(1) (وأمَّا القياسُ: فهوَ رَدُّ الفرْعِ إلى الأصلِ في الحُكْمِ بعِلَّةٍ جامعةٍ تَجْمَعُهُما) أصْلُ القِياسِ في اللغةِ: التشبيهُ، ومنهُ قولُهم: (مَنْ قاسَ جَدَاوِلَكَ بِالْغَمام) ؛ أيْ: مَنْ شَبَّهَ، وقولُهم: (يُقَاسُ المَرْءُ بالمَرْءِ) ؛ أيْ: يُشَبَّهُ.
ويُطْلَقُ: على التقديرِ أيضًا، يُقَالُ: قِسْتُ الثوبَ فكانَ ذِرَاعًا؛ أيْ: قَدَّرْتَهُ؛ وذلكَ لأنَّ المتشابِهَيْنِ يَتقاربانِ في الْمِقدارِ بوَجْهٍ أوْ يَتساويانِ فيهِ.
وقد اخْتَلَفَ العُلماءُ في رَسْمِ القِياسِ الشرعيِّ،
وما ذَكَرَهُ هنا أقرَبُ الرُّسُومِ؛ فإنَّ مَنْ قالَ: القِياسُ: عِبارةٌ عن الاعتبار ، لمْ يَزِدْ على إبدالِ لفظٍ بلفظٍ، ولمْ يُشِرْ إلى معنى القِياسِ الشرعيِّ إلاَّ على بُعْدٍ، مِنْ جِهةِ أنَّ الاعتبارَ افْتِعَالٌ مِن العُبُورِ وهوَ المجاوَزَةُ والعُبُورُ مِنْ شيءٍ إلى شيء ؛ فكذلكَ القِياسُ يَعْبُرُ مِنْ حُكْمِ الأَصْلِ إلى حُكْمِ الفرْعِ.
و مَنْ قالَ: القياسُ: أَمارةٌ على الحكْم ، فقولُهُ ظاهرُ الفسادِ؛ لأنَّهُ ليسَ كُلُّ أَمارةٍ قِياسًا؛ فإنَّ ظنَّ تَنَاوُلِ النصِّ العامِّ للحكْمِ أَمارةٌ على الحكْمِ وليسَ قِياسًا.
ومَنْ قالَ: القياسُ: هوَالاجتهادُ ، أَخطأَ مِنْ حيثُ فَسَّرَ الخاصَّ بالعامِّ؛ فإنَّ الاجتهادَ أعَمُّ مِن القياسِ، فإنَّ حَمْلَ العامِّ على الخاصِّ والمُطْلَقِ على المُقَيَّدِ مِنْ أنواعِ الاجتهادِ، وليسَ ذلكَ قِيَاسًا.
وأمَّا الرسْمُ الذي هوَ اختيارُ القاضي أبي بكرٍ، أنَّ القِياسَ: ( حَمْلُ مَعلومٍ في إثباتِ حُكْمٍ أوْ وَصْفٍ لَهُمَا أوْ نَفْيِهِ عنهما بإثباتِ حُكْمٍ أوْ وَصْفٍ لهما أوْ نَفْيِهِ عنهما) ، فقد اختارَهُ الأئِمَّةُ مِنْ أهلِ الأُصولِ، وقالُوا: إنَّهُ جامعٌ مانعٌ؛ فإنَّ لفظَ المعلومِ يَشملُ الموجودَ والمعدومَ، فهوَ أَجوَدُ مِنْ قولِ مَنْ قالَ: حَمْلُ شيءٍ على شيءٍ.
وقولُهُ: (في إثباتِ حُكْمٍ أوْ وَصْفٍ) الحكْمُ مِثْلُ قولِنا: (التَّبْيِيتُ واجِبٌ في صوْمِ رمضانَ) بالقياسِ على (صَوْمِ الكَفَّارةِ) بِجامِعِ اشتراكِهما في الوُجوبِ.
والوصْفُ مِثلُ قولِنا: النَّبِيذُ نَجِسٌ؛ لأنَّهُ مُسْكِرٌ، فكانَ نَجِسًا قِياسًا على الْخَمْرِ، فأَثْبَتَ وَصْفَ النجاسةِ للنَّبيذِ بالقياسِ على الخمْرِ، وهذا راجعٌ إلى إثباتِ حُكْمٍ أيضًا. ولهذا لمْ يَذْكُر الإمامُ الغزاليُّ في هذا الرسْمِ الوصْفَ معَ الحكْمِ، بلْ قالَ: (حَمْلُ معلومٍ على معلومٍ في إثباتِ حُكْمٍ لهما).
