(1)المردودُ بسببِ طَعْنٍ في الراوِي، ويكونُ الطعْنُ بأشياءَ تَنْقَسِمُ إلى قِسمَيْنِ:
1-منها ما يُعْتَبَرُ طَعْناً في العَدالةِ.
2-منها ما يكونُ طَعْناً في الْحِفْظِ والضبْطِ.
القِسمُ الأَوَّلُ:
-وهو (المردودُ بسببِ: الطعْنِ في العَدالةِ) - يكونُ بسببِ:
1-كَذِبِ الرَّاوِي.
2-التُّهْمَةِ بالكَذِبِ.
3-فِسْقِ الرَّاوِي.
4-الْجَهَالَةِ.
5-الْبِدْعَةِ.
القِسْمُ الثَّانِي:
- وهوَ (الْمَردودُ بسببِ: الطعْنِ في الْحِفْظِ والضَّبْطِ) - فيكونُ بسببِ:
1-سُوءِ الْحِفْظِ.
2-الغلَطِ الفَاحِشِ.
3-الْغَفْلَةِ.
4-الوَهْمِ.
5-مُخَالَفَةِ الثِّقَاتِ.
وأمَّا عن القِسْمِ الأَوَّلِ فأَشَدُّهَا التحَقُّقُ مِنْ كَذِبِ الرَّاوِي، ثمَّ التُّهْمَةُ بالكَذِبِ، وهكذا على التَّسَلْسُلِ، الأَشَدُّ فالأَشَدُّ.
فأَوَّلُها:
ما يكونُ مَردوداً بسببِ كَذِبِ الرَّاوِي، ويُسَمَّى الذي في إِسنادِهِ راوٍ كَذَّابٌ (الموضوعَ)، وهوَ: الْمَصنوعُ، وهوَ: الْمُخْتَلَقُ على رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ.
مَسألةٌ:
أَثَارَ الْحَافِظُ مَسألةً، وهيَ أنَّ الْحُكْمَ على الْحَدِيثِ بأنَّهُ مَوضوعٌ إنَّما هوَ بطَريقِ الظَّنِّ الغالِبِ لا بالقَطْعِ؛ إذْ قدْ يَصْدُقُ الكَذوبُ؟
لكنْ لأَهْلِ العلْمِ بالْحَدِيثِ مَلَكَةٌ يُمَيِّزُونَ بها ذلكَ.
ثمَّ نَقَلَ كلاماً عن ابنِ دَقيقِ العِيدِ في عَدَمِ القَطْعِ على حديثٍ مِن الأحاديثِ بالكَذِبِ، حتَّى ولوْ كانَ الراوي نفْسُهُ اعْتَرَفَ بأنَّهُ كَذَّابٌ، وأنَّهُ كَذَبَ في ذلكَ الْحَدِيثِ.
وهذهِ المسألةُ يُمْكِنُ أنْ تكونَ كَمَا أَوْرَدَهَا الحافِظُ، ويُمْكِنُ أنْ تكونَ بخِلافِهِ، فإذا جاءنا حديثٌ مِن الأحاديثِ، وهذا الْحَدِيثُ يُمْكِنُ أنْ يكونَ مَرْوِيًّا مِنْ طريقٍ صحيحةٍ أُخْرَى.. فمَتْنُهُ صحيحٌ، ولكنَّ هذا الإسنادَ للحديثِ فيهِ راوٍ عندَما نَبْحَثُ تَرجمتَهُ نَجِدُ العُلماءَ قالُوا فيهِ: كَذَّابٌ، أوْ وَضَّاعٌ؛ فلا يَجوزُ الْحُكْمُ على الْمَتْنِ ما دامَ مَرْوِيًّا مِنْ طريقٍ صحيحةٍ، فالْمَتْنُ صحيحٌ، ولكنَّ السنَدَ، هلْ يُجْزَمُ بأنَّ هذا الراويَ الكَذَّابَ كَذَبَ في الإسنادِ أمْ لا؟
مَثَلاً:في (صحيحِ مُسْلِمٍ) عنْ سُهَيْلِ بنِ أبي صالحٍ، عنْ أبيهِ، عنْ أبي هُريرةَ -رَضِيَ اللَّهُ عنْهُ- أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ قالَ: ((لا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلا النَّصَارَى بِالسَّلامِ، وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ)).
