(4) القسمُ الثاني:
وهو السقطُ الخَفِيُّقَسَّمَهُ الحافظُ قِسْمَيْنِ:
- المُرْسَلُ الخَفِيُّ.
- المُدَلَّسُ.
ذَكَرَ أَنَّ المُرْسَلَ الخَفِيَّ هو:
رِوَايَةُ الراوي عَمَّنْ عَاصَرَهُ ولمْ يَلْقَهُ،
فقال: (وكذلكَ المُرْسَلُ الخَفِيُّ إذا صَدَرَ مِن مُعَاصِرٍ لم يَلْقَ مَن حَدَّثَ عنه بلْ بينَه وبينَه وَاسِطَةٌ).
وقد سَبَقَ أَنْ قال في السقطِ الجَلِيِّ: (أو أَدْرَكَهُ لكنهما لم يَجْتَمِعَا)، وَتَقَدَّمَ هناكَ أَنَّ هذا النوعَ مِن الإدراكِ الأَلْيَقُ بهِ أَنْ يكونَ في المُرْسَلِ الخَفِيِّ، وقد اسْتَدْرَكَ الحافظُ فَذَكَرَهُ هنا أيضًا، ويُضَافُ إلى قولِ الحافِظِ: (لمْ يَلْقَ مَن حَدَّثَ عنهُ)، يُضَافُ: (أوْ لَقِيَهُ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ)، ذلكَ أَنَّ بعضَ الرُّوَاةِ يَلْتَقِي بِرَاوٍ يَجِدُهُ في المسجدِ أو نحوَ ذلكَ وَلَكِنْ يَعْرِفُ الأَئِمَّةُ أَنَّهُ وإنْ كانَ قد لَقِيَهُ إلا أَنَّهُ لمْ يَسْمَعْ مِنْهُ.
فهذا النوعُ سَمَّاهُ الحافِظُ:المُرْسَلَ الخَفِيَّ.
- وَوَجْهُ كَوْنِهِ خَفِيًّا:
أَنَّهُ لا يُدْرَكُ بِمَعْرِفَةِ الوِلاَدَةِ، وَالوفاةِ.
(5) والقِسْمُ الثاني مِن الانقطاعِ الخَفِيِّ:
هو روايةُ الراوي عن شَيْخِهِ حديثًا أو أَكْثَرَ لم يَسْمَعْهُ منه، بصيغةٍ تَحْتَمِلُ السماعَ مثلَ: عن، قال …، فإذا رَوَى عنه حديثًالم يَسْمَعْهُ منهُ فهذا مِن الخَفِيِّ جِدًّا ويُعْرَفُ كما قال الحافظُ عندَ الأَئِمَّةِ: بالتدليسِ.
- وفَاعِلُهُ:يُسَمَّى المُدَلِّسَ.
- والإسنادُ:الذي وُجِدَ فيهِ هذا العملُ يُسَمَّى المُدَلَّسَ.
وهذا النوعُ يُسَمَّى: تَدْلِيسَ الإسنادِ.
وذَكَرَ الحافظُ أَنَّ الصحيحَ في التدليسِ هو ما ذَكَرَهُ، وهو اشتراطُ هذه القيودِ فيهِ، وهذه القيودُ مَنْقُولَةٌ عن الشَّافِعِيِّ في (الرسالةِ)، وأبي حاتمٍ، وأبي بكرٍ البَزَّارِ، وابنِ القَطَّانِ، ومن الأقوالِ المَرْجُوحَةِ أَنَّ بعضَ الأَئِمَّةِ يُسَمِّي روايةَ الراوي عَمَّنْ عَاصَرَهُ، ولمْ يَلْقَهُ، أو لَقِيَهُ ولم يَسْمَعْ منهُ، يُسَمِّيهَا أيضا تَدْلِيسًا، وحينئذٍ فَقَوْلُ الإمامِ: فلانٌ يُدَلِّسُ عن فلانٍ، لا يَلْزَمُ منهُ أَنَّهُ عندَ هذا الإمامِ قدْ سَمِعَ منهُ، لأنَّ هناكَ من الأَئِمَّةِ مَن اصْطَلَحَ على أَنَّ روايةَ الراوي عَمَّنْ عَاصَرَهُ ولمْ يَلْقَهُ أو لَقِيَهُ ولمْ يَسْمَعْ منه تَدْلِيسٌ، فقالَ الحافِظُ: هذا مَرْجُوحٌ، والأَلْيَقُ باسمِهِ أَنْ يكونَ المُرْسَلَ الخَفِيَّ.
