دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > مكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم > مقدمات المفسرين > مقدمة تفسير ابن عاشور

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 11 جمادى الأولى 1431هـ/24-04-2010م, 09:04 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي المقدمة الثامنة: في اسم القرآن وآياته وسوره وترتيبها وأسمائها


المقدمة الثامنة
في اسم القرآن وآياته وسوره وترتيبها وأسمائها

هذا غرض له مزيد اتصال بالقرآن. وله اتصال متين بالتفسير؛ لأن ما يتحقق فيه ينتفع به في مواضع كثيرة من فواتح السور، ومناسبة بعضها لبعض فيغني المفسر عن إعادته.
معلوم لك أن موضوع علم التفسير هو القرآن لتبيان معانيه وما يشتمل عليه من إرشاد وهدى وآداب وإصلاح حال الأمة في جماعتها وفي معاملتها مع الأمم التي تخالطها: بفهم دلالته اللغوية والبلاغية. فالقرآن هو الكلام الذي أوحاه الله تعالى كلاما عربيا إلى محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل على أن يبلغه الرسول إلى الأمة باللفظ الذي أوحي به إليه للعمل به ولقراءة ما يتيسر لهم أن يقرأوه منه في صلواتهم وجعل قراءته عبادة.
وجعله كذلك آية على صدق الرسول في دعواه الرسالة عن الله إلى الخلق كافة بأن تحدى منكريه والمترددين فيه من العرب وهم المخاطبون به الأولون بأنهم لا يستطيعون معارضته، ودعاهم إليها فلم يفعلوا. دعاهم أول الأمر إلى الإتيان بعشر سور مثله فقال: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} سورة هود. ثم استنزلهم إلى أهون من ذلك عليهم فقال: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه} سورة يونس ثم جاء بأصرح من ذلك وأنذرهم بأنهم ليسوا بآتين بذلك فقال في سورة البقرة: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار} الآية. وقال: {ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين} {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} سورة العنكبوت وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: ((ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة)) وفي هذا الحديث معان جليلة ليس هذا مقام بيانها وقد شرحتها في تعليقي على صحيح البخاري المسمى "النظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح".
فالقرآن اسم للكلام الموحى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جملة المكتوب في المصاحف المشتمل على مائة وأربع عشرة سورة، أولاها الفاتحة وأخراها سورة الناس. صار هذا الاسم علما على هذا الوحي. وهو على وزن فعلان وهي زنة وردت في أسماء المصادر مثل غفران، وشكران وبهتان، ووردت زيادة النون في أسماء أعلام مثل عثمان وحسان وعدنان، واسم قرآن صالح للاعتبارين لأنه مشتق من القراءة لأن أول ما بدئ به الرسول من الوحي {اقرأ باسم ربك} الآية. وقال تعالى: {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا} فهمزة قرآن أصلية ووزنه فعلان ولذلك اتفق أكثر القراء على قراءة لفظ قرآن مهموزا حيثما وقع في التنزيل ولم يخالفهم إلا ابن كثير قرأه بفتح الراء بعدها ألف على لغة تخفيف المهموز وهي لغة حجازية، والأصل توافق القراءات في مدلول اللفظ المختلف في قراءته. وقيل هو قرآن بوزن فعال، من القرن بين الأشياء أي الجمع بينها لأنه قرنت سوره بعضها ببعض وكذلك آياته وحروفه وسمي كتاب الله قرآنا كما سمي الإنجيل الأنجيل، وليس مأخوذا من قرأت، ولهذا يهمز قرأت ولا يهمز القرآن فتكون قراءة ابن كثير جارية على أنه اسم آخر لكتاب الله على هذا الوجه. ومن الناس من زعم أن قران جمع قرينة أي اسم جمع، إذ لا يجمع مثل قرينة على وزن فعال في التكثير فإن الجموع الواردة على وزن فعال محصورة ليس هذا منها، والقرينة العلامة، قالوا لأن آياته يصدق بعضها بعضا فهي قرائن على الصدق.
فاسم القرآن هو الاسم الذي جعل علما على الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يسبق أن أطلق على غيره قبله، وهو أشهر أسمائه وأكثرها ورودا في آياته وأشهرها دورانا على ألسنة السلف.
وله أسماء أخرى هي في الأصل أوصاف أو أجناس أنهاها في الإتقان إلى نيف وعشرين. والذي اشتهر إطلاقه عليه منها ستة: التنزيل، والكتاب، والفرقان، والذكر، والوحي، وكلام الله.
فأما الفرقان فهو في الأصل اسم لما يفرق به بين الحق والباطل وهو مصدر، وقد وصف يوم بدر بيوم الفرقان وأطلق على القرآن في قوله تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} وقد جعل هذا الاسم علما على القرآن بالغلبة مثل التوراة على الكتاب الذي جاء به موسى والإنجيل على الوحي الذي أنزل على عيسى قال تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات} إلى قوله: {وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان} فوصفه أولا بالكتاب وهو اسم الجنس العام ثم عبر عنه باسم الفرقان عقب ذكر التوراة والإنجيل وهما علمان ليعلم أن الفرقان علم على الكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
ووجه تسميته الفرقان أنه امتاز عن بقية الكتب السماوية بكثرة ما فيه من بيان التفرقة بين الحق والباطل، فإن القرآن يعضد هديه بالدلائل والأمثال ونحوها، وحسبك ما اشتمل عليه من بيان التوحيد وصفات الله مما لا تجد مثله في التوراة والإنجيل كقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} وأذكر لك مثالا يكون تبصرة لك في معنى كون القرآن فرقانا وذلك أنه حكى صفة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الواردة في التوراة والإنجيل بقوله: {والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} الآيات من سورة محمد[1] فلما وصفهم القرآن قال: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} الآية آل عمران فجمع في هاته الجملة جميع أوصاف الكمال.
وأما إن افتقدت ناحية آيات أحكامه فإنك تجدها مبرأة من اللبس وبعيدة عن تطرق الشبهة، وحسبك قوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} فإنك لا تجد في التوراة جملة تفيد هذا المعنى بله ما في الإنجيل. وهذا من مقتضيات كون القرآن مهيمنا على الكتب السالفة في قوله تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} وسيأتي بيان هذا في أول آل عمران.
وأما التنزيل فهو مصدر نزل، أطلق على المنزل باعتبار أن ألفاظ القرآن أنزلت من السماء قال تعالى: {تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون} وقال: { تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين} وأما الكتاب فأصله اسم جنس مطلق ومعهود. وباعتبار عهده أطلق على القرآن كثيرا قال تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه} وقال: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب} وإنما سمي كتابا لأن الله جعله جامعا للشريعة فأشبه التوراة لأنها كانت مكتوبة في زمن الرسول المرسل بها، وأشبه الإنجيل الذي لم يكتب في زمن الرسول الذي أرسل به ولكنه كتبه بعض أصحابه وأصحابهم، ولأن الله أمر رسوله أن يكتب كل ما أنزل عليه منه ليكون حجة على الذين يدخلون في الإسلام ولم يتلقوه بحفظ قلوبهم. وفي هذه التسمية معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم بأن ما أوحي إليه سيكتب في المصاحف قال تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها} وقال {وهذا كتاب[2] مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون}.