لا يُعْرَفُ هذا الْحَدِيثُ إلاَّ مِنْ طريقِ سُهَيْلِ بنِ أبي صالحٍ، يَرْويهِ عنْ أبيهِ، فجاءَ حَمَّادُ بنُ عَمْرٍو النَّصِيبِيُّ - وهوَ كَذَّابٌ - فرَوَاهُ عن الأَعْمَشِ، عنْ أبي صالحٍ، عنْ أبي هُريرةَ، ورِوايَةُ الأعمَشِ عنْ أبي صالحٍ كالقمَرِ في ليلةِ البَدْرِ، ثَبَتٌ عنْ ثَبَتٍ عنْ صحابِيٍّ، وحَمَّادٌ مِنْ تلاميذِ الأعمَشِ؛ فجاءَ وقالَ: حدَّثَنِي الأَعْمَشُ، عنْ أبي صالحٍ.
قَصَدَهُ ليَنصرفَ الناسُ إليهِ، ويَسْمَعُوا هذا الْحَدِيثَ الذي لا يُوجَدُ عندَ غيرِهِ؛ لأنَّ الْحَدِيثَ لم يُعْرَفْ إلاَّ مِنْ روايَةِ سُهَيْلِ بنِ أبي صالحٍ،وسُهيلٌ بعضُهُمْ تَكَلَّمَ فيهِ، فمِثْلُ هذا نقولُ فيهِ: هذا الْحَدِيثُ مَوضوعٌ مِنْ طَريقِ حَمَّادٍ، عن الأَعْمَشِ، وأمَّا أصْلُهُ فصحيحٌ.
مسألةٌ أُخْرَى: وهيَ التي أَثَارَهَا
ابنُ دَقيقٍ، وهيَ: هلْ مَعْنَى هذا أنَّنا نَجْزِمُ على ذلكَ الْحَدِيثِ بأنَّ فُلاناً هذا هوَ الذي وَضَعَهُ وكَذَبَ على النبيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ؟
ظاهِرُ كلامِ ابنِ حَجَرٍ حينَما يقولُ: (والحُكْمُ عليهِ بالوضْعِ إنَّما هوَ بالظَّنِّ الغالبِ لا بالقَطْعِ؛ إذْ قدْ يَصْدُقُ الكَذوبُ) نقولُ: نَعَم، الكَذوبُ قدْ يَصْدُقُ، لكنْ هذا في الحالةِ التي مَثَّلْنَا لها قَبْلَ قليلٍ.
ولكنْ إذا لم نَجِدِ الْحَدِيثَ إلاَّ مِنْ طريقِ ذلكَ الكَذوبِ، وعِندَنا قَرينةٌ أُخْرَى تُؤَكِّدُ أنَّهُ قدْ كَذَبَ فيهِ؛ فلا حَرَجَ أنْ نَجْزِمَ بأنَّهُ هوَ الذي وَضَعَهُ.
أمَّا إنْ كانَ في الإسنادِ أكثَرُ مِنْ وَضَّاعٍ، وليسَ هناكَ قَرينةٌ تُؤَكِّدُ أنَّ فُلاناً هوَ الذي وَضَعَهُ، إنْ كانَ الإسنادُ كُلُّهم ثِقَاتٌ، وليسَ هناكَ إلاَّ وَضَّاعٌ واحدٌ، فلا نَتَحَرَّجُ مِنْ أنْ نَقولَ: إنَّ فُلاناً هوَ الذي وَضَعَهُ.
ولذلكَ مِنْ دَلائلِ وَضْعِ الْحَدِيثِ أنْ يَعْتَرِفَ الراوي بأنَّهُ كَذَبَ في الْحَدِيثِ.
وهذهِ المسألةُ يَقولُ فيها ابنُ دَقيقِ العِيدِ:
(إنَّنِي لا أَقْبَلُ هذا الراويَ الذي اعْتَرَفَ بأنَّهُ كَذَبَ في ذلكَ الْحَدِيثِ؛ لأنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يكونَ كَذَبَ عَلَيَّ في قولِهِ: إنِّي وَضَعْتُ ذلكَ الْحَدِيثَ).
