ذكر الرواية عمن أجاز النقصان من الحديث ولم يجز الزيادة
قال أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيبُ البغدادي (ت: 463هـ): (أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق قال: أنا عثمان بن أحمد, قال: ثنا حنبل بن إسحاق, قال: ثنا محمد بن سعيد يعني ابن الأصبهاني, قال: ثنا عبد الله بن المبارك, عن سيف, عن مجاهد: قال: (انقص من الحديث ولا تزد فيه).
- أخبرنا القاضي أبو العلاء -محمد بن علي الواسطي- قال: أنا محمد بن أحمد بن محمد المفيد, ح وأخبرنا محمد بن علي الحربي قال: ثنا علي بن عمر الحضرمي قال: قال: ثنا خالد بن محمد الصفار قال: سمعت يحيى بن معين يقول: (إذا خفت أنا تخطىء في الحديث فانقص منه, ولا تزد).
ومن الحجة لمن ذهب إلى هذا المذهب: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((نضر الله: من سمع مقالتي فلم يزد فيها)). قالوا : وهذا يدل على أن النقصان منها جائز إذ لو لم يكن كذلك لذكره كما ذكر الزيادة.- أخبرنا أبو الفرج -عبد السلام بن عبد الوهاب القرشي- بأصبهان قال: أنا سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني, قال: ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي, ومحمد بن الليث الجوهري قالا: ثنا سويد بن سعيد, قال: ثنا الوليد بن محمد الموقري, قال: ثنا ثور بن يزيد, عن نافع, عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في حجة الوداع: ((نضر الله من سمع مقالتي فلم يزد فيها, فرب حامل كلمة إلى من هو أوعى لها منه)) .
وقد قال كثير ممن منع نقل الحديث على المعنى: أن رواية الحديث على النقصان, والحذف لبعض متنه غير جائزة؛ لأنها تقطع الخبر وتغيره فيؤدي ذلك إلى إبطال معناه وإحالته, وكان بعضهم لا يستجيز أن يحذف منه حرفا واحدا:-
- أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق قال: أنا إسماعيل بن علي الخطبي, وأبو علي بن الصواف, وأحمد بن جعفر بن حمدان قالوا: ثنا عبد الله بن أحمد, قال: ثنا أبي, قال: ثنا سفيان قال: سمعت عبد الملك بن عمير يقول: (والله إني لأحدث بالحديث فما أدع منه حرفا).
- وقال بعض من أجاز الرواية على المعنى: أن النقصان من الحديث جائز؛ إذا كان الراوي قد رواه مرة أخرى بتمامه, أو علم أن غيره قد رواه على التمام, ولا يجوز له أن لا يعلم ذلك ولم يفعله. وقال كثير من الناس: يجوز ذلك للراوي على كل حال ولم يفصلوا.والذي نختاره في ذلك:-
- أنه إن كان فيما حذف من الخبر معرفة حكم شرط, وأمر لا يتم التعبد, والمراد بالخبر إلا بروايته على وجهه: فإنه يجب نقله على تمامه ويحرم حذفه لأن القصد بالخبر لا يتم إلا به؛ فلا فرق بين أن يكون ذلك تركا لنقل العبادة كنقل بعض أفعال الصلاة, أو تركا لنقل فرض آخر هو الشرط في صحة العبادة, كترك نقل وجوب الطهارة ونحوها.
وعلى هذا الوجه يحمل قول من قال: لا يحل اختصار الحديث:-- أخبرنا أبو مسلم -جعفر بن باي الجيلي الفقيه- قال: ثنا أبو بكر -محمد بن إبراهيم بن علي المقري بأصبهان- قال: ثنا عبد الله بن محمد الهمذاني, قال: ثنا زكريا بن يحيى -خياط السنة- قال: ثنا إسحاق بن راهويه قال: سمعت النضر بن شميل يقول: سمعت الخليل بن أحمد يقول: لا يحل اختصار حديث النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: ((رحم الله امرأ سمع منا حديثاً, فبلغه كما سمعه))
- وأخبرنا محمد بن عيسى الهمذاني قال: ثنا صالح بن أحمد الحافظ, قال: ثنا إبراهيم بن محمد بن يعقوب, قال: ثنا زكريا بن يحيى السجزي قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال: سمعت النضر بن شميل يقول: سمعت الخليل بن أحمد يقول: لا يحل اختصار الحديث, لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رحم الله امرأ سمع مقالتي فأداها كما سمعها)). فمتى اختصر لم يفهم المبلغ معنى الحديث.
- أخبرني أبو الفضل -عبيد الله بن أحمد بن علي الصيرفي- قال: أنا عبد الرحمن بن عمر الخلال, قال: ثنا محمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة , قال: قال جدي: (كان مالك لا يرى أن يختصر الحديث إذا كان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قرأت على أحمد بن محمد بن غالب عن أبي الحسن الدارقطني قال: ثنا بن مخلد: قال سمعت عباسا الدوري يقول: سئل أبو عاصم النبيل : يكره الاختصار في الحديث؟. قال: نعم, لأنهم يخطئون المعنى.
