(1)- وأخبارُ الآحادِ
(الغريبُ - المشهورُ- العزيزُ) لا يَلْزَمُ أنْ تكونَ صَحيحةً أو ضَعيفةً، وإنما يَتَوَقَّفُ الأمْرُ على النظَرِ في حالِ سَنَدِها.
مسألةٌ:
الْمُتَوَاتِرُ يُفيدُ العِلْمَ، لكن اخْتَلَفَ العُلماءُ هل يُفيدُ العلْمَ الضَّرُورِيَّ، أو العلْمَ النَّظَرِيَّ؟
- العلمُ الضَّرُورِيُّ: هو العلْمُ الذي لا يَحتاجُ البَحْثَ عن أحوالِ رُوَاتِهِ، بل الأمرُ يَتَوَجَّبُ التصديقَ الجازِمَ دونَ البحْثِ عن رُواتِه، ودُونَ البَحْثِ عن سَنَدِه مُطْلَقاً.
- العلْمُ النَّظَرِيُّ: هو العلْمُ الذي يَتَوَقَّفُ على النظَرِ في حالِ السنَدِ.
ماذا يُفِيدُ خَبَرُ الآحَادِ؟
أهْلُ السنَّةِ متى صَحَّ الْحَدِيثُ عندَهم تَلَقَّوْهُ بالقَبولِ والتسليمِ.
(2)والحافِظُ ابنُ حَجَرٍ يَرَى أنَّ أحاديثَ الآحادِ قد تُفِيدُ العلْمَ النَّظَرِيَّ بالقَرائنِ.
وهذه القرائنُ أنواعٌ:
القَرينةُ الأُولَى: ما أَخْرَجَه البُخاريُّ ومسْلِمٌ في (صَحِيحَيْهِمَا) مِمَّا لم يَبْلُغْ حدَّ التواتُرِ، ويُسْتَثْنَى مِن ذلكَ الأحاديثُ التي انتُقِدَتْ مِن قِبَلِ بعضِ الْحُفَّاظِ، وبعْضِ عُلماءِ الْحَدِيثِ على البُخاريِّ ومُسْلِمٍ؛ فإذا نُحِّيَتْ هذه الأحاديثُ على قِلَّتِهَا بَقِيَت الأحاديثُ الكثيرةُ مِن (الصحيحينِ) ؛ فهذه الأحاديثُ تُفِيدُنا العلْمَ الذي تَحَصَّلَ لنا مِن خِلالِ النظَرِ، وقد احْتَفَّ بهذا الْحَدِيثِ قَرائنُ:
1-جَلاَلَتُهُمَا في هذا الشأنِ.
2-تَقَدُّمُهُمَا في تَمييزِ الصحيحِ على غَيْرِهما.
3- تَلَقِّي العُلماءِ كِتَابَيْهِمَا بالقَبولِ.
القرينةُ الثانيةُ:
أنْ يكونَ الْحَدِيثُ مَرْوِيًّا مِن طُرُقٍ كثيرةٍ،
لكنَّه لم يَبْلُغْ حَدَّ التَّوَاتُرَِ، وهو ما يُسَمَّى (الْمَشْهُورَ).
فهذه الطُّرُقُ إذا كانت صَحيحةً؛ فكُلُّ واحدةٍ منها إذا انْضَمَّتْ لأُِخْرَى؛ تَحَصَّلَ لنا مِن جَرَّاءِ ذلك علْمًٌ نَظَرِيٌّاً؛ فهذه الطُّرُقُ بِمَجموعِها كَوَّنَتْ في نفْسِ الناظِرِ فيها عِلْماً يُسَمَّى عِلْماً نَظَرِيًّا.
القرينةُ الثالثةُ:
الْحَدِيثُ الْمُسَلْسَلُ بالأئِمَّةِ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِيَن حيثُ لا يكونُ غريباً.
قولُه: (لاَ يكونُ غَرِيباً) لا مَعْنى له إلاَّ أنْ يَقْصِدَ مَرْتَبَةً وَسَطاً بينَ هذه القَرينةِ والقَرينةِ السابِقَةِ.
ويَقْصِدُ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ أنَّ الْحَدِيثَ قد لا يَصِلُ إلى دَرجةِ الشُّهْرَةِ بحيثُ يَكونُ عَزيزاً؛ فيكونُ مَرْوِيًّا مِن طريقينِ مَثَلاً، لكنْ هذانِ الطريقانِ يَرْوِيهِمَا الأَئِمَّةُ الْحُفَّاظُ.