وهذا الكلامُ غيرُ مَقبولٍ؛
ولذلكَ رَفَضَهُ الحافظُ الذهبيُّ، وقالَ: (هذهِ سَفْسَطَةٌ؛ لأنَّنا لوْ قَبِلْنَا هذا الكلامَ، فمَعْنَى ذلكَ أنَّنا لا يَحِقُّ لنا أنْ نَجْزِمَ بأنَّ هذا الزانِيَ قدْ زَنَى باعترافِهِ هوَ، أوْ أنَّ هذا القاتِلَ قدْ قَتَلَ باعترافِهِ هوَ؛ لأنَّنا سنَعتبِرُهُ فاسِقاً بفِعْلِهِ هذا - أي: الزِّنَا والقتْلِ - والفاسقُ لا يُوثَقُ بكلامِهِ، ولا يُوثَقُ باعترافِهِ).
ومعلومٌ أنَّ هذا مَرفوضٌ شَرْعاً، فالنبيُّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ اعتَبَرَ إقرارَ الزانِي بِمَثابةِ الدليلِ القويِّ جِدًّا على ارتكابِهِ تلكَ الفَاحِشَةَ، وأقامَ عليهِ الْحَدَّ.
حتَّى لوْ فَرَضْنَا ما قالَهُ ابنُ دَقيقِ العيدِ، وهوَ أنَّهُ كَذَبَ في اعترافِهِ؛ فالمسأَلَةُ كُلُّها كَذِبٌ على كَذِبٍ، فهيَ ظُلُمَاتٌ بعضُها فوقَ بعضٍ، فلا يُفِيدُ هذا شيئاً، فالْحَدِيثُ مَردودٌ بكُلِّ حالٍ.
واعْتَذَرَ بعضُهم عن ابنِ دَقيقِ العيدِ بأنَّهُ لم يَقُلْ: إنَّ الْحَدِيثَ لا يُعْتَبَرُ مَوضوعاً، ولكنَّهُ يَقولُ: إنَّنا لا نَجْزِمُ بأنَّ ذلكَ الراويَ وَضَعَ ذلكَ الْحَدِيثَ باعترافِهِ؛ لأنَّ اعترافَهُ اعترافٌ كاذبٌ... إلخ. فهذا الكلامُ جَدَلِيٌّ لا فائدةَ فيهِ.
القَرَائِنُ التي يُعْرَفُ بها الوضْعُ في الْحَدِيثِ:
وتَنقسِمُ إلى قِسمَيْنِ:
القِسمُ الأَوَّلُ:
قَرَائِنُ في الرَّاوِي:
أَعْلاهَا:إقرارُ الرَّاوِي بأنَّهُ وَضَعَ ذلكَ الْحَدِيثَ.
مِثالٌ:أبو عِصْمَةَ نُوحُ بنُ أبي مَريمَ
سُئِلَ عن الْحَدِيثِ الذي يَرويهِ في فَضائلِ القرآنِ سُورةً سُورةً، وعنْ سَبَبِ وَضْعِهِ لذلكَ الْحَدِيثِ - اعتَرَفَ بوَضْعِهِ لهُ بهَدَفِ تَرْغِيبِ الناسِ في تِلاوةِ القُرآنِ، فقالَ: إنِّي رَأَيْتُ الناسَ قد انْصَرَفُوا إلى (فِقْهِ)أبي حَنيفةَ (ومَغازِي)ابنِ إسحاقَ؛ فوَضَعْتُ هذا الْحَدِيثَ لأُرَغِّبَهُمْ في كتابِ اللَّهِ.
قرائنُ تَتَنَزَّلُ بِمَنْزِلَةِ الإقرارِ بوَضْعِ الْحَدِيثِ:
1-أنْ يَدَّعِيَ الراوي سَمَاعَهُ للحديثِ مِنْ شيخٍ تُوُفِّيَ قَبلَ وِلادتِهِ.