والمطلوبُ مِن القياسِ قدْ يكونُ الإثباتَ كإيجابِ التَّبْيِيتِ مَثَلاً، وقدْ يكونُ النفيَ كعَدَمِ وُجوبِ الزكاةِ في الْحُلِيِّ؛ فلذلكَ قالَ: (أوْ نَفْيِهِ)؛ ليَشملَ القياسَ الْمُفيدَ للإثباتِ والقياسَ المفيدَ للنفيِ.
ثمَّ تَعَرَّضَ لتفصيلِ الجامعِ بينَ الأصلِ والفرْعِ بأنَّهُ قدْ يكونُ اشتراكُهما في حُكْمٍ، مِثلُ: (اشتراكِ الكَلْبِ الذي لا مَنفعَةَ فيهِ) و(الْخِنزيرِ في تحريمِ الاقتناءِ)، فقِياسُ الْخِنزيرِ على الكلْبِ في الحكْمِ بالنجاسةِ بجامِعِ اشتراكِهما في حُكْمٍ، وهوَ تحريمُ اقتنائِهما.
وقدْ يكونُ اشتراكُهما في وَصْفٍ، مِثلُ: (اشتراكِ الخمْرِ) و(النبيذِ) في الشدَّةِ الْمُطْرِبَةِ، فقياسُ النبيذِ على الخمْرِ في الحكْمِ بالتحريمِ بجامِعِ اشتراكِهما في وَصْفٍ، وهوَ الشدَّةُ الْمُطْرِبَةُ.
وقدْ يكونُ الجامعُ اشترَاكَهُما في انتفاءِ حُكْمٍ،مِثلُ قولِنا: (الْخَلُّ لا يَرْفَعُ الحدَثَ)؛ فلا يُزيلُ النجاسةَ (كالْمَرَقِ)، والجامِعُ اشتراكُهما في انتفاءِ حُكْمٍ وهوَ رَفْعُ الحدَثِ.
وقدْ يكونُ الجامعُ اشتراكَهما في انتفاءِ وَصْفٍ، مثلُ قولِنا: (السِّرْجِينُ لا يُباعُ قِياسًا على الْمَيْتَةِ)، بجامِعِ اشترَاكِهِما في انتفاءِ الطهارةِ عنهما.
وفي قولِهِ: (بإِثْبَاتِ حُكْمٍ أوْ وَصْفٍ) مُنَاقَشَةٌ؛ فإنَّ الإثباتَ مَصْدَرُ أَثْبَتَ، فالقياسُ لا يُثْبِتُ الجامعَ بلْ يُظْهِرُهُ؛ لِيَتَعَدَّى الحكْمُ بهِ مِن الأصلِ إلى الفرْعِ. وكذلكَ نفيُ الحكْمِ أو الوصْفِ بجَامِعٍ، ليسَ شيئًا يُحْدِثُهُ القياسُ، بل الانتفاءُ مُتَحَقِّقٌ في نفسِ الأمرِ، يُظْهِرُهُ القياسُ ليَنتفيَ الحكْمُ عن الفرعِ كما انتَفَى عن الأصلِ.
ولهذا قالَ ابنُ الخطيبِ: (بِأَمْرٍ جامعٍ بينَهما مِنْ حُكْمٍ أوْ صفةٍ)، بَدَلَ قولِهِ: (بإثباتِ حُكْمٍ أوْ صفةٍ).
وقولُهُ: (أوْ نَفْيِهِ عنهما) هكذا صوابُ العِبارةِ؛ فإنَّ الجامعَ يَجِبُ أنْ يكونَ مُشْتَرَكًا بينَ الفرعِ والأصلِ، وإلاَّ لمْ يكُنْ جامعًا).
وأَفْرَدَ بعضُهم الضميرَ في عنْهُما، فقالَ: (أو نفيِهِ عنْهُ) على إرادةِ الفرْعِ، يعني: أنْ يُبَيِّنَ إثباتَ الجامِعِ مِنْ إثباتٍ أوْ نفيٍ في الفرْعِ؛ ليَتَعَدَّى الحكْمُ مِن الأصلِ إليهِ ، وفي ذلكَ ما يَقتضِي إثباتَ الجامعِ في الفرْعِ، والجامعُ حَقُّهُ أنْ يكونَ ثابتًا بنفسِهِ؛ ليَثْبُتَ الحكْمُ المُدَّعَى في الفرْعِ بهِ،
وهذا الرسْمُ فَاسِدٌ بأُمُورٍ:
أحدُها:
أنْ يَقتضِيَ مُساواةَ الفرْعِ الأصلَ في إثباتِ حُكْمِهما.
فإنَّهُ قالَ: (حَمْلُ معلومٍ على معلومٍ في إثباتِ حُكْمٍ لهما). فجَعَلَ حُكْمَهما ثابتًا بإثباتِ القايسِ.
وليسَ الأمرُ في القياسِ كذلكَ، بلْ حُكْمُ الأصلِ يَجِبُ أنْ يكونَ ثابتًا قَبلَ القِياسِ، وإنَّما يَجتهدُ القايسُ في إثباتِ مِثلِ حُكْمِ الأصلِ في الفرْعِ، لا في إثباتِ حُكمِ الأصلِ والفرْعِ جميعًا.
الثاني:
أنَّهُ تَعَرَّضَ لتفصيلِ الجامعِ مِنْ كونِهِ إثباتَ حُكْمٍ أوْ صفةٍ أوْ نَفْيَ ذلكَ.
وتفصيلُ الجامعِ ليسَ داخلاً في ماهِيَّةِ القِياسِ، بالَّذِي يَتَوَقَّفُ عليهِ مَعرِفَةُ القياسِ الجامعِ الْمُطْلَقِ؛ فإنَّ الحاجةَ إلى ذِكْرِهِ لنفْسِ كونِهِ جَامِعًا، لا بخُصُوصيَّةٍ مِنْ خُصوصيَّاتِهِ.
ولوْ كانَ ذلكَ داخلاً في التَّعْرِيفِ لَزِمَ التعرُّضُ لأقسامِ الْمَقِيسِ عليهِ، مِنْ كَوْنِهِ مَنصوصًا على عِلَّتِهِ، أوْ مَأْخُوذًا مِن الاستنباطِ؛ فإنَّ الأصلَ في أَحَدِ أركانِ القِياسِ، كما أنَّ الجامِعَ أَحَدُ أَرْكَانِهِ.
فلَمَّا لمْ يَجِب التَّعَرُّضُ لأقسامِ الأصلِ لمْ يَجِبْ ذلكَ في الجامِعِ، فذِكْرُهُ مُستَدْرَكٌ.
الثالثُ:
أنَّ القياسَ الفاسدَ: يَخْرُجُ مِنْ هذا الرسْمِ فهوَ باطلٌ؛ لأنَّ لفظَ القِياسِ يَشْمَلُ الصحيحَ والفاسدَ؛ بدليلِ تقسيمِهم القياسَ إلى الصحيحِ والفاسدِ، ومَوْرِدُ التقسيمِ مشْتَرَكٌ. بيانُ خُروجِ الفاسدِ عنْ هذا الرسْمِ أنَّهُ شَرْطٌ في حُصولِ الجامعِ، ومَتَى تَحَقَّقَ الجامعُ بينَ الأصلِ والفرعِ كانَ القِياسُ صَحيحًا، ومتى لمْ يَتَحَقَّقْ كانَ فاسدًا، فكان حَقُّهُ أنْ يقولَ: (بِجَامِعٍ في نَظَرِ المجتَهِدِ)؛ ليَتناوَلَ الفاسدَ والصحيحَ.
ولأجْلِ هذهِ الإِشْكَالاتِ قالَ أبو الحسينِ البَصريُّ: (القياسُ تحصيلٌ لِحُكْمِ الأَصْلِ في الفرْعِ؛ لاشتباهِهما في عِلَّةِ الحُكْمِ عندَ المجتَهِدِ).
وقولُهُ في الكتابِ: (رَدُّ الفرْعِ إلى الأَصْلِ في الحكْمِ بعِلَّةٍ تَجْمَعُهما) سالِمٌ مِن الإشكالِ الأوَّلِ والثاني دونَ الثالثِ؛ فإنَّهُ يَخْرُجُ منهُ القياسُ الفاسِدُ، فهوَ أَقْرَبُ مِن الْحَدِّ المشهورِ.
ولوْ أُضيفَ إليهِ في نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ سَلِمَ مِن الإشكالاتِ الثلاثةِ.
وقيلَ: إنما عُدِلَ في الحَدِّ المشهورِ عنْ ذِكْرِ الفرْعِ والأصلِ؛ لأنَّ المُتَبَادِرَ إلى الفَهْمِ منهما المَوْجُودُ، فعُدِلَ إلى ما يَعُمُّ الموجودَ والمعدومَ، ولا طائلَ في هذا القولِ؛ فإنَّ قولَهُ في الْحَدِّ المشهورِ: (في إثباتِ حُكْمٍ أوْ صِفةٍ لهما)، يُشْعِرُ بالموجودِ إشعارًا ظاهرًا، لا يُفْهَمُ مِثلُهُ مِنْ لَفْظِ الأصلِ والفرْعِ. ثمَّ التَّعَرُّضُ للمعدومِ ليسَ عظيمَ أَمْرٍ في القِياسِ، فلا قِياسَ إنَّما هوَ إضافةٌ بينَ ثابتَيْنِ إمَّا في الذِّهْنِ وإمَّا في الخارجِ، فلا قِياسَ إلاَّ حيثُ يَصْدُقُ الموجودُ، فلا معنى للتَّعَرُّضِ للمعدومِ.
والتعَبُّدُ بالقياسِ جائزٌ عَقْلاً؛ فإنَّهُ لا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِهِ مُحالٌ، وكلُّ شيءٍ لا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِهِ مُحَالٌ فهوَ جائزٌ عَقْلاً، ولأنَّ التشبيهَ والتمثيلَ والجمْعَ بينَ الشيئَيْنِ بِوَصْفٍ مُعتَمَدٍ مِن الأمورِ العادِيَّةِ، فلا امتناعَ في كونِهِ طَريقًا إلى تَحصيلِ المصلَحَةِ واجتنابِ الْمَفْسَدةِ.
والفقهاءُ مُجْمِعونَ على أنَّ الشرْعَ وَرَدَ بالتعَبُّدِ بهِ، وأنَّهُ حُجَّةٌ يَجِبُ الرجوعُ إليهِ في الأحكامِ الشرعيَّةِ.
- واحْتَجُّوا على ذلكَ بأشياءَ؛ منها قولُهُ تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}، الاعتبارُ: المجاوَزَةُ، فأَمَرَهم بتَعديَةِ حُكْمِ الأصلِ إلى الفرْعِ.
- وقولُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ للَّذِي سأَلَهُ عنْ قُبْلَةِ الصائمِ: ((أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْتَهُ)).
- وقولُهُ عليهِ السلامُ للَّذِي سَأَلَهُ: ((أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ)).
وكلُّ هذهِ التَّمَسُّكاتِ ضَعيفةٌ؛ فإنَّ سِياقَ الآيَةِ يُعْطِي أنَّ المقصودَ بالاعتبارِ هوَ النظَرُ في فِعْلِ اللهِ سُبحانَهُ بالكافرِ؛ بدليلِ قولِهِ: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةٌ بِمَا ظَلَمُوا}.
وأمَّا الخبرُ: فهوَ خبرُ واحدٍ لا يَصْلُحُ طريقًا لإثباتِ أَصْلٍ مقطوعٍ بهِ، ثمَّ فيهِ إثباتُ القياسِ مُطْلَقًا بقياسٍ منصوصٍ عليهِ.
ولا يَلْزَمُ مِنْ كونِ القياسِ المأخوذِ مِن النصِّ حُجَّةً، أنْ يكونَ كُلُّ قِياسٍ حُجَّةً.
وأَجْوَدُ الطُّرُقِ في إثباتِ القياسِ التمَسُّكُ بإجماعِ الصحابةِ عليهِ؛
فإنَّهُم لَمَّا اخْتَلَفوا في الْجَدِّ وفي الأَكْدَرِيَّةِ، وفي قولِهِ: أنتِ حَرَامٌ، وفي التشريكِ في الميراثِ، أَخَذَ كُلُّ واحدٍ منهم بما رَآهُ عندَهُ قِياسًا صحيحًا، ولمْ يُنْكِرْ بعضُهم على بعضٍ، وذلكَ دليلٌ على إجماعِهم على جَوازِ القياسِ في الشرْعِيَّاتِ.
- وما احْتَجَّ بهِ مُنْكِرو القياسِ مِنْ قولِهِ تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}، وقولِهِ: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ}، وقولِهِ تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}، والقياسُ ظَنٌّ، وما جاءَ مِنْ ذَمِّ القائلينَ بالرَّأْيِ، كُلُّ ذلكَ شُبهةٌ لا تقومُ بهِ الْحُجَّةُ على دَعواهُم؛ فإنَّ الحكْمَ بالقياسِ راجعٌ إلى الكتابِ، وهوَ رَدٌّ إلى اللهِ ورسولِهِ، وليسَ القياسُ مِن الظنِّ الذي لا يُغْنِي مِن الحقِّ شيئًا؛ فإنَّ ذلكَ الظنَّ هوَ الظنُّ الذي لا أَصلَ لهُ في الشريعةِ، فأمَّا ما لهُ أصْلٌ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ فهوَ مِن الْحَقِّ، والعملُ بهِ واجبٌ؛ بدليلِ الشاهِدِ والْمُفْتِي؛ فإنَّ قَوْلَهما ظَنٌّ ويَجِبُ العملُ بهِ.
