دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > مكتبة علوم العقيدة > شرح أسماء الله الحسنى > المرتبع الأسنى

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 12 جمادى الآخرة 1431هـ/25-05-2010م, 06:36 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي البابُ الثالثُ والعشرونَ: في بيانِ مسألةِ الاسمِ والمُسَمَّى

قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى: (البابُ الثالثُ والعشرونَ: في بيانِ مَسألةِ الاسمِ والْمُسَمَّى
(اللفظُ المؤلَّفُ مِن الزايِ والياءِ والدالِ - مَثَلاً - لهُ حقيقةٌ مُتَمَيِّزَةٌ مُتَحَصِّلَةٌ فاستَحَقَّ أن يُوضَعَ لهُ لفظٌ يَدُلُّ عليهِ ؛ لأنَّهُ شيءٌ موجودٌ في اللسانِ مسموعٌ بالآذانِ؛ فاللفظُ المؤلَّفُ مِنْ هَمزةِ الوَصْلِ والسينِ والميمِ عبارةٌ عن اللفظِ المؤلَّفِ مِن الزايِ والياءِ والدالِ - مَثَلاً - واللفظُ المؤلَّفُ مِن الزايِ والياءِ والدالِ عبارةٌ عن الشخصِ الموجودِ في الأعيانِ والأذهانِ وهوَ المسمَّى والمعنَى، واللفظُ الدالُّ عليهِ الذي هوَ الزايُ والياءُ والدالُ هوَ الاسمُ. وهذا اللفظُ أيضاً قدْ صارَ مُسَمًّى مِنْ حيثُ كانَ لفظُ الهمزةِ والسينِ والميمِ عبارةً عنهُ.
فقدْ بانَ لكَ أنَّ الاسمَ في أصْلِ الوضْعِ ليسَ هوَ الْمُسَمَّى، ولهذا تقولُ: سَمَّيْتُ هذا الشخصَ بهذا الاسمِ، كما تقولُ: حَلَّيْتُهُ بهذه الحِلْيَةِ؛ والحِلْيَةُ غيرُ المُحَلَّى، فكذلكَ الاسمُ غيرُ الْمُسَمَّى.
وقدْ صَرَّحَ بذلكَ سِيبويهِ، وأَخطأَ مَنْ نَسَبَ إليهِ غيرَ هذا وادَّعَى أنَّ مَذْهَبَهُ اتِّحَادُهما، والذي غَرَّ مَن ادَّعَى ذلكَ قولُهُ: الأفعالُ أَمْثِلةٌ أُخِذَتْ مِنْ لفظِ أحداثِ الأسماءِ. وهذا لا يُعارِضُ نَصَّهُ قبلَ هذا؛ فإنَّهُ نصَّ علَى أنَّ الاسمَ غيرُ الْمُسَمَّى؛ فقالَ: الكَلِمُ: اسمٌ وفعْلٌ وحَرْفٌ. فقدْ صَرَّحَ بأنَّ الاسمَ كلمةٌ، فكيفَ تكونُ الكلمةُ هيَ المسمَّى والمسمَّى شخصٌ؟. ثُمَّ قالَ بعدَ هذا: تقولُ: سَمَّيْتُ زيداً بهذا الاسمِ كما تقولُ: علَّمْتُهُ بهذه العلامةِ. وفي كتابِهِ قريبٌ مِنْ أَلْفِ مَوْضِعٍ أنَّ الاسمَ: هوَ اللفظُ الدالُّ علَى الْمُسَمَّى، ومتَى ذُكِرَ الخَفْضُ أو النصْبُ أو التنوينُ أو اللامُ أوْ جميعُ ما يَلْحَقُ الاسمَ مِنْ زيادةٍ ونُقصانٍ وتصغيرٍ وتكسيرٍ وإعرابٍ وبِناءٍ؛ فذلكَ كلُّهُ مِنْ عَوارِضِ الاسمِ لا تَعَلُّقَ لشيءٍ مِنْ ذلكَ بالمسمَّى أَصْلاً؛ وما قالَ نَحْوِيٌّ قطُّ ولا عربيٌّ أنَّ الاسمَ هوَ المسمَّى. ويقولونَ: أَجَلٌ مُسَمًّى، ولا يقولونَ: أجَلٌ اسمٌ.
