المتن :
سورةُ قُريش
1- 2قولُه تعالى: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ} أي: لِتَعْبُدَ قريشٌ ربَّ هذا البيتِ الذي أطعَمهم من جوعٍ وآمنَهم من خوفٍ، لأجلِ نعمتِه عليهِم بإيلافِهم رحلةَ الشتاءِ إلى اليَمن، والصيفِ إلى الشام(1)؛ أي: ما ألِفُوه واعتادوه من اجتماعِهم(2) في رحلتهِم للشام واليَمَنِ من أجلِ التِّجارة، وقُدِّم ذكرُ الإيلافِ للاهتمام به(3).
3- 4قولُه تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} أي: ليعبُدوا ربَّ المسجدِ الحرام الذي سدَّ جوعَهم بالإطعام، وأمَّنهم من الخوف، فلا يعتدي عليهم أحدٌ، ولا يقع عليهم من المرضِ ما يذهبُ بهم، ولا غيرها من المخُوفات.
(4)، والمعنى إن لم يعبُدوه على نِعَمِه، فليعبُدوه على هذه النِّعمة، التي هي إيلافهم، وذكرَ البيتَ لأنهم إنما أمِنوا بسبب جِوارهم له. والله أعلم.
الحاشية :
(1)هذا المشهورُ في رحلةِ الشتاء والصيف، وقد وردَ قولٌ غريب عن
ابن عباس من طريق سعيد بن جبير قال: (كانوا يُشتون بمكة، ويصِيفون بالطائف).
(2)الإيلاف:
-إما أن يكونَ من الإلف، وهو الاعتيادُ على الشيء.
-وإما أن يكون من الائتلاف، وهو الاجتماع.
(3)اختلفوا في هذه اللام التي في قوله تعالى:
{لإِيلافِ} على أقوال:
الأول: أنها متعلقة بقوله: {فَلْيَعْبُدُوا} أي: ليعبدوا الله، لأجل نعمته عليهم بالإيلاف، ويشيرُ إلى هذا الارتباط ما رواه عكرمة عن ابن عباس، قال: (أُمروا أن يألَفوا عبادةَ ربّ هذا البيت، كإلفهم رحلةَ الشتاء والصيف) والله أعلم.
الثاني: أنها متعلِّقة بسورة الفيل، والمعنى: جعلتُ أصحابَ الفيل كعَصْفٍ مأكول، لإلفة قريش، فلا أفرق إلفَهم وجماعتهم، التي جاء أصحابُ الفيل لتفريق جماعتهم وهدم كعبتهم التي يجتمع إليها الناس، وهذا قول ابن زيد، وقد نسبه الطبريلابن عباس ومجاهد وفسَّروا: (إيلاف) نِعمتي على قريش.
ولم يظهر لي من نصوصِهم أنهم يَرَوْنَ تعلُّقَ اللام بالسورة التي قبلها، والله أعلم.
الثالث: أنها متعلقة بفعل التعجُّب المحذوف، والتقدير: اعجبوا لإيلاف قريشٍ رحلةَ الشتاء والصيف، وتركهم عبادةَ ربِّ هذا البيت، الذي أطعَمهم من جوعٍ وآمنَهم من خوف، وهو اختيارُ الطبري، واستدلَّ له بفعل العرب، فقال: (والعربُ إذا جاءت بهذه اللام، فأدخلوها في الكلام للتعجُّب اكتفوا بها دليلاً على التعجُّب من إظهار الفعل الذي يجلبُها، كما قال الشاعر:
أغـرَّكَ أن قـالوا لِقُرَّةَ شاعراً = فيا لأبَاهُ مِنْ عَريفٍ وشاعرِ
فاكتفى باللام دليلاً على التعجب من إظهار الفعل، وإنما الكلام: أغرَّك أن قالوا: اعجبوا لقُرَّة شاعراً فكذلك قوله:
{لإِيلافِ}). أما القول بارتباطها بسورة الفيل
ففيه نظرٌ من جهة انفصالِ كلّ سورة عن أختِها، قال الطبري: (وأما القول الذي قاله من حكَيْنا قولَه أنه من صِلة {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} فإن ذلك لو كان كذلك، لوجبَ أن يكون (إيلاف) بعض (ألم تر) وأن لا تكون السورة منفصِلة من (ألم تر). وفي إجماع جميع المسلمين على أنهما سورتان تامَّتان،كل واحدةٍ منهما منفصلة عن الأخرى، ما يبيِّن فسادَ القول الذي قاله من قال ذلك، ولو كان قوله: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ (1)} من صلة: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} لم تكن {أَلَمْ تَرَ} تامَّة حتى توصل بقوله: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ (1)} لأن الكلامَ لا يتم إلاَّ بانقضاء الخبر الذي ذُكِر).
(4)ورد عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة رَبْطُ هذه الآية بدعوة إبراهيم عليه السلام، حيث قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} ، وقال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} ، وفسَّرها ابن زيد بقوله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} .
وقد ورد تفسير الخوفِ على أن معناهُ آمنَهم من العدوِّ والغاراتِ والحروبِ التي كانت العربُ تخافُ منها، ورد عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وابن زيد.
وقد ورد في تفسيره أنه الجُذام، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق سعيد بن جبير، وسفيان الثوري من طريق مهران، والضحاك بن مزاحم، وفي سنده غرابة؛ لأنه سند ابن أبي نجيح عن مجاهد، ويظهر أن الناسخ لتفسير ابن جرير وقع في سَبْقِ عَين، والله أعلم.
وهذا التفسير - فيما يبدو - مثالٌ لما كانوا يخافونه، لا أنه هو المَعْنِيُّ دونَ غيره مما يشمَله الخوف، قال الطبري: (والصوابُ من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذِكره أخبرَ أنه آمنَهم من خوف، والعدو مَخُوفٌ منه، والجُذام مَخُوفٌ منه، ولم يخصِّص الله الخبرَ عن أنه آمنهم من العدوِّ دون الجذام، ولا من الجُذام دون العدوِّ، بل عمَّ الخبرَ بذلك، فالصواب أن يُعمَّ كما عَمَّ جلَّ ثناؤه، فيقال: آمنهم من المعنَيَينِ كِلَيْهِما).