وهذا الذي قالَهُ صحيحٌ مِن جهةِ النظرِ؛ فإنَّهُ حقيقةٌ ليس فيهِ تَدْلِيسٌ شديدٌ، لأنَّ الراويَ أصلاً لم يَلْقَ مَن روى عنهُ، لكنْ فيهِ شُبْهَةُ تَدْلِيسٍ؛ لأنَّ غيرَ الإمامِ الذي يَعْرِفُ الانقطاعَ والاتصالَ بِمُجَرَّدِ الوفاةِ والولادةِ أو مِن الطبقاتِ فإنَّ هذا الراويَ دَلَّسَ عليهِ، إذْ إِنَّهُ سَيَظُنُّ لأوَّلِ وَهْلَةٍ أَنَّهُ قد سَمِعَ منهُ، فَفِيهِ شُبْهَةُ تَدْلِيسٍ، لكنَّ الأَحَقَّ باسمِ التدليسِ وهو الذي فيهِ تدليسٌ شديدٌ أَنَّ يَرْوِيَ عَمَّن سَمِعَ عنهُ حديثًا لم يَسْمَعْهُ منه.
إذا كان الراوي قد عاصرَ مَن روَى عنهُ، يقولُ الحافِظُ: أحيانًا يَأْتِي في بعضِ الأسانيدِ نفسُ هذا الراوي في نفسِ هذا الحديثِ يُدْخِلُ وَاسِطَةً بينهُ وبينَ مَن روى عنهُ، فيقولُ: هذهِ القرينةُ ليستْ دائمًا دليلاً على أَنَّهُ لم يَسْمَعْ منهُ، فالحافظُ يقولُ: (إنَّ هذا ليس قاعدةً مُطَّرِدَةً، فأحيانًا تكونُ هذه الزيادةُ مِن المزِيدِ في مُتَّصِلِ الأسانيدِ)، يعني أَنَّ الراجحَ حَذْفُ هذهِ الواسطةِ، أو يكونُ الراوي قد سَمِعَ هذا الحديثَ مِمَّن روَى عنهُ بواسطةٍ، وسَمِعَهُ منهُ بدونِ واسِطَةٍ، فكانَ يُحَدِّثُ بهِ على الوجْهَيْنِ، وَيُشْبِهُ ما ذَكَرَهُ الحافظُ أَنْ يكونَ قد عَاصَرَ شخصًا ثم روَى عنهُ أحاديثَ مُبَاشَرَةً، وفي أحاديثَ أُخْرَى يَدْخُلُ بينه وبينَ مَن روى عنهُ واسطةٌ، فوجودُ هذهِ الواسطةِ لا يَعْنِي الجَزْمَ بأَنَّهُ لم يَسْمَعْ منهُ، وأنَّ ما رَوَاهُ عنهُ مباشرةً قد أَرْسَلَهُ عنهُ، إلا أَنَّ هذا قد يكونُ قرينةً في بعضِ الأحيانِ على أَنَّهُ لم يَسْمَعْ منهُ، ويَسْتَخْدِمُهَا الأَئِمَّةُ لاَ سِيَّمَا إذا لم يَرِد التصريحُ بالسماعِ عنهُ في حديثٍ ما.
مثلَ:
أَنْ يقولَ أحمدُ: عِرَاكٌ عن عائشَةَ مُرْسَلٌ، فالإمامُ أحمدُ،لم يَقِفْ على تصريحٍ بالتَّحْدِيثِ إلاَّ في طُرُقٍ ضَعَّفَهَا.