مثالٌ: مَا حَصَلَ لأبي حُذَيْفَةَ البُخاريِّ - إسحاقَ بنِ بِشْرٍ- ادَّعَى الروايَةَ عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ طَاوُسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فذُكِرَ ذلكَ لسُفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ، فقالَ لهم: اسْأَلُوهُ: مَتَى وُلِدَ؟ فسَأَلُوهُ: متى وُلِدَ؟
فقالَ سُفيانُ: قدْ كَذَبَ؛ لأنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ طَاوُسٍ تُوُفِّيَ قَبْلَ وِلادةِ أبي حُذيفةَ بسَنَتَيْنِ. فكَشَفَ لنا التاريخُ كَذِبَ ذلكَ الرَّاوِي؛ ولذلكَ قالَ العُلماءُ: حينَما استَعْمَلَ الرواةُ الكَذِبَ، استَعْمَلْنَا لهم التاريخَ، فالرَّاوِي لم يَعترِفْ بالكَذِبِ، لكنَّ هذا كالإقرارِ تَمَاماً.
2-أنْ يَدَّعِيَ الرَّاوِي السمَاعَ مِنْ شَيخٍ،
إذا ما حُقِّقَ ودُقِّقَ فيهِ تَبَيَّنَ بذلكَ كَذِبُهُ.
مِثالٌ:ما وَقَعَ لابنِ حِبَّانَ معَ أبي العَبَّاسِ الأَزْهَرِيِّ أحمدَ بنِ الأَزْهَرِ؛ فإنَّ أحمدَ ادَّعَى الروايَةَ عنْ بعْضِ الشيوخِ، فسَأَلَهُ ابنُ حِبَّانَ عنْ أحَدِهم مَتَى لَقِيَهُ؟
فزَعَمَ أنَّهُ لَقِيَهُ في سنةِ مِائتَيْنِ وسِتَّةٍ وأربعينَ في مَكَّةَ - أيْ: في الْحَجِّ - فقالَ ابنُ حِبَّانَ: إنَّ فُلاناً قدْ حَدَّثَنِي أنَّهُ قالَ: حَجَجْتُ وفُلانٌ - أي: الذي رَوَى عنهُ الأَزْهَرِيُّ - فلَمَّا كُنَّا بالْجُحْفَةِ مَرِضَ ذلكَ الشيخُ، فحَمَلُوهُ إلى مِنًى، فلَمَّا كانَ بِمِنًى حاوَلَ أنْ يَحْجُبَ الناسَ عن الشيخِ، فأَلَحُّوا بالدُّخولِ، فدَخَلُوا عليهِ، فما حَدَّثَهُمْ إلاَّ بحديثٍ واحدٍ، ثمَّ ماتَ.
فابنُ حِبَّانَ يَسألُ الأَزْهَرِيَّ؛ لأنَّهُ حَدَّثَ بأحاديثَ كثيرةٍ عنهُ، فقالَ: كلُّ هذهِ الأحاديثِ سَمِعْتَهَا مِنْ فُلانٍ؟
قالَ:نعمْ، فقالَ: وكُلُّها في سنةِ (246) في الْحَجِّ؟
قالَ:نعمْ، فذَكَرَ لهُ هذهِ القِصَّةَ.
قالَ:ابنُ حِبَّانَ: فبَقِيَ الأَزْهَرِيُّ يَنْظُرُ إليَّ مَشْدُوهاً؛ فقدْ عَرَفَ أنَّ ابنَ حِبَّانَ عَرَفَ كَذِبَهُ.
ثمَّ أَخَذَ يُحَدِّثُ عنْ راوٍ آخَرَ، فقالَ ابنُ حِبَّانَ: متَى لَقِيتَهُ؟
قالَ:في سنةِ (246).
قالَ:إنَّ فُلاناً حَدَّثَنِي أنَّ فُلاناً هذا تُوُفِّيَ سنةَ (232) فدَلَّ على كذِبِ الراوي.
3-أنْ يَرْوِيَ الراوي عنْ شيخٍ،
إذا ما طُولِبَ الراوي بصِفَةِ ذلكَ الشيخِ تَبَيَّنَ كَذِبُهُ، أوْ طُولِبَ بِمَحَلِّ السمَاعِ منهُ تَبَيَّنَ كَذِبُهُ.
