وبعضهم يضيف:(العزيمة والرخصة) وهي موضع خلاف.
لكن على ما اختاره المؤلف هنا يكون معناه: أن خطاب الله سبحانه المتعلق بأفعال المكلفين في المعاملات وغيرها، فإن تعلق بها إما أن يكون صحيحاً أو باطلاً، لأن المعاملات إن كانت على الوجه الشرعي تعلّق الحكم بصحتها، وحُكم بذلك، وإن كانت على غير الوجه الشرعي، حُكم ببطلانها.
وإن تعلق الخطاب بغيرها من أفعال المكلفين فلا يخلو أن يقتضي الطلب أو الترك، فإن اقتضت الطلب، فإن كان لازماً فهو الواجب، كالأمر بالزكاة والصيام وما أشبه ذلك، وإن كان غير لازم فهو المندوب كسائر السنن، وطلب الترك إن كان جازماً فهو المحرم مثل:{ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق}،{ولا تقربوا الزنا}، {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}
وإن كان طلب الترك غير جازم فهو(مكروه) وإن أذن الشارع في فعل هذا الشيء من غير حثٍّ عليه أو خير بين فعله وتركه فهو مباح، مثل قوله سبحانه:{وإذا حللتم فاصطادوا}، فلا يجب على الحاج أن يصيد عند الإحلال من الإحرام، ولا يُسن له ذلك، فيحمل الأمر هنا على الإباحة، ومثل أيضاً قوله سبحانه:{فإذا قُضيت الصلاة}يعني صلاة الجمعة {فانتشروا في الأرض}والمؤلف رحمه الله ذكر في كتابه (البرهان)، أن الأحكام التكليفية تنقسم خمسة أقسام، ولم يذكر الصحيح والباطل معها، ولكن الراجح في هذا هو ما سبق، أن الأحكام تنقسم إلى قسمين:
-أحكام تكليفية.
- وأحكام وضعية.
الأحكام الوضعية: ما وضعه الشارع من علامات وأوصاف للفعل أو الترك أو النفوذ أو الإلغاء، فهي مكلّفٌ المخاطبُ بمقتضاها فعلاً أو تركاً، ويتعلق بالأحكام التكليفية والأحكام الوضعية كلام كثير.
والمؤلف ذكر هنا الأحكام وأنها سبعة، هذه أقسام للحكم من حيث كونه متعلقاً بفعل المكلف، والواجب ليس حكماً وإنما هو فعل مكلف تعلّق به الإيجاب، فهو من متعلقات الحكم وليس من أقسامه، مثلاً: الواجب والمندوب.
هل الواجب حكم؟
الواقع لا، ولكن أكثر علماء الأصول يعبرون بذلك تجوزاً، وهذه مسألة اعتبارية، من اعتبر المصدر سمّاه إيجاباً، ومن اعتبر التعلق بالفعل سمّاه أيضاً واجباً، بعضهم يقول: واجب، وبعضهم يقول: إيجاب، والأمر في هذا قريب.
والأحكام التكليفية كما ذكرت لكم يتعلق بها كلام كثير، وكذلك الوضعية، ولا شك أن الأحكام التكليفية هي الحاكمة لحياة المسلم وتصرفاته، في جميع جوانبها، سواء أكانت في جانب العبادة أم في جانب المعاملة، أم في جانب الأخلاق، وسواء كانت هذه التصرفات فردية أو جماعية، فالمسلم لا يجوز له أن يعمل عملاً أو يتصرف تصرفاً إلا بعد الإطلاع على حكم الله عز وجل فيه، تحقيقاً لعبودية العبد لله سبحانه.
أما كون الإنسان يتخبطّ فيما يأتي به وفيما يذره، هذا لا يجوز، لا بد من معرفة أحكام الله، في الطهارة في الصلاة، في الزكاة، في الصيام، في الحج، في البيع، في الإجارة، في القرض، فيما يتعلق بالربا، في النكاح وما يتعلق به، إلى غير ذلك من الأمور التي يأتي بها المكلّف، لا بد أن يعرف حكم الله فيها.