ثم قالَ أحمدُ: (يُدْخِلُ بينه وبينَ عائشَةَ، عُرْوَةَ، فَاسْتَدَلَّ بأنَّ عِرَاكًا،لم يَلْقَ عائشةَ بأَنَّهُ يُدْخِلُ بينه وبينها عُرْوَةَ، فهذهِ قرينةٌ اسْتَخْدَمَهَا الإمامُ أحمدُ، واسْتِخْدَامُهَا صحيحٌ).
قولُهُ: (ويُعْرَفُ عَدَمُ المُلاَقَاةِ بِإِخْبَارِهِ عن نَفْسِهِ بذلك أو بِجَزْمِ إِمَامٍ مُطَّلِعٍ) معنى مُطَّلِعٍ أيْ: على أحوالِ الرُّوَاةِ والاتصالِ والانقطاعِ مثلَ: البخاريِّ، وأحمدَ، وابنِ مَعِينٍ، وأبي زُرْعَةَ، وأبي حَاتِمٍ، فعلى كلامِهم الاعتمادُ في مسائلِ اللُّقِيِّ وعَدَمِهِ.
فإذا اتَّفَقَتْ كلمةُ الأَئِمَّةِ أو كادَتْ على أَنَّ فلانًالم يَلْقَ فلانًا؛ فالواجبُ على الباحثِ التسليمُ، سواءً عَرَفْنَا أنَّهُمَا في بلدٍ واحدٍ، أو أَنَّهُ دَخَلَ عليهِ، أو أَمْكَنَ اللقاءُ، أو نحوَ ذلكَ.
وإذا كانَ النَّقْلُ عن بعضِ الأَئِمَّةِ في السماعِ وعدمِهِ، ولمْ يُنْقَلْ عن غيرِهِم ما يُخَالِفُهُ، فإنَّنَا نَأْخُذُ بقولِ مَن نُقِلَ عنهُ ذلكَ، ولا نَتَعَقَّبُهُمْ إلاَّ في حالاتٍ نَادِرَةٍ.
وإذا اختلفوا وكان الجمهورُ على القولِ بأَنَّهُ لمْ يَلْقَهُ أو لم يَسْمَعْ منهُ، أو بِضِدِّ ذلكَ فالقاعدةُ أنَّنَا نَأْخُذُ بقولِ الجمهورِ.
وإذا اختلفوا وكانوا على فِرْقَتَيْنِ في السماعِ وعَدَمِهِ فهنا للباحثِ مجالٌ للترجيحِ والموازنةِ بينَ الرأْيَيْنِ. وأقولُ هذا الكلامَ لأنَّنَا نَجِدُ مِن كثيرٍ مِن الباحثينَ التَّعَقُّبَ على الأَئِمَّةِ ولاَ سِيَّمَا في نَفْيِ السماعِ.
(6) ذَكَرَ الحافظُ:حُكْمَ روايةِ المُدَلِّسِ:
بقولِهِ: (وَحُكْمُ مَن ثَبَتَ عنهُ التدليسُ إذا كانَ عَدْلاً أَنْ لا يُقْبَلَ منهُ إلا ما صَرَّحَ فيهِ بالتحديثِ على الأَصَحِّ).
كلامُ الحافظِ هذا قُلِّدَ فيهِ تقليدًا تامًّا، ولاَ سِيَّمَا مِن المُشْتَغِلِينَ بعلمِ الحديثِ في العصرِ المُتَأَخِّرِ، فصاروا يَشْتَرِطونَ اشتراطًا مُبَالَغًا فيهِ في قَبُولِ روايةِ المُدَلِّسِ بأنْ يَقِفُوا على تَصْرِيحِهِ بالسماعِ، وبسببِ هذا تَكَلَّمُوا في أحاديثَ قد صَحَّحَهَا الأَئِمَّةُ ورُبَّمَا كانَ بعضُهَا في (الصَّحِيحَيْنِ)، والحافظُ قُلِّدَ في هذهِ القضيَّةِ على الإطلاقِ في هذا المكانِ مع أَنَّ لهُ تَقْسِيمًا في بعضِ كُتُبِهِ يُخَالِفُ هذا الإطلاقَ، فهو قالَ هنا: (وحُكْمُ مَن ثَبَتَ عنهُ التدليسُ إذا كانَ عَدْلاً أَنْ لا يُقْبَلَ منهُ إلا ما صَرَّحَ فيهِ بالتحديثِ على الأَصَحِّ)، وهذه كلمةٌ قَاسِيَةٌ جِدًّا.