مِثالٌ:أنَّ أحدَهم زَعَمَ أنَّهُ روَى عنْ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها، فطُولِبَ بوَصْفِهَا؛ فوَصَفَهَا بأنَّها أَدْمَاءُ - أيْ: فيها بَيَاضٌ- معَ أنَّ عائشةَ صِفَتُها غيرُ ذلكَ، ولا يُمْكِنُ أنْ تَتَكَشَّفَ للرِّجَالِ، ثمَّ قالُوا لهُ: أينَ لَقِيتَهَا؟
قالَ: لَقِيتُهَا بوَاسِطَ؛ فدَلَّ على كذِبِهِ؛ لأنَّ عائشةَ تُوُفِّيَتْ سنةَ (57هـ)، ومدينةُ وَاسِطَ بُنِيَتْ بعدَ سنةِ (80هـ) في زَمَنِ الْحَجَّاجِ.
4-أنْ يَرْوِيَ قِصَّةً تَدُلُّ على كَذِبِهِ.
مِثالٌ: أنَّ أحَدَهم زَعَمَ أنَّهُ مَرَّ بالسُّوقِ، وإذا برَاوِيَةٍ في بيتٍ مُرْتَفِعٍ، قالَ: فأخَذْتُ بُنْدُقِيَّةً فرَمَيْتُ الرَّاوِيَةَ بها فثَقَبْتُهَا، فأَخَذَ الماءُ يَنْزِلُ في فَمِي حتَّى رَوِيتُ، ثمَّ أَخَذْتُ بُنْدُقِيَّةً فرَمَيْتُ بها إلى الرَّاوِيَةِ، فسَدَدْتُ ذلكَ الثُّقْبَ في الرَّاوِيَةِ.
ولا شَكَّ أنَّ هذا واضحُ الكَذِبِ.
مِثالٌ آخَرُ:سَمِعَ أحدُهم نِزَاعاً بينَ الْمُحَدِّثِينَ في سَمَاعِ الحسَنِ البَصْرِيِّ مِنْ أبي هُريرةَ، فوَضَعَ إسناداً إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: (سَمِعَ الْحَسَنُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ).
القِسْمُ الثاني: قَرائنُ الْمَرْوِيِّ:
1-مُخَالَفَةُ الْحَدِيثِ لنصِّ القرآنِ.
مِثالُ ذلكَ: الْحَدِيثُ الموضوعُ:((أنَّ عُمْرَ الدُّنْيَا سبعةُ آلافِ سنةٍ، وأنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ بُعِثَ في الأَلْفِ الأَخِيرَةِ)).
قالَ ابنُ القَيِّمِ في (الْمَنَارُ الْمَنِيفُ): فهذا الْحَدِيثُ كَذِبٌ؛ لأنَّهُ ما دامَ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ بُعِثَ في الأَلْفِ الأَخِيرَةِ، على زَعْمِ الكَذَّابِ، فمَعناهُ أنَّهُ لم يَبْقَ على قِيامِ الساعةِ إلاَّ (251) سَنَةً، وهذا مُخَالِفٌ لكتابِ اللَّهِ تعالَى، وهوَ القائلُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ}، ومعَ ذلكَ ففيهِ مُخالَفَةٌ للوَاقِعِ.
2-أنْ يكونَ مُخَالِفاً لصحيحِ السُّنَّةِ، وليسَ شَرْطاً أنْ تكونَ مُتواتِرَةً، فإمَّا أنْ تكونَ مُتواتِرَةً أوْ غيرَ مُتواتِرَةٍ.
إذا كانت الْمُخالَفَةُ بحيثُ لا يُمْكِنُ الجمْعُ بينَ نَصَّيْنِ بها، ولا يُعْرَفُ الناسِخُ مِن الْمَنسوخِ، ولا تُستَخْدَمُ معَهَا إحدَى آلاتِ الترجيحِ، ووَجَدْنَا أنَّ في إسنادِ الْحَدِيثِ مَنْ يُمْكِنُ أنْ يَحْمِلَ تَبِعَةَ ذلكَ الْحَدِيثِ، بحيثُ تُنْصَبُ التُّهْمَةُ عليهِ، فهذا يُمْكِنُ أنْ يُقالَ لهُ: الموضوعُ.
مثالٌ:أحاديثُ ضعيفةٌ تُبَيِّنُ أنَّ مَن اسمُهُ أحمدُ يُغْفَرُ لهُ ذَنْبُهُ ويُجارُ مِن النارِ، معَ أنَّ العِبرةَ بالتَّقْوَى، وليسَ للأسماءِ دَخْلٌ في ذلكَ.