أما كونه يفعل ويقدم على ما يختار وعلى ما يراه، هذا لا يجوز، ومن فعل ذلك فليس عبداً مطيعاً لله، والله جل وعلا يقول:{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويُسلموا تسليماً}.
وكل ما دَوًّنه أهل العلم في الكتب الفقهية من بيان الحلال والحرام لا يخرج عن إطار هذه الأحكام التكليفية لأن الفعل قد يكون واجباً، قد يكون مستحباً، قد يكون مباحاً، قد يكون محرماً، قد يكون مكروهاً، ما يخرج عن هذه الأقسام الخمسة.
ولكن بعض الناس وقع في أمر خطير بسبب جهله بما دلّت عليه هذه التقسيمات، فنجد بعض الناس تساهلوا في المسنونات، تساهلوا في المكروهات، تجده يفعل هذا الشيء فإذا كُلّم عنه، قال: هذا مكروه، وليس حراماً، وإذا قيل يا فلان تترك كذا وتترك كذا؟
قال: ما هو بواجب، سنة هذا لا ينبغي، كان السلف لا يفرقون كتفريق المتأخرين المقصرين بل جميع ما أمر الله به يؤدونه، حسب استطاعتهم، وجميع ما نهى عنه يتركونه، أما أن نتساهل بهذا لأنه مستحب، فنتركه، ونتساهل في هذا لأنه مكروه فنفعله هذا لا يليق، بل إن الشيطان لا يزال بالإنسان يحثه على ترك السنن إلى أن يتوصل إلى ما هو أعظم إلى أن يترك الواجبات إلى أن يتوصل إلى ما هو أعظم، إلى أن يترك الدين، فالتساهل في هذا خطره عظيم، والأحكام التكليفية عند جمهور أهل العلم هي خمسة أقسام، وعند الحنفية سبعة قالوا: الأحكام التكليفية: الفرضية والوجوب، يفرّقون بين الفرض والواجب على قاعدتهم، أن الفرض ما ثبت بدليل قطعي، والواجب ما ثبت بدليل ظني، وكذلك الحرمة، والكراهة التحريمية، والكراهة التنزيهية، والندب والإباحة، فزادوا على ما ذهب إليه الجمهور، الفرض وجعلوه أعلى من الواجب، وقسموا الكراهة إلى قسمين:
- كراهة تحريمية.
-وكراهة تنـزيهية.
لكن مذهب الجمهور هو ما ذكره المؤلف، هو ما سبق أنها خمسة.
لكن قد يسأل بعض الناس، يقول ما هي الحكمة من تنوّع هذه الأحكام التكليفية إلى هذه الأنواع؟
يعني ما دامت هذه الأحكام صادرة عن الله عز وجل، وما دامت مشروعة
فَلِمَ تنوعت إلى واجب ومندوب ومحرم ومكروه؟ لماذا لم تكن واجبات ومحرمات؟
الجواب:على هذا أن يقال: إن الله سبحانه رحيم بعباده، وحكيم في تشريعه فهو لم يقيدهم بهذه الأحكام تضييقاً عليهم وإحراجاً لهم، وإنما شرعها ليتوصلوا بالسير على منهاجها إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة، ولهذا ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن أحكام الله عز وجل معلّلة بمصالح العباد، فالشريعة جاءت لجلب المصالح ودرء المفاسد.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله في(الموافقات):(إنا استقرينا من الشريعه أنها وضعت لمصالح العباد استقراءً لا ينازع فيه الرازي ولا غيره).
وقال أيضاً:(تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق).
وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أن تكون ضرورية، أو حاجية، أو تحسينية.