وغير ذلك، ولذلك اتخذ النبيء صلى الله عليه وسلم من أصحابه كتابا يكتبون ما أنزل إليه؛ من أول ما ابتدئ نزوله، ومن أولهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان. وقد وجد جميع ما حفظه المسلمون في قلوبهم على قدر ما وجدوه مكتوبا يوم أمر أبو بكر بكتابة المصحف.
وأما الذكر فقال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} أي لتبينه للناس، وذلك أنه تذكير بما يجب على الناس اعتقاده والعمل به.
وأما الوحي فقال تعالى: {قل إنما أنذركم بالوحي} ووجه هذه التسمية أنه ألقي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة الملك وذلك الإلقاء يسمى وحيا لأنه يترجم عن مراد الله تعالى فهو كالكلام المترجم عن مراد الإنسان، ولأنه لم يكن تأليف تراكيبه من فعل البشر.
وأما كلام الله فقال تعالى {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله}.
واعلم أن أبا بكر رضي الله عنه لما أمر بجمع القرآن وكتابته كتبوه على الورق فقال للصحابة: التمسوا اسما، فقال بعضهم سموه إنجيلا فكرهوا ذلك من أجل النصارى، وقال بعضهم سموه السفر فكرهوه من أجل أن اليهود يسمون التوراة السفر. فقال عبد الله ابن مسعود: رأيت بالحبشة كتابا يدعونه المصحف فسموه مصحفا يعني أنه رأى كتابا غير الإنجيل.
آيات القرآن
الآية: هي مقدار من القرآن مركب ولو تقديرا أو إلحاقا، فقولي ولو تقديرا لإدخال قوله تعالى: {مدهامتان} إذ التقدير هما مدهامتان، ونحو {والفجر} إذ التقدير أقسم بالفجر. وقولي أو إلحاقا: لإدخال بعض فواتح السور من الحروف المقطعة فقد عد أكثرها في المصاحف آيات ما عدا: آلر، وآلمر، وطس، وذلك أمر توقيفي وسنة متبعة ولا يظهر فرق بينها وبين غيرها. وتسمية هذه الأجزاء آيات هو من مبتكرات القرآن، قال تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات} وقال: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت}. وإنما سميت آية لأنها دليل على أنها موحى بها من عند الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنها تشتمل على ما هو من الحد الأعلى في بلاغة نظم الكلام، ولأنها لوقوعها مع غيرها من الآيات جعلت دليلا على أن القرآن منزل من عند الله وليس من تأليف البشر إذ قد تحدى النبيء به أهل الفصاحة والبلاغة من أهل اللسان العربي فعجزوا عن تأليف مثل سورة من سوره. فلذا لا يحق لجمل التوراة والإنجيل أن تسمى آيات إذ ليست فيها هذه الخصوصية في اللغة العبرانية والآرامية. وأما ما ورد في حديث رجم اليهوديين اللذين زنيا من قول الراوي فوضع الذي نشر التوراة يده على آية الرجم فذلك تعبير غلب على لسان الراوي على وجه المشاكلة التقديرية تشبيها بجمل القرآن، إذ لم يجد لها اسما يعبر به عنها.
وتحديد مقادير الآيات مروي عن النبيء صلى الله عليه وسلم وقد تختلف الرواية في بعض الآيات وهو محمول على التخيير في حد تلك الآيات التي تختلف فيها الرواية في تعيين منتهاها ومبتدأ ما بعدها. فكان أصحاب النبيء صلى الله عليه وسلم على علم من تحديد الآيات. قلت وفي الحديث الصحيح أن فاتحة الكتاب السبع المثاني أي السبع الآيات. وفي الحديث ((من قرأ العشر الخواتم من آخر آل عمران)) الحديث. وهي الآيات التي أولها {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} إلى آخر السورة.
وكان المسلمون في عصر النبؤة وما بعده يقدرون تارة بعض الأوقات بمقدار ما يقرأ القارئ عددا من الآيات كما ورد في حديث سحور النبيء صلى الله عليه وسلم أنه كان بينه وبين طلوع الفجر مقدار ما يقرأ القارئ خمسين آية.
قال أبو بكر ابن العربي وتحديد الآية من معضلات القرآن، فمن آياته طويل وقصير، ومنه ما ينقطع ومنه ما ينتهي إلى تمام الكلام، وقال الزمخشري الآيات علم توقيفي.
وأنا أقول لا يبعد أن يكون تعيين مقدار الآية تبعا لانتهاء نزولها وأمارته وقوع الفاصلة.
والذي استخلصته أن الفواصل هي الكلمات التي تتماثل في أواخر حروفها أو تتقارب، مع تماثل أو تقارب صيغ النطق بها وتكرر في السورة تكررا يؤذن بأن تماثلها أو تقاربها مقصود من النظم في آيات كثيرة متماثلة، تكثر وتقل، وأكثرها قريب من الأسجاع في الكلام المسجوع. والعبرة فيها بتماثل صيغ الكلمات من حركات وسكون وهي أكثر شبها بالتزام ما لا يلزم في القوافي. وأكثرها جار على أسلوب الأسجاع.
والذي استخلصته أيضا أن تلك الفواصل كلها منتهى آيات ولو كان الكلام الذي تقع فيه لم يتم فيه الغرض المسوق إليه، وأنه إذا انتهى الغرض المقصود من الكلام ولم تقع عند انتهائه فاصلة لا يكون منتهى الكلام نهاية آية إلا نادرا كقوله تعالى: {ص * والقرآن ذي الذكر} فهذا المقدار عد آية وهو لم ينته بفاصلة، ومثله نادر. فإن فواصل تلك الآيات الواقعة في أول السورة أقيمت على حرف مفتوح بعده ألف مد بعدها حرف، مثل: شقاق، مناص، كذاب، عجاب.
وفواصل بنيت على حرف مضموم مشبع بواو. أو على حرف مكسور مشبع بياء ساكنة، وبعد ذلك حرف، مثل {أنتم عنه معرضون} {إذ يستمعون} {نذير مبين} {من طين}.
فلو انتهى الغرض الذي سيق له الكلام وكانت فاصلة تأتي بعد انتهاء الكلام تكون الآية غير منتهية ولو طالت، كقوله تعالى: {قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك} إلى قوله: {وخر راكعا وأناب} فهذه الجمل كلها عدت آية واحدة.
واعلم أن هذه الفواصل من جملة المقصود من الإعجاز لأنها ترجع إلى محسنات الكلام وهي من جانب فصاحة الكلام فمن الغرض البلاغي الوقوف عند الفواصل لتقع في الأسماع فتتأثر نفوس السامعين بمحاسن ذلك التماثل، كما تتأثر بالقوافي في الشعر وبالأسجاع في الكلام المسجوع. فإن قوله تعالى: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون} آية {في الحميم ثم في النار يسجرون} آية {ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون} آية {من دون الله} إلى آخر الآيات. فقوله: {في الحميم} متصل بقوله: {يسحبون} وقوله: {من دون الله} متصل بقوله: {تشركون} وينبغي الوقف عند نهاية كل آية منها.