3-أنْ يكونَ الْمَرْوِيُّ مُخَالِفاً لصريحِ العَقْلِ.
ونَنْتَبِهُ للقَيْدِ الأخيرِ؛ لأنَّ الْمُعْتَزِلَةَ أَقْحَمُوا العقْلَ وجَعلوهُ حَكَماً على نصوصِ الشرْعِ، فرَدُّوا بعضَ النصوصِ الصحيحةِ، بل التي تَقْرُبُ مِن التواتُرِ بدَعْوَى مخالَفَةِ العقْلِ، وهذا ما لا نُريدُهُ، بلْ نقولُ: مُخالِفَةٌ للعقْلِ الصحيحِ السليمِ.
مِثالٌ:الْحَدِيثُ الذي وَضَعَهُ أحَدُ الزَّنَادِقَةِ لتشويهِ الإسلامِ، ولفْظُهُ: (إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْفرَسَ فأَجْرَاهَا فَعَرِقَتْ، فَخَلَقَ نَفْسَهُ مِنْ عَرَقِهَا).
4-أنْ يكونَ الْمَرْوِيُّ رَكِيكَ اللفظِ.
فالنبيُّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ آتَاهُ اللَّهُ جَوامِعَ الكَلِمِ، وهوَ أَفْصَحُ الفُصحاءِ، فإذا وَجَدْنَا حديثاً لفْظُهُ رَكِيكٌ، فنَعْلَمُ بأنَّهُ ليسَ كلامَهُ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ.
مِثالٌ:ما وَضَعَهُ بعضُ الْقُصَّاصِ ليَسْتَدِرَّ بهِ أموالَ الناسِ، وهذا الْحَدِيثُ فيهِ: ((أنَّ اللَّهَ خَلَقَ طائراً لهُ كذا وكذا جَناحاً، وكذا وكذا مِنْقَاراً، وفي كُلِّ مِنْقَارٍ سبعونَ ألفَ لِسانٍ، وكلُّ لسانٍ يُسَبِّحُ اللَّهَ بسَبعينَ ألْفَ لُغَةٍ)).
مِثالٌ آخَرُ:(مَنْ صَلَّى الضُّحَى يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَذَا رَكْعَةً، وَقَالَ فيها كذا)، ثمَّ يَعُدُّ لهُ مِن الثوابِ الذي لا يُعَادِلُ عِبادةَ أَعْبَدِ نَبِيٍّ مُنذُ خَلَقَ اللَّهُ الخلْقَ.
5-أنْ نَجِدَ الْحَدِيثَ مَرْوِيًّا بلَفْظٍ، ويَأْتِيَ الراوي ويَرْوِيَهُ بذلكَ اللفْظِ، ويَزيدَ عليهِ لفظاً آخَرَ لغَرَضٍ ما.
أسبابُ الوَضْعِ في الْحَدِيثِ.
أوَّلاً:الزَّنْدَقَةُ والطعْنُ في الإسلامِ
مِثالٌ: الْحَدِيثُ الذي وَرَدَ قبلَ قَليلٍ: ((إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْفَرَسَ... إلخ)).
والزنادِقَةُ كَثُرُوا في الدولةِ العَبَّاسِيَّةِ، وكانَ الخليفةُ العباسيُّ الْمَهْدِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- قدْ أَنْشَأَ دِيوَاناً خاصًّا لِتَتَبُّعِ الزنادقةِ، وكانَ لا يَرْحَمُهم أَبَداً، بلْ لا يَتَرَدَّدُ في قَتْلِهم، وسُمِّيَ: قَصَّابَ الزَّنَادِقَةِ.
وهؤلاءِ الزنادقةُ وَضَعُوا كثيراً مِن الأحاديثِ، حتَّى قالَ أحَدُهم للرشيدِ حينَما عُرِضَ على القتْلِ: كيفَ تَقْتُلُني وقدْ وَضَعْتُ أربعةَ آلافِ حديثٍ أُحَرِّمُ فيها الحلالَ، وأُحِلُّ فيها الحرامَ؟!