ويقولون: مسمَّى هذا الاسمِ كذا، ولا يقولُ أَحَدٌ: اسمُ هذا الاسمِ كذا.
ويقولونَ: هذا الرجلُ مسمًّى بزيدٍ، ولا يقولونَ: هذا الرجلُ اسمُ زيدٍ.
ويقولونَ: بسمِ اللهِ، ولا يقولونَ: بِمُسَمَّى اللهِ.
وقالَ رسولُ الله صَلَّى الله عليهِ وسَلَّمَ:((لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ)). ([1]) ولا يَصِحُّ أن يقالَ: لي خمسُ مُسَمَّيَاتٍ. و: ((تَسَمَّوْا بِاسْمِي)) ([2]) ولا يَصِحُّ أنْ يُقالَ: تَسَمَّوْا بِمُسَمَّيَاتِي.
وَ: ((للهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْماً)) ([3]) ولا يَصِحُّ أن يُقالَ: تسعةٌ وتِسعونَ مُسمًّى. ([4])
وإذا ظَهَرَ الفرْقُ بينَ الاسمِ والمسمَّى، فبَقِيَ هاهنا ( التسميَةُ )؛ وهيَ التي اعتبرَها مَنْ قالَ باتِّحادِ الاسمِ والمسمَّى.
والتسميَةُ عبارةٌ عنْ فعلِ المُسَمِّي ووَضْعِهِ الاسمَ للمسمَّى، كما أنَّ التحليَةَ عبارةٌ عنْ فعْلِ الْمُحَلِّي ووَضْعِهِ الْحِليَةَ علَى الْمُحَلَّى.
فهنا ثلاثُ حقائقَ:
اسمٌ، ومُسَمًّى، وتسميَةٌ؛ كحِليَةٍ ومُحَلًّى وتَحليَةٍ، وعلامةٍ ومُعَلَّمٍ وتعليمٍ.
ولا سبيلَ إلَى جَعْلِ لفظينِ منها مُترادِفَيْنِ علَى معنًى واحدٍ لتَبايُنِ حقائقِها، وإذا جَعَلْتَ الاسمَ هوَ الْمُسَمَّى بَطَلَ واحدٌ مِنْ هذهِ الحقائقِ الثلاثةِ ولا بُدَّ.
فإن قيلَ: فحُلُّوا لنا شُبَهَ مَنْ قالَ باتِّحادِهما ليَتِمَّ الدليلُ، فإنكم أَقَمْتُم الدليلَ فعليكم الجوابَ عن المعارِضِ.
● فمنها: أنَّ الله وحدَهُ هوَ الخالقُ وما سواهُ مَخلوقٌ، فلوْ كانت أسماؤُهُ غيرَهُ لكانتْ مخلوقَةً، ولَلَزِم أن لا يكونَ لهُ اسمٌ في الأَزَلِ ولا صفةٌ؛ لأنَّ أسماءَهُ صفاتٌ. وهذا هوَ السؤالُ الأعظمُ الذي قادَ مُتَكَلِّمِي الإثباتِ إلَى أن يَقولوا: الاسمُ هوَ الْمُسَمَّى. فما عندَكم في دَفْعِهِ؟.
الجوابُ: إنَّ مَنْشَأَ الغلَطِ في هذا البابِ مِنْ إطلاقِ ألفاظٍ مُجْمَلَةٍ مُحتمِلَةٍ لِمَعنيينِ: صحيحٍ وباطلٍ، فلا يَنْفَصِلُ النـزاعُ إلاَّ بتفصيلِ تلكَ المعاني وتَنـزيلِ ألفاظِها عليها.
