(1)7- المُحْكَمُ وَمُخْتَلَفُ الحديثِ:
انْتَقَلَ الحافظُ إلى موضوعٍ مُهِمٍّ جِدًّا، وَسَبَبُ أَهَمِّيَّتِهِ:
1-كَثْرَةُ وُجُودِه في الأحاديثِ.
2- أَهَمِّيَّتُهُ تَبْرُزُ مِن نَاحِيَةِ العملِ والأحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَهُ تَعَلُّقٌ كَبِيرٌ بِها.
وهذا الموضوعُ هو المعروفُ بِتَعَارُضِ الأحاديثِ، وبعضُ المُتَحَدِّثِينَ عن هذا الموضوعِ يُفَضِّلُ إِضَافَةَ كَلِمَةِ (ظَاهِرًا) ، لأَنَّهُ يقولُ: ما يَصْفُو من الأحاديثِ المُتَعَارِضَةِ فِعْلاً إِنَّمَا هو قَلِيلٌ وَنَادِرٌ؛ فَنُعْطِي الحُكْمَ لِلأَغْلَبِ ونقولُ: (مَا ظَاهِرُهُ التَّعَارُضُ).
وهذا الموضوعُ في أَصْلِهِ وَجُمْلَتِهِ تَعَلُّقُهُ فِي الحقيقةِ بِأُصُولِ الفِقْهِ، وَيُسَمُّونَهُ تَعَارُضَ الأَدِلَّةِ، فهو إذًا ليس مَبْحَثًا خَاصًّا بالحديثِ، إلاَّ أَنَّ له صِلَةًّ قَوِيَّةً بِعِلْمِ المُصْطَلَحِ.
قال الحافظُ: (النَّصُّ الذي ليسَ له مُعَارِضٌ يُسَمَّى المُحْكَمَ).
ثم قال: النَّصُّ إذا كانَ لهُ مُعَارِضٌ فهو على أَقْسَامٍ:
إنْ أَمْكَنَ الجَمْعُ فَمُخْتَلَفُ الحَدِيثِ، كذا قال، وَنُنَبِّهُ هنا إلى أَنَّ كُلَّ تَعَارُضٍ بينَ الأحاديثِ مَهْمَا كانتْ نَتِيجَتُهُ فَيَدْخُلُ تحتَ موضوعِ مُخْتَلَفِ الحديثِ، سواءً أَمْكَنَ الجَمْعُ، أو لَجَأْنَا إلى النَّسْخِ، أو لَجَأْنَا إلى التَّرْجِيحِ؛ فالإمامُ عندَمايؤلِّفُ كِتَابًا -
كالشَّافِعِيِّ الذي أَلَّفَ كتِاَبَ: (اخْتِلاَفُ الحَدِيثِ) ، وابنِ قُتَيْبَةَ الذي أَلَّفَ: (تَأَوْيِلَ مُخْتَلَفِ الحَدِيثِ) - فالنتائجُ مَبْنِيَّةٌ على البَحْثِ، فهو أَوَّلاً يَعْرِضُ التَّعَارُضَ، ثم يُعْطِينَا النتيجَةَ، سَوَاءً كانتْ جَمْعًا أو نَسْخًا أو تَرْجِيحًا، فَمُخْتَلَفُ الحَدِيثِ هو التَّعَارُضُ بينَ الأحاديثِ بِغَضِّ النَّظَرِ عن النَّتِيجَةِ، ولا أَدْرِي لِمَ قَصَرَهُ الحافظُ على مَا أَمْكَنَ الجَمْعُ بينَهُمَا.