فقالَ الرشيدُ: أينَ أنتَ يا عَدُوَّ اللَّهِ مِنْ أبي إسحاقَ الْفَزَارِيِّ، وعبدِ اللَّهِ بنِ المُبَارَكِ يَنْخُلانِهَا لكَ نَخْلاً؟!
قالَ تعالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
ثانيـاً:التعَصُّبُ الْمَذْهَبِيُّ
مِثالٌ: بعضُ الْحَنَفِيَّةِ وَضَعَ حَديثاً لرفْعِ أبي حَنيفةَ وذَمِّ الشافعيِّ - رَحِمَهما اللَّهُ - فوَضَعَ حديثاً عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: ((يَكُونُ فِي أُمَّتِي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو حَنِيفَةَ النُّعْمَانُ، هُوَ سِرَاجُ أُمَّتِي، هُوَ سِرَاجُ أُمَّتِي، هوَ سِرَاجُ أُمَّتِي، وَيَكُونُ فِي أُمَّتِي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ - يَعْنِي الشَّافِعِيَّ - هُوَ أَضَرُّ عَلَى أُمَّتِي مِنْ إِبْلِيسَ)).
مِثالٌ آخَرُ:بعْضُ الْحَنفيَّةِ حِينَمَا أُحْرِجَ في مَسألةِ رَفْعِ اليدَيْنِ في الصلاةِ عندَ الرُّكوعِ وعندَ الرفْعِ منهُ، وذُكِرَتْ لهُ الأحاديثُ الصحيحةُ التي تَصِلُ إلى حَدِّ التواتُرِ في هذا؛ فوَضَعَ على النبيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ في عَدَمِ رفْعِ اليدَيْنِ عندَ الركوعِ والرفْعِ منهُ، كُلُّ هذا ليَنتصِرَ لمسألةٍ فِقْهِيَّةٍ، نَعوذُ باللَّهِ مِن الزَّلَلِ.
ثالثاً:الانتصارُ للأفكارِ السياسيَّةِ والاعتقاداتِ الفاسدةِ
مِثالٌ: ما وَضَعَ الرافِضَةُ في القَدْحِ في بعضِ الصحابةِ مِثلِ: أبي بكْرٍ، وعمرَ، وعائشةَ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم- ووَضَعُوا أحاديثَ في فَضْلِ آلِ البيتِ.
مِثالٌ:ما رَوَاهُ الْحَاكِمُ في (الْمُسْتَدْرَكِ) عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: ((أَنَا الشَّجَرَةُ، وَفَاطِمَةُ أَصْلُهَا، وَعَلِيٌّ لِقَاحُهَا، وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ فَرْعُهَا، وَشِيعَتُنَا وَرَقُهَا... إلخ))وهوَ واضحٌ أنَّهُ مِنْ وَضْعِ الرافِضَةِ.
مِثالٌ آخَرُ:حديثُ: ((النَّظَرُ إِلَى عَلِيٍّ عِبَادَةٌ)) إلى غيرِهِ مِن الأحاديثِ وَضَعُوهَا.
مثالٌ آخَرُ:الخِلافُ الدائرُ بينَ أهلِ السنَّةِ، والْمُرْجِئَةِ، في مسألةِ: زِيادةِ الإيمانِ ونُقصانِهِ، فبَعْضُ الْمُرْجِئَةِ وَضَعَ حديثاً على أنَّ الإيمانَ كُتْلَةٌ واحدةٌ لا يَزيدُ ولا يَنْقُصُ، زِيادتُهُ كُفْرٌ ونُقصانُهُ كُفْرٌ، وهذا مُخالِفٌ للقرآنِ والسنَّةِ، ولا يَتَرَدَّدُ عالِمٌ في الحكْمِ عليهِ بالوَضْعِ.