فمَثلاً:لو وَرَدَ الْحَدِيثُ مِن طَريقينِ؛ طَريقٍ يَرْوِيهِ الإمامُ أحمدُ، عن الشافعِيِّ، عن مالِكٍ، عن نَافِعٍ، عن ابنِ عُمَرَ، وطُرُقٍ أُخْرَى يَرْوِيهَا مَثَلاً عن ابنِ عمرَ،ابنُه سالِمٌ، وعن سالِمٍ، يَرْوِيهِ عُبيدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، وعن عُبيدِ اللهِ، يَرويهِ سُفيانُ الثَّوْرِيُّ، وعن سُفيانَ الثَّوْرِيِّ، يَرويهِ وَكيعٌ؛ فالْحَدِيثُ عندَ الْحَافِظِ قد أُضِيفَتْ قَرينةًٌ إلى مُجَرَّدِ الصحَّةِ، بحيثُ يُفِيدُ الْحَدِيثُ العلْمَ النَّظَرِيَّ.
القَرينةُ الرابعةُ:
صِحَّةُ الإسنادِ؛
فإنَّ صِحَّةَ الإسنادِ تَجْعَلُنا نقولُ: إنَّ الْحَدِيثَ يُفِيدُنا العلْمَ النَّظَرِيَّ.
مسألةٌ:
فإن قيلَ:هل صحيحٌ أنَّ أبَا بكْرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللهُ تعالى عنهما لم يَكُونَا يَقْبَلاَنِ الْحَدِيثَ إلا بشَاهِدٍ؟
وأنَّ عليًّا رَضِيَ اللهُ عنه كان يَسْتَحْلِفُ عندَ سَماعِ الْحَدِيثِ مِن مُحَدِّثِهِ أنه سَمِعَه مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟
أَلَيْسَ في هذا طَعْنٌ في الصحابةِ وعَدَمُ الوُثوقِ بهم؟
فأقولُ: هذه المسألةُ تَحتاجُ إلى تَفصيلٍ قليلٍ؛ فهذه الأمورُ مِن الأَدِلَّةِ التي يَسْتَدِلُّ بها مَن لا يَرَى حُجِّيَّةَ أحاديثِ الآحادِ.
فالجوابُ بكُلِّ سُهولةٍ أنْ يُقَالَ له: أنتَ الآنَ خَلَّطْتَ في المسألةِ؛ فهَلْ إذا جاءَكَ الْحَدِيثُ مِن طَريقينِ، كما تَزْعُمُ الآنَ عن أبي بَكْرٍ وعمرَ وعن عَلِيٍّ؟
أو جاءَكَ أحَدٌ واسْتَحْلَفْتَهُ، أو وَجَدْتَ أنه حُلِّفَ فحَلَفَ على ذلك الْحَدِيثِ يَنْتَهي الأمرُ وتَقْبَلُهُ؟
فتَجِدُ أنه يَقولُ: لا؛ لأنَّ الْحَدِيثَ ما يَزالُ عندَه بتلك الصُّورةِ حديثَ آحَادٍ، لكنه كالذي يَصْطَادُ في الماءِ العَكِرِ؛ فهو يُريدُ مِن هذه الأمورِ أنْ يَطْعَنَ فقط، ولا يُريدُ أنْ يَسْتَدِلَّ بها.
فنقولُ:إمَّا أنْ تَأْخُذَ هذه الأحاديثَ برُمَّتِهَا، وإمَّا أنْ تَدَعَهَا برُمَّتِهَا؛ فهي لَيْسَتْ مِن اخْتِصَاصِكَ.
أمَّا الجوابُ عن هذه الأحاديثِ على التفصيلِ:
فنقولُ:
-حديثُ:
أبي بكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنه لم يَقْبَلْ حديثَ الْمُغِيرَةِ ابنِ شُعبةَ، في تَوريثِ الْجَدَّةِ إلاَّ بعْدَ أنْ شَهِدَ مَعه مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ الأنصاريُّ؛ فهذا الْحَدِيثُ حديثٌ ضَعيفٌ.
-وأمَّا حديثُ:عمرَ بنِ الْخَطَّابِ، الذي طَلَبَ فيه مِن أبي مُوسى الأَشْعَرِيِّ، أنْ يَأتيَهُ بشَاهِدٍ يَشهَدُ معه في حديثِ الاسْتِئْذَانِ؛ فعُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه كانَ وَالِياً، وكانَ يُريدُ أنْ يُؤَكِّدَ على الصحابةِ، وهذا مَنْهَجٌ لهم مَعروفٌ، وهو أنهم يَتَحَرَّزُونَ في رِوايةِ الْحَدِيثِ عن الرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وأيضاً هو قد تَعَجَّبَ عَجَباً تامًّا؛
إذ كيف أنه كان مُلازِماً للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وفاتَتْهُ هذه السُّنَّةُ العَمَلِيَّةُ طِيلَةَ السنواتِ ولم يَحْفَظْهَا فأَرَادَ أنْ يَتَوَثَّقَ؟!
والدليلُأنه في نِهايةِ الْحَدِيثِ قالَ لأَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عنه: (إِنِّي لَمْ أَتَّهِمْكَ وَلَكِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ).
وإذا نَظَرْنَا إلى عمرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه؛ فَنَجِدُ أنَّ هذا ليس مَنْهَجاً مَوجوداً عندَه في جميعِ الأحيانِ؛ فهو قد قَبِلَ حديثَ عبدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ فقط في الطاعونِ -وهو فَرْدٌ- ولَمْْ يَطْلُبُْ منه شاهدًا ولا بَيِّنَةًَ.
- وقَبِلَ حديثاً أيضاً في مَسألةِ ضَرْبِ الْجِزْيَةِ على الْمَجُوسِ، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ قالَ: ((سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ)) ، ولم يأتِ بهذا الْحَدِيثِ إلا عبدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ.
وهكذا في أحاديثَ كثيرةٍ فيها أنَّ
عُمرَ بنَ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، قَبِلَ أحاديثَ بعضِ الصحابةِ، ولم يَسْتَحْلِفْهم، ولم يَطْلُبْ منهم البَيِّنَةَ.
وأمَّا حديثُ:
عليِّ بنِ أبي طالِبٍ
أنه كان يَسْتَحْلِفُ؛ فهذا الْحَدِيثُ بنفْسِه حُجَّةٌ على مَن ذَكَرَه؛ لأنه قالَ: (حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَصَدَقَ أَبُو بَكرٍ)، ولم يَقُل: (اسْتَحْلَفْتُ أَبَا بَكْرٍ). في نفْسِ الْحَدِيثِ.
وأيضاً الْحَدِيثُ في حَدِّ ذاتِهِ ضَعيفٌ،
ويَدُلُّ على ضَعْفِه أنَّ عليَّ بنَ أبي طالِبٍ كان يَقْبَلُ حديثَ الواحِدِ؛ ففي حديثِ: الْمَذْيِ يقولُ: ((كُنْتُ امْرَءًا مَذَّاءً؛ فَاسْتَحْيَيْتُ أنْ أَسألَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن حُكْمِ الْمَذْيِ؛ لِمَكانِ ابْنَتِهِ مِنِّي...))إلى أنْ قالَ: ((فَأَرْسَلْتُ الْمِقْدَادَ ابنَ الأسودِ، فسأَلَهَ فأَخْبَرَه بأنْ أَغْسِلَ فَرْجِي وَأَنْضَِحَ)) إذَنْ قَبِلَ حديثَ الْمِقدادِ ابنِ الأَسْوَدِ، ولم يَسْتَحْلِفْهُ، ولم يُشَكِّكْ إطْلاَقاً في قَبولِ خَبَرِهِ.
مسألةٌ:
هل يُمْكِنُ أنْ نَقولَ: إنَّ حديثَ الآحادِ يُمْكِنُ أن لا يُفِيدَنَا إلاَّ الظنَّ؟
نَقولُ: نعمْ، يُمْكِنُ أنْ يَأْتِيَ هذا في بعْضِ الأحوالِ الْمُتَنَازَعِ فيها؛ فإذا جاءنا الْحَدِيثُ مِن طَريقٍ واحدٍ، وفي بعضِ رُواتِه كلامٌ، ولكنَّ هذا الكلامَ لا يُنْزِلُ حديثَه على دَرَجَةِ الْحَسَنِ، وهو مَن خَفَّ ضَبْطُهُ.
وكذلك:لو جَاءنا مِن طَريقينِ كِلاهما ضَعٌيفٌ، لكن ارْتَقَى إلى دَرَجَةِ الحسَنِ لغَيْرِهِ.
فهذه الطُّرُقُ الْحُكْمُ عليها بالقَبولِ عندَ فِئَةٍ مِن العُلماءِ دُونَ الْفِئَةِ الأُخْرَى؛ فهذا يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنه لا يُفيدُ إلاَّ الظنَّ.
وقد يُفيدُ الظنَّ عندَ الناظِرِ فيه الذي حَسَّنَ الْحَدِيثَ لِذَاتِهِ أو لِغَيْرِهِ.