(7)وسَأَذْكُرُ تقسيمًا للمُدَلِّسِينَ الثقاتِ اجْتَهَدْتُ فيهِ، ومنهُ نأخذُ أحكامًا مُجْمَلَةً للتدليسِ:
تَقَدَّمَ آنِفًا أَنَّ جماعةً مِن الأَئِمَّةِ يُطْلِقُونَ التدليسَ على روايةِ الراوي عَمَّنْ عاصرَهُ ولمْ يَلْقَهُ بصيغةٍ تَحْتَمِلُ السماعَ، وعلى هذا فقدْ يَرْمُونَ أحدًا بالتدليسِ ومُرَادُهُم هذا، أيْ: أَنَّ مُرَادَهُم أَنَّ ذلكَ الراويَ رَوَى عَمَّنْ عَاصَرَهُ ولم يَلْقَهُ، وليسَ مرادُهُم أَنَّهُ يَرْوِي عن شُيُوخِهِ الذين سَمِعَ منهم أحاديثَ لم يَسْمَعْهَا منهم بصيغةٍ تَحْتَمِلُ السماعَ، فحينئذٍ لا يَصِحُّ أَنْ نَرُدَّ ما رَوَوهُ بالعَنْعَنَةِ عن شيوخِهِم الذين سَمِعُوا منهم بِمُجَرَّدِ رَمْيِهِم بالتدلِيسِ.
وقدْ نَبَّهَ ابنُ حَجَرٍ في (النُّكَتِ) إلى أَنَّ جماعةً مِمَّنْ رُمُوا بالتدليسِ من رجالِ (الصَّحِيحَيْنِ) هم بهذهِ المَثَابَةِ، وَضَمَّ إليهم مَن رُمِيَ بالتدليسِ بالظَّنِّ ولمْ يَثْبُتْ عنهُ ذلكَ.
إذا ثَبَتَ أَنَّ الراويَ يُدَلِّسُ التدليسَ المعروفَ وهو: أَنَّ يَرْوِيَ عَمَّنْ سَمِعَ منهُ أحاديثَ لم يَسْمَعْهَا منهُ؛ فَأَدْنَى هؤلاءِ درجةً جماعةٌ مِن المُدَلِّسينَ اشْتُهِرَ عنهم التدليسُ وكَثُرَ عنهم، ومع ذلك اشْتُهِرَ عنهم التدليسُ عن الضعفاءِ، ومِن هؤلاءِ الوليدُ بنُ مسلمٍ، وبَقيةُ بنُ الوليدِ، ومحمدُ بنُ المُصَفَّى، وابنُ جُرَيْجٍ.
- قال: ابنُ مَعِينٍ في بَقِيَّةَ: (كأَنَّهُ كانَ يُحَدِّثُ عن مائةٍ من الضعفاءِ قبلَ أَنْ يُحَدِّثَ عن راوٍ ثِقَةٍ)، فهؤلاءِ مُكْثِرُونَ مِن التدليسِ ومكثرونَ مِن التدليسِ عن الضعفاءِ والمَتْرُوكِينَ، وضَمُّوا إلى ذلكَ أيضًا أنواعًا أُخْرَى من التدليسِ سَيِّئَةً جِدًّا.
مثلَ:
التدليسِ المعروفِ بتدليسِ التَّسْوِيَةِ وهو: أَنْ يُبْقِيَ شيخَهُ وقد يُغَيِّرُ اسمَهُ، ثم يَحْذِفُ أُنَاسًا مِن وَسَطِ الإسنادِ، وهذا يَفْعَلُهُ بَقِيَّةُ، والوليدُ بنُ مسلمٍ، ومحمدُ بنُ المُصَفَّى، فهذا النوعُ مِن المُدَلِّسِينَ لا يُقْبَلُ حديثُهم إلا إذا صَرَّحُوا فيهِ بالتحديثِ.