رابعاً:التقَرُّبُ إلى الْحُكَّامِ:
مِثالٌ: يُمَثِّلُونَ بقِصَّةِغَيَّاثِ بنِ إبراهيمَ النَّخَعِيِّ معَ الْمَهْدِيِّ، فيقُولُونَ: إنَّ الْمَهْدِيَّ كانَ مُولَعاً بالْحَمامِ، ودَخَلَ عليهِ غَيَّاثُ بنُ إبراهيمَ، فقالَ أحَدُ جُلساءِ الْمَهْدِيِّ لِغَيَّاثٍ: حَدِّثْ أميرَ المؤمنينَ بحديثٍ فيهِ فَضْلُ الْحَمَامِ؛ فإنَّهُ يُحِبُّ الْحَمَامَ؛ فجاءَ غَيَّاثٌ بحديثٍ صحيحٍ، وهوَ حديثُ: ((لا سَبْقَ إِلاَّ فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ)) فزادَ فيهِ ((أوْ جَنَاحٍ)) - أي: الْحَمَامِ - ففَطِنَ الْمَهْدِيُّ إلى أنَّ غَيَّاثاً وَضَعَ الْحَدِيثَ تَقَرُّباً إليهِ؛ فأَعطاهُ مَبْلَغاً مِن الْمَالِ، وأَمَرَ بذَبْحِ الْحَمامِ، وبعدَما ذَهَبَ غَيَّاثٌ قالَ: أَشْهَدُ على قَفَاكَ قَفَا كذَّابٍ على رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ، وإنَّما أنا الذي دَفَعْتُهُ لذلكَ، فأَمَرَ بذَبْحِ الْحَمَامِ.
وهذهِ القِصَّةُ وَرَدَتْ تَقريباً في كُلِّ الكُتُبِ التي تَحَدَّثَتْ عن الوَضْعِ في الْحَدِيثِ، ويُمَثِّلُونَ بها على هذا السببِ، لكنَّ هذهِ القِصَّةَ لا تَصِحُّ؛ لأسبابٍ:
1- أنَّ الْمَهْدِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عُرِفَ عنهُ أنَّهُ لا يُمْكِنُ أنْ يَقْبَلَ مِثلَ هذهِ التُّرَّهَاتِ، فلا يُمْكِنُ أنْ يَسْكُتَ عنْ هذا الرجُلِ إِطْلاقاً.
2-أنَّ هذهِ القِصَّةَ لا نَجِدُ لها سَنَداً مُتَّصِلاً إلى الْمَهْدِيِّ، فهيَ لا تَصِحُّ سَنَداً.
3- غَيَّاثُ بنُ إبراهيمَ تَكَلَّمَ فيهِ العُلماءُ، لكنَّنا لا نَجِدُ أنَّ أحداً منهم قالَ: إنَّهُ وَضَّاعٌ؛ لأنَّهُ فَعَلَ كذا وكذا، وذَكَرُوا هذهِ القِصَّةَ، فلوْ كانت القِصَّةُ مَعروفةً لَمَا أَهْمَلُوهَا، إلى غيرِ ذلكَ مِن الأسبابِ.
خامساً:أنْ يَضَعَ لِحَوَائِجِهِ الشخصيَّةِ.
مِثالٌ:رَجُلٌ أَعْمَى يَبْدُو أنَّهُ يَشْكُو أنَّهُ لا يَجِدُ قائداً؛ فوَضَعَ حَديثاً أنَّ مَنْ قادَ أَعْمَى أربعينَ خُطْوَةً فلهُ كذا وكذا مِن الأَجْرِ.
مِثالٌ آخَرُ:بائعُ باذِنْجَانٍ وَضَعَ حديثاً في فَضْلِ البَاذِنْجَانِ.
مِثالٌ آخَرُ:وَضَعَ آخَرُ حديثاً في الْهَرِيسَةِ بأنَّها تَشُدُّ الظهْرَ لقِيامِ اللَّيْلِ.
مِثالٌ آخَرُ:جاءَ طِفْلٌ إلى أبيهِ شَاكِياً ضَرْبَ الْمُعَلِّمِ لهُ، فقالَ - وَاسْمُهُ سعدُ بنُ طريفٍ-: ضَرَبَكَ؟
واللَّهِ لأُخْزِيَنَّهُمُ اليومَ، فوَضَعَ حديثاً، وهوَ: ((مُعَلِّمُو صِبْيَانِكُمْ شِرَارُكُمْ)).
حُكْمُ الذي يَكْذِبُ على رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسَلَّمَ:
اتَّفَقَ العُلماءُ على أنَّ الكَذِبَ على النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ كبيرةٌ مِنْ كبائرِ الذُّنُوبِ.