75 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((يَأْتِي أَحَدَكُمُ الشَّيْطَانُ فِي صَلاَتِهِ، فَيَنْفُخُ فِي مَقْعَدَتِهِ، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ أَحْدَثَ، وَلَمْ يُحْدِثْ، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ فَلاَ يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً أَوْ يَجِدَ رِيحاً)).
أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ.
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحْوُهُ.
وَلِلْحَاكِمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعاً: ((إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: إِنَّكَ أَحْدَثْتَ. فَلْيَقُلْ: كَذَبْتَ)).
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ كَذَلِكَ بِلَفْظِ: ((فَلْيَقُلْ فِي نَفْسِهِ)).
مُفرداتُ الحديثِ:
- يَنْفُخُ: نَفَخَ بفمِه نفخاً: أَخْرَجَ منه الرِّيحَ.
- فِي مَقْعَدَتِهِ: يُقالُ: قَعَدَ يَقْعُدُ قُعُوداً، مِن بابِ نَصَرَ، والمَقْعَدَةُ: بفتحِ الميمِ وسكونِ القافِ: السافِلَةُ مِن الشخصِ.
- يُخَيَّلُ إِلَيْهِ: يُقالُ: خَالَ يَخَالُ خَيْلاً، مِن بابِ عَلِمَ، إذا ظَنَّ وتَوَهَّمَ، وخُيِّلَ له كذا – بالبناءِ للمجهولِ – إذا تَوَهَّمَه أو ظَنَّه، وهو من أفعالِ القلوبِ، والمعنى: تَوَهَّمَ خُرُوجَ الرِّيحِ مِن مَقْعَدَتِه.
- أَحْدَثَ: مأخوذٌ مِن الحدوثِ، وهو كونُ الشيءِ لم يَكُنْ، فالحَدَثُ شرعاً: وُجُودُ ما يَنْقُضُ الطهارةَ.
- حَتَّى: للغايةِ: بمعنى (إلى)، و ((يَسْمَعَ)) منصوبٌ بـ (أَنْ) مُضْمَرَةٍ بعدَها، و ((يَجِدَ)) معطوفٌ عليه.
- صَوْتاً: رِيحاً, يعني: يَسْمَعَ صوتاً مِن الدُّبُرِ، ويَجِدَ رِيحاً مِن الدُّبُرِ.
ما يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثِ:
1- الأصلُ بقاءُ ما كانَ على ما كانَ، فإذا كانَ الإنسانُ مُتَطَهِّراً فخُيِّلَ إليه أنه أَحْدَثَ، ولكنَّه لم يَتَحَقَّقْ ذلك يَقِيناً، فالأصلُ أنه باقٍ على طهارتِه، ولا يَلْتَفِتْ إلى هذه الشكوكِ والوساوسِ.
2- أنَّ الشيطانَ يَتَكَيَّفُ ويَتَمَثَّلُ، فيَعْمَلُ الأعمالَ التي يُظَنُّ أنها حقيقةٌ، وهي في نفسِ الأمرِ ما هي إلاَّ مِن خِدَعِهِ التي يُرِيدُ أنْ يُفْسِدَ بها على المسلمِ عِبادَتَه ويُوقِعَه في شكوكٍ وأوهامٍ.
3- الواجبُ على المسلمِ أنْ يكونَ قويَّ الإرادةِ نافذَ العزيمةِ، فلا يَجِدُ الشيطانُ سبيلاً إلى تلبيسِ عبادتِه عليه، وأنْ يُجاهِدَ هذه الخيالاتِ الشيطانيَّةَ، فإذا نَفَخَ الشيطانُ في رُوعِهِ فقالَ: إنكَ أَحْدَثْتَ. فلْيَقُلْ: كَذَبْتَ.
4- الشيطانُ عدوٌّ مُبِينٌ لبَنِي آدَمَ، فمَن تَمادَى معَه أَغْوَاهُ وأَضَلَّه، فإذا لم يَسْتَطِعْ إغواءَه بالشهواتِ جاءَه من طريقِ الشُّبُهاتِ، فالواجبُ على المسلمِ مُجَاهَدَتُه وطردُه ودَحْرُه؛ قالَ تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6].
5- الرِّيحُ الخارجةُ مِن الدُّبُرِ مُبْطِلَةٌ للوضوءِ، مُفْسِدَةٌ للصلاةِ، بشرطِ التيقُّنِ من خُرُوجِها.
6- إذا كَثُرَتِ الشكوكُ معَ الإنسانِ، فإنها لا تُؤَثِّرُ، فلا يَلْتَفِتُ إليها.
7- لا أَثَرَ للشكِّ بعدَ الفراغِ من العبادةِ، فلو فَرَغَ مِن الوضوءِ وشكَّ هل تَمَضْمَضَ؟ أو فَرَغَ مِن الصلاةِ وشَكَّ هل قَرَأَ الفاتحةَ أو لم يَسْجُدْ إلا مَرَّةً واحدةً؟ فلا يَلْتَفِتْ إلى ذلكَ، والأصلُ صِحَّةُ العبادةِ.
قالَ ابنُ عبدِ القويِّ:
وَلاَ الشَّكُّ مِنْ بَعْدِ الْفَرَاغِ بِمُبْطِلٍ = يُقَاسُ عَلَى هَذَا جَمِيعُ التَّعَبُّدِ