وقوله تعالى: {واشهدوا أني بريء مما تشركون} آية. وقوله: {من دونه} ابتداء الآية بعدها في سورة هود.
ألا ترى أن من الإضاعة لدقائق الشعر أن يلقيه ملقيه على مسامع الناس دون وقف عند قوافيه فإن ذلك إضاعة لجهود الشعراء، وتغطية على محاسن الشعر، وإلحاق للشعر بالنثر. وأن إلفاء السجع دون وقوف عند أسجاعه هو كذلك لا محالة. ومن السذاجة أن ينصرف ملقي الكلام عن محافظة هذه الدقائق فيكون مضيعا لأمر نفيس أجهد فيه قائله نفسه وعنايته. والعلة بأنه يريد أن يبين للسامعين معاني الكلام، فضول، فإن البيان وظيفة ملقي درس لا وظيفة منشد الشعر، ولو كان هو الشاعر نفسه.
وفي "الإتقان" عن أبي عمرو قال بعضهم: الوقف على رؤوس الآي سنة. وفيه عن البيهقي في شعب الإيمان: الأفضل الوقف على رؤوس الآيات وان تعلقت بما بعدها اتباعا لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، وفي سنن أبي داود عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ قطع قراءته آية آية يقول: {بسم الله الرحمن الرحيم} ثم يقف. {الحمد لله رب العالمين} ثم يقف { الرحمن الرحيم} ثم يقف.
على أن وراء هذا وجوب اتباع المأثور من تحديد الآي كما قال ابن العربي والزمخشري ولكن ذلك لا يصدنا عن محاولة ضوابط تنفع الناظر وإن شذ عنها ما شذ.
ألا ترى أن بعض الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور قد عد بعضها آيات مثل. {الم}. {المص}. {كهيعص}. {عسق}. {طسم}. {يس}. {حم}. {طه}. ولم تعد الر. المر. طس. ص. ق. ن. آيات.
وآيات القرآن متفاوتة في مقادير كلماتها فبعضها أطول من بعض ولذلك فتقدير الزمان بها في قولهم: مقدار ما يقرأ القارئ خمسين آية مثلا، تقدير تقريبي، وتفاوت الآيات في الطول تابع لما يقتضيه مقام البلاغة من مواقع كلمات الفواصل على حسب ما قبلها من الكلام.
وأطول آية قوله تعالى: {هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام} إلى قوله: {وكان الله بكل شيء عليما} في سورة الفتح، وقوله: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} إلى قوله: {لو كانوا يعلمون} في سورة البقرة ودونهما قوله تعالى: { حرمت عليكم أمهاتكم} إلى قوله: {إن الله كان غفورا رحيما} في سورة النساء.
وأقصر آية في عدد الكلمات قوله تعالى: {مدهامتان}. في سورة الرحمن وفي عدد الحروف المقطعة قوله: {طه}.
وأما وقوف القرآن فقد لا تساير نهايات الآيات، ولا ارتباط لها بنهايات الآيات فقد يكون في آية واحدة عدة وقوف كما في قوله تعالى: {إليه يرد علم الساعة} وقف {وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} وقف {ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد} وقف ومنتهى الآية في سورة فصلت. وسيأتي الكلام على الوقوف في آخر هذا المبحث.
فأما ما اختلف السلف فيه من عدد آيات القرآن بناء على الاختلاف في نهاية بعضها، فقد يكون بعض ذلك عن اختلاف في الرواية كما قدمنا آنفا، وقد يكون بعضه عن اختلاف الاجتهاد.
قال أبو عمرو الداني في كتاب العدد: أجمعوا على أن عدد آيات القرآن يبلغ ستة آلاف آية، واختلفوا فيما زاد على ذلك، فمنهم من لم يزد، ومنهم من قال ومائتين وأربع آيات، وقيل وأربع عشرة، وقيل وتسع عشرة، وقيل وخمسا وعشرين، وقيل وستا وثلاثين، وقيل وستمائة وست عشرة.
قال المازري في شرح البرهان: قال مكي بن أبي طالب: قد أجمع أهل العدد من أهل الكوفة والبصرة والمدينة والشام على ترك عد البسملة آية في أول كل سورة، وإنما اختلفوا في عدها وتركها في سورة الحمد لا غير، فعدها آية الكوفي والمكي ولم يعدها آية البصري ولا الشامي ولا المدني. وفي الإتقان كلام في الضابط الأول من الضوابط غير محرر وهو آيل إلى ما قاله المازري، ورأيت في عد بعض السور أن المصحف المدني عد آيها أكثر مما في الكوفي، ولو عنوا عد البسملة لكان الكوفي أكثر.
وكان لأهل المدينة عددان، يعرف أحدهما بالأول ويعرف الآخر بالأخير، ومعنى ذلك أن الذين تصدوا لعد الآي بالمدينة من أئمة القراء هم: أبو جعفر يزيد بن القعقاع، وأبو نصاح شيبة بن نصاح، وأبو عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي، وإسماعيل بن جعفر بن كثير الأنصاري، وقد اتفق هؤلاء الأربعة على عدد وهو المسمى بالعدد الأول، ثم خالفهم إسماعيل بن جعفر بعدد انفرد به وهو الذي يقال له العدد الثاني، وقد رأيت هذا ينسب إلى أيوب ابن المتوكل البصري المتوفي سنة 200.
ولأهل مكة عدد واحد، وربما اتفقوا في عدد آي السورة المعينة، وربما اختلفوا، وقد يوجد اختلاف تارة في مصاحف الكوفة والبصرة والشام، كما نجد في تفسير المهدوي وفي كتب علوم القرآن، ولذلك تجد المفسرين يقولون في بعض السور عدد آيتها في المصحف الفلاني كذا. وقد كان عدد آي السور معروفا في زمن النبيء صلى الله عليه وسلم: وروى محمد بن السائب عن ابن عباس أنه لما نزلت آخر آية وهي قوله تعالى: {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله} الآية قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم ضعها في رأس ثمانين ومائتين من سورة البقرة، واستمر العمل بعد الآي في عصر الصحابة، ففي صحيح البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام {قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم} الآية.
ترتيب الآي
وأما ترتيب الآي بعضها عقب بعض فهو بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم حسب نزول الوحي، ومن المعلوم أن القرآن نزل منجما آيات فربما نزلت عدة آيات متتابعة أو سورة كاملة، كما سيأتي قريبا، وذلك الترتيب مما يدخل في وجوه إعجازه من بداعة أسلوبه كما سيأتي في المقدمة العاشرة، فلذلك كان ترتيب آيات السورة الواحدة على ما بلغتنا عليه متعينا بحيث لو غير عنه إلى ترتيب آخر لنزل عن حد الإعجاز الذي امتاز به، فلم تختلف قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في ترتيب آي السور على نحو ما هو في المصحف الذي بأيدي المسلمين اليوم، وهو ما استقرت عليه رواية الحفاظ من الصحابة عن العرضات الأخيرة التي كان يقرأ بها النبيء صلى الله عليه وسلم في أواخر سني حياته الشريفة، وحسبك أن زيد بن ثابت حين كتب المصحف لأبي بكر لم يخالف في ترتيب آي القرآن.
وعلى ترتيب قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات الجهرية وفي عديد المناسبات حفظ القرآن كل من حفظه كلا أو بعضا، وليس لهم معتمد في ذلك إلا ما عرفوا به من قوة الحوافظ، ولم يكونوا يعتمدون على الكتابة، وإنما كان كتاب الوحي يكتبون ما أنزل من القرآن بأمر النبيء صلى الله عليه وسلم، وذلك بتوقيف إلهي. ولعل حكمة الأمر بالكتابة أن يرجع إليها المسلمون عندما يحدث لهم شك أو نسيان ولكن ذلك لم يقع.
ولما جمع القرآن في عهد أبي بكر لم يؤثر عنهم أنهم ترددوا في ترتيب آيات من إحدى السور ولا أثر عنهم إنكار أو اختلاف فيما جمع من القرآن فكان موافقا لما حفظته حوافظهم، قال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن الأنباري: كانت الآية تنزل جوابا لمستخبر يسأل ويوقف جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع الآية.
واتساق الحروف واتساق الآيات واتساق السور كله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلهذا كان الأصل في آي القرآن أن يكون بين الآية ولاحقتها تناسب في الغرض. أو في الانتقال منه أو نحو ذلك من أساليب الكلام المنتظم المتصل، ومما يدل عليه وجود حروف العطف المفيدة الاتصال مثل الفاء ولكن وبل ومثل أدوات الاستثناء، على أن وجود ذلك لا يعين اتصال ما بعده بما قبله في النزول، فإنه قد اتفق على أن قوله تعالى: {غير أولي الضرر} نزل بعد نزول ما قبله وما بعده من قوله: {لا يستوي القاعدون} إلى قوله: {وأنفسهم} قال بدر الدين الزركشي قال بعض مشايخنا المحققين قد وهم من قال لا تطلب للآي الكريمة مناسبة والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول شيء عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها ففي ذلك علم جم.
على أنه يندر أن يكون موقع الآية عقب التي قبلها لأجل نزولها عقب التي قبلها من سورة هي بصدد النزول فيؤمر النبي بأن يقرأها عقب التي قبلها، وهذا كقوله تعالى: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} عقب قوله: {تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا} في سورة مريم، فقد روي أن جبريل لبث أياما لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بوحي، فلما نزل بالآيات السابقة عاتبه النبيء، فأمر الله جبريل أن يقول: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} فكانت وحيا نزل به جبريل، فقرئ مع الآية التي نزل بأثرها، وكذلك آية {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها} عقب قوله تعالى: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات} إلى قوله: {وهم فيها خالدون} في سورة البقرة: إذ كان ردا على المشركين في قولهم: أما يستحي محمد أن يمثل بالذباب وبالعنكبوت? فلما ضرب لهم الأمثال بقوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} تخلص إلى الرد عليهم فيما أنكروه من الأمثال. على أنه لا يعدم مناسبة ما، وقد لا تكون له مناسبة ولكنه اقتضاه سبب في ذلك المكان كقوله تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه} فهذه الآيات نزلت في سورة القيامة في خلال توبيخ المشركين على إنكارهم البعث ووصف يوم الحشر وأهواله، وليست لها مناسبة بذلك ولكن سبب نزولها حصل في خلال ذلك. روى البخاري عن ابن عباس قال: كان رسول الله إذا نزل جبريل بالوحي كان مما يحرك به لسانه وشفتيه يريد أن يحفظه فأنزل الله الآية التي في: {لا أقسم بيوم القيامة} اهـ، فذلك يفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرك شفتيه بالآيات التي نزلت في أول السورة.
على أنه قد لا يكون في موقع الآية من التي قبلها ظهور مناسبة فلا يوجب ذلك حيرة للمفسر؛ لأنه قد يكون سبب وضعها في موضعها أنها قد نزلت على سبب وكان حدوث سبب نزولها في مدة نزول السورة التي وضعت فيها فقرئت تلك الآية عقب آخر آية انتهى إليها النزول، وهذا كقوله تعالى: {حافظوا على الصلوات} إلى قوله: {ما لم تكونوا تعلمون} بين تشريعات أحكام كثيرة في شؤون الأزواج والأمهات، وقد ذكرنا ذلك عند هذه الآية في التفسير.
وقد تكون الآية ألحقت بالسورة بعد تمام نزولها بأن أمر الرسول بوضعها عقب آية معينة كما تقدم آنفا عن ابن عباس في آية: {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله} وكذلك ما روي في صحيح مسلم عن ابن مسعود أن أول سورة الحديد نزل بمكة، ولم يختلف المفسرون في أن قوله تعالى: {وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله} إلى آخر السورة نزل بالمدينة فلا يكون ذلك إلا لمناسبة بينها وبين آي تلك السورة والتشابه في أسلوب النظم، وإنما تأخر نزول تلك الآية عن نزول أخواتها من سورتها لحكمة اقتضت تأخرها ترجع غالبا إلى حدوث سبب النزول كما سيأتي قريبا.
ولما كان تعيين الآيات التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعها في موضع معين غير مروي إلا في عدد قليل، كان حقا على المفسر أن يتطلب مناسبات لمواقع الآيات ما وجد إلى ذلك سبيلا موصلا وإلا فليعرض عنه ولا يكن من المتكلفين.
إن الغرض الأكبر للقرآن هو إصلاح الأمة بأسرها. فإصلاح كفارها بدعوتهم إلى الإيمان ونبذ العبادة الضالة واتباع الإيمان والإسلام، وإصلاح المؤمنين بتقويم أخلاقهم وتثبيتهم على هداهم وإرشادهم إلى طرق النجاح وتزكية نفوسهم ولذلك كانت أغراضه مرتبطة بأحوال المجتمع في مدة الدعوة، فكانت آيات القرآن مستقلا بعضها عن بعض، لأن كل آية منه ترجع إلى غرض الإصلاح والاستدلال عليه، وتكميله وتخليصه من تسرب الضلالات إليه فلم يلزم أن تكون آياته متسلسلة، ولكن حال القرآن كحال الخطيب يتطرق إلى معالجة الأحوال الحاضرة على اختلافها وينتقل من حال إلى حال بالمناسبة ولذلك تكثر في القرآن الجمل المعترضة لأسباب اقتضت نزولها أو بدون ذلك؛ فإن كل جملة تشتمل على حكمة وإرشاد أو تقويم معوج، كقوله: {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار - إلى قوله:- قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم} فقوله: {قل إن الهدى هدى الله} جملة معترضة.
وقوف القرآن
الوقف هو قطع الصوت عن الكلمة حصة يتنفس في مثلها المتنفس عادة، والوقف عند انتهاء جملة من جمل القرآن قد يكون أصلا لمعنى الكلام فقد يختلف المعنى باختلاف الوقف مثل قوله تعالى: (وكأين من نبيء قُتل معه ربيون كثير) فإذا وقف عند كلمة (قتل) كان المعنى أن أنبياء كثيرين قتلهم قومهم وأعداؤهم. ومع الأنبياء أصحابهم فما تزلزلوا لقتل أنبيائهم فكان المقصود تأييس المشركين من وهن المسلمين على فرض قتل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوته. على نحو قوله تعالى في خطاب المسلمين: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} الآية، وإذا وصل قوله: (قتل) عند قوله: {كثير} كان المعنى أن أنبياء كثيرين قتل معهم رجال من أهل التقوى فما وهن من بقي بعدهم من المؤمنين وذلك بمعنى قوله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا} إلى قوله: {ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
وكذلك قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به} الآية، فإذا وقف عند قوله: {إلا الله} كان المعنى أن المتشابه الكلام الذي لا يصل فهم الناس إلى تأويله وأن علمه مما اختص الله به مثل اختصاصه بعلم الساعة وسائر الأمور الخمسة وكان ما بعده ابتداء كلام يفيد أن الراسخين يفوضون فهمه إلى الله تعالى، وإذا وصل قوله: {إلا الله} بما بعده كان المعنى أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه في حال أنهم يقولون آمنا به.
وكذلك قوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} فإنه لو وقف على قوله: {ثلاثة أشهر} وابتدأ بقوله: {واللائي لم يحضن} وقع قوله: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} معطوفا على {اللائي لم يحضن} فيصير قوله {أجلهن أن يضعن حملهن}. خبرا عن {اللائي لم يحضن وأولات الأحمال} ولكنه لا يستقيم المعنى إذ كيف يكون لللاء[3] لم يحضن حمل حتى يكون أجلهن أن يضعن حملهن.
وعلى جميع التقادير لا تجد في القرآن مكانا يجب الوقف فيه ولا يحرم الوقف فيه كما قال ابن الجزري في أرجوزته، ولكن الوقف ينقسم إلى أكيد حسن ودونه وكل ذلك تقسيم بحسب المعنى. وبعضهم استحسن أن يكون الوقف عند نهاية الكلام وأن يكون ما يتطلب المعنى الوقف عليه قبل تمام المعنى سكتا وهو قطع الصوت حصة أقل من حصة قطعه عند الوقف، فإن اللغة العربية واضحة وسياق الكلام حارس من الفهم المخطئ، فنحو قوله تعالى: {يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} لو وقف القاري على قوله: {الرسول} لا يخطر ببال العارف باللغة أن قوله: {وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} تحذير من الإيمان بالله، وكيف يخطر ذلك وهو موصوف بقوله: {ربكم} فهل يحذر أحد من الإيمان بربه.
وكذلك قوله تعالى: {أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها} فإن كلمة {بناها} هي منتهى الآية والوقف عند {أم السماء} ولكن لو وصل القارئ لم يخطر ببال السامع أن يكون {بناها} من جملة {أم السماء} لأن معادل همزة الاستفهام لا يكون إلا مفردا.
على أن التعدد في الوقف قد يحصل به ما يحصل بتعدد وجوه القراءات من تعدد المعنى مع اتحاد الكلمات. فقوله تعالى: {ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا قوارير من فضة قدروها تقديرا} فإذا وقف على {قواريرا} الأول كان { قوارير} الثاني تأكيدا لرفع احتمال المجاز في لفظ {قواريرا}، واذا وقف على {قوارير} الثاني كان المعنى الترتيب والتصنيف، كما يقال: قرأ الكتاب بابا بابا، وحضروا صفا صفا. وكان قوله: {من فضة} عائدا إلى قوله: {بآنية من فضة} ولما كان القرآن مرادا منه فهم معانيه وإعجاز الجاحدين به وكان قد نزل بين أهل اللسان كان فهم معانيه مفروغا من حصوله عند جميعهم. فأما التحدي بعجز بلغائهم عن معارضته فأمر يرتبط بما فيه من الخصوصيات البلاغية التي لا يستوي في القدرة عليها جميعهم بل خاصة بلغائهم من خطباء وشعراء، وكان من جملة طرق الإعجاز ما يرجع إلى محسنات الكلام من فن البديع، ومن ذلك فواصل الآيات التي هي شبه قوافي الشعر وأزجاع النثر، وهي مرادة في نظم القرآن لا محالة كما قدمناه عند الكلام على آيات القرآن فكان عدم الوقف عليها تفريطا في الغرض المقصود منها.
لم يشتد اعتناء السلف بتحديد أوقافه لظهور أمرها، وما ذكر عن ابن النحاس من الاحتجاج لوجوب ضبط أوقاف القرآن بكلام لعبد الله بن عمر ليس واضحا في الغرض المحتج به فانظره في الإتقان للسيوطي.
فكان الاعتبار بفواصله التي هي مقاطع آياته عندهم أهم لأن عجز قادتهم وأولي البلاغة والرأي منهم تقوم به الحجة عليهم وعلى دهمائهم، فلما كثر الداخلون في الإسلام من دهماء العرب ومن عموم بقية الأمم، توجه اعتناء أهل القرآن إلى ضبط وقوفه تيسيرا لفهمه على قارئيه، فظهر الاعتناء بالوقوف وروعي فيها ما يراعى في تفسير الآيات فكان ضبط الوقوف مقدمة لما يفاد من المعاني عند واضع الوقف.
وأشهر من تصدى لضبط الوقوف أبو محمد بن الانباري، وأبو جعفر بن النحاس، وللنكزاوي أو النكزوي كتاب في الوقف ذكره في الإتقان، واشتهر بالمغرب من المتأخرين محمد بن أبي جمعة الهبطي المتوفي سنة 930.
سور القرآن
السورة قطعة من القرآن معينة بمبدأ ونهاية لا يتغيران، مسماة باسم مخصوص، تشتمل على ثلاث آيات فأكثر في غرض تام ترتكز عليه معاني آيات تلك السورة، ناشئ عن أسباب النزول، أو عن مقتضيات ما تشتمل عليه من المعاني المتناسبة. وكونها تشتمل على ثلاث آيات مأخوذ من استقراء سور القرآن مع حديث عمر فيما رواه أبو داود عن الزبير قال جاء الحارث بن خزيمة هو المسمى في بعض الروايات خزيمة وأبا خزيمة بالآيتين من آخر سورة براءة فقال: أشهد أني سمعتهما من رسول الله. فقال عمر: وأنا أشهد لقد سمعتهما منه، ثم قال: لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة إلخ، فدل على أن عمر ما قال ذلك إلا عن علم بأن ذلك أقل مقدار سوره.