نحن الآنَ قَصَرْنَا هذا الموضوعَ على ما ظَاهِرُهُ التَّعَارُضُ مِن الأحاديثِ، لَكِنَّكَ قد تَقْرَأُ في كتابِ ابنِ قُتَيْبَةَ وهو مِن أَشْهَرِ مَن كَتَبَ في مُخْتَلَفِ الحَدِيثِ - وإنْ كانَ لِلأَئِمَّةِ عليهِ مُلاَحَظَاتٌ - فَتَجِدُهُ قد اسْتَعْمَلَ مُصْطَلَحَ (مُخْتَلَفِ الحَدِيثِ) بِمَعْنًى أَوْسَعَ، وهذا لاَ بَأْسَ بهِ، فَاسْتَعْمَلَهُ بما يُعْرَفُ عندَ الأَئِمَّةِ: بِمُشْكِلِ الحَدِيثِ، فَكِتَابُ ابنِ قُتَيْبَةَ (تَأْوِيلُ مُخْتَلَفِ الحَدِيثِ) أَقْرَبُ ما يكونُ أَنْ يكونَ كتابًا في مُشْكِلِ الحديثِ.
وَمَعْنَاهُ:الأحاديثُ التي تَأْتِي وتَحْتَاجُ إلى نَظَرٍ، إِمَّا لِمُعَارَضَتِهَا لآيةٍ أو لإِجْمَاع، أو حتَّى العَقْلِ، والنَّظَرِ؛ لأَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَلَّفَ هذا الكتابَ لِيُحَاجَّ بهِ المُعْتَزِلَةَ، وَالمُتَكَلِّمِينَ في طَعْنِهِمْ على أَهْلِ الحديثِ لِرِوَايَتِهِمْ أَحَادِيثَ إمَّا مُتَنَاقِضَةً كما يقولونَ، أو مُعَارِضَةً لآياتٍ، أو إجماعٍ، أو عَقْلٍ، فَجَمَعَ هذا كُلَّهَ وَسَمَّاهُ (تَأْوِيلُ مُخْتَلَفِ الحديثِ) ، وهذا مِن بابِ التَّوَسُّعِ.
قال الحافظُ: (إنَّ الموقفَ مِن الحَدِيثَيْنِ إذا اخْتَلَفَا التَّدَرُّجُ في النَّظَرِ بينهما، فإنْ أَمْكَنَ الجَمْعُ فهو أَوْلَى) لأَنَّ فيه إِعْمَالاً لِكِلاَ الحَدِيثَيْنِ، وكما يقولونَ في الأُصُولِ: إِعْمَالُ كِلاَ الدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِن إِهْمَالِ أَحَدِهِمَا، وهذا المَسْلَكُ هو أَوْسَعُ المَسَالِكِ التي دَخَلَ منها الأَئِمَّةُ إلى النَّظَرِ في مُخْتَلَفِ الحديثِ، حتى قال ابنُ خُزَيْمَةَ: (كُلُّ مَن لَدَيْهِ حديثانِ مُتَعَارِضَانِ فَلْيَأْتِنِي لأُوَفِّقَ بينهما)، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: لاَ تَعَارُضَ أَصْلاً بينَ الأحاديثِ، ومِن الأمورِ التي يُنَبَّهُ عليها هُنَا أَنَّ الأَئِمَّةَ قد يَتَّفِقُونَ على الجَمْعِ بينَ الأحاديثِ والنصوصِ بِوَجْهٍ عَامٍّ، ولَكِنْ يَخْتَلِفُونَ في أَوْجُهِ الجَمْعِ، ومِن هُنَا كَانَ هذا أَحَدَ الأسبابِ في الاختلافِ في الأحكامِ الشَّرْعِيَّةِ وغيرِها.
- مثالُ ذلكَ: أحاديثُ النَّهْيِ عن استقبالِ القِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا عندَ قضاءِ الحَاجَةِ، معَ أحاديثِ الرُّخْصَةِ، مِن الأَئِمَّةِ مَن يقولُ: نَجْمَعُ بينهما بِجَعْلِ النَّهْيِ في الصَّحارِي والرُّخْصَةِ في البُنْيَان.
- ومنهم مَن يقولُ: نَجْمَعُ بينهما بِطَرِيقَةٍ ثَانِيَةٍ، وهي أَنْ نَحْمِلَ النَّهْيَ على التَّنْزِيهِ والكَرَاهَةِ، وحديثَ ابنِ عُمَرَ على أَنَّهُ لبيانِ الرُّخْصَةِ والجَوَازِ، فَكِلاَهُمَا جَمَعَا بينَ الحَدِيثَيْنِ، ولَكِن اخْتَلَفَا فِي وَجْهِ الجَمْعِ.