ولا ريبَ أنَّ الله تَبارَكَ وتعالَى لم يَزَلْ ولا يزالُ مَوصوفاً بصفاتِ الكمالِ المشتَقَّةِ أسماؤُهُ منها، فلم يَزلْ بأسمائِهِ وصفاتِهِ وهوَ إلهٌ واحدٌ لهُ الأسماءُ الْحُسْنَى والصفاتُ العُلَى، وأسماؤُهُ داخلةٌ في مُسَمَّى اسمِهِ، وإنْ كانَ لا يُطْلَقُ علَى الصفةِ أنَّها إلهٌ يَخْلُقُ ويَرزُقُ، فليستْ صفاتُهُ وأسماؤُهُ غيرَهُ، وليستْ هيَ نفْسَ الإلهِ. وبلاءُ القومِ مِنْ لفظةِ الغيرِ فإنَّها يُرادُ بها مَعنيانِ:
- أحدُهما: المغايِرُ لتلكَ الذاتِ الْمُسَمَّاةِ باللهِ، وكلُّ ما غايَرَ الله مُغايَرَةً مَحْضَةً - بهذا الاعتبارِ - فلا يكونُ إلاَّ مَخلوقاً.
- ويُرادُ بهِ مُغايَرَةُ الصفةِ للذاتِ إذا خَرَجَتْ عنها.
فإذا قيلَ: عِلْمُ الله وكلامُ الله غيرُهُ؛ بمعنَى أنَّهُ غيرُ الذاتِ المُجَرَّدةِ عن العلْمِ والكلامِ، كانَ المعنَى صحيحاً، ولكنَّ الإطلاقَ باطلٌ.
وإذا أُريدَ أنَّ العلْمَ والكلامَ مغايِرٌ لحقيقتِهِ المختَصَّةِ التي امتازَ بها عنْ غيرِهِ كانَ باطلاً لفظاً ومعنًى.
وبهذا أجابَ أهلُ السنَّةِ المعتزِلةَ القائلينَ بخلْقِ القرآنِ، وقالوا: كلامُهُ تعالَى داخلٌ في مُسَمَّى اسمِهِ؛ فالله تعالَى اسمُ الذاتِ الموصوفةِ بصفاتِ الكمالِ، ومِنْ تلكَ الصِّفَاتِ صفةُ الكلامِ؛ كما أنَّ عِلْمَهُ وقُدرتَهُ وحياتَهُ وسَمْعَهُ وبَصَرَهُ غيرُ مخلوقةٍ.
وإذا كانَ القرآنُ كلامَهُ - وهوَ صفةٌ مِنْ صفاتِهِ - فهوَ مُتَضَمِّنٌ لأسمائِهِ الْحُسْنَى؛ فإذا كانَ القرآنُ غيرَ مخلوقٍ، ولا يُقالُ: إنَّهُ غيرُ اللهِ، فكيفَ يُقالُ: إنَّ بعضَ ما تَضَمَّنَهُ - وهوَ أسماؤهُ - مخلوقَةٌ وهيَ غيرُهُ؟!!.
فقدْ حَصْحَصَ الحقُّ - بحمْدِ الله - وانْحَسَمَ الإشكالُ، وأنَّ أسماءَهُ الْحُسْنَى التي في القرآنِ مِنْ كلامِهِ، وكلامُهُ غيرُ مخلوقٍ. ولا يُقالُ: هوَ غيرُهُ، ولا: هوَ هوَ.
وهذا المذهَبُ مُخالِفٌ لِمَذهَبِ المعتزِلةِ الذينَ يقولون: أسماؤُهُ تعالَى غيرُهُ وهيَ مخلوقةٌ، ولِمَذْهَبِ مَنْ رَدَّ عليهم مِمَّنْ يقولُ: اسمُهُ نفْسُ ذاتِهِ لا غيرُهُ، وبالتفصيلِ تَزولُ الشُّبَهُ ويتَبَيَّنُ الصوابُ، والحمدُ للهِ.

* * *
● حُجَّةٌ ثانيَةٌ لهم: قالوا: قالَ - تَبَارَكَ وتعالَى -: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن: 78]، و: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} [الإنسان: 25]، {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلَى:1].
وهذه الْحُجَّةُ عليهم في الحقيقةِ؛ لأنَّ النبيَّ صَلَّى الله عليهِ وسَلَّمَ امْتَثَلَ هذا الأمرَ وقالَ: (( سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى، سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ )). ولوْ كانَ الأمرُ كما زَعَمُوا لقالَ: سُبحانَ اسمِ ربِّيَ العظيمِ!!.