وتسمية القطعة المعينة من عدة آيات القرآن سورة من مصطلحات القرآن، وشاعت تلك التسمية عند العرب حتى المشركين منهم. فالتحدي للعرب بقوله تعالى: {فأتوا بعشر سور مثله} وقوله: {فأتوا بسورة من مثله} لا يكون إلا تحديا باسم معلوم المسمى والمقدار عندهم وقت التحدي، فإن آيات التحدي نزلت بعد السور الأول، وقد جاء في القرآن تسمية سورة النور باسم سورة في قوله تعالى: {سورة أنزلناها} أي هذه سورة، وقد زادته السنة بيانا. ولم تكن أجزاء التوراة والإنجيل والزبور مسماة سورا عند العرب في الجاهلية ولا في الإسلام. ووجه تسمية الجزء المعين من القرآن سورة قيل مأخوذة من السور بضم السين وتسكين الواو وهو الجدار المحيط بالمدينة أو بمحلة قوم زادوه هاء تأنيث في آخره مراعاة لمعنى القطعة من الكلام، كما سموا الكلام الذي يقوله القائل خطبة أو رسالة أو مقامة. وقيل مأخوذة من السؤر بهمزة بعد السين وهو البقية مما يشرب الشارب بمناسبة أن السؤر جزء مما يشرب، ثم خففوا الهمزة بعد الضمة فصارت واوا، قال ابن عطية: وترك الهمز في سورة هو لغة قريش ومن جاورها من هذيل وكنانة وهوازن وسعد بن بكر، وأما الهمز فهو لغة تميم، وليست إحدى اللغتين بدالة على أن أصل الكلمة من المهموز أو المعتل، لأن للعرب في تخفيف المهموز وهمز المخفف من حروف العلة طريقتين، كما قالوا أجوه وإعاء وإشاح، في وجوه ووعاء ووشاح، وكما قالوا الذئب بالهمز والذيب بالياء. قال الفراء: ربما خرجت بهم فصاحتهم إلى أن يهمزوا ما ليس مهموزا كما قالوا رثأت الميت ولبأت بالحج وحلأت السويق بالهمز.
وجمع سورة سور بتحريك الواو كغرف، ونقل في شرح القاموس عن الكراع أنها تجمع على سور بسكون الواو.
وتسوير القرآن من السنة في زمن النبيء صلى الله عليه وسلم، فقد كان القرآن يومئذ مقسما إلى مائة وأربع عشرة سورة بأسمائها، ولم يخالف في ذلك إلا عبد الله بن مسعود فإنه لم يثبت المعوذتين في سور القرآن، وكان يقول "إنما هما تعوذ أمر الله رسوله بأن يقوله وليس هو من القرآن، وأثبت القنوت الذي يقال في صلاة الصبح، على أنه سورة من القرآن سماها سورة الخلع والخنع. وجعل سورة الفيل وسورة قريش سورة واحدة. وكل ذلك استنادا لما فهمه من نزول القرآن. ولم يحفظ عن جمهور الصحابة حين جمعوا القرآن أنهم ترددوا ولا اختلفوا في عدد سوره، وأنها مائة وأربع عشرة سورة، روى أصحاب السنن عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت الآية يقول: ((ضعوها في السورة التي يذكر فيها كذا))، وكانت السور معلومة المقادير منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم محفوظة عنه في قراءة الصلاة وفي عرض القرآن، فترتيب الآيات في السور هو بتوقيف من النبيء صلى الله عليه وسلم، وكذلك عزا ابن عطية إلى مكي بن أبي طالب وجزم به السيوطي في الإتقان، وبذلك يكون مجموع السورة من الآيات أيضا توقيفيا، ولذلك نجد في الصحيح أن النبيء صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة سورة كذا وسورة كذا من طوال وقصار، ومن ذلك حديث صلاة الكسوف، وفي الصحيح أن رجلا سأل النبيء صلى الله عليه وسلم أن يزوجه امرأة فقال له النبي: ((هل عندك ما تصدقها?)) قال: "لا"، فقال: ((ما معك من القرآن?)) قال: سورة كذا وسورة كذا لسور سماها، فقال: ((قد زوجتكها بما معك من القرآن)) وسيأتي مزيد شرح لهذا الغرض عند الكلام على أسماء السور.
وفائدة التسوير ما قاله صاحب الكشاف في تفسير قوله تعالى: {فأتوا بسورة من مثله} إن الجنس إذا انطوت تحته أنواع كان أحسن وأنبل من أن يكون ببانا واحدا، وأن القارئ إذا ختم سورة أو بابا من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأهز لعطفه كالمسافر إذا علم أنه قطع ميلا أو طوى فرسخا.
وأما ترتيب السور بعضها إثر بعض، فقال أبو بكر الباقلاني: يحتمل أن النبيء صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر بترتيبها كذلك، ويحتمل أن يكون ذلك من اجتهاد الصحابة، وقال الداني: كان جبريل يوقف رسول الله على موضع الآية وعلى موضع السورة. وفي المستدرك عن زيد بن ثابت أنه قال: كنا عند رسول الله نؤلف القرآن من الرقاع قال البيهقي: تأويله أنهم كانوا يؤلفون آيات السور. ونقل ابن عطية عن الباقلاني الجزم بأن ترتيب السور بعضها إثر بعض هو من وضع زيد بن ثابت بمشاركة عثمان، قال ابن عطية: وظاهر الأثر أن السبع الطوال والحواميم والمفصل كانت مرتبة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من السور مالم يرتب فذلك هو الذي رتب وقت كتابة المصحف.
أقول: لا شك أن طوائف من سور القرآن كانت مرتبة في زمن النبيء صلى الله عليه وسلم على ترتيبها في المصحف الذي بأيدينا اليوم الذي هو نسخة من المصحف الإمام الذي جمع وكتب في خلافة أبي بكر الصديق ووزعت على الأمصار نسخ منه في خلافة عثمان ذي النورين فلا شك في أن سور المفصل كانت هي آخر القرآن ولذلك كانت سنة قراءة السور في الصلوات المفروضة أن يكون في بعض الصلوات من طوال المفصل وفي بعضها من وسط المفصل وفي بعضها من قصار المفصل. وأن طائفة السور الطولى الأوائل في المصحف كانت مرتبة في زمن النبيء صلى الله عليه وسلم أول القرآن. والاحتمال فيما عدا ذلك.
وأقول: لا شك في أن زيد بن ثابت وعثمان بن عفان وهما من أكبر حفاظ القرآن من الصحابة، توخيا ما استطاعا ترتيب قراءة النبيء صلى الله عليه وسلم للسور، وترتيب قراءة الحفاظ التي لا تخفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان زيد بن ثابت من أكبر حفاظ القرآن وقد لازم النبيء صلى الله عليه وسلم مدة حياته بالمدينة، ولم يتردد في ترتيب سور القرآن على نحو ما كان يقرؤها النبيء صلى الله عليه وسلم حين نسخ المصاحف في زمن عثمان. ذلك أن القرآن حين جمع في خلافة أبي بكر لم يجمع في مصحف مرتب وإنما جعلوا لكل سورة صحيفة مفردة ولذلك عبروا عنها بالصحف، وفي موطأ ابن وهب عن مالك أن ابن عمر قال "جمع أبو بكر القرآن في قراطيس". وكانت تلك الصحف عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند حفصة بنت عمر أم المؤمنين، بسبب أنها كانت وصية أبيها على تركته، فلما أراد عثمان جمع القرآن في مصحف واحد أرسل إلى حفصة فأرسلت بها إليه ولما نسخت في مصحف واحد أرجع الصحف إليها، قال في فتح الباري: وهذا وقع في رواية عمارة ابن غزية أن زيد بن ثابت قال: أمرني أبو بكر فكتبت في قطع الأديم والعسب فلما هلك أبو بكر وكان عمر كتبت ذلك في صحيفة واحدة فكانت عنده والأصح أن القرآن جمع في زمن أبي بكر في مصحف واحد.
وقد يوجد في آي من القرآن ما يقتضي سبق سورة على أخرى مثل قوله في سورة النحل: {وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل} يشير إلى قوله: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} الآية من سورة الأنعام فدلت على أن سورة الأنعام نزلت قبل سورة النحل، وكذلك هي مرتبة في المصحف، وقد ثبت أن آخر آية نزلت آية في سورة البقرة أو في سورة النساء أو في براءة، وثلاثتها في الترتيب مقدمة على سور كثيرة. فالمصاحف الأولى التي كتبها الصحابة لأنفسهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانت مختلفة في ترتيب وضع السور.
وممن كان له مصحف عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب، وروي أن أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة. قال في الإتقان: إن من الصحابة من رتب مصحفه على ترتيب النزول أي بحسب ما بلغ إليه علمه وكذلك كان مصحف علي رضي الله عنه وكان أوله {اقرأ باسم}، ثم المدثر، ثم المزمل، ثم التكوير وهكذا إلى آخر المكي ثم المدني. ومنهم من رتب على حسب الطول والقصر وكذلك كان مصحف أبي وابن مسعود فكانا ابتدأ بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران، وعلى هذه الطريقة أمر عثمان رضي الله عنه بترتيب المصحف المدعو بالإمام.
أخرج الترمذي وأبو داود عن ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموهما في السبع الطوال، فقال عثمان: كان رسول الله مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ((ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا))، وكانت الأنفال من أوائل ما أنزلت بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول الله ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم فوضعتهما في السبع الطوال. وهو صريح في أنهم جعلوا علامة الفصل بين السور كتابة البسملة ولذلك لم يكتبوها بين سورة الأنفال وسورة براءة لأنهم لم يجزموا بأن براءة سورة مستقلة، ولكنه كان الراجح عندهم فلم يقدموا على الجزم بالفصل بينهما تحريا.
وفي باب تأليف القرآن من صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود أنه ذكر النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأهن في كل ركعة فسئل علقمة عنها فقال: عشرون سورة من أول المفصل على تأليف ابن مسعود آخرها من الحواميم حم الدخان و{عم يتساءلون}، على أن الجمهور جزموا بأن كثيرا من السور كان مرتبا في زمن النبيء صلى الله عليه وسلم.
ثم اعلم أن ظاهر حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح البخاري في باب تأليف القرآن أنها لا ترى القراءة على ترتيب المصحف أمرا لازما فقد سألها رجل من العراق أن تريه مصحفها ليؤلف عليه مصحفه فقالت: وما يضرك أية آية قرأت قبل، إنما نزل أول ما نزل منه سورة فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام وفي صحيح مسلم عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالبقرة ثم بالنساء ثم بآل عمران في ركعة. قال عياض في الإكمال: "هو دليل لكون ترتيب السورة وقع باجتهاد الصحابة حين كتبوا المصحف وهو قول مالك رحمه الله وجمهور العلماء" وفي حديث صلاة الكسوف أن النبيء قرأ فيها بسورتين طويلتين ولما كانت جهرية فإن قراءته تينك السورتين لا يخفى على أحد ممن صلى معه، ولذلك فالظاهر أن تقديم سورة آل عمران على سورة النساء في المصحف الإمام ما كان إلا اتباعا لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما قرأها النبيء كذلك إما لأن سورة آل عمران سبقت في النزول سورة النساء التي هي من آخر ما أنزل، أو لرعي المناسبة بين سورة البقرة وسورة آل عمران في الافتتاح بكلمة الم، أو لأن النبيء صلى الله عليه وسلم وصفهما وصفا واحدا ففي حديث أبي أمامة أن النبيء قال: ((اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران)) وذكر فضلهما يوم القيامة أو لما في صحيح مسلم أيضا عن حديث النواس بن سمعان أن النبي قال: ((يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران، وضرب لهما ثلاثة أمثال)) الحديث.
ووقع في تفسير شمس الدين محمود الأصفهاني الشافعي، في المقدمة الخامسة من أوائله "لا خلاف في أن القرآن يجب أن يكون متواترا في أصله وأجزائه، وأما في محله ووضعه وترتيبه فعند المحققين من أهل السنة كذلك؛ إذ الدواعي تتوفر على نقله على وجه التواتر، وما قيل التواتر شرط في ثبوته بحسب أصله وليس شرطا في محله ووضعه وترتيبه فضعيف لأنه لو لم يشترط التواتر في المحل جاز أن لا يتواتر كثير من المكررات الواقعة في القرآن وما لم يتواتر يجوز سقوطه وهو يعنى بالقرآن ألفاظ آياته ومحلها دون ترتيب السور.
قال ابن بطال: "لا نعلم أحدا قال بوجوب القراءة على ترتيب السور في المصحف بل يجوز أن تقرأ الكهف قبل البقرة، وأما ما جاء عن السلف من النهي عن قراءة القرآن منكسا، فالمراد منه أن يقرأ من آخر السورة إلى أولها. قلت أو يحمل النهي على الكراهة.
واعلم أن معنى الطولى والقصرى في السور مراعى فيه عدد الآيات لا عدد الكلمات والحروف. وأن الاختلاف بينهم في تعيين المكي والمدني من سور القرآن خلاف ليس بكثير. وأن ترتيب المصحف تخللت فيه السور المكية والمدنية. وأما ترتيب نزول السور المكية ونزول السور المدنية ففيه ثلاث روايات، إحداها رواية مجاهد عن ابن عباس، والثانية رواية عطاء الخراساني عن ابن عباس، والثالثة لجابر بن زيد ولا يكون إلا عن ابن عباس، وهي التي اعتمدها الجعبري في منظومته التي سماها تقريب المأمول في ترتيب النزول وذكرها السيوطي في الإتقان وهي التي جرينا عليها في تفسيرنا هذا.
