(3) وأمَّا المَكْرُوهُ فهوَ لغةً: ضِدُّ المحبوبِ.
واصطلاحًا:
ما طَلَبَ الشرعُ تَرْكَهُ طَلَبًا غيرَ جازمٍ: كالالتفاتِ فِي الصلاةِ بالرَّقَبَةِ، والأخذِ والإعطاءِ بالشِّمَالِ.
والقيدُ الأَوَّلُ: لإخراجِ ما تَقَدَّمَ فِي المحظورِ.
والقيدُ الثاني: لإخراجِ المحظورِ.
والمكروهُ
يُثَابُ تاركُهُ امْتِثَالاً، ولا يُعَاقَبُ فَاعِلُهُ.
واعْلَمْ أنَّ المكروهَ يُطْلَقُ عندَ المُتَأَخِّرِينَ علَى المكروهِ تَنْزِيهًا، وهوَ ما تَقَدَّمَ تَعْرِيفُهُ؛ لأنَّ الأحكامَ أربعةٌ، وكُلَّ واحدٍ قدْ خُصَّ باسمٍ غَلَبَ عليهِ، فَيَنْبَغِي أنَّ المكروهَ إذا أُطْلِقَ يَنْصَرِفُ إلَى مُسَمَّاهُ دونَ غيرِهِ مِمَّا قدْ يُسْتَعْمَلُ فيهِ.
وأمَّا الأَئِمَّةُ - كالشَّافعيِّ وأحمدَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فإنَّهُم يُطْلِقُونَ المَكْرُوهَ علَى المُحَرَّمِ، وَيُعَبِّرُونَ بهِ عنهُ تَوَرُّعًا وَحَذَرًا من الوقوعِ فِي النَّهْيِ عن القولِ: هذا حلالٌ وهذا حرامٌ.
لقولِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}.
ولكنَّ كَثيرًا من المُتَأَخِّرِينَ غَلِطُوا علَى أَئِمَّتِهِم، فَفَسَّرُوا لفظَ الكراهةِ فِي كلامِهِم بكراهةِ التنزيهِ. وهذا لم تُرِدْهُ الأَئِمَّةُ.
ومنْ كلامِ الإمامِ أحمدَ رَحِمَهُ اللَّهُ: (أَكْرَهُ الْمُتْعَةَ والصَّلاةَ فِي المقابرِ)، وهما مُحَرَّمَانِ.
وفي (مُخْتَصَرِ الخِرَقِيِّ): (وَيُكْرَهُ أَنْ يُتَوَضَّأَ فِي آنِيَةِ الذهبِ والفِضَّةِ).
نَقَلَهُ عنْ أبي عبدِ اللَّهِ، وهذا لقِيَامِ الدليلِ علَى إرادةِ كراهةِ التحريمِ.
أمَّا إذا وَرَدَ لفظُ الكراهةِ فِي كلامِ الإمامِ أحمدَ منْ غيرِ أنْ يَدُلَّ دليلٌ منْ خارجٍ علَى إرادةِ التحريمِ أو التنزيهِ.
فقيلَ:
يُحْمَلُ علَى كراهةِ التحريمِ.
وقيلَ:
علَى كراهةِ التَّنْزِيهِ.
وهوَ قولُ الطُوفِيِّ، قالَ فِي(شرحِ الكوكبِ المُنِيرِ) (1/420): واخْتَارَهُ أكثرُ الأصحابِ. اهـ
ومنْ ذلكَ قولُ الإمامِ أحمدَ رَحِمَهُ اللَّهُ: (أَكْرَهُ النَّفْخَ فِي الطعامِ، وَإِدْمَانَ اللَّحْمِ والخُبْزِ الكِبَارِ)، وكراهةُ ذلكَ للتَّنْزِيهِ.
ولابنِ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي (إِعْلامِ المُوَقِّعِينَ) كلامٌ مفيدٌ حولَ هذا الموضوعِ، فَرَاجِعْهُ فِي الجزءِ الأَوَّلِ ص39.