ومَثَّلَ الحافظُ للجمعِ بِحَدِيثِ: ((لاَ يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ)).
- وحديثِ: ((فِرَّ مِن المَجْذُومِ فِرَارَكَ مِن الأَسَدِ)) ، مع أحاديثَ فِي نَفْيِ العَدْوَى مثلِ: ((لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ))، وقد سَلَكَ الأَئِمَّةُ في الجَمْعِ بينَ هذه الأحاديثِ التي ظَاهِرُهَا التَّعَارُضُ وُجُوهًا مُخْتَلِفَةً، ذَكَرَ الحافظُ منها وَجْهَيْنِ:
1- جَمْعُ ابنِ الصلاحِ: الأحاديثُ التي فيها إثباتٌ لِعَدْوَى مثلَ الحَدِيثَيْنِ الأوَّلَيْنِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ اللهَ جَعَلَ العَدْوى سَبَبًا لانْتِقَالِ المَرَضِ، والأحاديثُ مثلُ: ((لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ)) الغَرَضُ منها قَطْعُ دَابِرِ الشِّرْكِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا ظَنَّ أَنَّ هذا يُعْدِي بِطَبْعِهِ دونَ تَقْدِيرِ اللهِ لهُ، فَكَأَنَّ هذا مِن بابِ التَّأْكِيدِ على قَضِيَّةِ القضاءِ والقَدَرِ وهذا الجَمْعُ ضَعَّفَهُ ابنُ حَجَرٍ.
2-جَمْعُ ابنِ حَجَرٍ: نَفْيُهُ لِلعَدْوَى بَاقٍ على عُمُومِهِ وأنَّ المَرَضَ لاَ يُعْدِي، وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((فِرَّ مِن المَجْذُومِ))، و((لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ)) ؛ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ قد يَتَّفِقُ أَنَّ الصَحِيحَ يُمْرِضُ وهو بِجِوَارِ السَّقِيمِ فَيَعْتَقِدُ أَنَّ ذلكَ بِسَبَبِ العَدْوَى وقد نَفَتْهَا الأحاديثُ فَيَقَعُ فيما نَهَى عنهُ الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا القولُ لَهُ وَجْهٌ، وَلَكِن الثَّابِتَ خِلاَفُهُ وأَنَّ المَرَضَ يُعْدِي وأَنَّهُ يَنْتَقِلُ، وأنَّ اللهَ خَلَقَهُ على هذه الطبيعةِ، وذلكَ لا يُعَارِضُ القضاءَ والقَدَرَ فاللهُ خَلَقَهُ وهو مُقَدِّرُ السببِ والمُسَبِّبِ.
وهناكَ وُجُوهٌ أُخْرَى للجمعِ بينَ الحديثَيْنِ ذَكَرَ بعضَها ابنُ قُتَيْبَةَ واسْتَوْعَبَهَا ابنُ القَيِّمِ في كِتَابِهِ (مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ) ، وَتَعَرَّضَ لِقَضِيَّةِ الطبِّ النَّبَوِيِّ وهل هو تَشْرِيعٌ أو مِن الأمورِ الدُّنْيَوِيَّةِ التي قَالَ عنها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنْتُمْ أَدْرَى بِشُؤُونِ دُنْيَاكُمْ))؟
ثم قال الحافظُ:(إنْ لمْ يُمْكِن الجمعُ فإنْ ثَبَتَ المُتَأَخِّرُ فَيَلِي الجَمْعَ النَّسْخُ) فإنْ لم يَثْبُت المُتَأَخِّرُ وَلَمْ يُمْكِن الجَمْعُ فحينئذٍ يُلْجَأُ إلى التَّرْجِيحِ، وحينَ يَتَكَلَّمُ الأُصُولِيُّونَ في التَّرْجِيحِ فَإِنَّهُمْ يَذْكُرُونَ وُجُوهًا لِلتَّرْجِيحِ أَوْصَلَهَا السِّيُوطِيُّ في (الأَشْبَاهُ والنَّظَائِرُ) إلى مِائَةِ وَجْهٍ.