ثُمَّ إنَّ الأُمَّةَ كلَّهم لا يُجَوِّزُ أحدٌ منهم أنْ يقولَ: عَبَدْتُ اسمَ رَبِّي، ولا: سَجَدْتُ لاسمِ ربِّي، ولا: رَكَعْتُ لاسمِ ربِّي، ولا: ياسمَ ربِّي ارْحَمْنِي. وهذا يَدُلُّ علَى أنَّ الأشياءَ مُتَعَلِّقَةٌ بالْمُسَمَّى لا بالاسمِ.
وأمَّا الجوابُ عنْ تَعَلُّقِ الذكْرِ والتسبيحِ المأمورِ بهِ بالاسمِ فقدْ قيلَ فيهِ: إنَّ التعظيمَ والتنـزيهَ إذا وَجَبَ للمُعَظَّمِ فقدْ تَعَظَّمَ ما هوَ مِنْ سَببِهِ ومُتَعَلِّقٌ بهِ. كما يُقالُ: سلامٌ علَى الْحَضرةِ العاليَةِ، والبابِ السامي، والمجلِسِ الكريمِ، ونحوُهُ. وهذا جوابٌ غيرُ مَرْضِيٍّ لوجهينِ:
- أحدُهما: أنَّ رسولَ الله صَلَّى الله عليهِ وسَلَّمَ لم يَفْهَمْ هذا المعنَى وإِنَّمَا قالَ: ((سُبْحَانَ رَبِّيَ)) فلم يُعَرِّجْ علَى ما ذَكَرْتُمُوهُ.
- الثاني: أنَّهُ يَلْزَمُهُ أن يُطْلَقَ علَى الاسمِ التكبيرُ والتحميدُ والتهليلُ، وسائرُ ما يُطْلَقُ علَى الْمُسَمَّى؛ فيُقالُ: الحمدُ لاسمِ اللهِ، ولا إلهَ إلاَّ اسمُ اللهِ، ونحوُهُ، وهذا مما لم يَقُلْهُ أَحَدٌ!!.
بل الجوابُ الصحيحُ: أنَّ الذِّكْرَ الحقيقيَّ مَحَلُّهُ القلبُ؛ لأنَّهُ ضِدُّ النِّسيانِ، والتسبيحُ نوعٌ مِن الذكْرِ، فلوْ أُطْلِقَ الذكْرُ والتسبيحُ لَمَا فُهِمَ منهُ إلاَّ ذلكَ دونَ اللفظِ باللسانِ. والله تعالَى أَرادَ مِنْ عِبادِهِ الأمرينِ جميعاً، ولم يَقبلِ الإيمانَ وعَقْدَ الإسلامِ إلاَّ باقترانِهما واجتماعِهما.
فصارَ معنَى الآيتينِ: سَبِّحْ ربَّكَ بقَلْبِكَ ولسانِكَ، واذْكُرْ رَبَّكَ بقلبِكَ ولسانِكَ. فأَقْحَمَ الاسمَ تَنبيهاً علَى هذا المعنَى حتَّى لا يَخْلُوَ الذكْرُ والتسبيحُ مِن اللفظِ باللسانِ؛ لأنَّ ذِكْرَ القلبِ مُتَعَلِّقُهُ المسمَّى المدلولُ عليهِ بالاسمِ دونَ ما سِواهُ، والذكْرَ باللسانِ مُتَعَلِّقُهُ اللفظُ معَ مدلولِهِ؛ لأنَّ اللفظَ لا يُرادُ لنفسِهِ، فلا يَتَوَهَّمُ أحدٌ أنَّ اللفظَ هوَ المسبَّحُ دونَ ما يَدُلُّ عليهِ مِن المعنَى.
وعَبَّرَ لي شيخُنا أبو العبَّاسِ ابنُ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ الله رُوحَهُ - عنْ هذا المعنَى بعبارةٍ لطيفةٍ وَجيزةٍ فقالَ: المعنَى: سَبِّحْ ناطقاً باسمِ ربِّكَ مُتَكَلِّماً بهِ، وكذا سَبِّح اسمَ رَبِّكَ؛ المعنَى: سَبِّحْ ربَّكَ ذَاكِراً اسْمَهُ.
وهذه الفائدةُ تُساوي رحلةً لكن لِمَنْ يَعرِفُ قَدْرَها، فالحمدُ للهِ الْمَنَّانِ بفَضْلِهِ، ونَسألُهُ تَمامَ نِعْمَتِهِ.
* * *
●حُجَّةٌ ثالثةٌ لهم: قالوا: قالَ تعالَى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} [يوسف: 40] وإِنَّمَا عَبَدُوا مُسَمَّيَاتِها.
والجوابُ: أنَّهُ كما قُلتُمْ إِنَّمَا عَبَدُوا الْمُسَمَّيَاتِ، ولكن مِنْ أَجْلِ أنَّهُم نَحَلُوها أسماءً باطلةً كاللاَّتِ والعُزَّى، وهيَ مُجَرَّدُ أسماءٍ كاذبةٍ باطلةٍ لا مُسَمَّى لها في الحقيقةِ؛ فإنَّهُم سَمَّوْهَا آلهةً وعَبَدُوها لاعتقادِهم حقيقةَ الإلهيَّةِ لها، وليسَ لها مِن الإلهيَّةِ إلاَّ مُجَرَّدُ الأسماءِ لا حقيقةُ المسمَّى. فما عَبَدُوا إلاَّ أسماءً لا حقائقَ لِمُسَمَّيَاتِها. وهذا كَمَنْ سَمَّى قُشورَ البصَلِ لحماً وأَكَلَها؛ فيقالُ: ما أَكلتَ مِن اللحمِ إلاَّ اسمَهُ لا مُسَمَّاهُ، وكمَنْ سَمَّى الترابَ خُبْزاً وأَكَلَهُ؛ يُقالُ: ما أَكلتَ إلاَّ اسمَ الخبزِ. بلْ هذا النفيُ أَبلغُ في آلهتِهم، فإنَّهُ لا حقيقةَ لإلهيَّتِها بوجهٍ، وما الحكمةُ ثَمَّ إلاَّ مُجَرَّدُ الاسمِ. فتَأَمَّلْ هذهِ الفائدةَ الشريفةَ في كلامِهِ تعالَى.
فإنْ قيلَ: فما الفائدةُ في دخولِ الباءِ في قولِهِ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} [الواقعة: 74]، ولم تَدْخُلْ في قولِهِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلَى: 1]؟.
قيلَ: التسبيحُ يُرادُ بهِ:
- التنـزيهُ والذكْرُ المُجَرَّدُ دونَ معنًى آخَرَ.
- ويُرادُ بهِ ذلكَ معَ الصلاةِ، وهوَ ذِكْرٌ وتَنـزيهٌ معَ عَمَلٍ؛ ولهذا تُسَمَّى الصلاةُ تَسبيحاً.
فإذا أُريدَ التسبيحُ المُجَرَّدُ فلا معنَى للباءِ؛ لأنَّهُ لا يَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرٍّ؛ لا تقولُ: سبَّحتُ باللهِ.
وإذا أَردتَ المقرونَ بالفعلِ وهوَ الصلاةُ أَدْخَلْتَ الباءَ تَنبيهاً علَى ذلكَ المرادِ. كأنَّكَ قلتَ: سَبِّحْ مُفْتَتِحاً باسمِ ربِّكَ، أوْ ناطقاً باسمِ ربِّكَ. كما تقولُ: صَلِّ مُفتَتِحاً أوْ ناطقاً باسمِهِ.
ولهذا السرِّ - والله أعلَمُ - دَخَلَت اللامُ في قولِهِ تعالَى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[الحديد: 1]، والمرادُ التسبيحُ الذي هوَ السجودُ والخضوعُ والطاعةُ، ولم يَقُلْ في مَوضعٍ: سَبَّحَ الله ما في السَّمَاواتِ والأرضِ كما قالَ: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الرعد: 15] وتَأَمَّلْ قولَهُ تعالَى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)} [الأعراف: 206]. فكيفَ قالَ: “ وَيُسَبِّحُونَهُ “ لَمَّا ذَكَرَ السجودَ باسمِهِ الخاصِّ، فصارَ التسبيحُ ذِكْرَهم لهُ وتنـزيهَهم إيَّاهُ.