- حدثني محمد بن الحسين قال: أنا الخصيب بن عبد الله القاضي بمصر قال: أنا أحمد بن جعفر بن حمدان الطرسوسي قال: ثنا عبد الله بن جابر البزاز, قال: ثنا جعفر بن محمد بن عيسى بن نوح, قال: ثنا محمد بن عيسى بن الطباع قال: قال لي عنبسة: قلت لابن المبارك: علمت أن حماد بن سلمة كان يريد أن يختصر الحديث, فيقلب معناه. قال: فقال لي: أو فطنت له.
فإن كان المتروك من الخبر متضمنا لعبارة أخرى, وأمرا لا تعلق له بمتضمن البعض الذي رواه ولا شرطا فيه جاز للمحدث رواية الحديث على النقصان وحذف بعضه, وقام ذلك مقام خبرين متضمنين عبارتين منفصلتين, وسيرتين وقضيتين لا تعلق لإحداهما بالأخرى, فكما يجوز لسامع الخبر الواحد القائم فيما تضمنه مقام الخبرين اللذين هذه حالهما رواية أحدهما دون الآخر, فكذلك يجوز لسامع الخبر الواحد القائم فيما تضمنه مقام الخبرين المنفصلين رواية بعضه دون بعض فلا فرق بين أن يكون قد رواه هو بتمامه, أو رواه غيره بتمامه, أولم يروه غيره ولا هو بتمامه؛ لأنه بمثابة خبرين منفصلين في أمرين لا تعلق لأحدهما بالآخر.وكذلك لا يجوز لسامع الخبر الذي يتضمن حكما متعلقا بغيره, وأمرا يلزم في حكم الدين لا يتبين المقصد منه إلا باستماع الخبر على تمامه وكماله أن يروى بعضه دون بعض؛ لأنه يدخله فساد, وإحالة لمعناه, وسد لطريق العلم بالمراد منه؛ فلا فصل في تحريم ذلك عليه بين: أن يكون قد رواه غيره مبينا أو هو مرة قبلها, أو لم يكن ذلك؛ لأنه قد يسمعه ثانيا منه إذا رواه ناقصا غير الذي سمعه تاما فلا يصل بنصه إلى معناه, وقد يسمع روايته له ناقصا من لم يسمع رواية غيره له تاما.
فلا يجوز رواية ما حل هذا المحل من الأخبار إلا على التمام والاستقصاء, اللهم إلا أن يروي الخبر بتمامه غيره, ويغلب على ظن راويه على النقصان أن من يرويه له قد سمعه من الغير تاما, وأنه يحفظه بعينه ويتذكر بروايته له البعض باقي الخبر فيجوز له ذلك, فإن شاركه في السماع غيره لم يجز.
وكذلك فإنه يجوز أن يرويه ناقصا لمن كان قد رواه له من قبل تاما إذا غلب على ظنه أنه حافظ له بتمامه وذاكر له, فأما إن خاف نسيانه والتباس الأمر عليه لم يجز أن يرويه له إلا كاملا.
وقد كان سفيان الثوري يروي الأحاديث على الاختصار لمن قد رواها له على التمام لأنه كان يعلم منهم الحفظ لها والمعرفة بها:-- أخبرنا القاضي أبو نصر- أحمد بن الحسين الدينوري- بها قال: أنا أبو بكر- أحمد بن محمد بن إسحاق السني الحافظ- قال: أنا الحسين بن محمد مأمون, قال: ثنا أبو أمية -محمد بن إبراهيم- قال: سمعت عبد العزيز بن أبان يقول: (علمنا سفيان الثوري اختصار الحديث).
وإن خاف من روى حديثا على التمام إذا أراد روايته مرة أخرى على النقصان لمن رواه له قبل تاما أن يتهمه بأنه زاد في أول مرة ما لم يكن سمعه, أو أنه نسي في الثاني باقي الحديث: لقلة ضبطه, وكثرة غلطه وجب عليهأن ينفي هذه الظنة عن نفسه؛ لأن في الناس من يعتقد في راوي الحديث كذلك: أنه ربما زاد في الحديث ما ليس منه, وأنه يغفل ويسهو عن ذكر ما هو منه, وأنه لا يؤمن أن يكون أكثر حديثه ناقصا مبتورا. فمتى ظن الراوي اتهام السامع منه بذلك, وجب عليه نفيه عن نفسه.وإن كان النقصان من الحديث شيئا لا يتغير به المعنى : كحذف بعض الحروف والالفاظ, والراوي عالم واع محصل لما يغير المعنى, وما لا يغيره من الزيادة والنقصان: فان ذلك سائغ له على قول من أجاز الرواية على المعنى دون من لم يجز ذلك). [الكفاية في علوم الرواية: ؟؟]