وبعضُهم يَشْتَرِطُ أَنْ يُصَرِّحَ في إسنادِهِ كلِّهِ بالتحديثِ، فمثلاً إذا رَوَى الوليدُ بنُ مسلمٍ، عن الأَوْزَاعِيِّ، عن الزُّهْرِيِّ؛ فإنَّا نَشْتَرِطُ أَنَّ يُصَرِّحَ الوليدُ نفسُهُ بالتحديثِ، وأنْ يُصَرِّحَ الأَوْزَاعِيُّ بالتحديثِ لأنَّ الوليدَ بنَ مسلمٍ يُسْقِطُ مَن بينَ الأَوْزَاعِيِّ والزُّهْرِيِّ، ومَن يُسْقِطُهُمْ هُمْ مِن ضعفاءِ شيوخِ الأَوْزَاعِيِّ.
أُنَاسٌ مُقِلُّونَ من التدليسِ فلم يُعْرَفُ عنهم التدليسُ، وإِنَّمَا عُرِفَ عنهم التدليسُ في الحديثِ أو الحديثَيْنِ أو الثلاثةِ، وَأَدْرَجَهُم الأَئِمَّةُ مِن ضِمْنِ المُدَلِّسِينَ؛ لأنَّهُم وَقَفُوا لهم على بعضِ الأحاديثِ التي دَلَّسُوهَا، فهذا الراجحُ فيهم لا كما قال الحافظُ بلْ كما قال ابنُ المَدِينِيِّ، وَنَقَلَهُ عنهُ ابنُ عبدِ البَرِّ: إنَّ هؤلاءِ يُحْكَمُ لِعَنْعَنَتِهِمْ بالاتصالِ، وذَكَرَ العَلاَئِيُّ في (جامعِ التحصيلِ) عددًا مِن الرُّوَاةِ مَثَّلَ بِهِمْ لهذا الضَّرْبِ جماعةٌ من المُدَلِّسينَ لا إلى هؤلاءِ ولا إلى هؤلاءِ، مُكْثِرُونَ مِن التدليسِ ولكنَّهم مع ذلكَ أَئِمَّةٌ حُفَّاظٌ اعْتَنَى الأَئِمَّةُ بحديثِهِم ولم يُشْتَهَرْ عنهم كثرةُ التدليسِ عن الضعفاءِ، وهؤلاءِ هم غالِبُ المُدَلِّسينَ مِن الأَئِمَّةِ مثلَ: سفيانَ الثوريِّ، الأعمشِ، أبي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، هُشَيْمٍ ….، وإذا ذُكِرَ التدليسُ يُذْكَرُ مِن الأَئِمَّةِ أمثالُ هؤلاءِ؛ فهؤلاءِ هم الذينَ يَكْثُرُ الكلامُ عنهم؛ لأنَّ أكثرَ الأحاديثِ تدورُ عليهم، وهؤلاءِ لهم أحكامٌ خاصَّةٌ في التدليسِ، فالأصلُ في عَنْعَنَةِ هؤلاءِ أنَّهَا مقبولةٌ، لكنْ بِقُيُودٍ تَضْبِطُ هذا الأمْرَ.
فيُحْكَمُ على عَنْعَنَتِهِمْ بالانقطاعِ مَتَى أَدْخَلُوا بينَهم وبينَ شيوخِهِم واسطةً ولو في روايةِ شخصٍ واحدٍ، فإذا كَثُرَت الأسانيدُ عن سفيانَ الثوريِّ مثلاً عن شيخِهِ مباشرةً بصيغةِ عن ولكنْ في بعضِ الطُّرُقِ يأتي سفيانُ ويُدْخِلُ بينَهُ وبينَ شيخِهِ واسطةً فهذا الأَقْرَبُ أَنْ يكونَ سفيانُ دَلَّسَهُ.