* * *
● شُبهةٌ رابعةٌ: قالوا: قدْ قالَ الشاعرُ:

إلَى الحَوْلِ ثُمَّ اسمُ السلامِ عَلَيْكُمَا ومَنْ يَبْكِ حَوْلاً كاملاً فقد اعْتَذَرْ ([5])

وكذلكَ قولُ الأَعْشَى: داعٍ يُناديهِ باسمِ الماءِ مَبْغُومُ ([6])
وهذه حُجَّةٌ عليهم لا لهم. أمَّا قولُهُ: ثُمَّ اسمُ السلامِ عليكما؛ فالسلامُ هوَ الله تعالَى، والسلامُ أيضاً التَّحِيَّةُ:
- فإنْ أرادَ الأَوَّلَ: فلا إشكالَ؛ فكأنَّهُ قالَ: ثُمَّ اسمُ السلامِ عليكما. أيْ: بَرَكَةُ اسمِهِ.
- وإن أَرادَ التحيَّةَ: فيكونُ المرادُ بالسلامِ: المعنَى المدلولَ، وباسمِهِ: لفظَهُ الدالَّ عليهِ؛ والمعنَى: ثُمَّ اسمُ هذا الْمُسَمَّى عليكما. فيُرادُ بالأوَّلِ اللفظُ، وبالثاني المعنَى؛ كما تقولُ: "زَيْدٌ بَطَّةٌ" ونحوَه، مما يُرادُ بأحدِهما اللفظُ، وبالآخَرِ المدلولُ فيهِ.
وفيهِ نُكتةٌ حَسنةٌ كأنَّهُ أرادَ: ثُمَّ هذا اللفظُ باقٍ عليكما جارٍ لا يَنقطِعُ مِنِّي , بلْ أنا مُراعيهِ دائماً.
وقدْ أَجابَ السُّهَيْلِيُّ عن البيتِ بجوابٍ آخَرَ، وهذا حكايَةُ لفظِهِ فقالَ: " لَبيدٌ لم يُرِدْ إيقاعَ التسليمِ عليهم لحينِهِ، وإِنَّمَا أرادَ بعدَ الحوْلِ، ولوْ قالَ: السلامُ عليكما، كانَ مُسَلِّماً لوقتِهِ الذي نَطَقَ فيهِ بالبيتِ؛ فكذلكَ ذكْرُ الاسمِ الذي هوَ عبارةٌ عن اللفظِ؛ أي: اللفظُ بالتسليمِ بعدَ الْحَوْلِ، وذلكَ أنَّ السلامَ دُعاءٌ فلا يَتَقَيَّدُ بالزمانِ المستقبَلِ، وإِنَّمَا هوَ لِحِينِهِ.
ألا ترَى أنَّهُ لا يُقالُ: بعدَ الْجُمُعَةِ اللَّهُمَّ ارْحَمْ زيداً، ولا: بعدَ الموتِ اللَّهمَّ اغْفِرْ لي.
إِنَّمَا يُقالُ: اللَّهمَّ اغْفِرْ لي بعدَ الموتِ، فيكونُ "بعدَ" ظرفاً للمَغفرةِ والدعاءُ واقعٌ لحينِهِ.
فإن أَردتَ أن تَجعلَ الوقتَ ظَرْفاً للدعاءِ صَرَّحْتَ بلفظِ الفعلِ فقُلتَ: بعدَ الْجُمُعَةِ أَدْعُو بكذا، أوْ أُسَلِّمُ، أوْ أَلْفِظُ بكذا؛ لأنَّ الظروفَ إِنَّمَا يُريدُ بها الأحداثَ الواقعةَ فيها خَبَراً أوْ أَمْراً أوْ نَهْياً، وأمَّا غيرُها مِن المعاني كالطلاقِ واليمينِ والدعاءِ والتمَنِّي والاستفهامِ وغيرِها مِن المعاني، فإِنَّمَا هيَ واقعةٌ لحينِ النُّطْقِ بها، وكذلكَ يَقعُ الطلاقُ مِمَّنْ قالَ: بعدَ يومِ الْجُمُعَةِ: أنتِ طالقٌ، وهوَ مُطَلِّقٌ لحينِهِ، ولوْ قالَ: بعدَ الْحَوْلِ والله لأَخْرُجَنَّ. انْعَقَدَت اليمينُ في الحالِ، ولا يَنفعُهُ أن يقولَ: أَردتُ أن لا أُوقِعَ اليمينَ إلاَّ بعدَ الْحَوْلِ. فإنَّهُ لوْ أَرادَ ذلكَ لقالَ: بعدَ الحَوْلِ أَحْلِفُ، أوْ بعدَ الْجُمُعَةِ أُطَلِّقُكِ، فأمَّا الأمْرُ والنهيُ والخبرُ، فإِنَّمَا تَقَيَّدَتْ بالظروفِ؛ لأنَّ الظروفَ في الحقيقةِ إِنَّمَا يَقَعُ فيها الفعْلُ المأمورُ بهِ والمخبَرُ بهِ دون الأمْرِ والخبرِ، فإنهما واقعانِ لحينِ النُّطْقِ بهما؛ فإذا قُلتَ: اضرِبْ زيداً يومَ الْجُمُعَةِ. فالضربُ هوَ الْمُقَيَّدُ بيومِ الْجُمُعَةِ، وأمَّا الأمرُ فأنتَ في الحالِ آمِرٌ بهِ.
