ثُمَّ لَمَّا كَانَ المَاءُ هُوَ المَأْمُورَ بِالتَّطَهُّرِ بِهِ أَصَالَةً قَدَّمَهُ- أي: قَدَّمَ الكلامَ على أحكامِه- فَقَالَ: بَابُ المِيَاهِ
البَابُ لُغَةً: مَا يُدْخَلُ وَيُخْرَجُ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البَابَ}، {وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ، شَبَّهَ الدُّخُولَ إلَى الخَوْضِ فِي مَسَائِلَ مَخْصُوصَةٍ بِالدُّخُولِ فِي الأَمَاكِنِ المَحْسُوسَةِ، ثُمَّ أَثْبَتَ لَهَا البَابَ.
وَالمِيَاهُ: جَمْعُ مَاءٍ وَأَصْلُهُ مَوَهَ؛ وَلِذَا ظَهَرَت الهَاءُ فِي جَمْعِهِ، وَهُوَ جِنْسٌ يَقَعُ عَلَى القَلِيلِ وَالكَثِيرِ, إلَّا أَنَّهُ جَمْعٌ؛ لِاخْتِلافِ أَنْوَاعِهِ بِاعْتِبَارِ حُكْمِ الشَّرْعِ، فَإِنَّ فِيهِ مَا يُنْهَى عَنْهُ, وَفِيهِ مَا يُكْرَهُ، وَبِاعْتِبَارِ الخِلافِ فِي بَعْضِ المِيَاهِ كَمَاءِ البَحْرِ فَإِنَّهُ نَقَلَ الشَّارِحُ الخِلافَ فِي التَّطَهُّرِ بِهِ عَن ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَمْرٍو.
وَفِي النِّهَايَةِ: أَنَّ فِي كَوْنِ مَاءِ البَحْرِ مُطَهِّراً خِلافاً لِبَعْضِ أَهْلِ الصَّدْرِ الأَوَّلِ, وَكَأَنَّهُ لِقِدَمِ الخِلافِ فِيهِ بَدَأَ المُصَنِّفُ بِحَدِيثٍ يُفِيدُ طَهُورِيَّتَهُ، وَهُوَ حُجَّةُ الجَمَاهِيرِ فقالَ:
1/1- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي البَحْرِ: ((هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ مَيْتَتُهُ)) أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ, وَالتِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ.
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) الجَارُّ وَالمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِمُقَدَّرٍ, فكَأَنَّه قَالَ: بَابَ المِيَاهِ أَرْوِي أو أَذْكُرُ- أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ- حَدِيثاً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَهُوَ الأَوَّلُ مِنْ أَحَادِيثِ البَابِ.
وَأَبُو هُرَيْرَةَ هُوَ الصَّحَابِيُّ الجَلِيلُ الحَافِظُ المُكْثِرُ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ عَلَى نَحْوٍ مِنْ ثَلاثِينَ قَوْلاً, قَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: الَّذِي تَسْكُنُ النَّفْسُ إلَيْهِ مِن الأَقْوَالِ أَنَّهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَخْرٍ. وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ؛ وَالحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ.
وذُكِرَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ فِي مُسْنَدِ بَقِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ خَمْسَةُ آلافِ حَدِيثٍ وَثَلاثُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَسَبْعُونَ حَدِيثاً، وَهُوَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ حَدِيثاً، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِن الصَّحَابَةِ هَذَا القَدْرُ وَلا مَا يُقَارِبُهُ.
قُلْت: كَذَا فِي الشَّرْحِ، وَالَّذِي رَأَيْته فِي الِاسْتِيعَابِ لِابْنِ عَبْدِ البَرِّ بِلَفْظِ: "إلَّا أَنَّ عبدَ اللَّهِ، أو عَبْدَ الرَّحْمَنِ، هُوَ الَّذِي يَسْكُنُ إلَيْهِ القَلْبُ فِي اسْمِهِ فِي الإِسْلامِ"، ثُمَّ قَالَ فِيهِ: "مَاتَ فِي المَدِينَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالبَقِيعِ". وَقِيلَ: مَاتَ بِالعَقِيقِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَ يَوْمَئِذٍ أَمِيراً عَلَى المَدِينَةِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ.
(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي البَحْرِ) أَيْ: فِي حُكْمِهِ، وَالبَحْرُ المَاءُ الكَثِيرُ، أَو المَالِحُ فَقَطْ، كَمَا فِي القَامُوسِ، وَهَذَا اللَّفْظُ لَيْسَ مِنْ مَقُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ مَقُولُهُ:(هُوَ الطَّهُورُ) بِفَتْحِ الطَّاءِ المَصْدَرُ وَاسْمُ مَا يُتَطَهَّرُ بِهِ، أَو الطَّاهِرُ المُطَهِّرُ, كَمَا فِي القَامُوسِ. وَفِي الشَّرْعِ: يُطْلَقُ عَلَى المُطَهِّرِ. وَبِالضَّمِّ مَصْدَرٌ.
وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: "إنَّهُ بِالفَتْحِ لَهُمَا" وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي القَامُوسِ بِالضَّمِّ، ولا الجَوْهَرِيُّ (مَاؤُهُ) هُوَ فَاعِلُ المَصْدَرِ، وَضَمِيرُ مَاؤُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ أُرِيدَ بِالضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: (هُوَ الطَّهُورُ). البَحْرُ، بمعنى مَكَانَهُ، إذْ لَوْ أُرِيدَ بِهِ المَاءُ لَمَا اُحْتِيجَ إلَى قَوْلِهِ: (مَاؤُهُ)؛ إذْ يَصِيرُ المَعْنَى: الماءُ طَهُورٌ مَاؤُهُ! وَ (الحِلُّ) هُوَ مَصْدَرُ: حَلَّ الشَّيْءُ ضِدُّ حَرُمَ، وَلَفْظُ الدَّارَقُطْنِيِّ: ((الحَلالُ))، (مَيْتَتُهُ) هُوَ فَاعِله أَيْضاً, (أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ).
(وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هُوَ: أَبُو بَكْرٍ، قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي حَقِّهِ: "الحَافِظُ العَدِيمُ النَّظِيرِ الثَّبَتُ النِّحْرِيرُ, عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ صَاحِبُ المُسْنَدِ وَالمُصَنَّفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ"، وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ مَاجَهْ. (وَاللَّفْظُ لَهُ) أَيْ: لَفْظُ الحَدِيثِ السَّابِقِ سَرْدُهُ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَغَيْرُهُ -مِمَّنْ ذُكِرَ- أَخْرَجُوهُ بِمَعْنَاهُ، (وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ) هو بِضَمِّ الخَاءِ المُعْجَمَةِ فَزَايٍ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ فَتَاءُ تَأْنِيثٍ.
قَالَ الذَّهَبِيُّ: "الحَافِظُ الكَبِيرُ إمَامُ الأَئِمَّةِ شَيْخُ الإِسْلامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، انْتَهَتْ إلَيْهِ الإِمَامَةُ وَالحِفْظُ فِي عَصْرِهِ بِخُرَاسَانَ" (و) صَحَّحَهُ (التِّرْمِذِيُّ) أَيْضاً، فَقَالَ عَقِبَ سَرْدِهِ: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَسَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ البُخَارِيَّ عَنْ هَذَا الحَدِيثِ فَقَالَ: "حَدِيثٌ صَحِيحٌ". هَذَا لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ كَمَا فِي مُخْتَصَرِ السُّنَنِ لِلْحَافِظِ المُنْذِرِيِّ.
وَحَقِيقَةُ الصَّحِيحِ عِنْدَ المُحَدِّثِينَ: "مَا نَقَلَهُ عَدْلٌ تَامُّ الضَّبْطِ عَنْ مِثْلِهِ مُتَّصِلَ السَّنَدِ غَيْرَ مُعَلٍّ وَلا شَاذٍّ"؛ هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ المُصَنِّفُ هَذَا الحَدِيثَ فِي التَّلْخِيصِ مِنْ تِسْعِ طُرُقٍ عَنْ تِسْعَةٍ مِن الصَّحَابَةِ، وَلَمْ تَخْلُ طَرِيقٌ مِنْهَا عَنْ مَقَالٍ إلَّا أَنَّهُ قَدْ جَزَمَ بِصِحَّتِهِ مَنْ سَمِعْتَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ مَنْدَهْ، وَابْنُ المُنْذِرِ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ البَغَوِيُّ.
قَالَ المُصَنِّفُ: "وَقَدْ حُكِمَ بِصِحَّةِ جُمْلَةٍ مِن الأَحَادِيثِ لا تَبْلُغُ دَرَجَةَ هَذَا وَلا تُقَارِبُهُ".
قَالَ الزُّرْقَانِيُّ فِي (شَرْحُ المُوَطَّأِ): وَهَذَا الحَدِيثُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الإِسْلامِ، تَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بِالقَبُولِ، وَتَدَاوَلَهُ فُقَهَاءُ الأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الأَقْطَارِ وفِي سَائِرِ الأَعْصَارِ، وَرَوَاهُ الأَئِمَّةُ الكِبَارُ. ثُمَّ عَدَّ مَنْ رَوَاهُ وَمَنْ صَحَّحَهُ.
وَالحَدِيثُ وَقَعَ جَوَاباً عَنْ سُؤَالٍ كَمَا فِي (المُوَطَّأِ): أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ"- وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ "مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ"، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيُّ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ- إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا نَرْكَبُ البَحْرَ؛ وَنَحْمِلُ مَعَنَا القَلِيلَ مِن المَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ بِهِ؟ وَفِي لَفْظِ أَبِي دَاوُدَ: "بِمَاءِ البَحْرِ؟" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((هُوَ الطَّهُورُ......)) الحديثَ.
فَأَفَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَاءَ البَحْرِ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ لا يَخْرُجُ عَن الطَّهُورِيَّةِ بِحَالٍ, إلَّا مَا سَيَأْتِي مِنْ تَخْصِيصِهِ بِمَا إذَا تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ، وَلَمْ يُجِبْه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: نَعَمْ. مَعَ إفَادَتِهَا الغَرَضَ، بَلْ أَجَابَ بِهَذَا اللَّفْظِ؛ لِيَقْرِنَ الحُكْمَ بِعِلَّتِهِ, وَهِيَ الطَّهُورِيَّةُ المُتَنَاهِيَةُ فِي بَابِهَا.
وَكَأَنَّ السَّائِلَ لَمَّا رَأَى مَاءَ البَحْرِ خَالَفَ المِيَاهَ بِمُلُوحَةِ طَعْمِهِ وَنَتْنِ رِيحِهِ، تَوَهَّمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ مِنْ قَوْلِه تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا} أَيْ بِالمَاءِ المَعْلُومِ إرَادَتُهُ مِنْ قَوْلِهِ: {فَاغْسِلُوا}. أَوْ أَنَّهُ لِمَا عَرَفَ مِنْ قَوْلِه تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِن السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} ظَنَّ اخْتِصَاصَهُ فَسَأَلَ عَنْهُ، فَأَفَادَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحُكْمَ، وَزَادَهُ حُكْماً لَمْ يَسْأَلْ عَنْهُ وَهُوَ حِلُّ مَيْتَتِهِ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: لَمَّا عَرَفَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ اشْتِبَاهَ الأَمْرِ عَلَى السَّائِلِ فِي مَاءِ البَحْرِ، أَشْفَقَ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ حُكْمُ مَيْتَتِهِ، وَقَدْ يُبْتَلَى بِه رَاكِبُ البَحْرِ، فَعَقَّبَ الجَوَابَ عَنْ سُؤَالِهِ بِبَيَانِ حُكْمِ المَيْتَةِ.
قَالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: وَذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنِ الفَتْوَى، أَنْ يُجَاءَ فِي الجَوَابِ بِأَكْثَرَ مِمَّا سُئِلَ عَنْهُ؛ تَتْمِيماً لِلْفَائِدَةِ، وَإِفَادَةً لِعِلْمٍ آخرَ غَيْرِ المَسْئُولِ عَنْهُ؛ وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ عِنْدَ ظُهُورِ الحَاجَةِ إلَى الحُكْمِ كَمَا هُنَا؛ لِأَنَّ مَنْ تَوَقَّفَ فِي طَهُورِيَّةِ مَاءِ البَحْرِ فَهُوَ عَن العِلْمِ بِحِلِّ مَيْتَتِهِ مَعَ تَقدّيُمِ (1) تَحْرِيمِ المَيْتَةِ أَشَدُّ تَوَقُّفاً.
ثُمَّ المُرَادُ مَا مَاتَ فِيهِ مِنْ دَوَابِّهِ مِمَّا لا يَعِيشُ إلَّا فِيهِ، لا مَا مَاتَ فِيهِ مُطْلَقاً، فَإِنَّهُ وَإِنْ صَدَقَ عَلَيْهِ لُغَةً أَنَّهُ مَيْتَةُ بَحْرٍ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لا يُرَادُ إلَّا مَا ذَكَرْنَا، وَظَاهِرُهُ حِلُّ كُلِّ مَا مَاتَ فِيهِ وَلَوْ كَانَ كَالكَلْبِ وَالخِنْزِيرِ، وَيَأْتِي الكَلامُ فِي ذَلِكَ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
2/2- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنَّ المَاءَ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ)) أَخْرَجَهُ الثَّلاثَةُ وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ.
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) اسْمُهُ سَعْدُ بْنُ سِنَانٍ الخَزْرَجِيُّ الأَنْصَارِيُّ، (الخُدْرِيِّ): بِضَمِّ الخَاءِ المُعْجَمَةِ، وَدَالٍ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ، نِسْبَةً إلَى خُدْرَةَ حَيٍّ مِن الأَنْصَارِ، كَمَا فِي القَامُوسِ.
قَالَ الذَّهَبِيُّ: كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَمِمَّنْ شَهِدَ بَيْعَةَ الشَّجَرَةِ، رَوَى حَدِيثاً كَثِيراً وَأَفْتَى مُدَّةً.
عَاشَ أَبُو سَعِيدٍ سِتًّا وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَمَاتَ فِي أَوَّلِ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، وَحَدِيثُهُ كَثِيرٌ، وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِن الصَّحَابَةِ، وَلَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَرْبَعَةٌ وَثَمَانُونَ حَدِيثاً, (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ المَاءَ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ. أَخْرَجَهُ الثَّلاثَةُ) هُمْ أَصْحَابُ السُّنَنِ مَا عَدَا ابْنَ مَاجَهْ كَمَا عَرَفْتَ، (وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ).
قَالَ الحَافِظُ المُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِ السُّنَنِ: إنَّهُ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ. وحُكِيَ عَن الإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: "حَدِيثُ بِئْرِ بُضَاعَةَ صَحِيحٌ".
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَدْ جَوَّدَ أَبُو أُسَامَةَ هَذَا الحَدِيثَ وَلَمْ يُرْوَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ بِأَحْسَنَ مِمَّا رَوَى أَبُو أُسَامَةَ، وَقَدْ روَى هَذَا الحَدِيثَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ .
وَالحَدِيثُ لَهُ سَبَبٌ: وَهُوَ أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ؟ وَهِيَ بِئْرٌ يُطْرَحُ فِيها الحِيَضُ وَلَحْمُ الكِلابِ وَالنَّتْنُ. فَقَالَ: ((المَاءُ طَهُورٌ)) الحَدِيثَ، هَكَذَا فِي (سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ)، وَفِي لَفْظٍ فِيهِ: ((إنَّ المَاءَ)) كَمَا سَاقَهُ المُصَنِّفُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ أَطَالَ فِي الشَّرْحِ المَقَالَ، وَاسْتَوْفَى مَا قِيلَ فِي حُكْمِ المِيَاهِ مِن الأَقْوَالِ، وَلْنَقْتَصِرْ فِي الخَوْضِ فِي المِيَاهِ عَلَى قَدْرٍ يَجْتَمِعُ بِهِ شَمْلُ الأَحَادِيثِ، وَيُعْرَفُ مَأْخَذُ الأَقْوَالِ, وَوُجُوهُ الِاسْتِدْلالِ, فَنَقُولَ: قَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ يُؤْخَذُ مِنْهَا أَحْكَامُ المِيَاهِ؛ فَوَرَدَ حَدِيثُ: ((المَاءُ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ)).
وَحَدِيثُ: ((إذَا بَلَغَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الخَبَثَ)).
وَحَدِيثُ الأَمْرِ بِصَبِّ ذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ عَلَى بَوْلِ الأَعْرَابِيِّ فِي المَسْجِدِ.
وَحَدِيثُ: يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاثاً)).((إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ فَلا يُدْخِلْ
وَحَدِيثُ: ((لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ)).
وَحَدِيثُ: ((إذَا وَلَغَ الكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ)) الحَدِيثَ، وَفِيهِ الأَمْرُ بِإِرَاقَةِ المَاءِ الَّذِي وُلِغَ فِيهِ، وَهِيَ أَحَادِيثُ ثَابِتَةٌ سَتَأْتِي جَمِيعُهَا فِي كَلامِ المُصَنِّفِ.
إذَا عَرَفْتَ هَذَا فَإِنَّهُ اخْتَلَفَتْ آرَاءُ العُلَمَاءِ رَحِمَهُم اللَّهُ تَعَالَى فِي المَاءِ إذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ؛ فَذَهَبَ القَاسِمُ، وَيَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، وَجَمَاعَةٌ مِن الآلِ، وَمَالِكٌ, وَالظَّاهِرِيَّةُ، وَأَحْمَدُ إلَى أَنَّهُ طَهُورٌ قَلِيلاً كَانَ أَوْ كَثِيراً، عَمَلاً بِحَدِيثِ: ((المَاءُ طَهُورٌ)) وَإِنَّمَا حَكَمُوا بِعَدَمِ طَهُورِيَّةِ مَا غَيَّرَتِ النَّجَاسَةُ أَحَدَ أَوْصَافِهِ؛ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا يَأْتِي الكَلامُ عَلَيْهِ قَرِيباً.
وَذَهَبَ الهَادَوِيَّةُ، وَالحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، إلَى قِسْمَةِ المَاءِ إلَى: قَلِيلٍ تَضُرُّهُ النَّجَاسَةُ مُطْلَقاً، وَكَثِيرٍ لا تَضُرُّهُ إلَّا إذَا غَيَّرَتْ بَعْضَ أَوْصَافِهِ.
ثُمَّ اخْتُلِفَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَحْدِيدِ القَلِيلِ وَالكَثِيرِ؛ فَذَهَبَتِ الهَادَوِيَّةُ إلَى تَحْدِيدِ القَلِيلِ بِأَنَّهُ: مَا ظَنَّ المُسْتَعْمِلُ لِلْمَاءِ الوَاقِعَةِ فِيهِ النَّجَاسَةُ اسْتِعْمَالَهَا بِاسْتِعْمَالِهِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ الكَثِيرُ، وَذَهَبَ غيرُهم في تحديدِ القليلِ إلى غيرِ ذلكَ, ثم اخْتَلَفُوا:
فقالَتِ الحَنَفِيَّةُ: الكَثِيرُ في المَاءِ هو مَاءٌ إذَا كانَ بحيثُ إذا حَرَّكَ أَحَدَ طَرَفَيْهِ آدَمِيٌّ لَمْ تَسِرِ الحَرَكَةُ إلَى الطَّرَفِ الآخَرِ، وَمَا عَدَاهُ فَهُوَ القَلِيلُ.