منها:في الأسانيدِ.
ومنها:في المُتُونِ، فَإِنْ لمْ يُمْكِن الجَمْعُ، ولا النَّسْخُ، ولا التَّرْجِيحُ؛ فالتَّوَقُّفُ بالنِّسْبَةِ للمُجْتَهِدِ، قالَ ابنُ حَجَرٍ: (والتعبيرُ بالتَّوَقُّفِ أَوْلَى مِن التعبيرِ بالتَّسَاقُطِ) ، ذلكَ أَنَّ بعضَ الأصوليينَ رُبَّمَا عَبَّرَ عن هذه الحالةِ بِتَسَاقُطِ الدَّلِيلَيْنِ، فقالَ الحافِظُ: (إنَّ التعبيرَ بالتَّوَقُّفِ أَوْلَى مِن التعبيرِ بالتَّسَاقُطِ)؛ لأنَّ المجتهدَ الذي لاَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْمَعَ ولا أَنْ يُثْبِتَ النَّسْخَ ولا أَنْ يُرَجِّحَ فالتَّوَقُّفُ يكونُ خاصًّا بهِ، وقد يُوَفَّقُ غيرُه لأحدِ الأَوْجُهِ السابِقَةِ.
- وقالَ بعضُهم: التعبيرُ بكلمةِ (تَسَاقُط) غيرُ لاَئِقَةٍ، وَالأَفْضَلُ والأَوْلَى التعبيرُ بِالتَّوَقُّفِ.
وَلِي هُنَا تَنْبِيهٌ على كلامِ الحافظِ حينَ ذَكَرَ أَنَّهُ لاَ يُلْجَأُ إلى النَّسْخِ إلاَّ إذا تَعَذَّرَ الجَمْعُ، ذلكَ أَنَّهُ عدَّ في الأشياءِ التي يَثْبُتُ بها النَّسْخُ وُرُودَهُ في الحديثِ نفسِهِ.
- مثلَ قولِهِ: ((كُنْتُ قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ)) ، وكما نُلاَحِظُ فهذا الحديثُ لا نَلْجَأُ فيهِ إلى الجَمْعِ بلْ إلى النَّسْخِ ابتداءً وإنْ أَمْكَنَ الجَمْعُ، فإذا ثَبَتَ النَّسْخُ فهو مُقَدَّمٌ على الجَمْعِ، ولا إِشْكَالَ في ذلكَ، وإِنَّمَا يُلْجَأُ إلى الجَمْعِ أو التَّرْجِيحِ إذا كانَ النَّسْخُ غيرَ ثَابِتٍ، ولاَ سِيَّمَا دَعْوَى كثيرٍ مِن الفقهاءِ أو مُحَدِّثِي الفُقَهَاءِ في النَّسْخِ إذا احْتُجَّ عليهم بِدَلِيلٍ، ومَثَّلَ ابنُ رجبٍ بِالطَّحَاوِيِّ فَإِنَّهُ كَثِيرُ القولِ بالنَّسْخِ، فهُنَا يُقَالُ: إنَّ الأَوْلَى الابتداءُ بالجمعِ، لكنْ إذا ثَبَتَ النَّسْخُ فَلاَ شَكَّ أَنَّهُ يُبْدَأُ بهِ ويُقَدَّمُ على الجَمْعِ، واللهُ أَعْلَمُ.