ولما كانت الأحكام التكليفية لمصلحة الإنسان، كان قَصْرُها على الوجوب والتحريم يشتمل على نوع من الحرج والمشقة، فقد لا يستطيع الإنسان لضعفه أحياناً امتثال جميع الأوامر واجتناب جميع النواهي، ولذلك فتح الله لعباده باب المباحات توسعة عليهم من جهة، وجعل لهم دائرتي المندوب والمكروه تخفيفاً عليهم، وزيادة في الابتلاء لهم من جهة أخرى، ولتكون هذه الأنواع سترة بينهم وبين الحرام.
فالابتلاء والاختبار وارد في هذا، يكون في المندوب والمكروه أوضح منه في الواجب والحرام، ولهذا المعظّم لشرع الله ولما أمر الله به، ولما نهى عنه، يحافظ على الجميع، ولا يفرّق ويتساهل بهذا لأنه مكروه، أو لأنه مستحب.
وامتثال الواجب واجتناب الحرام، هذا أقرب إلى النفس الضعيفة التي تخاف العقاب دون رغبة لها في الثواب، ولهذا أمثلة فإن النبي عليه الصلاة والسلام جاءه أعرابي وسأله:(ما فرض الله عليه من الصلوات؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل عليّ غيرها، قال: لا، إلا أن تتطوع))، ثم بيّن له بعض الأحكام، فانصرف هذا الأعرابي، قال والله لا أزيد على هذا ولا أنقص).
كون بعض الناس لا يزيد على الواجب ولا ينقص عن المحرم، هذا قد يكون عند بعض الناس دليلاً على عدم قوة الإيمان، إذا قوي إيمان المرء وفهم أن هذه التشريعات بواجبها ومندوبها، وحرامها ومكروهها، إنما هي لمصلحته وحده، وسبيل لسعادته في الدنيا والآخرة، فلا يرضى أن يقف عند حدود الواجب، بل يتعداه إلى فعل الفضائل والمندوبات، ولا يرضى لنفسه أيضاً أن يجتنب الحرام فقط، بل يتعدى اجتنابه لكل المكروهات، وهذا هو سبيل الصالحين المخلصين.
قال الله سبحانه في الحديث القدسي:((وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحِبَّه)).
فلا ينبغي التساهل بالمستحبات فيتركها الإنسان، ولا بالمكروهات فيفعلها.
نرجع إلى الحكم الوضعي:
الحكم الوضعي يتعلق به كلام كثير؛ من ذلك: معنى الوضع في اللغة.
(الوضع) في اللغة له معانٍ منها: الإسقاط، والترك، والافتراء، والولادة، وغير ذلك.
تقول لإنسان تطلبه مالاً: وضعت عنك الدين، إذا أسقطته.
وبمعنى الافتراء مثل: من يكذب الحديث ويضعه، يقال هذا حديث موضوع يعني مُفترى، ويقال: وضعت المرأة حملها إذا ولدته.أمافي اصطلاح الأصوليين فهو: خطاب الله تعالى الوارد بكون هذا الشيء سبباً في شيء آخر، أو شرطاً له، أو مانعاً منه، أو صحيحاً، أو فاسداً، أو رخصة، أو عزيمة.
هذا التعريف اختاره جماعة من الأصوليين، وهو أشمل من تعاريف أخرى عُرف بها
الحكم الوضعي ولا أحب الإطالة والتوسع في هذا، لأن التوسع له موضع آخر.
مما يتعلق بالحكم التكليفي والوضعي المقارنة بينهما
ما هو الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي؟
بينهما فروق: منها: أن تعلق الحكم التكليفي بأفعال العباد إنما يكون بطلب شيء منهم أو تخييرهم فيه.
أما تعلق الحكم الوضعي بأفعالهم فهو إنما يكون بوضع شيء لهم، وترتيب أحكامهم التكليفية عليهم، فالحكم الوضعي لا يرجع إلى المكلف، إنما هو راجع إلى غيره، فمثلاً: إذا طلب من إنسان أن يصلي، طُلب منه أن يتطهر، طلب منه أن يزكّي، هذا راجع إلى الإنسان نفسه، لكن صلاة الظهر ما تصح إلا إذا دخل وقتها، ووقتها يبدأ بزوال الشمس، زوال الشمس هذا راجع إلى غيره.