وكذلكَ إذا قُلتَ: سافَرَ زيدٌ يومَ الْجُمُعَةِ؛ فالمتقيِّدُ باليومِ المخبَرُ بهِ لا الخبرُ، كما أنَّ في قولِهِ: اضْرِبْهُ يومَ الجمعةِ، المقيَّدُ بالظرْفِ المأمورُ بهِ لا أَمْرُكَ أنتَ.
فلا تَعَلُّقَ للظروفِ إلاَّ بالأحداثِ، فقدْ رَجَعَ البابُ كلُّهُ باباً واحداً؛ فلوْ أنَّ لَبيداً قالَ: إلَى الْحَوْلِ ثُمَّ السلامُ عليكما؛ لكان مُسَلِّماً لحينِهِ، ولكنه أَرادَ أنْ لا يُوقِعَ اللفظَ بالتسليمِ والوداعِ إلاَّ بعدَ الْحَوْلِ.
وكذلكَ ذَكَرَ الاسمَ الذي هوَ بمعنَى اللفظِ بالتسليمِ؛ ليكونَ ما بعدَ الْحَوْلِ ظَرفاً له "ا. هـ. وهذا الجوابُ مِنْ أَحَدِ أعاجيبِهِ وبَدائِعِهِ، رَحِمَهُ اللهُ.
وأمَّا قولُهُ: باسمِ الماءِ، والماءُ المعروفُ هنا هوَ الحقيقةُ المشروبةُ، ولهذا عَرَّفَهُ تعريفَ الحقيقةِ الذهنيَّةِ. والبيتُ لذي الرُّمَّةِ، وصَدْرُهُ:
لا ينْعَشُ الطَّرفَ إلاَّ ما تخوَّنه.
ثُمَّ قال: داعٍ يُناديهِ باسمِ الماءِ.
فظنَّ الغالِطُ أنَّهُ أَرادَ حكايَةَ صوتِ الظَّبْيَةِ، وأنَّها دَعَتْ وَلَدَها بهذا الصوتِ وهو (مَا مَا) وليسَ هذا مُرادَهُ. وإِنَّمَا الشاعرُ أَلْغَزَ لمَّا وَقَعَ الاشتراكُ بينَ لفظِ الماءِ المشروبِ وصَوْتِها بهِ؛ فصارَ صوتُها كأنَّهُ هوَ اللفظُ المعبِّرُ عن الماءِ المشروبِ؛ فكأنَّها تُصَوِّتُ باسمِ هذا الماءِ المشروبِ، وهذا لأن صوتَها: (مَا مَا) وهذا في غايَةِ الوضوحِ)([7])
).[المرتبع الأسنى: ؟؟]


([1]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (16292)، والبُخَارِيُّ في كتابِ المناقبِ / بابُ ما جاءَ في أسماءِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ (3532)، ومسلمٌ في كتابِ الفضائلِ / بابٌ في أسمائِه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ (6058،6059)، والتِّرْمِذِيُّ في كتابِ الأدبِ / بابُ ما جاءَ في أسماءِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ (2840) من حديثِ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ رضيَ اللهُ عنه.
([2]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (7330) ومواضِعُ أُخَرُ، والبُخَارِيُّ في كتـابِ العلمِ / بـابُ إثمِ مَن كَذَبَ على النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ (110)، ومسلمٌ في كتابِ الآدابِ / بابُ النهيِ عن التكنِّي بأبي القاسِمِ (5562)، وأبو داودَ في كتابِ الأدبِ / بابٌ في الرجلِ يَتَكَنَّى بأبي القاسِمِ (4955)، وابْنُ مَاجَهْ في كتابِ الأدبِ / بابُ الجمعِ بينَ اسمِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ وكُنْيَتِهِ (3735) من حديثِ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنه.
([3]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 305.
([4]) وقال - رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى - في شفاءِ العليلِ (2/ 278): (فإنْ قِيلَ: فالاسمُ عِندَكُمْ هو المُسَمَّى أو غيرُه؟ قيلَ: طَالَمَا غَلِطَ الناسُ في ذلك وجَهِلُوا الصوابَ فيه. فالاسمُ يُرادُ به المُسمَّى تارةً. ويُرادُ بهِ اللفظُ الدالُّ عليه أُخْرَى.
فإذا قُلتَ: قالَ اللهُ كذا، واستوَى اللهُ على عرشِه، وسَمِعَ اللهُ ورَأَى وخَلَقَ، فهذا المرادُ به المُسَمَّى نَفْسُه.
وإذا قُلتَ: اللهُ اسمٌ عربيٌّ، والرحمنُ اسمٌ عربيٌّ، والرحمنُ من أسماءِ اللهِ، والرحمنُ وَزْنُهُ فَعْلانُ والرحمنُ مُشتَقٌّ من الرحمةِ، ونحوُ ذلك، فالاسمُ هاهنا للمُسمَّى، ولا يقالُ: غَيْرُه، لِمَا في لفظِ الغيرِ من الإجمالِ؛ فإن أُرِيدَ بالمغايرةِ أنَّ اللفظَ غيرُ المَعنَى فحَقٌّ، وإن أُرِيدَ أنَّ اللهَ سُبحانَهُ كانَ ولا اسمَ له حتَّى خَلَقَ لنَفْسِه اسمًا، أو حتَّى سماهُ خَلْقُه بأسماءٍ من صُنعِهم، فهذا من أعظمِ الضلالِ والإلحادِ؛ فقولُه في الحديثِ: ((سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ))، ولم يَقُلْ: خَلَقْتَهُ لِنَفْسِكَ، ولا قالَ: (سمَّاكَ بهِ خَلْقُكَ) دليلٌ على أنه سُبحانَهُ تَكلَّمَ بذلك الاسمِ وسمَّى به نفسَهُ، كما سمَّى نفسَهُ في كُتُبِه التي تكلَّمَ بها حقيقةً بأسمائِه).
([5]) بيتٌ من قصيدةٍ لِلَبِيدِ بنِ رَبِيعَةَ العامِرِيِّ، مَطلَعُها:
تَمَنَّى ابْنَتَايَ أَنْ يَعِيشَ أَبُوهُمَا = وَهَلْ أَنَا إِلاَّ مِنْ رَبِيعَةَ أَوْ مُضَرْ
انظُرْ دِيوانَ لَبِيدِ بنِ رَبِيعَةَ بشَرْحِ الطُّوسِيِّ (73).
([6]) هذا عَجُزُ بيتٍ لغِيلانَ ذِي الرُّمَّةِ وليس للأعْشَى كما يُشيرُ إلى ذلك المُؤَلِّفُ ص 320، وصدرُه :
لا ينعَشُ الطَرفَ إِلاَّ مَا تَخَوَّنَهُ
وهو بيتٌ من قصيدةٍ مَطلَعُها:
أَأَنْ تَرَسَّمْتَ مِنْ خَرْقَاءَ مَنْـِزلَةً = مَاءُ الصَّبَابَةِ مِنْ عَيْنَيْكَ مَسْجُومُ
انظُرْ دِيوانَ ذي الرُّمَّةِ (391).
([7]) بَدَائِعُ الفوائدِ (1/ 16-22).


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الثالثَ, البابُ

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:05 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir