِّساءِ؛ فالنبيُّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ كَنَّى عن الْجِماعِ بهذهِ التَّكْنِيَةِ، فنَهَى أنْ يَطَأَ الرجُلُ الْمَسْبِيَّةَ قبلَ أنْ يَسْتَبْرِئَ رَحِمَها؛ قبلَ أنْ تَحِيضَ، ثمَّ تَطْهُرَ.
ومِثالُهُ أَيْضَاً:
ما وَقَعَ - كما يقُولُونَ- لابنِ شاهينَ؛ وهوَ إمامٌ حافِظٌ، أنَّهُ تَصَحَّفَ عليهِ حديثُ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ لَعَنَ الذينَ يُشَقِّقُونَ الخُطَبَ - أيْ: يَتَفَاصَحُونَ أمامَ الناسِ - فتَصَحَّفَ عليهِ إلى: يُشَقِّقُونَ الْحَطَبَ؛ فكانَ هناكَ أهلُ سُفُنٍ جالسونَ فقالُوا: فماذا نَفعلُ بالسُّفُنِ؟
أيْ: نحنُ نَتَّخِذُها مِن الْخَشَبِ ونُشَقِّقُ الْخَشَبَ حتَّى نَصنعَ السفُنَ.
والتصحيفُ موجودٌ إلى عَصْرِنا؛ فقدْ كانَ هناكَ أحَدُ الأَئِمَّةِ يَقرأُ (مُخْتَصَرَ سيرةِ ابنِ هِشامٍ) لمحمَّدِ بنِ عبدِ الوَهَّابِ رَحِمَهُ اللَّهُ، فيَذْكُرُ نَسَبَ قُريشٍ، قالَ: قُرَيْشٌ مِنْ كِنانةَ. وتَصَحَّفَتْ عندَهُ في الكتابِ إلى (كُنَافَةَ)! قالَ أحَدُ الْجُلوسِ: كِنَانَةُ أوْ كُنَافَةُ؟
قالَ: الموجودُ كُنَافَةُ!
وهذا لا يَدْخُلُ في التصحيفِ الْمَعنويِّ، بلْ هوَ مِنْ تَصحيفِ النَّظَرِ، وسيأتِي.
مُلاحَظَةٌ:
غالبُ ما يَنشأُ التصحيفُ عنْ عَدَمِ الْجُلوسِ معَ الشيوخِ وأَخْذِ العِلْمِ عنهم، وإنَّما يَأخذونَ العلْمَ عن الصُّحُفِ؛ ولذلكَ قِيلَ للَّذِي يُصحِّفُ: إنَّهُ صُحُفِيٌّ.
القِسْمُ الثاني:
التصحيفُ اللَّفْظِيُّ:
يَقعُ في الإسنادِ والْمَتْنِ،ووُقوعُهُ في الإسنادِ والْمَتْنِ يَختلِفُ، فيَنقسِمُ إلى:
1- تصحيفِ بَصَرٍ.
2-تَصحيفِ سَمْعٍ.
تَصحيفُ الإِسْنَادِ:
مِنْ أَمْثِلَتِها تَصحيفُ يحيى بنِ مَعينٍ رَحِمَهُ اللَّهُ العَوَّامَ بنَ مُرَاجِمٍ إلى العوَّامِ بنِ مُزاحِمٍ
2- تَصْحِيفُ الْمَتْنِ:
مِنْ أَمْثِلَتِها حديثُ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ احتَجَرَ في الْمَسْجِدِ - يعني: اتَّخَذَ حُجرةً مِنْ حَصيرٍ في الْمَسجِدِ - فَابْنُ لَهِيعَةَ - أحَدُ الرُّواةِ - صَحَّفَ الحديثَ إلى: احتَجَمَ في الْمَسْجِدِ.
والتصحيفُ بالبَصَرِ:
مِثْلُ: أنْ يكونَ الكتابُ غيرَ مَنقوطٍ، أوْ تكونَ النُّقَطُ مُتقارِبَةً، أوْ مِنْ جَرَّاءِ العَجَلَةِ.
مثلاً:
أحدُهم قَرَأَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ...))، تَصَحَّفَتْ عليهِ (سِتًّا) إلى (شَيْئاً) فَقَالَ: مَنْ صَامَ رَمضانَ وأَتْبَعَهُ شَيْئاً مِنْ شوَّالٍ؛ فالسَّببُ أنَّها لم تُنْقَطْ، وهمْ لم يكُونوا يَهْمِزُونَ.
وتصحيفُ السَّمْعِ:
وهوَ يَقعُ في الكلماتِ التي مَخارِجُها مُتقارِبَةٌ، والغالِبُ أنْ يكونَ مِمَّنْ كانَ بَعيداً عن الشيخِ أوْ سَاهياً أوْ نحوَ ذلكَ، مثالُهُ: عاصمٌ الأَحْوَلُ، وواصِلٌ الأَحْدَبُ.
مُلاحَظَةٌ:
قدْ يُعَبَّرُ بالتصحيفِ عن التحريفِ والعكْسُ، والحافظُ ابنُ حَجَرٍ اجْتَهَدَ.
وهناكَ أَئِمَّةٌ عُنُوا بالتصحيفِ؛ منْهُم:
1-الدَّارَقُطْنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، لهُ كتابٌ يُثْنُونَ عليهِ، ولَيْتَهُ يَخْرُجُ إنْ كانَ مَوجوداً.
2-(تَصحيفاتُ الْمُحَدِّثِينَ) للعَسْكَرِيِّ، حقَّقَهُ الشيخُ مَحمودٌ الميرةُ، يَقَعُ في ثلاثِ مُجَلَّدَاتٍ.
3-الخَطِيبُ البَغداديُّ في كتابِهِ (الجامعُ لأخلاقِ الرَّاوِي وآدابِ السامعِ)؛ أفْرَدَ باباً في هذا الموضوعِ، وذَكَرَ أُنَاساً مِمَّنْ يُصَحِّفُ، ومِنْ جُملَتِهم ذَكَرَ عبدَ اللَّهِ بنَ الإمامِ أحمدَ، وذكَرَ عُثمانَ بنَ أبي شَيْبَةَ، أخا صاحبِ الْمُصَنَّفِ، وذَكَرَ عنهُ أُموراً عَجيبةً، وهيَ تُنْقَلُ عنهُ.
تَنبيهٌ:
وهنا لا بُدَّ مِنْ تَنبيهٍ: عثمانُ بنُ أبي شَيبةَ يُقالُ بأنَّهُ كانتْ فيهِ دُعَابَةٌ، وذُكِرَ عنهُ بعضُ التصحيفِ، ومِنْ جُملةِ ما ذُكِرَ عنهُ أنَّهُ قَرَأَ: {جَعَلَ السفينةَ في رَحْلِ أَخِيهِ}.
فقيلَ لهُ: {جَعَلَ السِّقَايَةَ}.
قالَ: لا، أنا وأخي أبو بَكْرٍ - (صاحبُ الْمُصَنَّفِ)- لا نَقرأُ لعَاصمٍ.
ويُقَالُ: إنَّهُ قَرَأَ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}، أنَّهُ قَرَأَهَا كأوَّلِ البَقرةِ. ألف لام ميم.
قُلْتُ: وأنا أَسْتَبْعِدُ جِدًّا، بلْ قدْ يكونُ مُستحيلاً أنْ يَقَعَ عُثمانُ بنُ أبي شَيبةَ في التصحيفِ؛ لأنَّ الرجُلَ مِنْ أَئِمَّةِ التفسيرِ، وأَئِمَّةُ التفسيرِ مَعْرُوفُونَ بالإجادةِ في القِراءاتِ، ولا يُفَسِّرُ القرآنَ أحَدٌ إلاَّ وهوَ حافِظٌ لهُ مُطَّلِعٌ على هذهِ الأمورِ، فكيفَ يَقَعُ في هذا التصحيفِ الذي لا يَقَعُ فيهِ صِغارُ الأطفالِ، ولهُ كتابٌ كبيرٌ في التفسيرِ؟!
لكنَّ الذَّهَبِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ حِينَمَا ذَكَرَ هذا عنهُ قالَ في السِّيَرِ: لعلَّ الرجُلَ كانَ يُداعِبُ، واللَّهُ يَغْفِرُ لنا ولهُ.
فالذهبِيُّلم يُحَاوِلْ أنْ يُدَقِّقَ في الأسانيدِ، وكأنَّهُ سَلَّمَ وُجودَ هذا الشَّيْءِ، وأنا أَدْعُو إلى التحقُّقِ ممَّا يُذْكَرُ عن الإمامِ عثمانَ بنِ أبي شَيبةَ وغيرِهِ.
وذَكَرَ الْخَطيبُ البَغداديُّ تَصحيفاتٍ وَقَعَتْ لعبدِ اللَّهِ بنِ الإمامِ أحمدَ، قالَ الشيخُ: ولا أَظُنُّهُ يَقَعُ فيها، لا لأنَّهُ مُبَرَّأٌ؛ لكنْ لأنَّها أشياءُ يَفْهَمُها صِغارُ طَلَبَةِ العلْمِ فَضْلاً عنْ مِثْلِ هذا الإمامِ.
الرِّوايَةُ بالْمَعْنَى:
عندَنا ثلاثةُ أَلْفَاظٍ بنَفْسِ الْمَعْنَى، وهيَ:
أَقْبِلْ وهلُمَّ وتَعَالَ.
لَكِنْ لوْ قُلْنَا: يا فُلانُ امْشِ؛ فلَفْظَةُ (امْشِ) تَحْتَمِلُ وَجهَيْنِ:
- تعالَ.
- والثاني:
انصَرِفْ؛لذلكَ قَالُوا: إذا كانَ الذي يُحَدِّثُ بالمعنى عالِماً بما يُحِيلُ المعانيَ مِن الألفاظِ، فهذا تَجُوزُ لهُ الروايَةُ بالمعنى، وأمَّا إنْ كانَ يُعَبِّرُ بلَفْظٍ قدْ يكونُ يُؤَدِّي مَعْنًى زائداً، أوْ مَعْنًى ناقِصاً، أوْ معنًى مُغَايِراً، فهذا لا يَجُوزُ لهُ بحالٍ مِن الأحوالِ أنْ يُحَدِّثَ بِالْمَعْنَى؛ لأنَّ الحُكْمَ الذي يُمْكِنُ أنْ يُسْتَنْبَطَ مِن الحديثِ يَتغيَّرُ بهذا الحالِ.
مثالُهُ:
حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ، أنَّهُ ذَكَرَ قَبْضَ الرَّبِّ جلَّ وعَلا للسَّماواتِ والأرضِ في تفسيرِ قولِهِ تعالى:
{وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}[الزُّمَر:67] الرُّواةُ الكُثْرُ رَوَوْهُ: ويَقْبِضُ الأَرَضِينَ السبْعَ بيدِهِ الأُخْرَى، أحَدُ الرُّواةِ قالَ: بشِمالِهِ؛ فالذينَ يَستنكرونَ هذهِ اللَّفْظَةَ يَقولونَ: إنَّ الراويَ عَبَّرَ بالمعنى، وهذا الراوي لم يأتِ بالمعنى الدقيقِ؛ لأنَّهُ أتى بمعنًى يَتَرَتَّبُ عليهِ مسألةٌ أُخْرَى، وهيَ إثباتُ صِفةٍ مِنْ صِفاتِ اللَّهِ تعالى بمعنًى أَكْثَرَ دِقَّةً مِمَّا هوَ مَذكورٌ في الرواياتِ الأُخْرَى وهيَ: بيدِهِ الأُخْرَى.
والتغييرُ ليسَ فقطْ بتغييرِ لفظٍ مَكانَ لَفْظٍ، بلْ قدْ يكونُ اللفظَ كُلَّهُ، وقدْ يكونُ بالاختصارِ أيضاً، فَقَالُوا: لا يَجوزُ لهُ أنْ يَخْتَصِرَ الحديثَ، إلاَّ إذا كانَ عالِماً بما يُحِيلُ المعانيَ مِن الألفاظِ.
مِثالٌ:
ما ذَكَرَ الْمُحَشِّيُّ على (النُّزْهَةِ)، وهوَ حَدِيثُ: ((لا يُتَفَرَّقَنَّ عَنْ بَيْعٍ إِلاَّ عَنْ تَرَاضٍ))، فلا يَجوزُ اختصارٌ بحَذْفِ الاستثناءِ؛ لأنَّ الاستثناءَ مُهِمٌّ جِدًّا.
هذا الكلامُ الذي ذَكَرْنَاهُ إنَّما هوَ القولُ الراجحُ على الاختصارِ، لكنَّ هناكَ أكثَرَ مِنْ مَذْهَبٍ في هذا:
1-فهناكَ مِن العُلماءِ مَنْ لم يُجِزِ الروايَةَ بالمعنى أَصْلاً؛
مثلُ: محمَّدِ بنِ سِيرِينَ وغيرِهِ، حتَّى إنَّهُ حَكَى عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنْهُما، فيقولُ: لا بُدَّ أنْ يُؤَدَّى الحديثُ بنَفْسِ اللَّفْظِ.
لكنَّنَا وَجَدْنَا الصَّحابةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهم يُؤَدُّونَ الحديثَ الواحدَ بألفاظٍ بَيْنَها شيءٌ مِن الاختلافِ، لكنْ تَجِدُ أنَّ المعنى واحدٌ ثَمَّ؛ ولذلكَ كانَ الصَّحابةُ رَضِيَ اللَّهُ عنهم إذا حَدَّث، أَرْدَفَ ذلكَ بقولِهِ: أوْ كما قالَ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ، أوْ نَحْوَ ذلكَ.
2-وهناكَ مِن العُلماءِ مَنْ قالَ:إنَّ الرِّوايَةَ بالمعنى يُمْكِنُ أنْ نُجِيزَها في الألفاظِ دونَ الْجُمَلِ الطويلةِ (الْمُرَكَّبَاتِ)؛ لأنَّ اللفْظَ الواحدَ لوْ أَخْطَأَ فيهِ الراوي فالْخَطَأُ يُمْكِنُ أنْ يُسْتَدْرَكَ، والغالبُ أنَّ اللفظَ لا يَحْتَمِلُ أنْ يُؤْتَى بلفْظٍ آخَرَ يَحْتَمِلُ معنًى زائداً، لكنْ لوْ غَيَّرَ جُملةً كاملةً، فلَرُبَّمَا تَغَيَّرَ سِياقُ الحديثِ، بحيثُ يَتَرَتَّبُ على هذهِ الْجُملةِ التي أتَى بها مَعَانٍ زائدةٌ، واستنباطُ أحكامٍ لم تَكُنْ مَوجودةً في أَصْلِ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ.
مثالُهُ:
حَدِيثُ: ((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ))، وَ((مَنْ تَقَوَّلَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْهُ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ))، فكَلمةُ كَذَبَ وتَقوَّلَ بمعنًى واحِدٍ، فلم يَتَرَتَّبْ عليهِ إخلالٌ بمعنًى بالحديثِ.
لكنْ لوْ قالَ: (إنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ- تَهدَّدَ الذي يَسْمَعُ منهُ الحديثَ ويُؤَدِّيهِ بلفْظٍ آخَرَ، فهذا فَهِمَ معنًى مِن الحديثِ بحَسْبِ بحَسَبِ فَهْمِهِ فعَبَّرَ بهذا اللفْظِ، والحديثُ لا يَقْصْرُ يُقْصَرُ على هذا المعنى، بلْ هذا المعنى يُمْكِنُ أنْ يُستفادَ مِن الحديثِ بِناءً على التوَسُّعِ في الاستنباطِ، لكنَّ الحديثَ يَهْدُفُ يَهْدِفُ أوَّلاً مَن اخْتَلَقَ حَديثاً على النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ.
3-مِن العُلماءِ مَنْ رَأَى أنَّ التعبيرَ بالمعنى يَجوزُ للصحابةِ فقطْ دونَ غيرِهم، وحُجَّتُهُ أنَّ الصَّحابةَ -رَضِيَ اللَّهُ عنهم- كانُوا عَرَباً فُصَحَاءَ، يَعْرِفونَ المعانيَ التي لوْ عُبِّرَ عنها بألفاظٍ غيرِ التي سَمِعُوها مِن النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ- لتَغيَّرَ مَعناها.
الْخُلاصَةُ:
وأقوالُهم في ذلكَ كثيرةٌ، لكنَّ خُلاصةَ الأقوالِ ما ذَكَرْنَا، والذي يُرَكَّزُ عليهِ مَذْهَبُ الْجَوازِ، ومَذْهَبُ الْجَوازِ بالشُّرُوطِ،
والرَّاجحُ الْجَوازُ لِمَنْ كانَ عَارِفاً بما يُحِيلُ المعانيَ مِن الأَلفاظِ.
بَيّنَ البُخارِيُّ، ومُسْلِمٍ:
- البُخاريُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ- كانَ يَرَى الرِّوايَةَ بالمعنى جَائِزَةً، وهذا واضحٌ في صحيحِهِ.
- مسلِمٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كانَ مُلْتَزِماً بأداءِ الأحاديثِ كما سَمِعَها؛ لأنَّهُ ألَّفَ كتابَهُ وأُصُولُهُ حاضرةٌ، وكثيرٌ مِنْ مَشايِخِهِ كانوا أحياءً، فلو اشْتَبَهَ عليهِ لفْظٌ لرَاجَعَهم،؛ فلِذَلِكَ نَجِدُ سِياقَ مسلِمٍ للأحاديثِ أَجْوَدَ مِنْ سِياقِ البُخاريِّ.
نَقَلَ الحافظُ في شرْحِهِ كلامَ القاضي عِياضٍ حينَما ذَكَرَ أنَّهُ يَنبغِي أنْ يُسَدَّ بابُ الروايَةِ بالمعنى؛ حتَّى لا يُسَلَّطَ أحَدٌ على أحاديثِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ- فيُعبِّرَ عنها بتَعبيراتٍ قدْ تُخِلُّ بالمعنى الْمُرادِ.
غريبُ الحديـثِ:
المقصودُ بهِ:
الألفاظُ التي يُشْكِلُ معْنَاهَا على بعضِ الناسِ فَتُبَيَّنُ لهُ، وهذهِ الألفاظُ أَشْكَلَ معناها بسَبَبِ قِلَّةِ استعمالِها، فالعُلماءُ - رَحِمَهُم اللَّهُ- ما تَرَكُوا شَارِدَةً ولا وَارِدَةً مِنْ عُلومِ الكتابِ والسُّنَّةِ إلاَّ وسَهَّلُوهَا لنا.
-فمِنهم مَنْ أَلَّفَ في غريبِ القرآنِ.
-ومِنهم مَنْ ألَّفَ في غريبِ السُّنَّةِ.
-ومنهم مَنْ جَمَعَ بينَهما.
1- غريبُ القرآنِ:
ألَّفَ فيهِ الرَّاغِبُ الأَصْفَهَانِيُّ في كتابِ (الْمُفْرَدَاتِالْمُفْرَدَاتُ).
2- غَريبُ السُّنَّةِ.
أ-أَقْدَمُ مَنْ علِمْنَاهُ ووَصَلَ إلينا كتابُهُ:
أبو عُبيدٍ القاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ، وكتابُهُ: (غَرِيبُ الحدِيثِ،)، وهوَ مَطبوعٌ في أربعةِ مُجَلَّدَاتٍ، لَكِنَّ تَرتيبَهُ صَعْبٌ، ووَضَعَ الدكتورُ مَحْمُودٌ الميرةُ فِهْرِساً يَخْدُمُ الباحثَ فيهِ.
ب-إبراهيمُ بنُ إسحاقَ الْحَرْبِيُّ:
لهُ كتابُ(غريبُ الحديثِ) طُبِعَ في جامِعةِ أُمِّ الْقُرَى وإنْ كانَ ناقِصاً، لكنْ هذا الذي وُجِدَ منهُ.
ج-ابنُ قَتَيْبَةَ الدَّيْنُورِيُّ:
لهُ كتابُ (غريبِ غريبُ الحديثِ) مطبوعٌ في ثلاثةِ مُجَلَّدَاتٍ.
د-مِنْ أَحْسَنِها كتابُ الْخَطَّابِيِّ، وهوَ: (غريبُ الحديثِ) طُبِعَ في جامعةِ أُمِّ القُرَى في ثلاثةِ مُجَلَّدَاتٍ.
لكنَّ جَميعَ ما ذَكَرْنَا مِن الكُتُبِ تَرتيبُها عَسِرٌ.
فمنها: ما وُضِعَ لهُ فِهْرِسٌ في آخِرِ الكتابِ، مثلُ: كتابِ الْخَطَّابِيِّ.
ومنها:ما أَُفْرَِدَ فِهْرِسُهُ في كتابٍ، مِثلُ: غَريبِ أبي عُبَيْدَةَ.
هـ-ومِنْ أَحْسَنِها كِتَابُ (النِّهَايَةُ) في غَرِيبِ الحَدِيثِ لابنِ الأثيرِ:
وهوَ مِنْ أَحْسَنِها تَرتيباً، ويُعْتَبَرُ أَخَذَ ما تَضَمَّنَتْهُ الكتُبُ السابقةُ ورَتَّبَهُ هذا الترتيبَ الْجَيِّدَ، فهوَ مُرَتَّبٌ على الحروفِ الأَبْجَدِيَّةِ.
و-أبو عُبيدةَ الْهَرَوِيُّ ألَّفَ كتابَ (الغَرِيبَيْنِ)، جَمَعَ فيهِ بينَ غَريبِ القرآنِ والسُّنَّةِ، والكتابُ مَطْبُوعٌ.
بيانُ الْمُشْكِلِ:
أحياناً لا نَجِدُ اللَّفْظَ قريباً علينا، بحيثُ أنه إنَّهُ يُشَكِّلُ صُعوبةً في فَهْمِ معناهُ، ولكنْ يكونُ اللفْظُ فيهِ صُعوبةٌ في تحديدِ مَعناهُ، فقدْ يكونُ حَمَّالَ أَوْجُهٍ، وفي الغالبِ هذا يَحْصُلُ في الأحاديثِ التي غَالَبُها التعارُضُ.
مثالُهُ:
حديثُ أبي هُريرةَ، أنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ- قالَ عن الشَّيْطَانِ الذي عَلَّمَهُ آيَةَ الكُرْسِيِّ: ((صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ))،وكانَ مِمَّا عَلَّمَهُ آيَةُ الْكُرْسِيِّ((تَقْرَؤُهَا عِنْدَ مَنَامِكَ وَلا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ)).
وحديثُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ-: ((يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ أَحَدِكُمْ ثَلاثَ عُقَدٍ إِذَا نَامَ؛ بِكُلِّ عُقْدَةٍ يَضْرِبُ عَلَيْكَ لَيْلاً طَوِيلاً...))الحديثُ.
فكيفَ نُوَفِّقُ بينَ الحديثَيْنِ؟
مُشْكِلُ الحديثِ يَقَعُ هنا. !!
فالعُلماءُ خَدَمُوا هذا الفَنَّ، وهوَ في (مُخْتَلِفِ الحديثِ) كما ذَكَرْنا سابقاً، وذَكَرْنا أنَّ الشافعيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِمَّنْ عُنِيَ بهذا وألَّفَ كتابَهُ (مختلِفِ مُختلِفُ الحديثِ)، وابنَ قُتَيْبَةَ والطَّحَاوِيَّ في (مُشْكِلِ الآثارِ)، فنَجِدُ الطَّحَاوِيَّ يَقولُ عنْ هذَيْنِ الحديثَيْنِ: الصوابُ فيهما أنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ- أَخْبَرَ أنَّ الذي يَنامُ ولا يَقرأُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ يَعْقِدُ الشيطانُ على قافِيَتِهِ ثلاثَ عُقَدٍ، أمَّا إذا قَرَأ آيَةَ الكُرْسِيِّ فلا يَستطيعُ الشيطانُ أنْ يَعْقِدَ عليهِ ثلاثَ عُقَدٍ. يُمْكِنُ أنْ يُقالَ هذا.