أنْ يَنُصَّ إمامٌ من الأَئِمَّةِ أَنَّ فلانًالم يسمعْ هذا الحديثَ من فلانٍ، ولو لمْ يأتِ عنهُ بواسطةٍ، ولكنْ يَكْفِينَا نَصُّ هذا الإمامِ، ونَعْرِفُ نصوصَ هؤلاءِ الأَئِمَّةِ عن طريقِ كُتُبٍ اعْتَنَتْ بهذا الأمرِ، وتلاميذَ اعْتَنَوا بالمُدَلِّسينَ من شيوخِهم، فالإمامُ أحمدُ اعْتَنَى بأحاديثِ هُشَيْمِ بنِ بَشِيرٍ التي دَلَّسَهَا، فَنَصَّ في كتابِ (العِلَلِ) على أحاديثَ كثيرةٍ أَنَّ هُشَيْمًالمْ يَسْمَعْهَا مِمَّنْ رَوَاهَا عنهُ، فنحنُ نُسَلِّمُ للإمامِ أحمدَ، وتارةً يُسَمِّي الإمامُ الواسطةَ، وتارةً لا يُسَمِّيهَا.
أنْ تُوجَدَ عِلَلٌ في الإسنادِ مثلَ: اشتباهِ دخولِ إسنادٍ في إسنادٍ، أو روايةِ راوٍ لم يُعْرَفْ بالروايةِ عَمَّنْ رَوَى عنهُ أو نحوَ ذلكَ، أو في المَتْنِ نكَارَةٌ، فلو لمْ نَقِفْ على روايةٍ بِوَاسِطَةٍ يعني: لم يَكُنْ مِن النوعِ الأوَّلِ، ولمْ نَقِفْ على أنَّ إِمَامًا نَصَّ على أَنَّ هذا الإسنادَ مُدَلَّسٌ فحينئذٍ نَلْجَأُ في نَقْدِهِ إلى تعليلِ الحديثِ بالتدليسِ، وهذا كثيرٌ جِدًّا.
إذا انْتَفَتْ هذه الأمورُ الثلاثةُ فالذي يَظْهَرُ أَنَّ حُكْمَ روايةِ هؤلاءِ الأَئِمَّةِ مَحْمُولٌ على الاتصالِ، ونُؤَكِّدُ على أمورٍ في هذا الحديثِ إذا مَرَّ على أَئِمَّةٍ وَنَقَدُوهُ وَدَرَسُوا إسنادَهُ وحَكَمُوا لهُ بالصِّحَّةِ وما الْتَفَتُوا إلى عِلَّةِ التدليسِ فلا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُعِلَّهُ بالتدليسِ، وَأَعْظَمُ منهُ إذا صَحَّحَ الأَئِمَّةُ حديثًا وما وَقَفْنَا على أَحَدٍ أَعَلَّهُ بالتدليسِ، فالواجبُ أَنْ نُسَلِّمَ لهم بذلكَ ولاَ سِيَّمَا كتابِ البخاريِّ ومسلمٍ، ونحنُ نَعْرِفُ أنَّهُمَا اشْتَرَطَا الصِّحَّةَ وأنَّهُمَا يَذْهَبانِ إلى أَنَّ التدليسَ عِلَّةٌ، ونَعْرِفُ درجةَ تصحيحِ ابنِ حِبَّانَ إذا قُورِنَ بتصحيحِ الشيخَيْنِ، وهو قد نَصَّ في مقدمةِ كتابِهِ أَنَّهُ لم يَثْبُتْ من أحاديثِ المُدَلِّسينَ إلا ما صَرَّحُوا فيهِ بالتحديثِ من طُرُقٍ أخرى، فإذا كان هذا في (صحيحِ ابنِ حِبَّانِ)؛ فهو في كتابِ الشيخَيْنِ مِن بابِ أَوْلَى، وبِحَمْدِ اللهِ فإنَّ مَن يُطَالِبُونَ بالتصريحِ بالتحديثِ تَعِبُوا في ذلكَ، وغالبُ ما هو من روايةِ المُدَلِّسينَ في كتابِ الشيخَيْنِ قد وُجِدَ التصريحُ بالتحديثِ فيهِ في خارجِ (الصَّحِيحَيْنِ)، ولم يَبْقَ إلا القليلُ، وفي مثلِ هذا يَنْبَغِي حَمْلُ القليلِ على الكثيرِ، وكما قالَ المَزِّيُّ: ليس أَمَامَنَا إلا إِحْسَانُ الظَنِّ بالشيخَيْنِ وأنَّهُمَا لم يُثْبِتَا مِن أحاديثِ المُدَلِّسينَ إلا ما عَرَفُوا أَنَّهُ من صحيحِ حديثِ مَن دَلَّسُوا عنهُ.