(2) ثم تَحَدَّثَ الحافظُ عن كيفَ يُعْرَفُ النَّسْخُ؟
وذَكَرَ أشياءَ مَكَانَهَا في أُصُولِ الفِقْهِ، وتَحَدَّثَ عن قَضِيَّةِ الاستدلالِ على النَّسْخِ بِتَأَخُّرِ إسلامِ الصحابيِّ، فقال: إنَّ تَأَخُّرَ إسلامِ الصحابيِّ ليسَ دائِمًا دليلاً على تَأَخُّرِ النَّصِّ، وهذا صحيحٌ لاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الصحابيُّ سَمِعَهُ مِن صَحَابِيٍّ مُتَقَدِّمِ الإسلامِ، وهذا كثيرٌ مثلَ حديثِ
أَنَسٍ في قِصَّةِ الإسراءِ، فَهُنَا نَقْطَعُ بأنَّ أَنَسًا مَا حَضَرَهَا وَلاَ سَمِعَهَا في وَقْتِهَا، وإِنَّمَا سَمِعَهَا مِن صحابيٍّ آخَرَ، أو حَدَّثَ بها رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بعدُ، وأشياءَ كثيرةً يُجْزَمُ بِهَا بِأَنَّ الصحابيَّ ما حَضَرَ القِصَّةَ وإِنَّمَا سَمِعَهَا بِوَاسِطَةٍ.
- ومِمَّا يُنَبَّهُ عليه هنا قولُ الحافظِ:
ومنها:ما يَجْزِمُ الصحابيُّ بأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌكقولِ جابرٍ ((كانَ آخِرُ الأمرَيْنِ مِن رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ)) أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ (السُّنَنِ).
أوَّلاً:هذا الحديثُ عندَ أَكْثَرِ الأَئِمَّةِ المُتَقَدِّمِينَ مَعْلُولٌ بهذا اللفظِ، رَوَاهُ شُعَيْبُ بنُ أبي حَمْزَةَ، عن ابنِ المُنْكَدِرِ، عن جابرٍ، وقالَ الأَئِمَّةُ: إنَّ هذا مِمَّا وَهِمَ فيهِ شُعَيْبٌ، فقد رَوَاهُ الثقاتُ مثلَ ابنِ جُرَيْجٍ، وابنِ عُيَيْنَةَ، عن ابنِ المُنْكَدِرِ، عن جابرٍ بلفظِ: ((إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُدِّمَ لَهُ لَحْمٌ وَخُبْزٌ فَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَانِهِ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ قَامَ إلى الصَّلاَةِ - أيِ الأُخْرَى - وَلَمْ يَتَوَضَّأْ)).
- يقولونَ: إنَّ شُعَيْبًا رَوَاهُ بالمعنى، فَأَبْعَدَ عن اللفظِ الأوَّلِ، فهذا الحديثُ يُسَمِّيهِ الأَئِمَّةُ الشاذَّ؛ لأنَّ شُعَيْبًا ثِقَةٌ لَكِنْ في حديثِهِ عن ابنِ المُنْكَدِرِ كلامٌ، وقدْ خَالَفَ الثقاتِ فَيُسَمُّونَهُ شَاذًّا، وَيُسَمُّونَهُ مُنْكَرًا، كَمَا تَقَدَّمَ.
ثانيًا:قَوْلُ الحافِظِ: (أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ) ، عَادَةً إِذَا قِيلَ: (أصحابُ السُّنَنِ) ؛ فَإِنَّهُ يُرَادُ بهِ أصحابُ السُّنَنِ الأربعةِ، فَمُحَقِّقُ الكتابِ ذَكَرَ أَنَّ مُرَادَ الحافظِ أبو دَاوُدَ والنَّسَائِيُّ واسْتَدَلَّ على ذلكَ بأنَّ التِّرْمِذِيَّ، وابنَ مَاجَه لم يَرْوِيَاهُ، وهذا استدلالٌ قويٌّ، لكنْ يُعَارِضُهُ أَنَّ الاصطلاحَ جَارٍ على أَنَّهُ إذا قيلَ: أصحابُ السُّنَنِ فَيُرَادُ بهِ (أصحابُ السُّنَنِ الأربعةِ) ، وفوقَ ذلكِ كُلِّهِ أَنَّ ابنَ حَجَرٍ عندَما ذَكَرَهُ بهذا اللفظِ في (التَّلْخِيصِ الحَبِيرِ) نَصَّ وقال: (رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ)، فهنا يُرِيدُ الأربعةَ بقولِهِ: أصحابُ السُّنَنِ.
- وعَزَوهُ إلى الأربعةِ، وهو لمْ يُخْرِجْهُ التِّرْمِذِيُّ وابنُ مَاجَه، يَصِحُّ أَنْ نقولَ فيهِ: سَهَا الحافِظُ، أو وَهِمَ، ولكن الذي يَنْبَغِي هو الاعتذارُ عن الأَئِمَّةِ دائمًا وتأخيرُ كلمةِ (وَهِمَ) أو (سَهَا)، والْتِمَاسُ الأعذارِ لاَ سِيَّمَا في التخريجِ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّ في نُسْخَتِهِ كذا أو نحوَ ذلكَ، وهنا يُقَالُ - واللهُ أَعْلَمُ - لَعَلَّهُ يُريدُ أصلَ الحديثِ، فإنَّ الحديثَ بهذا اللفظِ ليس في التِّرْمِذِيِّ ولا ابنِ مَاجَه، ولكن أصلُ الحديثِ موجودٌ في التِّرْمِذِيِّ وابنِ مَاجَه، وباللفظِ الذي رَوَاهُ الجماعةُ عن ابنِ المُنْكَدِرِ.
سُؤَالٌ: مَا صِلَةُ التَّعَارُضِ بالمُصْطَلَحِ؟
نقولُ: لهُ صِلَةٌ قَوِيَّةٌ وهي ما يُعْرَفُ عندَ الأَئِمَّةِ بِنَقْدِ المُتُونِ، فَنَجِدُ في كلامِ بعضِ المتأخرينَ كلامًا ساقِطًا لا يُؤْبَهُ لهُ، وهو أَنَّهُم يقولونَ: إنَّ المُحَدِّثِينَ اهْتَمُّوا بالأسانيدِ وغَفَلُوا عن نَقْدِ المُتُونِ، وهذا كلامٌ لا يُلْتَفَتُ إليهِ، فإنَّ المُحَدِّثينَ اهْتَمُّوا بِنَقْدِ المُتُونِ كاهْتِمَامِهِمْ بِنَقْدِ الأسانيدِ، وقضيةُ نَقْدِ المُتُونِ موضوعُها في الغالبِ تَعَارُضُ الأحاديثِ.
بلْ قالَ أحدُ الباحثِينَ - الشيخُ عبدُ اللهِ السَّعْدُ -: (إنَّ اهْتِمَامَ أَئِمَّةِ الحديثِ بالمُتُونِ أَكْبَرُ مِن اهتمامِهم بالأسانيدِ)، ونحنُ نقولُ دائمًا: المُتُونُ نفسُهَا ليسَ فيها عِلَلٌ من حيثُ هيَ، وإِنَّمَا تكونُ عِلَلُ المُتُونِ دليلاً كاشِفًا لِعِلَلٍ تَقَعُ في الإسنادِ، فلهذا فالمُحَدِّثونَ إذا قَامَتْ عِلَّةٌ في المَتْنِ نَقَدُوا السَّنَدَ، فصارَ الظاهِرُ أَنْ نَقْدَهُم مُتَّجِهٌ إلى الإسنادِ، ولكنْ في الحقيقةِ فإنَّهُم يَنْقُدُونَ المُتُونَ كما يَنْقُدُونَ الأسانيدَ.
والخلاصةُ:
أَنَّهُ في كثيرٍ من الأحيانِ يكونُ نَقْدُ الإسنادِ طريقُهُ نقدُ المَتْنِ، فَيَسْتَدِلُّونَ على ضَعْفِ الرِّوَايَةِ بِمُخَالَفَتِهَا لرِوَايَةٍ أُخْرَى، وهذا كثيرٌ لا يُحْصَى، سواءً في الأحكامِ الشرعيَّةِ، أو التاريخِ، أو الوفيَّاتِ، أو أسماءِ الصحابةِ، أو غيرِ ذلكَ، وهو موضوعٌ شَيِّقٌ يَحْسُنُ جَمْعُهُ، مع أَنَّ هذا الأمرَ ليس خاصًّا بالمُحَدِّثِينَ، بلْ الذي سَنَّهُ وابتدَأَهُ هُم الصحابةُ، فعندَما يَرْوِي صحابيٌّ حديثًا لصحابيٍّ آخَرَ يَتَوَقَّفُ فيه الثاني لِظَنِّهِ أَنَّهُ يُعَارِضُ نَصًّا آخَرَ، كما تَوَقَّفَ عُمَرُ وعائشةُ رضي اللهُ عنهما في حديثِ فاطمةَ بنتِ قَيْسٍ في المُطَلَّقَةِ ثَلاَثًا: ((لاَ سُكْنَى لَهَا وَلاَ نَفَقَةَ))، وتوَقَّفَتْ عائشةُ في حديثِ: ((تَعْذِيبِ المَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ))، وفي حديثِ ((قَطْعِ المَرْأَةِ والحِمَارِ والكَلْبِ الأَسْوَدِ لِلصَّلاَةِ))، وَكَثِيرٌ مِن الصحابةِ يَتَوَقَّفُونَ في بعضِ الأحاديثِ، وكلُّهُم حالُهُ حالُ عائشةَ لمَّا تَوَقَّفَتْ في حديثِ ((المَيِّتِ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ)) قالتْ: إِنَّكُمْ لَتُحَدِّثُونَ عن غيرِ كاذِبينَ ولا مُكَذَّبِينَ - تعني عُمَرَ وابنَهُ عبدَ اللهِ - ولكنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ، هي لمْ تَطَّلِعْ على خَطَأِ السَّمْعِ، ولكنَّهَا اسْتَدَلَّتْ على ذلكَ بمُعَارَضَةِ ذلكَ لنصوصٍ أُخْرَى، فابتداءً مِن الصحابةِ وحتى كِبَارِ الأَئِمَّةِ كالإمامِ أحمدَ - الذي هو مِن أَشْهَرِ مَن عُرِفَ عنهُ نَقْدُ المُتُونِ - كانتْ هذه الحالُ بالنِّسْبَةِ للنصوصِ المُتَعَارِضَةِ.
الذي يُؤَكَّدُ عليهِ هنا أَنَّ تَعَارُضَ النصوصِ لهُ صِلَةٌ بمصطلحِ الحديثِ مِن جهةِ أَنَّهُ كَاشِفٌ لِعِلَلِ الأسانيدِ، وهذا الموضوعُ فيه حساسيةٌ ودِقَّةٌ ويحتاجُ إلى تَبَصُّرٍ، فليسَ الأمرُ بالْهَيِّنِ، ويَنْبَغِي أَنْ يُلاَحَظَ فيه ما يلي:
1-أحيانًا يَكُونُ مَيْلُ الناقِدِ إلى مُحَاوَلَةِ تصحيحِ الجميعِ، فَيَتَكَلَّفُ لهذا وُجُوهًا من الجَمْعِ، وغرضُهُ نبيلٌ وهو تَبْرِئَةُ الرُّوَاةِ من الخَطَأِ، فدائِمًا نَسْمَعُ أَنَّهُ يُحْمَلُ الاختلافُ على تَعَدُّدِ القِصَّةِ، حتى إِنَّهُ في قصةِ الإسراءِ لمَّا وَرَدَتْ ألفاظٌ مختلفةٌ - كما قال ابنُ القَيِّمِ - ذَهَبَ بعضُ الأَئِمَّةِ إلى جَعْلِهِ وَقَعَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ، وهذا المَسْلَكُ فيهِ ضَعْفٌ؛ لأَنَّهُ وإنْ سَلِمَ لكَ في بعضِ الأحيانِ لكنْ في أحيانٍ أُخْرَى لا يُمْكِنُ الجمعُ، وفي مقابلِ ذلكَ يَنْبَغِي للشخصِ ألاَّ يُسْرِفَ في قضيَّةِ تَعَارُضِ الأحاديثِ وتعليلِ الأحاديثِ بهذا التعارُضِ، والمَسْلَكُ الوَسَطُ أَنْ نقولَ: نعمْ، نَسْلُكُ مَسْلَكَ تَبْرِئَةِ الرُّوَاةِ مِن الخطأِ متى كان هذا مُمْكِنًا، فإذا لم يكنْ مُمْكِنًا، وكانَ الراجحُ خلافَهُ فلا مانِعَ مِن تَخْطِئَةِ الرُّوَاةِ؛ لأنَّنَا في مقابلِ تَخْطِئَةِ الرُّوَاةِ نَحْمِي جانبَ النصوصِ، وهذا المَسْلَكُ الوَسَطُ، هو الذي يحتاجُ إلى دِقَّةٍ ونَظَرٍ وتَأَنٍّ.
2-التَّجْوِيزُ العقليُّ في الجمعِ بينَ النصوصِ لا يَنْبَغِي، ولاَ سِيَّمَا في الرَّدِّ على كلامِ الأَئِمَّةِ، مثلَ حديثِ: ((كَانَ آخِرُ الأَمْرَيْنِ مِن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّت النَّارُ))، فإنَّ هذا الحديثَ أَعَلَّهُ أبو دَاوُدَ، وأبو حاتمٍ، وابنُ حِبَّانَ، وقالوا: إنَّ هذا الحديثَ مَرَدُّهُ إلى الحديثِ المُفَصَّلِ كما تَقَدَّمَ قريبًا، ولا مَانِعَ عَقْلاً أَنْ يكونا حَدِيثَيْنِ، ومثلَهُ حديثُ: ((الخاتَمِ)) الذي تَقَدَّمَ أيضًا، فالتَّجْوِيزُ العقليُّ في دَفْعِ عِلَلِ الأحاديثِ التي يُبْدِيهَا كبارُ الأَئِمَّةِ مَنْهَجٌ غيرُ سليمٍ، بلْ يَنْبَغِي تَجَنُّبُهُ لِئَلاَّ يَقَعَ الباحثُ في جانبٍ آخَرَ أَخْطَرَ منهُ، وهو تَخْطِئَةُ الأَئِمَّةِ والرَّدُّ عليهم.
- ففي قضيَّةِ التَّعَارُضِ بينَ الأحاديثِ قد يُعَلِّلُ إمامٌ حديثًا بأَنَّهُ يُعَارِضُ حديثًا آخَرَ، فيأتي بعضُ المتأخِّرِينَ ويقولُ: بلْ هُمَا حديثانِ، أو لا مَانِعَ أَنْ يَحْدُثَ كذا وكذا، ونحنُ نقولُ: لا مَانِعَ، لكنَّ المُحَدِّثينَ يَحْكُمُونَ بالعِلَلِ أو بِتَرْجِيحِ إِحْدَى الروايتَيْنِ بقرائنَ مَبْنِيَّةٍ على غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَعِلْمُ السُّنَّةِ قائمٌ على ذلكَ.
مثالُ ذلكَ:حديثانِ ظاهِرُهُمَا التَّعَارُضُ:((إِنَّ بِلاَلاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فُكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ))، والروايةُ الأُخْرَى تقولُ: ((إنَّ ابنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فُكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ بِلاَلٌ))، الأَئِمَّةُ يُعِلُّونَ الروايةَ الثانيةَ وَيَجْعَلُونَهَا مِن المَقْلُوبِ، لكنْ لو دَخَلَ بابُ التَّجْوِيزِ العقليِّ لَقُلْنَا: إنَّ هذا يُؤَذِّنُ مَرَّةً بِلَيْلٍ.
والثانيَ:يُؤَذِّنُ كذلكَ مَرَّةً أُخْرَى، كما قال ابنُ خُزَيْمَةَ: (لَعَلَّ الأذانَ كانَ بينهما نُوَبًا) ، وجاءَ ابنُ حِبَّانَ وحَذَفَ كلمةَ (لَعَلَّ) مِن قولِ ابنِ خُزَيْمَةَ وقال: كانَ الأذانُ بينهما نُوَبًا، وهذا في العَقْلِ جائزٌ ولكنَّهُ على طريقةِ المُحَدِّثِينَ غيرُ جائزٍ؛ فإنَّهُم يَلْجَأُونَ إلى التعليلِ بِقَرَائِنَ كما تَقَدَّمَ آنِفًا.