تمهيد

[عبد العزيز الداخل]

معالم العلوم

تمهيد:
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فقد بعث الله تعالى نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق؛ فبيّن للناس ما نُزّل إليهم، وأخرج الله به من شاء من عباده من الظلمات إلى النور فنجَّاهم وزكَّاهم، وعلَّمهم الكتاب والحكمة، وجعلهم أئمةً يهدون بأمره، ويجاهدون في سبيله، ويقيمون أمر دينه؛ فاجتمعوا من بعد افتراق، وائتلفت قلوبهم من بعد اختلاف، واهتدوا من بعد الضلال؛ فنالوا بفضل الله ورحمته ما نالوا ، وبلغوا من الدرجات العلى ما بلغوا {لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} .
فكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلمَ الناس بالله وأتقاهم لمولاه، وأخشاهم قلباً، وأزكاهم نفساً، وأحسنهم هدياً، وكان مع ذلك أصدقَهم قولاً، وأفصحَهم لساناً، وأحسنهم بيانا، اختاره الله على علم، وفضّله على الخلق، وجمع الله له محاسن الشِّيَم، ومكارمَ الأخلاق، وآتاه جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً؛ فكان قليلُ حديثه كثيرَ المعاني، جليلَ القدر، عظيمَ البركة؛ فلبث في هذه الأمة ما شاء الله أن يلبث حتى اختاره الله في الرفيق الأعلى، وقد أكمل له الدين، وأتمّ به النعمة، وأقام به الحجة، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وقد ورّث العلمَ أصحابَه الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه؛ فتحمّلوه أحسن التحمّل، وأدّوه أجمل الأداء، غير متكلّفين ولا مبدّلين، وكانوا أقرب هذه الأمة إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأعظمهم اهتداء بنور النبوة، واقتباساً من مشكاة الوحي، ثم لم يزل هذا العلم يحمله من كل قرن عدوله؛ فيقومون به كما أراد الله لهم أن يقوموا به، وكان أهل كلّ زمان يحفظون العلم بما يسّر الله لهم من وسائل الحفظ؛ فكان الصدر الأول أهل حفظ ودراية ورعاية، وكانوا أمّةً أميّة، والكُتّاب فيهم قليل، لا يكتب الحديث منهم ولا يدوّن العلم إلا نفر معروفون، بل كان من هؤلاء الأئمة من يذمّ الكتابة ويحذّر منها خشية دخول الغلط على الكاتب؛ فيأخذ من الكِتاب من لم يتلقَّ اللفظ ولم يعرف الحال؛ فيدخل عليه ما يدخل من الغلط والضلال.

فلمّا كثر نَقَلَةُ العلم والأخبار ورواة الأحاديث والآثار ، واختلفت أحوالهم؛ احتاج أهل القرن الذي يليهم إلى كتابة العلم وحفظه، فظهر فيهم تدوين الأحاديث والآثار، وصحف التفسير، واحتاطوا لصيانتها من الغلط والتصحيف ما احتاطوا به من الجمع بين الحفظ والكتابة والعرض والتمييز، وكان منهم من يكتب حتى يحفظ ثم يمحو ما كتب، وكانوا يأخذون العلم والهدْي من الرعيل الأول؛ فكان منهم العلماء والعباد والوعّاظ والمجاهدون وكان منهم من جمع من أبواب الخير والفضل ما جمع؛ فكانوا أئمة سادة، وأسوة حسنة لمن بعدهم؛ فكتبوا الصحف والنسخ والأجزاء.

فلما كان القرن الذي يليهم ورأوا كثرة المرويات والأخبار وكثرة اختلاف أحوال الرواة والمفتين دعتهم الحاجة العلمية إلى تأليف الجوامع والسنن والمسانيد، وكتب التاريخ وأحوال الرجال، ونقلَ طائفةٌ منهم أشعار العرب وأخبارهم وأحوالهم وما أُثِرَ من لغاتهم ومعاني ألفاظهم وتفننهم في أساليبهم ليحفظوا بذلك اللسان العربي الذي شرّفه الله بأن يكون أداة هذا الدين ولسانه المبين.

فلما كثرت تلك المؤلفات على القرن الذي يليهم احتاجوا إلى تأليف المعاجم والمسانيد الكبار، وكثرت الكتابة المفردة في أبواب من العلم.

فلمّا كان القرن الذين يليهم احتاجوا إلى جمع هذه الأصول وتنقيحها وتهذيبها وتدوين كلام العلماء في شرحها واختلافهم في مسائلها؛ فظهرت الجوامع والمستخرجات والشروح والتعقبات وإن كان لبعض ذلك بداية فيمن كان قبلهم.

ولم يزل علماء كل قرن يؤلفون ما يحتاج إليه طلاب العلم في حفظه وبيانه وتحريره؛ فكثرت المؤلفات وتنوعت مقاصد التأليف، واحتاج الطلاب إلى مختصرات تضبط لهم أصول العلم في كل فنّ، فاختُصِرت المختصرات وتنوعت طرائقها، ثم احتاجوا إلى شروحٍ لتلك المختصرات تفك مغالقها، وتبين مقاصدها، وتُكمل فوائدها.

ولم يزل أهل العلم ينهل بعضهم من بعض ويتعقب بعضهم مؤلفات بعض تنبيها وتهذيبا، وشرحاً وتقريباً، حتى صار لهم في الشروح ألوان من المؤلفات والتقريرات؛ فكان من رحمة الله عز وجل أن يسّر لأهل القرن الذين سبقونا آلات الطباعة فاستغنوا بالتصوير الذي يطابق الأصل عن النسخ باليد ومكابدة المقابلة والتصحيح؛ وأنشئت المراكز والمجامع العلمية التي عنيت بتوجيه الإنتاج العلمي وتحسينه، وبرز أساتذة كبار في التحقيق والنشر، فازدهرت أعمال الطباعة ونشطت المطابع حتى كثرت المطبوعات، وفاتت على الحصر والعد.
فمنّ الله على أهل هذا القرن بوسائل التقنية التي تستوعب كثيراً من تلك الكتب فأُنتجت البرامج الآلية وأنشئت المواقع على الشبكة العنكبوتية، وثارت ثورة المعلومات، واتسعت دائرة القرّاء، وكثرت الكتب المصورة والمنسوخة، وتعددت نسخها على الشبكة وتفاوتت جودتها.
وظهر ما عُرف بالتعليم عن بعد؛ فعقدت الدروس والدورات العلمية في الشبكة العالمية ( الانترنت ) وفي الإذاعات والقنوات الفضائية.
وكثرت المواقع التعليمة وتنوّعت مسالكها في التعليم، وظهرت المواقع العلمية المتخصصة في بعض العلوم كالتفسير والحديث والفقه وأصوله والسيرة والتاريخ والأنساب، وغيرها.
واجتهد أهل كلّ علم في استخراج مؤلفاته، وتبيين فروعه، ومناقشة كثير من مسائله، ودراسة مناهج المؤلفين فيه، والتعريف بأطواره.

أهمية معرفة معالم العلوم
من المهمّ لطالب العلم أن يتعرّف معالم العلوم، وأن يكون على بيّنة من نشأتها، وما مرّت به من أطوار، وأهمّ الكتب المؤلّفة في كلّ علم، واستفادة بعضها من بعض، وطرق تنامي المؤلفات في العلوم، وأشهر الأئمة الذين لهم آثار في تلك العلوم، ومعرفة قدرٍ صالح من مناهجهم، وتنوّع مسالكهم في تعلّم تلك العلوم وتعليمها.
ولذلك رأيت وضع مختصر ميسّر يفيد طلاب علوم الشريعة واللغة العربية في معرفة معالم العلوم التي اعتنى بها أهل العلم رحمهم الله تعالى.


مقاصد دورة معالم العلوم
مقاصد هذه الدورة العلمية يمكن إجمالها فيما يلي:
1: بيان نشأة علوم الشريعة واللغة العربية، وتطوّر أطوارها، وذكر المهمّ من أخبارها.
2: التعريف بأهم المؤلفات في كلّ علم، وبيان بعض آثارها.
3: التعريف بأئمة كلّ علم وذكر بعض مآثرهم وآثارهم.
4: بيان تنوّع مسالك العلماء في تعلّم العلوم وتعليمها.
5: التعريف بفروع العلوم وأبوابها المهمة، واتصال بعض العلوم ببعض.
6: التعريف بالأدوات العلمية التي يحتاجها طالب كل علم.
7: توصية طلاب العلم بجملة من الوصايا التي تعينهم على تصحيح وتحسين طلبهم للعلم.