وموضوعُ التدليسِ مِن الموضوعاتِ المُهِمَّةِ التي كَثُرَ حولهَا الكلامُ مِن الأَئِمَّة حَتَّى مِن المُتَقَدِّمِينَ أَنْفُسِهم، فللشافعيِّ رَأْيٌ قَوِيٌّ جِدًّا في التدليسِ فَيَحْكُمُ على الراوي بالتَّدليسِ إذا ثَبَتَ عنهُ أَنَّهُ دَلَّسَ مَرَّةً واحدةً، ثم يَحْكُمُ بعدَ ذلكَ أَنَّهُ لا يَقْبَلُ منهُ مُطْلَقًا إلا إذا صَرَّحَ بالتحديثِ.
ودونَ هذه الرُّتْبَةِ مَن لا يَحْكُمُ على المُدَلِّسِ بالتَّدليسِ إلا إذا كَثُرَ منهُ التَّدليسُ، ويَشْتَرِطُ في قَبُولِ حديثِهِ أَنْ يُصَرِّحَ بالتحديثِ مثلَ: ابنِ المَدِينِيِّ.
- ومن الأَئِمَّةِ مَن قال: إنَّ المُدَلِّسَ إذا ثَبَتَ تَدْلِيسُهُ في حديثٍ رُدَّ حديثُهُ الذي ثَبَتَ فيهِ تَدْلِيسُهُ وإلا قُبِلَتْ عَنْعَنَتُهُ، وهذا ذَكَرَهُ ابنُ القَطَّانِ.
ومِمَّا يَدُلُّ على أَنَّ هذا الموضوعَ شَائِكٌ أَنَّ الأمامَ أَحْمَدَ سَأَلَهُ أبو دَاوُدَ: المُدَلِّسُ إذا لمْ يَقُلْ حَدَّثَنَا، وأَخْبَرَنَا هلْ هو حُجَّةٌ؟
فقال: لا أَدْرِي، وهذا يُشِيرُ إلى دِقَّةِ هذا الأمرِ، ويُضَافُ إلى ذلكَ تَصَرُّفُ أصحابِ الصحيحِ ولاَ سِيَّمَا البخاريُّ ومسلمٌ، فإنَّ الأَئِمَّةَ مُتَّفِقُونَ على أنَّهُم قد أَخْرَجُوا من أحاديثِ المُدَلِّسينَ ما لمْ يُوجَدْ لهم فيه تصريحٌ بالتحديثِ، وزَادَ الأمرَ خطورةً تَصَرُّفُ كَثِيرٍ من الباحثينَ المتأخرينَ، إذا اسْتَقَرَّ عندَهُم أَنَّ مَن رُمِيَ بالتدليسِ لا يُقْبَلُ حديثُهُ إلا إذا صَرَّحَ بالتحديثِ، وطَرَدُوا ذلكَ في أحاديثَ في البخاريِّ ومسلمٍ فَصِرْنَا نَرَى تَعْلِيلَهَا بالتدليسِ وإنْ لمْ تُعَلَّ مِن قِبَلِ الأَئِمَّةِ المُتَقَدِّمِينَ.
والضوابطُ التي ذَكَرْتُهَا آنِفًا إِنَّمَا هي على سبيلِ الإجمالِ، وتحتاجُ إلى مزيدٍ من التحريرِ والدِّقَّةِ والضبطِ والتقييدِ، ونظرًا لكثرةِ الكلامِ في التدليسِ فيَحْتَاجُ إلى بَحْثٍ مُوَسَّعٍ يُقَارَنُ فيهِ بينَ أقوالِ الأَئِمَّةِ، فإنَّ الناظِرَ في تصرفاتِ الأَئِمَّةِ وأقوالِهِم معَ قرائنَ أُخْرَى لنْ يُعْدَمَ رأْيًا وَسَطًا تَدْعَمُهُ الحُجَّةُ مُسْتَخْلِصًا من اختلافاتِهِم وآرائِهِم التي أَشَرْتُ إليهَا.