وَقالتِ الشَّافِعِيَّةُ: بلِ الكَثِيرُ مَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ مِنْ قِلالِ هَجَرَ، وَذَلِكَ نَحْوُ خَمْسِمِائَةِ رِطْلٍ؛ عَمَلاً بِحَدِيثِ القُلَّتَيْنِ، وَمَا عَدَاهُ فَهُوَ القَلِيلُ.
وَوَجْهُ هَذَا الِاخْتِلافِ تَعَارُضُ الأَحَادِيثِ الَّتِي أَسْلَفْنَاهَا، فَإِنَّ حَدِيثَ الِاسْتِيقَاظِ، وَحَدِيثَ المَاءِ الدَّائِمِ، يَقْتضِيَانِ أَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ يُنَجِّسُ قَلِيلَ المَاءِ، وَكَذَلِكَ الوُلُوغُ وَالأَمْرُ بِإِرَاقَةِ مَا وَلَغَ الكَلْبُ فِيهِ، وَعَارَضَهَا حَدِيثُ بَوْلِ الأَعْرَابِيِّ وَالأَمْرِ بِصَبِّ ذَنُوبٍ مِن مَاءٍ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ لا يُنَجِّسُ قَلِيلَ المَاءِ.
وَمِن المَعْلُومِ أَنَّهُ قَدْ طَهُرَ ذَلِكَ المَوْضِعُ الَّذِي وَقَعَ فيهِ بَوْلُ الأَعْرَابِيِّ بِذَلِكَ الذَّنُوبِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ((المَاءُ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ))؛ فَقَالَ الأَوَّلُونَ وَهُم القَائِلُونَ: لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ أَحَدَ أَوْصَافِهِ: يُجْمَعُ بَيْنَ الأَحَادِيثِ بِالقَوْلِ بِأَنَّهُ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ كَمَا دَلَّ لَهُ هَذَا اللَّفْظُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ بَوْلِ الأَعْرَابِيِّ، وَأَحَادِيثُ الِاسْتِيقَاظِ، وَالمَاءِ الدَّائِمِ، وَالوُلُوغِ، لَيْسَتْ وَارِدَةً لِبَيَانِ حُكْمِ نَجَاسَةِ المَاءِ، بَل الأَمْرُ بِاجْتِنَابِهَا تَعَبُّدِيٌّ، لا لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِمَعْنًى لا نَعْرِفُهُ، كَعَدَمِ مَعْرِفَتِنَا لِحِكْمَةِ أَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ وَنَحْوِهَا.
وَقِيلَ: بَل النَّهْيُ فِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ لِلْكَرَاهَةِ فَقَطْ، وَهِيَ طَاهِرَةٌ مُطَهِّرَةٌ.
وَجَمَعَتِ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الأَحَادِيثِ بِأَنَّ حَدِيثَ: ((لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ)) مَحْمُولٌ عَلَى مَا بَلَغَ القُلَّتَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا، وَهُوَ كَثِيرٌ، وَحَدِيثَ الِاسْتِيقَاظِ، وَحَدِيثَ المَاءِ الدَّائِمِ، مَحْمُولٌ عَلَى القَلِيلِ. وَعِنْدَ الهَادَوِيَّةِ أَنَّ حَدِيثَ الِاسْتِيقَاظِ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ، فَلا يَجِبُ غَسْلُهُمَا لَهُ.
وَقَالَت الحَنَفِيَّةُ: المُرَادُ بِـ ((لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ)) الكَثِيرُ الَّذِي سَبَقَ تَحْدِيدُهُ. وَقَدَحُوا حَدِيثَ القُلَّتَيْنِ بِالِاضْطِرَابِ، كَذَلِكَ أَعَلَّهُ الإِمَامُ المَهْدِيُّ فِي البَحْرِ، وَبَعْضُهُمْ تَأَوَّلَهُ وَبَقِيَّةَ الأَحَادِيثِ فِي القَلِيلِ، وَلَكِنَّهُ وَرَدَ عَلَيْهِمْ حَدِيثُ بَوْلِ الأَعْرَابِيِّ؛ فَإِنَّهُ كَمَا عَرَفْتَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لا يَضُرُّ قَلِيلُ النَّجَاسَةِ قَلِيلَ المَاءِ، فَدَفَعَتْهُ الشَّافِعِيَّةُ بِالفَرْقِ بَيْنَ وُرُودِ المَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ، وَوُرُودِهَا عَلَيْهِ، فَقَالُوا: إذَا وَرَدَتْ عَلَى المَاءِ نَجَّسَتْهُ، كَمَا فِي حَدِيثِ الِاسْتِيقَاظِ، وَإِذَا وَرَدَ عَلَيْهَا المَاءُ لَمْ تَضُرَّه، كَمَا فِي خَبَرِ بَوْلِ الأَعْرَابِيِّ.
وَفِيهِ بَحْثٌ حَقَّقْنَاهُ فِي حَوَاشِي (شَرْحُ العُمْدَةِ)، وَحَوَاشِي (ضَوْءُ النَّهَارِ)، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُمْ حَكَمُوا أَنَّهُ إذَا وَرَدَت النَّجَاسَةُ عَلَى المَاءِ القَلِيلِ نَجَّسَتْهُ، وَإِذَا وَرَدَ عَلَيْهَا المَاءُ القَلِيلُ لَمْ يَنْجَسْ.
فَجَعَلُوا عِلَّةَ عَدَمِ تَنْجِيسِ المَاءِ الوُرُودَ عَلَى النَّجَاسَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَل التَّحْقِيقُ أَنَّهُ حِينَ يَرِدُ المَاءُ عَلَى النَّجَاسَةِ يَرِدُ عَلَيْهَا شَيْئاً فَشَيْئاً حَتَّى يُفْنِيَ عَيْنَهَا، وَتذْهَبُ قَبْلَ فَنَائِهِ فَلا يَأْتِي آخِرُ جُزْءٍ مِن المَاءِ الوَارِدِ عَلَى النَّجَاسَةِ إلَّا وَقَدْ طَهُرَ المَحَلُّ الَّذِي اتَّصَلَتْ بِهِ، أَوْ بَقِيَ فِيهِ جُزْءٌ مِنْهَا، يَفْنَى وَيَتَلاشَى عِنْدَ مُلاقَاةِ آخِرِ جُزْءٍ مِنْهَا "يَرِدُ عَلَيْهِا" (2) من المَاءِ، كَمَا تَفْنَى النَّجَاسَةُ وَتَتَلاشَى إذَا وَرَدَتْ عَلَى المَاءِ الكَثِيرِ بِالإِجْمَاعِ، فَلا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الماءِ الكَثِيرِ فِي إفْنَاءِ الكُلِّ لِلنَّجَاسَةِ، فَإِنَّ الجُزْءَ الأَخِيرَ من الوَارِدِ عَلَى النَّجَاسَةِ يُحِيلُ عَيْنَهَا لِكَثْرَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا بَقِيَ مِن النَّجَاسَةِ.
فَالعِلَّةُ فِي عَدَمِ تَنْجِيسِهِ بِوُرُودِهِ عَلَيْهَا هي كَثْرَتُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا، لا الوُرُودُ؛ فَإِنَّهُ لا يُعْقَلُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الوُرُودَيْنِ، بِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُنَجِّسُهُ دُونَ الآخَرِ.
وَإِذَا عَرَفْتَ مَا أَسْلَفْنَاهُ وَأَنَّ تَحْدِيدَ الكَثِيرِ وَالقَلِيلِ لَمْ يَنْهَضْ عَلَى أَحَدِهِمَا دَلِيلٌ، فَأَقْرَبُ الأَقَاوِيلِ بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ هو قَوْلُ القَاسِمِ بْنِ إبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِن الصَّحَابَةِ كَمَا فِي البَحْرِ، وَعَلَيْهِ عِدَّةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الآلِ المُتَأَخِّرِينَ، وَاخْتَارَهُ مِنْهُم الإِمَامُ شَرَفُ الدِّينِ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ العِيدِ: إنَّهُ قَوْلٌ لِأَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، وَنَصَرَهُ بَعْضُ المُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَرَجَّحَهُ أَيْضاً مِنْ أَتْبَاعِ الشَّافِعِيِّ القَاضِي أَبُو الحَسَنِ الرُّويَانِيُّ صَاحِبُ بَحْرِ المَذْهَبِ، قَالَهُ فِي الإِمَامِ.
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي (المُحَلَّى): إنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ، وَعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَمَيْمُونَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَحُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ، وَالأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخِيهِ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَابْنِ المُسَيِّبِ، وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَالحَسَنِ البَصْرِيِّ، وَغَيْرِ هَؤُلاءِ.
3/3 - وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنَّ المَاءَ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، إلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ - وَلِلْبَيْهَقِيِّ: ((المَاءُ طَهُورٌ إلَّا إنْ تَغَيَّرَ رِيحُهُ، أَوْ طَعْمُهُ، أَوْ لَوْنُهُ، بِنَجَاسَةٍ تَحْدُثُ فِيهِ)).
(وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ) بِضَمِّ الهَمْزَةِ وَاسْمُهُ: صُدَيٌّ بِمُهْمَلَتَيْنِ, الأُولَى مَضْمُومَةٌ, وَالثَّانِيَةُ مَفْتُوحَةٌ, وَمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ, (البَاهِلِيِّ) بِمُوَحَّدَةٍ نِسْبَةً إلَى بَاهِلَةَ, فِي القَامُوسِ: بَاهِلَةُ قَوْمٌ, وَاسْمُ أَبِيهِ عَجْلانُ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي ذَلِكَ, يَعْنِي فِي اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ، سَكَنَ أَبُو أُمَامَةَ مِصْرَ، ثُمَّ انْتَقَلَ عَنْهَا, وَسَكَنَ حِمْصَ، وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ إحْدَى- وَقِيلَ: سِتٍّ - وَثَمَانِينَ، وَقِيلَ: هُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِن الصَّحَابَةِ بِالشَّامِ. كَانَ مِن المُكْثِرِينَ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ المَاءَ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ, إلَّا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ) المُرَادُ أَحَدُهَا كَمَا يُفَسِّرُهُ حَدِيثُ البَيْهَقِيِّ (أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ).
قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي حَقِّهِ: أَبُو حَاتِمٍ هُوَ الرَّازِيُّ، الإِمَامُ الحَافِظُ الكَبِيرُ, مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ بْنِ المُنْذِرِ الحَنْظَلِيُّ أَحَدُ الأَعْلامِ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ. وَأَثْنَى عَلَيْهِ إلَى أَنْ قَالَ: قَالَ النَّسَائِيُّ: ثِقَةٌ. وتُوُفِّيَ أَبُو حَاتِمٍ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَلَهُ اثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ سَنَةً.
وَإِنَّمَا ضَعَّفَ الحَدِيثَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ- بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ المُعْجَمَةِ- قَالَ أَبُو يُوسُفَ: كَانَ رِشْدِينُ رَجُلاً صَالِحاً فِي دِينِهِ, فَأَدْرَكَتْهُ غَفْلَةُ الصَّالِحِينَ، فَخَلَّطَ فِي الحَدِيثِ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ.
وَحَقِيقَةُ الحَدِيثِ الضَّعِيفِ: هُوَ مَا اخْتَلَّ فِيهِ أَحَدُ شُرُوطِ الصَّحِيحِ وَالحَسَنِ، وَلَهُ سِتَّةُ أَسْبَابٍ مَعْرُوفَةٍ، سَرَدَهَا فِي الشَّرْحِ.
(وَلِلْبَيْهَقِيِّ)(3) هُوَ الحَافِظُ العَلَّامَةُ شَيْخُ خُرَاسَانَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الحُسَيْنِ، لَهُ التَّصَانِيفُ الَّتِي لَمْ يُسْبَقْ إلَى مِثْلِهَا، كَانَ زَاهِداً وَرِعاً تَقِيًّا، ارْتَحَلَ إلَى الحِجَازِ وَالعِرَاقِ.
قَالَ الذَّهَبِيُّ: تَآلِيفُهُ تُقَارِبُ أَلْفَ جُزْءٍ. وَبَيْهَقُ بِمُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ, وَهَاءٍ مَفْتُوحَةٍ, فَقَافٍ: بَلَدٌ قَرِيبَ نَيْسَابُورَ، أَيْ: روايةٌ بِلَفْظِ: ((المَاءُ طَهُورٌ إلَّا إنْ تَغَيَّرَ رِيحُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ)) عُطِفَ عَلَيْهِ ((بِنَجَاسَةٍ)) البَاءُ سَبَبِيَّةٌ، أَيْ: بِسَبَبِ نَجَاسَةٍ ((تَحْدُثُ فِيهِ)).
قَالَ المُصَنِّفُ: قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَلا يَثْبُتُ هَذَا الحَدِيثُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا قُلْت مِنْ أَنَّهُ إذَا تَغَيَّرَ طَعْمُ المَاءِ, أَوْ رِيحُهُ, أَوْ لَوْنُهُ, كَانَ نَجِساً. يُرْوَى عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْهٍ لا يُثْبِتُ أَهْلُ الحَدِيثِ مِثْلَهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقَ المُحَدِّثُونَ عَلَى تَضْعِيفِهِ.
وَالمُرَادُ تَضْعِيفُ رِوَايَةِ الِاسْتِثْنَاءِ لا أَصْلِ الحَدِيثِ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ بِئْرِ بُضَاعَةَ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ قَدْ أَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى القَوْلِ بِحُكْمِهَا.
قَالَ ابْنُ المُنْذِرِ: أَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ المَاءَ القَلِيلَ وَالكَثِيرَ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَغَيَّرَتْ لَهُ طَعْماً أَوْ لَوْناً أَوْ رِيحاً فَهُوَ نَجِسٌ؛ فَالإِجْمَاعُ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى نَجَاسَةِ مَا تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ، لا هَذِهِ الزِّيَادَةُ.
(4)4/4 – وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (({إذَا كَانَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِل الخَبَثَ)).} وَفِي لَفْظٍ: (({لَمْ يَنْجَسْ))} أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ.
(وَعَنْ " عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) " هُوَ: ابْنُ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ صَغِيراً بِمَكَّةَ، وَأَوَّلُ مَشَاهِدِهِ الخَنْدَقُ، وَعَمِّرَ، وَرَوَى عَنْهُ خَلائِقُ، كَانَ مِنْ أَوْعِيَةِ العِلْمِ، كَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَكَّةَ سَنَةَ ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ، وَدُفِنَ بِهَا بِذِي طُوًى فِي مَقْبَرَةِ المُهَاجِرِينَ.
([قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذَا كَانَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِل الخَبَثَ)} بِفَتْحِ المُعْجَمَةِ وَالمُوَحَّدَةِ (وَفِي لَفْظٍ: [لَمْ يَنْجَسْ)] هُوَ بِفَتْحِ الجِيمِ وَضَمِّهَا، كَمَا فِي القَامُوسِ (أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ)، تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ حَدِيثٍ.
(وَالحَاكِمُ) هُوَ الإِمَامُ الكَبِيرُ إمَامُ المُحَقِّقِينَ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ، المَعْرُوفُ بِابْنِ البَيِّعِ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ، وُلِدَ سَنَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَثَلاثِمِائَةٍ، وَطَلَبَ هَذَا الشَّأْنَ، وَرَحَلَ إلَى العِرَاقِ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ، وَحَجَّ ثُمَّ جَالَ فِي خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَسَمِعَ مِنْ أَلْفَيْ شَيْخٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، حَدَّثَ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ, وَأَبُو يَعْلَى الخَلِيلِيُّ, وَالبَيْهَقِيُّ، وَخَلائِقُ. وَلَهُ التَّصَانِيفُ الفَائِقَةُ مَعَ التَّقْوَى وَالدِّيَانَةِ، أَلَّفَ (المُسْتَدْرَكُ)، وَ(تَارِيخُ نَيْسَابُورَ)، وَغَيْرَ ذَلِكَ. تُوُفِّيَ فِي شَهْرِ صَفَرٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ .
: (وَابْنُ حِبَّانَ) بِكَسْرِ الحَاءِ المُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ المُوَحَّدَةِ. قَالَ الذَّهَبِيُّ: هُوَ الحَافِظُ العَلَّامَةُ: أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ حِبَّانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حِبَّانَ البُسْتِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ. سَمِعَ أُمَماً لا يُحْصَوْنَ مِنْ مِصْرَ إلَى خُرَاسَانَ، حَدَّثَ عَنْهُ الحَاكِمُ وَغَيْرُهُ؛ كَانَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ فُقَهَاءِ الدِّينِ، وَحُفَّاظِ الآثَارِ، عَالِماً بِالطِّبِّ وَالنُّجُومِ وَفُنُونِ العِلْمِ، صَنَّفَ (المُسْنَدُ الصَّحِيحُ)، وَ(التَّارِيخُ)، وَ(كِتَابُ الضُّعَفَاءِ)، وَفَقَّهَ النَّاسَ بِسَمَرْقَنْدَ.
قَالَ الحَاكِمُ: كَانَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ أَوْعِيَةِ العِلْمِ وَالفِقْهِ واللغةِ وَالوَعْظِ، مِنْ عُقَلاءِ الرِّجَالِ، تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلاثِمِائَةٍ، وَهُوَ فِي عَُمشْرِ الثَّمَانِينَ.
وَقَدْ سَبَقَت الإِشَارَةُ إلَى أَنَّ هَذَا الحَدِيثَ هُوَ دَلِيلُ الشَّافِعِيَّةِ فِي جَعْلِهِم الكَثِيرَ مَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ، وَسَبَقَ اعْتِذَارُ الهَادَوِيَّةِ وَالحَنَفِيَّةِ عَن العَمَلِ بِهِ بالاضْطِرَابِ فِي مَتْنِهِ؛ إذْ فِي رِوَايَةٍ: (([إذَا بَلَغَ ثَلاثَ قِلالٍ))] وَفِي رِوَايَةٍ: (([قُلَّةً))]، وَبِجَهَالَةِ قَدْرِ القُلَّةِ، وَبِاحْتِمَالِ مَعْنَاهُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: (([لَمْ يَحْمِلِ الخَبَثَ))] يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لا يَقْدِرُ على حَمْلِه, بل يَضُرُّه الخَبَثُ ويَتَلاشَى فِيهِ الخَبَثُ.
وَقَدْ أَجَابَ الشَّافِعِيَّةُ عَنْ هَذَا كُلِّهِ، وَقَدْ بَسَطَهُ فِي الشَّرْحِ إلَّا الأَخِيرَ فَلَمْ يَذْكُرْهُ، كَأَنَّهُ تَرَكَهُ لِضَعْفِهِ؛ لِأَنَّ رِوَايَةَ (([لَمْ يَنْجَسْ))] صَرِيحَةٌ فِي عَدَمِ احْتِمَالِهِ المَعْنَى الأَوَّلَ.
_____________________
(1) لعل الأصح: تقدُّم.
(2) كذا بالأصل ، ولعل الصواب: " ما يَرِدُ عليه ".
(3) في الأصل: (والبيهقي)، وانظر ما تقدم من كلام المصنف عند إيراده الحديث.