وأما أسماء السور فقد جعلت لها من عهد نزول الوحي، والمقصود من تسميتها تيسير المراجعة والمذاكرة، وقد دل حديث ابن عباس الذي ذكر آنفا أن النبيء صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا نزلت الآية ((ضعوها في السورة التي يذكر فيها كذا))، فسورة البقرة مثلا كانت تلقب بالسورة التي تذكر فيها البقرة. وفائدة التسمية أن تكون بما يميز السورة عن غيرها. وأصل أسماء السور أن تكون بالوصف كقولهم السورة التي يذكر فيها كذا، ثم شاع فحذفوا الموصول وعوضوا عنه الإضافة فقالوا سورة ذكر البقرة مثلا، ثم حذفوا المضاف وأقاموا المضاف إليه مقامه فقالوا سورة البقرة. أو أنهم لم يقدروا مضافا- وأضافوا السورة لما يذكر فيها لأدنى ملابسة. وقد ثبت في صحيح البخاري قول عائشة رضي الله عنها لما نزلت الآيات من آخر البقرة الحديث وفيه عن ابن مسعود قال قرأ رسول الله النجم. وعن ابن عباس أن رسول الله سجد بالنجم. وما روي من حديث عن أنس مرفوعا ((لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة النساء وكذلك القرآن كله ولكن قولوا السورة التي يذكر فيها آل عمران وكذا القرآن كله)) فقال أحمد بن حنبل: هو حديث منكر، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات، ولكن ابن حجر أثبت صحته. ويذكر عن ابن عمر أنه كان يقول مثل ذلك ولا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ذكره البيهقي في شعب الإيمان، وكان الحجاج بن يوسف يمنع من يقول سورة كذا ويقول قل السورة التي يذكر فيها كذا، والذين صححوا حديث أنس تأولوه وتأولوا قول ابن عمر بأن ذلك كان في مكة حين كان المسلمون إذا قالوا: سورة الفيل وسورة العنكبوت مثلا هزأ بهم المشركون، وقد روي أن هذا سبب نزول قوله تعالى: {إنا كفيناك المستهزئين} فلما هاجر المسلمون إلى المدينة زال سبب النهي فنسخ، وقد علم الناس كلهم معنى التسمية. ولم يشتهر عن السلف هذا المنع ولهذا ترجم البخاري في كتاب فضائل القرآن بقوله: باب من لم ير بأسا أن يقول سورة البقرة وسورة كذا وسورة كذا وأخرج فيه أحاديث تدل على أنهم قالوا سورة البقرة، سورة الفتح، سورة النساء، سورة الفرقان، سورة براءة، وبعضها من لفظ النبيء صلى الله عليه وسلم، وعليه فللقائل أن يقول سورة البقرة أو التي يذكر فيها البقرة، وأن يقول سورة والنجم وسورة النجم، وقرأت النجم وقرأت والنجم، كما جاءت هذه الإطلاقات في حديث السجود في سورة النجم عن ابن عباس.
والظاهر أن الصحابة سموا بما حفظوه عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أخذوا لها أشهر الأسماء التي كان الناس يعرفونها بها ولو كانت التسمية غير مأثورة، فقد سمى ابن مسعود القنوت سورة الخلع والخنع كما مر، فتعين أن تكون التسمية من وضعه، وقد اشتهرت تسمية بعض السور في زمن النبيء صلى الله عليه وسلم وسمعها وأقرها وذلك يكفي في تصحيح التسمية.
واعلم أن أسماء السور إما أن تكون بأوصافها مثل الفاتحة وسورة الحمد، وإما أن تكون بالإضافة لشيء اختصت بذكره نحو سورة لقمان وسورة يوسف وسورة البقرة، وإما بالإضافة لما كان ذكره فيها أوفى نحو سورة هود وسورة إبراهيم، وإما بالإضافة لكلمات تقع في السورة نحو سورة براءة، وسورة حم عسق، وسورة حم السجدة كما سماها بعض السلف، وسورة فاطر. وقد سموا مجموع السور المفتتحة بكلمة حم آل حم وربما سموا السورتين بوصف واحد فقد سموا سورة الكافرون وسورة الإخلاص المقشقشتين.
واعلم أن الصحابة لم يثبتوا في المصحف أسماء السور بل اكتفوا بإثبات البسملة في مبدأ كل سورة علامة على الفصل بين السورتين، وإنما فعلوا ذلك كراهة أن يكتبوا في أثناء القرآن ما ليس بآية قرآنية، فاختاروا البسملة لأنها مناسبة للافتتاح مع كونها آية من القرآن وفي الإتقان أن سورة البينة سميت في مصحف أبى سورة أهل الكتاب، وهذا يؤذن بأنه كان يسمي السور في مصحفه. وكتبت أسماء السور في المصاحف باطراد في عصر التابعين ولم ينكر عليهم ذلك. قال المازري في شرح البرهان عن القاضي أبي بكر الباقلاني: إن أسماء السور لما كتبت المصاحف كتبت بخط آخر لتتميز عن القرآن، وإن البسملة كانت مكتوبة في أوائل السور بخط لا يتميز عن الخط الذي كتب به القرآن.
وأما ترتيب آيات السورة فإن التنجيم في النزول من المعلوم كما تقدم آنفا، وذلك في آياته وسوره فربما نزلت السورة جميعا دفعة واحدة كما نزلت سورة الفاتحة وسورة المرسلات من السور القصيرة، وربما نزلت نزولا متتابعا كسورة الأنعام، وفي صحيح البخاري عن البراء بن عازب قال: آخر سورة نزلت كاملة براءة، وربما نزلت السورة مفرقة ونزلت السورتان مفرقتان في أوقات متداخلة، روى الترمذي عن ابن عباس عن عثمان بن عفان قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد، أي في أوقات متقاربة فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من يكتب الوحي فيقول: ((ضعوا هؤلاء الآيات في السورة كذا)). ولذلك فقد تكون السورة بعضها مكيا وبعضها مدنيا. وكذلك تنهية كل سورة كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت نهايات السور معلومة، كما يشير إليه حديث ((من قرأ الآيات الخواتم من سورة آل عمران)) وقول زيد بن ثابت فقدت آخر سورة براءة. وقد توفي رسول الله والقرآن مسور سورا معينة، كما دل عليه حديث اختلاف عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم بن حزام في آيات من سورة الفرقان في حياة النبيء صلى الله عليه وسلم كما تقدم في المقدمة الخامسة. وقال عبد الله بن مسعود في سور بني إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء "هن من العتاق الأول وهن من تلادي".
وقد جمع من الصحابة القرآن كله في حياة رسول الله زيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد، وأبي بن كعب، وأبو الدرداء، وعبد الله بن عمر، وعبادة بن الصامت، وأبو أيوب، وسعد بن عبيد، ومجمع بن جارية، وأبو موسى الأشعري، وحفظ كثير من الصحابة أكثر القرآن على تفاوت بينهم.
وفي حديث غزوة حنين لما انكشف المسلمون قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: ((اصرخ يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة، يا أصحاب سورة البقرة)) فلعل الأنصار كانوا قد عكفوا على حفظ ما نزل من سورة البقرة لأنها أول السور النازلة بالمدينة، وفي أحكام القرآن لابن العربي عن ابن وهب عن مالك كان شعارهم يوم حنين يا أصحاب سورة البقرة.
وقد ذكر النحويون في الوقف على تاء التأنيث هاء أن رجلا نادى: يا أهل سورة البقرة بإثبات التاء في الوقف وهي لغة، فأجابه مجيب ما أحفظ منها ولا آية محاكاة للغته.


[1] السورة هي سورة الفتح، ولعل سورة محمد هو اسم آخر لسورة الفتح.

[2] الصواب {هذا ذكر}.

[3] لعلها: للائي.


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
المقدمة, الثامنة

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:49 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir