63 - وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ, فَقَالَ: ((فِيهِ الْوُضُوءُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، واللفظُ للبُخَارِيِّ.
مفرداتُ الحديثِ:
- رَجُلاً: خبرُ كانَ، ومَذَّاءً صِفَةٌ لرجلٍ.
- مَذَّاءً: بفتحِ الميمِ وتشديدِ الذالِ المعجمةِ، ثمَّ ألفٍ ممدودةٍ، مِن صِيَغِ المبالغةِ، مِن كثرةِ المَذْيِ، والمَذْيُ بفتحِ الميمِ وسكونِ الذالِ المعجمةِ، وأيضاً: بكسرِ الذالِ وتشديدِ الياءِ، جَمْعُه: مُذًى، ومُذَايَاتٌ ومُذَى.
وقالَ في الصِّحاحِ: قالَ الأَزْهَرِيُّ: الوَدِيُّ والمَذِيُّ والمَنِيُّ مُشَدَّدَاتٌ. قالَ أبو عُبَيْدَةَ: المَنِيُّ مُشَدَّدٌ، والآخرانِ مخفَّفانِ. وهذا أشهرُ.
والمَذْيُ: ماءٌ أبيضُ لَزِجٌ رقيقٌ، يَخْرُجُ عندَ الملاعبةِ ونحوِها، وخروجُه مِن مَجْرَى البولِ مِن إفرازِ الغُدَدِ المباليةِ.
- أَنْ يَسْأَلَ: أي: بأنْ يَسْأَلَ، فـ (أَنْ) مصدريَّةٌ، أي: أَمَرْتُه بسؤالِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
- فِيهِ الْوُضُوءُ: جملةٌ اسْمِيَّةٌ؛ لأنَّ الوضوءَ مبتدأٌ مؤخَّرٌ، وقولُه: (فِيهِ) خبرٌ مقدَّمٌ.
ما يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثِ:
1- أنَّ خروجَ المَذْيِ يُوجِبُ الوضوءَ، ولا يُوجِبُ الغُسْلَ، وهو إجماعٌ.
2- في بعضِ ألفاظِ الحديثِ عندَ البُخَارِيِّ (178): "فاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". وفي لفظِ مسلمٍ (303): "لِمَكَانِ فَاطِمَةَ" فالحيَاءُ هو الذي مَنَعَ عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ من أنْ يُشَافِهَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا السؤالِ.
3- فيه قَبُولُ خبرِ الواحدِ، والعملُ به في مِثلِ هذه الأمورِ.
4- جاءَ في أحدِ ألفاظِ مسلمٍ لهذا الحديثِ: ((اغْسِلْ ذَكَرَكَ وتَوَضَّأْ)). ووَرَدَ في بعضِ ألفاظِه أيضاً: ((وَاغْسِلِ الأُنْثَيَيْنِ)). فقدْ دَلَّتْ هاتانِ الروايتانِ على وجوبِ غَسْلِ الذَّكَرِ والأُنْثَيَيْنِ والوضوءِ بعدَ ذلكَ؛ لأنَّ المَذْيَ مَخْرَجُه مخرجُ البولِ؛ ولِمَا سيأتي مِن روايةِ أبي داودَ في الفِقْرَةِ السابعةِ.
5- الأمرُ بغَسْلِ الذَّكَرِ والأُنْثَيَيْنِ دليلٌ على نجاسةِ المَذْيِ، ولكن بعضُ العلماءِ قالَ: يُعْفَى عن يَسيرِه؛ لمشقَّةِ التحرُّزِ منه.
6- أنه لا يَكْفِي في الطهارةِ من المَذْيِ الاستجمارُ، بل لا بُدَّ مِن الماءِ، وذلك – واللَّهُ أعلَمُ - لأنه ليسَ من الخارجِ المعتادِ كالبولِ.
7- ذَهَبَ الحنابِلَةُ وبعضُ المالِكِيَّةِ: إلى وُجُوبِ غَسْلِ الذَّكَرِ كلِّه والأُنْثَيَيْنِ مِن خُروجِ المَذْيِ؛ مستدلِّينَ بهذا الحديثِ ورواياتِه الثابتةِ؛ فقد صَرَّحَتْ بغسلِ الذكَرِ، وهو حقيقةً يُطْلَقُ عليه، ولِمَا جاءَ في رِوايةِ أبي داودَ (208) فقالَ: ((يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ وَيَتَوَضَّأُ)).
64 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَضَعَّفَهُ البُخَارِيُّ.
درجةُ الحديثِ: الحديثُ ضعيفٌ، ومنهم مَن قَوَّاه وصَحَّحَهُ. قالَ ابنُ حَجَرٍ في التلخيصِ: الحديثُ معلولٌ، ذَكَرَ عِلَّتَه أبو داودَ والترمذيُّ والنَّسائيُّ والدَّارَقُطْنِيُّ والبَيْهَقِيُّ، وابنُ حَزْمٍ. وقالَ: لا يَصِحُّ في هذا البابِ شيءٌ.
قالَ التِّرْمِذِيُّ: سَمِعْتُ البُخَارِيَّ يُضَعِّفُ هذا الحديثَ. وأبو داودَ أَخْرَجَهُ من طَريقِ إبراهيمَ التَّيْمِيِّ، عن عائشةَ، ولم يَسْمَعْ منها شيئاً؛ فهو مُرْسَلٌ.
وقالَ المُصنِّفُ: رُوِيَ من عَشَرَةِ أَوْجُهٍ عن عائشةَ، أَوْرَدَها البَيْهَقِيُّ في الخلافيَّاتِ وضَعَّفَها. وقوَّى الحديثَ جماعةٌ مِن الأئمَّةِ؛ منهم: عبدُ الحقِّ وقالَ: لا أعلَمُ له عِلَّةً. وقالَ الزَّيْلَعِيُّ: سَنَدُه جيِّدٌ. وصَحَّحَهُ أحمدُ شاكرٌ والأَلْبَانِيُّ.
مفرداتُ الحديثِ:
- قَبَّلَ: تقبيلاً، والاسمُ: القُبْلَةُ، جمعُها قُبَلٌ، مِثْلُ غُرْفَةٍ وغُرَفٍ، والقُبْلَةُ هنا: اللَّثْمَةُ على الفَمِ.
- بَعْضَ نِسَائِهِ: هي عائشةُ راويةُ الحديثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؛ فقدْ أَخْرَجَ إسحاقُ في مُسْنَدِه (2/172) عن عُرْوَةَ، عن عائشةَ، أن رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَها وقالَ: ((إِنَّ الْقُبْلَةَ لاَ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ)).
ما يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثِ:
1- ظاهرُ الحديثِ يَدُلُّ على أنَّ تَقْبِيلَ المرأةِ ولَمْسَها لا يَنْقُضُ الوضوءَ، وهو الأصلُ، والحديثُ مُقَرِّرٌ لهذا الأصلِ مِن عَدَمِ الوجوبِ.
2- لكنَّ الحديثَ معارَضٌ بالآيةِ الكريمةِ: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} واللَّمْسُ الحقيقيُّ في اليدِ، وإذا وُجِدَ احتمالُ إرادةِ الجماعِ فقِرَاءَةُ: (أَوْ لَمَسْتُمُ) ظاهرةٌ في مجرَّدِ لمْسِ اليدِ، والأصلُ اتِّفاقُ معنى القراءتيْنِ.
3- الأَفْضَلُ هو حملُ هذا الحديثِ على تقبيلٍ لم يُصَاحِبْه شهوةٌ، وإنما هو تقبيلُ مودَّةٍ ورحمةٍ، وهذا النوعُ مِن اللمسِ قد تَقَرَّرَ عدمُ نَقْضِه للوضوءِ؛ لِمَا جاءَ أنَّ عائشةَ نامَتْ مُعْتَرِضَةً في مُصَلَّى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا أَرَادَ أنْ يَسْجُدَ غَمَزَهَا في الظلامِ لِتَكُفَّ رِجْلَيْهَا. رَوَاهُ البُخَارِيُّ (375)، ومسلمٌ (512)، واللمسُ ذاتُه ليسَ ناقضاً، ولكنَّه مَظِنَّةُ خُرُوجِ ناقضٍ، فيَبْقَى اللمسُ المعتادُ المجرَّدُ عن الشهوةِ على أصلِ عدمِ النقْضِ.
4- على فرضِ صِحَّتِه حُمِلَ الحديثُ على ما تَقَدَّمَ، وإلاَّ فهو ضعيفٌ؛ فالبُخَارِيُّ يُضَعِّفُه، وذَكَرَ أصحابُ السننِ أنَّ له علَّةً، وقالَ ابنُ حَزْمٍ: لا يَصِحُّ في هذا البابِ شيءٌ. وقالَ ابنُ حَجَرٍ: الحديثُ معلولٌ.
خلافُ العلماءِ:
اخْتَلَفَ العلماءُ في اللَّمْسِ، هل يَنْقُضُ الوضوءَ أم لا؟
ذَهَبَ الحنفيَّةُ: إلى عَدَمِ النقْضِ باللَّمْسِ مُطْلَقاً، ومِن أدِلَّتِهِم حديثُ البابِ، وحديثُ اعتراضِ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا في مُصَلَّى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغَمْزِهِ لها واسْتِمْرَارِه في الصلاةِ.
وذَهَبَ مالكٌ: إلى انْتِقاضِ الوضوءِ بلمسِ المُتَوَضِّئِ البالغِ بلَذَّةٍ لشخصٍ يَلْتَذُّ به عادَةً.
وذَهَبَ الإمامُ الشافعيُّ: إلى أنَّ مُجَرَّدَ لمسِ الرجلِ المرأةَ أو المرأةِ الرجلَ أنه ناقضٌ للوضوءِ، بشرطِ عَدَمِ المَحْرَمِيَّةِ بينَهما، فلا يَنْتَقِضُ بلَمْسِ المَحْرَمِ على الصحيحِ عندَهم.
أما المشهورُ مِن مذهبِ أحمدَ: فإنَّ النقضَ لا يكونُ إلاَّ مِن مسٍّ بشهوةٍ بلا حائلٍ، وهذا هو الراجحُ؛ ذلك أن مَظِنَّةَ خُرُوجِ المَذْيِ إنما يكونُ مِن لمْسٍ مصاحِبٍ للشهوَةِ.