62 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاَةَ؟ قَالَ: ((لاَ، إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلاَةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وللبُخَارِيِّ: ((ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلاَةٍ)). وَأَشَارَ مُسْلِمٌ إِلَى أَنَّهُ حَذَفَهَا عَمْداً.
مفرداتُ الحديثِ:
- أُسْتَحَاضُ: مِن الاستحاضةِ، وهي سَيَلانُ الدمِ في غيرِ أوقاتِه المعتادةِ؛ من مرضٍ وفسادٍ، فيَخْرُجُ الدمُ مِن عِرْقٍ فَمُه في أدنَى الرَّحِمِ يُسَمَّى العِرْقَ العاذِلَ، وسيأتي بيانُه بأتَمَّ من هذا في بابِ الحيْضِ إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى.
- أَفَأَدَعُ الصَّلاَةَ: الهمزةُ للاستفهامِ الاستخبارِيِّ، والفاءُ للتعقِيبِ، وبعدَها فعلٌ مضارِعٌ للمُتَكَلِّمِ.
- أَفَأَدَعُ: وَدَعْتُهُ أَدَعُهُ وَدْعاً، أي: تَرَكْتُه، وأصلُ المضارِعِ الكَسْرُ، ومِن ثَمَّ حُذِفَتِ الواوُ؛ ثمَّ فُتِحَ لأجلِ حرفِ الحلقِ. قالَ النُّحاةُ: إن العربَ أماتَتْ ماضيَ (يَدَعُ) ومصدرَه واسمَ فاعلِه فلا تُوجَدُ.
- لاَ: تأتي على ثلاثةِ أَوْجُهٍ: أحدُها: أنْ تكونَ جواباً مناقِضاً لـ (نَعَمْ) وهي المرادةُ هنا.
- ذَلِكِ: بكسرِ الكافِ: خِطابٌ للمرأةِ السائلةِ، و (ذا) إشارةٌ إلى الدمِ الخارجِ منها.
- عِرْقٌ: بكسرِ العينِ المهملةِ وسكونِ الراءِ، آخِرَه قافٌ. قالَ في الفتحِ: إن هذا العِرْقَ يُسَمَّى العاذِلَ، وقالَ في القاموسِ: يُسَمَّى العاذِرَ، أي: إنَّ دَمَكِ بسببِ انفجارٍ مِن عِرْقٍ.
- فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ: بفتحِ الحاءِ، ويجوزُ كسرُها, المرادُ بالإقبالِ: حصولُ وقتِها وابتداءُ خُرُوجِ دمِ الحيْضِ أيامَ عادَتِها.
- وَإِذَا أَدْبَرَتْ: هو وقتُ انقطاعِ الدمِ عنها عندَ انتهاءِ أيامِ عادَتِها.
ما يُؤْخَذُ مِنَ الحَدِيثِ:
1- أنَّ الخارِجَ مِن السبيليْنِ ناقضٌ للوضوءِ، ومنه خروجُ الدمِ، وهو إجماعُ العلماءِ.
2- أنَّ دمَ الاستحاضَةِ ليسَ حَيْضاً، وإنما هو دمٌ له أسبابُه وخصائِصُه وأحكامُه: فسَبَبُه: انفتاحُ عِرقِ العاذِلِ، فهو مرضٌ يَسْتَدْعِي البحثَ عن سببِه وعلاجَه؛ ولذا يَنْظُرُ الأطبَّاءُ بقَلَقٍ بالغٍ إلى خروجِ الدمِ في غيرِ وقتِ الحَيْضِ؛ لأنها تَدُلُّ على وُجُودِ مرضٍ؛ إما بجسمِ المرأةِ وغُدَدِها أو بجهازِها التَّنَاسُلِيِّ.
أمَّا دَمُ الحيْضِ: فيَخْرُجُ مِن قَعْرِ رَحِمِ المرأةِ.
فأَخْبَرَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باختلافِ المخرجيْنِ، وهو ردٌّ وتوجيهٌ لقولِها: (فَلا أَطْهُرُ)، فأبانَ لها أنها طاهرةٌ تَلْزَمُها الصلاةُ.
3- أما خصائصُ دمِ الاستحاضةِ، فقالَ الأطبَّاءُ: إنه دمٌ أحمرُ مُشْرِقٌ خفيفٌ، ليس ذا رائِحَةٍ، بينَما دمُ الحَيْضِ: أسودُ ثَخِينٌ، له رائحةٌ مُنْتِنَةٌ.
4- أمَّا أحكامُ دمِ الاستحاضةِ: فإنه لا يَمْنَعُ شيئاً من العباداتِ ولا الأمورِ التي يَتَوَقَّفُ فِعْلُها على طهارةِ المرأةِ مِن الحيضِ، فالمستحاضةُ تُعْتَبَرُ في حُكْمِ الطاهرةِ.
5- لم يُرَخِّصْ لها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تركِ الصلاةِ، وإنما نَهَاهَا عن تَرْكِها.
6- أَمَرَها عليه الصلاةُ والسلامُ أنْ تُمَيِّزَ بينَ دمِ حَيْضِها ودَمِ اسْتحاضَتِها؛ وذلك بأنْ تَجْلِسَ فلا تُصَلِّيَ أيَّامَ عادَتِها؛ لأنَّ العادةَ أقوَى من سائرِ الأدلَّةِ على تمييزِ دمِ الحيضِ مِن دمِ الاستحاضةِ، فإنْ لم تَعْلَمْ عادَتَهَا، عَمِلَتْ بالتمييزِ بينَ الدَّمَيْنِ؛ فدَمُ الحَيْضِ أسودُ ثَخِينٌ مُنْتِنٌ، ودَمُ الاسْتِحَاضَةِ خلافُ ذلكَ.
7- وُجُوبُ غَسْلِ دَمِ الحَيْضِ للصلاةِ؛ لأنه نَجِسٌ والطهارةُ مِن النجاسةِ شرطٌ لصحَّةِ الصلاةِ.
8- أَنَّ على المُسْتَحَاضَةِ أنْ تَتَوَضَّأَ لكلِّ صلاةٍ، ومِثْلُها كلُّ مَن به حَدَثٌ دائِمٌ مِن سَلَسِ بَوْلٍ أو جُرْحٍ لا يَرْقَى دَمُهُ، أو اسْتِمْرَارِ خُرُوجِ الريحِ.
9- نَهْيُ الحائضِ عن الصلاةِ، وتحريمُ ذلك عليها، وفسادُها منها، وهو إجماعُ العلماءِ.
10- أنَّ الحائِضَ لا تَقْضِي الصلاةَ بعدَ طُهْرِها؛ وذلك أخذاً مِن عَدَمِ أمرِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها بذلكَ في هذا الحديثِ؛ فإنَّ تأخيرَ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ لا يَجُوزُ.
11- الحديثُ دليلٌ على قَبُولِ قولِ المرأةِ في أحوالِها مِن الحملِ والحيضِ والعِدَّةِ وانْقِضَائِها ونحوِ ذلكَ.
12- أنَّ المستحاضَةَ تُصَلِّي، ولو معَ جَرَيَانِ الدمِ؛ لأنها تُعْتَبَرُ من الطاهراتِ مِن الحَيْضِ.
13- وَرَدَ في بعضِ طُرُقِ هذا الحديثِ عندَ البُخَارِيِّ: ((وَاغْتَسِلِي)) والمرادُ به الاغتسالُ مِن الحَيْضِ إذا أَدْبَرَتْ أيامُ حَيْضِها، لا أنه أَمْرٌ بالاغتسالِ لكلِّ صلاةٍ.
14- قولُه: ((ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلاَةٍ)). زيادةٌ رَوَاهَا البُخَارِيُّ وحَذَفَها مسلمٌ عمداً؛ لاعْتِقادِهِ أنها زيادةٌ غيرُ محفوظةٍ، وإنما تَفَرَّدَ بها بعضُ الرواةِ.
لكن قالَ الحافظُ في فتحِ الباري: إنها زيادةٌ ثابتةٌ مِن طُرُقٍ يَنْتَفِي معَها تَفَرُّدُ مَن ذَكَرَهم مسلمٌ.
15- المُؤَلِّفُ أَوْرَدَ هذا الحديثَ في بابِ نواقضِ الوضوءِ؛ لأجلِ هذه الزيادةِ: ((ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلاَةٍ)). وإلاَّ فمناسبةُ الحديثِ أنْ يُذْكَرَ في بابِ الحَيْضِ، وقد أعادَهُ هناكَ. واللَّهُ أعلَمُ.
16- جوازُ سماعِ الرجلِ الأجنبيِّ صوتَ المرأةِ عندَ الحاجةِ، إذا لم تُلَيِّنْه وتُخْضِعْه.
17- الأمرُ بإزالةِ النجاسةِ.
18- فيه أن الدمَ نَجِسٌ، وهو إجماعٌ إلاَّ خلافاً شاذًّا.
19- أنَّ الصلاةَ تَجِبُ بمُجَرَّدِ انقطاعِ دَمِ الحَيْضِ.
20- أنَّ الصلاةَ تَصِحُّ حتى في حالِ جَرَيَانِ الدمِ الذي لا يَنْقَطِعُ.