بابُ آدابِ قَضاءِ الحاجَةِ
مقدِّمةٌ
أَدَّبْتُهُ أَدَباً: عَلَّمْتُه رِياضةَ النفسِ ومحاسِنَ الأخلاقِ.
قالَ أبو زَيْدٍ الأنصاريُّ: الأدَبُ يَقَعُ على كلِّ رِياضةٍ محمودةٍ، يَتَخَرَّجُ بها الإنسانُ في فضيلةٍ من الفضائلِ.
وجمعُ الأدبِ آدابٌ، مِثلُ سَبَبٍ وأسبابٍ.
"قضاءُ الحاجةِ" يُكَنَّى بها عمَّا يَقْبُحُ التصريحُ بذكرِه.
وآدابُ قضاءِ الحاجةِ يَشْمَلُ أقوالاً وأفعالاً يُشْرَعُ للمسلمِ اتِّباعُها؛ مِن الابتعادِ عن الناسِ والاستتارِ عن الأنظارِ، واختيارِ المكانِ المُطْمَئِنِّ، الآمِنِ به مِن رَشاشِ البولِ، والذِّكْرِ عندَ دُخُولِ الخَلاَءِ وعندَ الخروجِ مِنه، وهيئةِ الجلوسِ، والاستعدادِ بأداةِ التطهيرِ مِن الأحجارِ ونحوِها، والماءِ، والتحاشِي من التطهُّرِ بالموادِّ النَّجِسَةِ أو العِظامِ أو الأشياءِ المحَرَّمَةِ، والابتعادِ عندَ قضاءِ الحاجةِ عن مجالِسِ الناسِ ومَرَافِقِهم العامَّةِ وتحتَ الأشجارِ المُثْمِرَةِ، أو استقبالِ القبلةِ أو اسْتِدْبَارِها، ولزومِ السكوتِ حالَ قضاءِ الحاجةِ، ثمَّ قَطْعِ الخارجِ والتطهُّرِ منه والتحرُّزِ من أنْ يُصِيبَه شيءٌ منه، وغيرِ ذلكَ مِن الآدابِ المرعيَّةِ في هذا البابِ؛ فإنَّ الشريعةَ الكريمةَ عَلَّمَتْنَا كلَّ شيءٍ، وسارَتْ معَ المسلمينَ في كلِّ أعمالِهم وتَصَرُّفَاتِهم، وللهِ الحَمْدُ.
76 - عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ. أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ، وَهُوَ مَعْلُولٌ.
درجةُ الحديثِ: الحديثُ معلولٌ.
قالَ النَّسائِيُّ: هذا حديثٌ غيرُ محفوظٍ. وقالَ أبو داودَ: مُنْكَرٌ. وقالَ المؤلِّفُ: معلولٌ؛ لانقطاعِ سَنَدِه بينَ ابنِ جُرَيْجٍ والزُّهْرِيِّ؛ حيثُ لم يَسْمَعْ مِنه. وقالَ ابنُ القَيِّمِ: إنه شاذٌّ ومُنْكَرٌ وغريبٌ.
لَكِنْ نَقَلَ ابنُ حَجَرٍ في التلخيصِ الحَبِيرِ تصحيحَه عن التِّرْمِذِيِّ وابنِ حِبَّانَ والمُنْذِرِيِّ والقُشَيْرِيِّ في الاقتراحِ، واعْتَمَدَ التصحيحَ السُّيُوطِيُّ في الجامِعِ الصغيرِ، ومالَ الحافِظُ مُغْلَطَاي إلى تَحْسِينِه، ومَن صَحَّحَهُ قالَ مُجِيباً عن العلَّةِ التي ذَكَرُوها مِن عَدَمِ سَمَاعِ ابنِ جُرَيْجٍ مِن الزُّهْرِيِّ، قالُوا: فقدْ سَمِعَه مِن زِيادِ بنِ سعدٍ عن الزُّهْرِيِّ بلفظٍ آخَرَ، فزَالَتْ عِلَّتُه، ورُوَاتُه ثِقاتٌ.
مفرداتُ الحديثِ:
- دَخَلَ: يعني أرادَ دُخُولَه؛ كقولِه تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[النحل:98] يعني: إذا أَرَدْتَ قراءةَ القرآنِ.
- الْخَلاَءَ: بفتحِ الخاءِ والمدِّ: المكانُ الخالي، ويُرادُ به المكانُ المُعَدُّ لقضاءِ الحاجةِ، فإنْ أرادَ قضاءَ حاجتِه بفضاءٍ فلا داعِيَ إلى تأويلِ الدخولِ بإرادةِ الدخولِ.
- خَاتَمَهُ: خَتَمْتُ الكتابَ خَتماً، وخَتَمْتُ عليه، مِن بابِ ضَرَبَ: طَبَعْتُ، والخاتَِمُ بفتحِ التاءِ وكسرِها، والكسرُ أشهرُ.
قالَ في المِصْبَاحِ: الخاتَمُ: حَلْقَةٌ ذاتُ فَصٍّ مِن غيرِها، فإنْ لم يَكُنْ فهي فَتْخَةٌ بفاءٍ وتاءٍ مُثَنَّاةٍ مِن فوقُ، وخاءٍ مُعْجَمَةٍ.
قالَ ابنُ كَثيرٍ: اتَّخَذَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتَماً مِن فِضَّةٍ ونُقِشَ فيه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. هكذا رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
ما يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثِ:
1- خَاتَمُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكتوبٌ عليه: مُحَمَّدٌ رسولُ اللَّهِ، فكانَ لا يَدْخُلُ فيه الخَلاءَ، ويَضَعُه خارِجَه.
2- كَرَاهَةُ دخولِ الإنسانِ الخلاءَ أو المكانَ الذي سَيَقْضِي فيه حاجَتَه ومعَه شيءٌ مكتوبٌ فيه ذِكْرُ اللَّهِ تعالى، أو أسماؤُه وصفاتُه.
3- قالَ الفُقَهَاءُ: إلاَّ إذَا كانَ دُخُولُه به لحاجةٍ؛ كخشيةِ سَرِقَتِه، أو نِسيانِه، وهذا الاستثناءُ مبنيٌّ على قاعدةِ: أنَّ الكراهةَ تَزُولُ معَ الحاجةِ.
قالَ شيخُ الإسلامِ: الدراهِمُ إذا كُتِبَ عليها: لاَ إلهَ إلاَّ اللَّهُ، وكانَتْ في مِنْدِيلٍ أو خَرِيطةٍ، يَجُوزُ أنْ يَدْخُلَ بها الخلاءَ.
4- وُجُوبُ تعظيمِ ذكرِ اللَّهِ تعالى وأسمائِه تعالى، وإبعادِها عن كلِّ ما يَمَسُّ قُدُسِيَّتَها وكرامَتَها؛ قالَ تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].
5- اقْتِصارُ الحُكْمِ على الكراهةِ؛ ذلك أنَّ مُجَرَّدَ تَرْكِ الفعلِ لا يَدُلُّ على التحريمِ.
6- إباحةُ اتِّخاذِ الخاتَمِ للرجلِ، وأنْ يَكْتُبَ عليه، ولو كانَ اسْمُه فيه اسمٌ من أسماءِ اللَّهِ تعالى؛ كعبدِ اللَّهِ وعبدِالرحمنِ.
7- أمَّا المُصْحَفُ: فيَحْرُمُ إدخالُه أو إدخالُ بعضِه المكانَ المُعَدَّ لقضاءِ الحاجَةِ، ولو كانَ ملفوفاً بحائلٍ؛ لِمَا له مِن مكانةٍ لا تُسَامَى، وقدْ جَاءَ نَعْتُه ووَصْفُه: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:77]، وإنه {قُرْآنٌ مَجِيدٌ} [البروج:21]، و {إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فُصِّلَتْ:41]، وإنه {ذِكْرٌ مُبَارَكٌ} [الأنبياء: 50] إلى غيرِ ذلكَ مِن النعُوتِ الكريمةِ.
77 - عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ قَالَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ)). أَخْرَجَهُ السَّبْعَةُ.
مفرداتُ الحديثِ:
- أَعُوذُ: يُقالُ: عُذْتُ به عَوْذاً وعِياذاً ومَعَاذاً: لَجَأْتُ إليه، والمَعَاذُ يُسَمَّى به المَصْدَرُ والمكانُ والزمانُ، ومعنى أَعُوذُ به: أَعْتَصِمُ به وأَلْتَجِئُ إليه.
- الْخُبُثِ: فيه لغتانِ: بضمِّ الباءِ، وهو: جمعُ خبيثٍ، وبسكونِ الباءِ, على الراجحِ مِن قَوْلَيْ أهلِ اللغةِ: يُرادُ به الشرُّ.
- الْخَبَائِثِ: جمعُ خَبيثةٍ، أي: أهلُ الشرِّ، وهم الشياطينُ.
قالَ ابنُ الأَعرابِيِّ: أصلُ الخُبْثِ في كلامِ العربِ: المكروهُ، فإنْ كانَ من الكلامِ فهو الشتْمُ، وإنْ كانَ من المِلَلِ فهو الكفرُ، وإنْ كانَ من الطعامِ فهو الحرامُ، وإنْ كانَ من الشرابِ فهو الضارُّ.
ما يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثِ:
1- قَوْلُه: ((إِذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ)) المرادُ: أرادَ دُخُولَه؛ كقولِه تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] يعني: إذا أَرَدْتَ قِراءَتَه، وجاءَ في الأَدَبِ المُفْرَدِ للبُخاريِّ، عن أنسٍ قالَ: كانَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أرادَ أنْ يَدْخُلَ الخَلاءَ قالَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ)).
2- هذه الاستعاذةُ لِيُحَصِّنَ بها المسلِمُ نفسَه من محاولةِ الشيطانِ إيذاءَه وتنجيسَه حتى لا تَصِحَّ عِبادَتُه، فما دامَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المؤيَّدُ بعصمةِ اللَّهِ يَخافُ من الشرِّ وأهلِه فالجديرُ بنا أنْ يكونَ خوفُنا أشدَّ.
3- أنَّ الأمكنةَ النجِسَةَ والقَذِرَةَ هي أماكنُ الشياطينِ التي تَأْوِي إليها وتُقِيمُ فيها.
4- الالتجاءُ إلى اللَّهِ تعالى والاعتصامُ به من الشياطينِ وشُرُورِهم؛ فهو المُنْجِي مِنهم والعاصِمُ من شَرِّهِم.
5- وجوبُ اجتنابِ النجاساتِ، وعَمَلِ الأسبابِ التي تَقِي منها؛ فقد صَحَّ في الأحاديثِ الشريفةِ، أنَّ مِن أسبابِ عذابِ القبرِ عَدَمَ التنَزُّهِ مِن البَوْلِ.
6- فضيلةُ هذا الدعاءِ والذكرِ في هذا المكانِ؛ فكلُّ وقتٍ ومكانٍ له ذِكْرٌ خاصٌّ، والذي يُلازِمُ عليه يكونُ مِنَ الذاكرِينَ اللَّهَ كثيراً والذاكراتِ.
7- قالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: "اللَّهُمَّ" هي مَجْمَعُ الدعاءِ، فالدعاءُ بلفظِ اللَّهُمَّ يعني: يا اللَّهُ، وهو سؤالُ اللَّهِ بجميعِ أسمائِه وصفاتِه، فهو دعاءٌ بالأسماءِ الحُسنَى والصفاتِ العُلا.
8- الاسْتِعاذةُ مُجْمَعٌ على استحبابِها، سواءٌ في البُنيانِ والصحراءِ.
9- الأَمْكِنَةُ الطيِّبَةُ كالمساجدِ يُشْرَعُ عندَها أذكارٌ وأدعِيَةٌ تُناسِبُ ما يُرْجَى فيها من رحمةِ اللَّهِ وفضلِه، والأمكنةُ الخبيثةُ كالحُشُوشِ يُناسِبُ دُخُولَها أذكارٌ بالبُعْدِ عمَّا فيها مِن خبائِثِ الجِنِّ ومَرَدَةِ الشياطينِ.
10- الأَمْكِنَةُ الطيِّبَةُ مَأْوَى الملائكةِ الكِرامِ البَرَرَةِ، والأمكنةُ الخبيثةُ مأوَى الشياطينِ؛ قالَ تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور: 26] فكلٌّ فيه ما يُناسِبُه.
11- فيه إثباتُ وجودِ الجِنِّ والشياطينِ، فإنكارُهم ضلاَلٌ وكفرٌ؛ لأنه ردٌّ لصريحِ النصوصِ الصحيحةِ، وهو نَقْصٌ في العقلِ وضِيقٌ في التفكيرِ؛ فإنَّ الإنسانَ لا يُنْكِرُ ما لم يَصِلْ إليه عِلْمُه، وإنما – إذا كانَ لا يُؤْمِنُ بالوَحْيِ – يَتَوَقَّفُ؛ فإنَّ اكتشافَ المجهولاتِ يُطالِعُنا كلَّ وقتٍ بجديدٍ؛ {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:85].
12- الأرواحُ الخبيثةُ الشرِّيرَةُ موجودةٌ مُنْتَشِرَةٌ، لا سِيَّما عندَ الأَنْفُسِ القابلةِ لها، وكذلكَ تُوجَدُ في الأماكنِ القَذِرَةِ، أو في البيوتِ التي تَكْثُرُ فيها المعاصِي وتَظْهَرُ، ويَقِلُّ فيها ذِكْرُ اللَّهِ تعالى، وطَرْدُ هذه الأرواحِ الخبيثةِ من الأجسامِ والبيوتِ لا يكونُ بالذَّهابِ إلى أصحابِ الدجَلِ ومُدَّعِي عِلْمِ الغَيْبِ، أو بتخَيُّرِ الأماكنِ ونحوِ ذلكَ، وإنما يكونُ بالأَوْرَادِ والرُّقَى الشرعيَّةِ.
13- قالَ ابنُ المُلَقِّنِ ما معناه: الظاهِرُ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يَجْهَرُ بهذا الدعاءِ في هذا المكانِ؛ فهو أَظْهَرُ مِن أنه يُخْبِرُ عن نفسِه مِن أنه كانَ يَفْعَلُه.
78 - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ الْخَلاَءَ فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلاَمٌ نَحْوِي إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وَعَنَزَةً، فَيَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
مفرداتُ الحديثِ:
- غُلاَمٌ: الغلامُ الصبيُّ مِن الوِلادةِ إلى البُلوغِ، والجَمْعُ: أَغْلِمَةٌ وغِلْمَةٌ وغِلْمَانٌ.
- نَحْوِي: أي: مُقارِبٌ لي في السنِّ.
- إِدَاوَةً: بكسرِ الهمزةِ، مفردُ أَدَاوَى، قِرْبَةٌ صغيرةٌ مِن جلدٍ تُتَّخَذُ للماءِ.
- عَنَزَةً: بفتحِ العينِ المهملةِ، وفتحِ النونِ والزايِ، جمعُه عَنَزَاتٌ، وهي عَصاً قصيرةٌ، في رأسِها حديدةٌ تُسَمَّى الزُّجَّ، والزُّجُّ هو السِّنانُ، فالعَنَزَةُ: هي رُمْحٌ قصيرٌ.
- فَيَسْتَنْجِي: الاستنجاءُ: القَطْعُ، فهو قَطْعُ الأذى عنه بالماءِ والحجارةِ؛ لأنه مأخوذٌ مِن النَّجْوِ، وهو العَذِرَةُ.
قالَ في المِصباحِ: اسْتَنْجَيْتُ: غَسَلْتُ مَوْضِعَ النَّجْوِ، أو مَسَحْتُه بحجرٍ أو مَدَرٍ.
أمَّا الاسْتِجمارُ: فهو إزالةُ النَّجْوِ بالحجارةِ وحدَها.
ما يُؤْخَذُ مِن الحديثِ:
1- أَنَسُ بنُ مالكٍ الأنصاريُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَشَرَّفَ بخدمةِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنينَ.
2- يُؤْخَذُ مِن الخلاءِ أنه كانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَتِرُ بحيثُ لا يَرَاهُ أحدٌ؛ فيَنْبَغِي لمَن أرادَ قضاءَ حاجتِه أنْ يَسْتَتِرَ عن العيونِ؛ إمَّا بالبُعْدِ أو إغلاقِ بابِ مكانِ قضاءِ الحاجةِ، أو وَضْعِ ما يَسْتُرُه من الناسِ.
3- يَدُلُّ على أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يَفْعَلُ ذلك في الفضاءِ، وليسَ في البيوتِ؛ فإنَّ العَنَزَةَ والإداوةَ المحمولةَ لا يُحْتَاجُ إليهما غالباً إلاَّ في البرِّ.
4- جوازُ الاقتصارِ في الاستنجاءِ على الماءِ.
5- الأحوالُ ثلاثةٌ في الاستنجاءِ:
(أ) أفضلُها: الجَمْعُ بينَ الحجارةِ والماءِ، بتقديمِ الحجارةِ ونحوِها، ثمَّ إِتْباعِها الماءَ؛ لِيَحْصُلَ كمالُ الإنقاءِ والتطهُّرِ.
قالَ النوويُّ: الذي عليه جماعةُ السلَفِ والخلَفِ، وأَجْمَعَ عليه أهلُ الفتوَى من أئمَّةِ الأمصارِ: أن الأفضلَ أنْ يَجْمَعَ بينَ الماءِ والحجارةِ؛ فيَسْتَعْمِلُ الحجَرَ أوَّلاً لِتَخِفَّ النجاسةُ وتَقِلَّ مباشَرَتُها بِيَدِه، ثمَّ يَسْتَعْمِلُ الماءَ، فإنْ أرادَ الاقتصارَ على أحدِهما، جازَ الاقْتِصارُ على أَيِّهِما شاءَ، سواءٌ وَجَدَ الآخَرَ أو لم يَجِدْه، فإنِ اقْتَصَرَ على أحدِهما فالماءُ أفضلُ مِن الحَجَرِ.
(ب) يَأْتِي بعدَه في الفضيلةِ: الاقتصارُ على الماءِ دونَ الحجارةِ.
(ج) هي الاقتصارُ على الحجارةِ ونحوِها، وهي مُجْزِئَةٌ، إلاَّ أنَّ الأوَّلَيْنِ أفضلُ منها.
6- استعدادُ المُسْلِمِ بطَهُورِه عندَ قضاءِ الحاجةِ؛ لئلاَّ يُحْوِجَه إلى القيامِ والتلوُّثِ بالنجاسةِ.
7- بعضُ العلماءِ كَرِهَ الاقتصارَ في الاستنجاءِ على الماءِ؛ وعِلَّةُ الكراهةِ عندَهم ملامستُه النجاسةَ، ولكنه قولٌ مرجوحٌ، وتعليلُ ذلك غيرُ صحيحٍ لما يأتي:
أَوَّلاً: أنه رَدٌّ ومُعارَضَةٌ لهذا الحديثِ الصحيحِ.
ثانياً: أنه يَحْصُلُ بالماءِ الإنقاءُ التامُّ.
ثالثاً: أنَّ مباشرةَ النجاسةِ لإزالتِها لا مَحْذُورَ فيها؛ فإنَّ هذا ليسَ استعمالاً لها، وإنما هو تَخَلُّصٌ منها، نظيرُ ذلك: إزالةُ المُحْرِمِ الطِّيبَ عنه بجامِعِ المَنْعِ مِن كلٍّ مِنهما، فإزالتُه ليسَتْ محظوراً في الإحرامِ، وإنْ بَاشَرَه.
قالَ شيخُ الإسلامِ: الصحيحُ جوازُ ملامسةِ النجاسةِ للحاجةِ، ولا يُكْرَهُ ذلكَ في أصحِّ الروايتيْنِ عن أحمدَ، وهو قولُ أكثرِ الفقهاءِ؛ إذ إنَّ الاستبراءَ مِن البوْلِ لا يكونُ إلاَّ بعدَ الإصابةِ به.
8- تَحَفُّظُه عن أَعْيُنِ الناظرينَ: وذلك بجعلِه بينَهم وبينَه حِجاباً، ولو مِن خِرْقَةٍ ونحوِها؛ فإنَّ النظَرَ إلى العَوْرَةِ بدونِ ضرورةٍ مُحَرَّمٌ.
9- جوازُ استخدامِ الأحرارِ حتى في مثلِ هذه الأشياءِ.
79 - وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خُذِ الإِدَاوَةَ)). فَانْطَلَقَ حَتَّى تَوَارَى عَنِّي، فَقَضَى حَاجَتَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
مفرداتُ الحديثِ:
- الإِدَاوَةَ: تَقَدَّمَ شَرْحُها في الحديثِ السابقِ.
- تَوَارَى عَنِّي: اسْتَتَرَ عنِّي واسْتَخْفَى.
- حَاجَتَهُ: الحاجةُ ما كانَ مُحتاجاً إليه، والحاجةُ جَمْعُها: حاجٌ، بحذفِ الهاءِ، وحاجاتٌ، وهي هنا كنايةٌ عن التبَوُّلِ والتغَوُّطِ.
ما يُؤْخَذُ مِن الحديثِ:
1- استحبابُ البُعْدِ والتوارِي عن الناسِ عندَ إرادةِ قضاءِ الحاجةِ.
2- أَمَّا سَتْرُ العورةِ عن الناسِ فواجبٌ؛ لتحريمِ كشفِها إلاَّ في مواضِعَ خاصَّةٍ.
3- استحبابُ إعدادِ إداوةِ طهارةِ الإنسانِ عندَ إرادتِه قضاءَ الحاجةِ؛ لِيَقْطَعَ الخارِجَ عنه بدونِ طَلَبِه بعدَ الفراغِ مِن قضاءِ الحاجةِ.
4- جوازُ الاقتصارِ في الاستنجاءِ على الماءِ دونَ الحجارةِ؛ فلم يَذْكُرْ في الحديثِ إلاَّ الإداوةَ، ولو كانَ هناكَ حجارةٌ لذَكَرَهَا.
5- جوازُ الاستعانةِ بغيرِه على إحضارِ أدواتِ طهارتِه وتقريبِها منه.
6- جوازُ اتِّخاذِ الخادِمِ، ولو كانَ حُرًّا.
7- حَيَاءُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكمالُ خُلُقِه، وبُعْدُه عمَّا يُسْتَحْيَا مِنه، وهو قُدْوَةٌ لكلِّ مسلمٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.