وذَمُّ القولِ بالرأيِ مَحمولٌ على الرأيِ بغيرِ أَصْلٍ، والرأيُ أَعَمُّ مِن القياسِ. ومِنْ لطيفِ الأجْوِبَةِ عن التمَسُّكِ بقولِهِ تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}
- قولُ مَنْ قالَ بِرَدِّ القِياسِ وكونِهِ ليسَ حُجَّةً: إن قيلَ: إنَّهُ مأخوذٌ مِنْ نَصِّ الكتابِ، كانَ باطلاً، وإنْ قيلَ بالرَّدِّ إليهِ بِوَسَطٍ، فقدْ حَصَلَ الاعترافُ بإثباتِ حُكْمٍ بأَمْرٍ يَرْجِعُ إلى الكتابِ، والقياسُ كذلكَ، فلا يكونُ في الآيَةِ دَليلٌ على إبطالِهِ.
- وأمَّا التمَسُّكُ بحديثِ مُعاذٍ حينَ قالَ لهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((بِمَ تَحْكُمُ؟))
قَالَ: بِكِتَابِ اللهِ، قَالَ: ((فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟))
قَالَ: بِالسُّنَّةِ، قَالَ: ((فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟))
قالَ: فَإِنِّي أَجْتَهِدُ رَأْيِي فضعيفٌ لأمورٍ:
أحدُها:
أنَّ هذا الحديثَ مُرْسَلٌ، وقدْ تَقَدَّمَ أنَّ الْمُرْسَلَ لا يُحْتَجُّ بهِ.
فإنْ قيلَ: هوَ مُتَلَقًّى بالقَبولِ فيَجبُ العملُ بهِ، كما في قولِهِ عليهِ السلامُ: ((لاَ يَرِثُ الْقَاتِلُ)) ؛ فإنَّهُ مُرْسَلٌ ووجَبَ العملُ بهِ لَمَّا تَلَقَّتْهُ الأمَّةُ بالقَبولِ.
قيلَ: تَلَقِّي خبرِ مُعاذٍ هذا بالقَبولِ ممنوعٌ؛ فإنَّ المُتَدَاوِلَ لهُ بعضُ أهلِ الأصولِ، ولَيْسُوا كُلَّ الأُمَّةِ، وقدْ نَصَّ أَئِمَّةُ الحديثِ على ضَعْفِهِ وإرسالِهِ، بخِلافِ حديثِ مِيراثِ القاتلِ؛ فإنَّ أهلَ العلْمِ على اختلافِهم واختلافِ طَبَقاتِهم قَبِلُوهُ.
ولوْ قيلَ: الحكْمُ مُستفادٌ مِن الاتِّفاقِ عليهِ لا مِن الخبرِ المرسَلِ لمْ يكُنْ بَعيدًا.
والثاني:
أنَّ رأيَ مُعاذٍ قدْ يكونُ مُسَدَّدًا، فهذهِ واقعةُ عَيْنٍ لا عُمومَ لها.
والثالثُ:
أنَّ الرأيَ أَعَمُّ مِن القياسِ؛ فإنَّ الرأيَ هوَ الاجتهادُ، والعلماءُ مُجْمِعونَ على وُجوبِ الاجتهادِ عندَ العَجْزِ عن النصوصِ، ومختلِفونَ في القِياسِ حينئذٍ، وما أُجْمِعَ عليهِ غيرُ ما اخْتُلِفَ فيهِ، ولأنَّ مِنْ أبوابِ الاجتهادِ الأخْذَ بالبراءةِ الأصلِيَّةِ، واستصحابَ الحالِ، والأخْذَ بالأشَدِّ، فلا يَلْزَمُ مِن الإذْنِ في الرأيِ الذي هوَ أَعَمُّ مِن القياسِ الإذْنُ في خُصوصِ القِياسِ.
وأَضْعَفُ مِنْ هذا التمَسُّكُ بكتابِ عمرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ إلى أبي موسى الأشعريِّ
وقولِهِ: (قِس الأمورَ بعضَها ببعض) فإنَّ هذهِ الرسالةَ مُرْسَلةٌ وهيَ قولُ صحابِيٍّ.