(1) والقسمُ الثالثُ
المُبَاحُ: وهو لُغَةً: المُعْلَنُ والمَأْذُونُ فيهِ. يُقَالُ: باحَ فلانٌ بِسِرِّهِ: أَظْهَرَهُ، وأَبَاحَ الرَّجُلُ مالَهُ: أَذِنَ فِي الأخْذِ والتَّرْكِ، واسْتَبَاحَ الناسُ العُشْبَ: أَقْدَمُوا علَى رَعْيِهِ.
واصطلاحًا:
ما لا يَتَعَلَّقُ بهِ أمْرٌ ولا نهيٌ لذاتِهِ، كالاغتسالِ للتَّبَرُّدِ، والمُبَاشَرَةِ لَيَالِيَ الصِّيَامِ.
وَخَرَجَ بالقَيْدِ الأَوَّلِ: وهوَ (مَا لا يَتَعَلَّقُ بهِ أَمْرٌ) الواجبُوالمندوبُ؛ لأنَّهُ مأمورٌ بهما.
وَخَرَجَ بالقيدِ الثاني: وهوَ (ولا نَهْيٌ) المُحَرَّمُ والمَكْرُوهُ؛ لأنَّهُ مَنْهِيٌّ عنهما.
وَخَرَجَ بالقيدِ الثالثِ: وهوَ (لِذَاتِهِ) ما إذا كانَ المُبَاحُ وسيلةً لمأمورٍ بهِ؛ فإنَّهُ يَتَعَلَّقُ بهِ أَمْرٌ، لَكِنْ لا لذاتِ المُبَاحِ، بلْ لِكَوْنِهِ صارَ وسيلةً، أوْ كانَ المُبَاحُ وَسِيلَةً لِمَنْهِيٍّ عنهُ؛ فإنَّهُ يَتَعَلَّقُ بهِ نَهْيٌ، لكنْ لا لِذَاتِهِ، وإنَّمَا لِكَوْنِهِ صَارَ وسيلةً.
ومِثَالُ الأَوَّلِ:
الأكلُ، فهوَ مباحٌ فِي الأصلِ، لَكِنْ لوْ تَوَقَّفَ عليهِ بَقَاءُ الحياةِ صَارَ مَأْمُورًا بهِ لِمَا تَقَدَّمَ.
ومثالُ الثاني:
شُرْبُ الشَّايِ مَثَلاً، فهوَ مباحٌ، لَكِنْ لوْ أَدَّى إلَى تَفْوِيتِ صلاةِ الجماعةِ فِي المسجدِ صارَ مَنْهِيًّا عنهُ كما تَقَدَّمَ.
ومِنْ تعريفِ المُبَاحِ يَتَّضِحُ أنَّهُ ليسَ مأمورًا بهِ؛ لأنَّ الأمْرَ يَسْتَلْزِمُ إيجابَ الفعلِ أوْ تَرْجِيحَهُ، ولا تَرْجِيحَ للفِعْلِ علَى التركِ فِي المباحِ، بلْ هُمَا سَوَاءٌ.
وأمَّا حُكْمُ المُبَاحِ فهوَ كما ذَكَرَ المُصَنِّفُ: لا ثَوَابَ فِي فِعْلِهِ، ولا عِقَابَ فِي تَرْكِهِ.
وهذا مَذْهَبُ جمهورِ الأصوليِّينَ، وَيُرِيدُونَ بذلكَ المُبَاحَ الباقيَ علَى وصْفِ الإباحةِ.
أمَّا المباحُ الذي صَارَ وسيلةً لمأمورٍ بهِ أوْ مَنْهِيٍّ عنهُ؛ فهذا حُكْمُهُ ما كانَ وسيلةً إليهِ كما ذَكَرْنَا.
وفي (بدائعِ الفوائدِ) لابنِ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ (4/8) بَحْثٌ فِي الصِّيَغِ الدالَّةِ علَى الإباحةِ، كما ذَكَرَ قبلَ ذلكَ الصِّيَغَ الدالَّةَ علَى الوجوبِ والتحريمِ، فَرَاجِعْهَا إنْ شِئْتَ.
ويُطْلَقُ علَى المباحِ لفظُ الحلالِ والجائزِ.
فإنْ قِيلَ:
ما وَجْهُ إدخالِ المباحِ فِي الأحكامِ التكليفيَّةِ؟
فالجوابُ:
أنَّ المُبَاحَ الذي نَصَّ الشرعُ علَى أنَّهُ حلالٌ داخلٌ فِي أحكامِ التكليفِ منْ جهةِ وُجُوبِ اعتقادِ حِلِّهِ.
وأمَّا ما سَكَتَ عنهُ الشرعُ ولمْ يَنُصَّ علَى إباحَتِهِ فهوَ باقٍ علَى الأصلِ، ولا يَدْخُلُ فِي الأحكامِ التكليفيَّةِ علَى الصحيحِ.
وهذا فيهِ نَظَرٌ؛ إذْ قدْ يَقُولُ قائلٌ: حتَّى المَنْدُوبُ والسببُ يَجِبُ اعتقادُ كَوْنِهِمَا سَبَبًا ومَنْدُوبًا.
والإجماعُ يَجِبُ اعتقادُ كونِهِ دليلاً، وهكذا.
فالأظهرُ أنَّ إدخالَهُ معَ الأحكامِ التكليفيَّةِ منْ بابِ التغليبِ، واللَّهُ أَعْلَمُ.
(2) الرابعُ منْ أقسامِ الحُكْمِ التكليفيِّ المُحَرَّمُ: وهوَ لغةً: المَمْنُوعُ.
واصطلاحًا: ما طَلَبَ الشرعُ تَرْكَهُ طَلَبًا جَازِمًا.
- من الأفعالِ: كعقوقِ الوالدَيْنِ، وإسبالِ الثيابِ.
- أو الأقوالِ: كالغِيبَةِ والنَّمِيمَةِ.
- أوْ أعمالِ القلوبِ: كالحقدِ والحسدِ.
والقَيْدُ الأَوَّلُ:
لإخراجِ الواجبِ، والمندوبِ، والمُبَاحِ.
والقَيْدُ الثاني:
لإخراجِ المكروهِ.
والحرامُ
ضِدُّ الحلالِ، يُقَالُ: هذا حلالٌ وهذا حرامٌ،
كما قالَ تَعَالَى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}.
وأمَّا قَوْلُ الأُصُولِيِّينَ: (الحَرَامُ ضِدُّ الوَاجِبِ)؛ فإنَّمَا هوَ باعتبارِ تقسيمِ أحكامِ التكليفِ، فَيُعَرَّفُ الحرامُ بضدِّ تعريفِ الواجبِ، كما ذَكَرْنَا.
وحُكْمُ المُحَرَّمِ:
ما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ منْ أنَّهُ يُثَابُ علَى تَرْكِهِ، لِكَنْ بِقَصْدِ الامتثالِ، وذلكَ بأنْ يَكُفَّ نَفْسَهُ عن المُحَرَّمِ امْتِثَالاً لنَهْيِ الشرعِ، فلوْ تَرَكَهُ لِنَحْوِ خَوْفٍ منْ مخلوقٍ، أوْ حَيَاءٍ منهُ، أوْ عَجْزٍ عن المُحَرَّمِ فلا يُثَابُ علَى هذا التركِ.
ولشيخِ الإسلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ بَحْثٌ نفيسٌ حولَ هذا الموضوعِ تَجِدُهُ فِي(مجموعِ الفَتَاوَى) (10/720) و(14/22).
وأمَّا فاعلُ المُحَرَّمِ بلا عُذْرٍ، فهوَ مُسْتَحِقٌّ للعقابِ، ولا يَلْزَمُ تَحَقُّقُهُ فهوَ تحتَ المَشِيئَةِ.
وَتَقَدَّمَ الكلامُ علَى ذلكَ فِي بابِ الواجبِ، ويُسَمَّى المُحَرَّمُ مَحْظُورًا كما عَبَّرَ بهِ المُصَنِّفُ.