ومن الفروق:أن الأحكام التكليفية تكون دائماً مقدورة للإنسان، فلا يكلف الإنسان بما لا يقدر عليه من التكاليف.
أما الأحكام الوضعية: فقد تكون مقدورة للمكلف وقد تكون خارجة عن قدرته، فالقرابة مثلاً التي جعلها الشارع سبباً في الميراث، والإرث الذي جعله سبباً في التملك، وغير هذا، هي أمور خارجة عن قدرة الإنسان، فالإنسان قد يكون له أقارب لا يحب أن يرثوا منه شيئاً، لكن هل يملك هذا؟ ما يقدر عليه، ما يقدر عليه ولو حاول.
ومن القصص الغريبة في هذا ما ذكره صاحب كتاب(جُنة الرضا -أو قريب من هذا- لما قدّر الله وقضى)، كتاب مطبوع في ثلاثة أجزاء، (لابن أبي عاصم المالكي) ذكر في هذا الكتاب أن رجلاً كان عنده مال وله ابن عم بينه وبينه عداوة، ولما كبرت سنه جمع المال الذي عنده، وجعله في إناء وصب عليه الرصاص جعله في إناء أو على شكل شيء مستدير مصبوب عليه الرصاص، وأعطاه تاجراً يذهب يركب البحر، ويذهب إلى بلادٍ بعيدة ويأتي ببضاعة ويبيعها.
فقال: خذ هذا الشيء فإذا وصلت إلى الجزيرة الفلانية فألقه في البحر، قصده من هذاحرمان ابن عمه لئلا يرث منه هذا المال.
فذهب هذا التاجر ولما مرّ بهذه الجزيرة نسي أن ينُفذ هذه الوصية، فلما ذهب ووصل البلد التي يريد واشترى بضاعة، كان معه غلامٌ له، قال: ما دام أنا تعدّينا هذه الجزيرة وسنلقيه في البحر سأفتح هذا الشيء وفتحه، فوجد فيه ذهباً ومالاً فاجتهد هذا التاجر واشترى بضاعة بكل هذا المال، وهي بضاعة كانت كثيرة، ثم رجع إلى بلده.
وسأل عن الشخص الكبير السن الذي أتى إليه بما أتى إليه من هذا الشيء، فقيل إنه مات، المهم أنه سأل عن ورثته، فقيل: لا يرثه إلا فلان، فطلبه حتى وجده، فقال إن فلاناً أعطاني كذا وكذا، قد اشتريت بضاعة وأنت الآن الوارث الوحيد، خُذ هذه البضاعة.
الحاصل أن الأحكام التكليفية: قد تكون في مقدور الإنسان، وقد لا تكون في مقدوره، مثل الميراث، يرث منك ورثتك ولو كان بينك وبينهم عداوة.
ومثل هذا: فيما ذكروا شخص كان عنده أبناء عم بينه وبينهم عداوة، فلما قرب أجله وكان عنده ذهب عمل ثمان لبِنات، الظاهر أنها لَبِن وباطنها كله ذهب، وأوصى أنه إذا مات توضع عليه هذه اللبِنات الثمان، فلما مات وضعوه في قبره، ووضعوا اللِبنة الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة، الثامنة ضاق عنها المحل، ما يحتاج إلا نصف، وكان أبناء عمه قد حضروا مع الناس، كسروا اللَّبنة الثامنة فوجدوا فيها الذهب، ثم إنهم عرفوا أن اللبنات السبع الباقية كذلك، فأخذها بنو عمه رغماً عنه.
من الفوارق أيضاً: أن الحكم التكليفي لا يُتصوّر وجوده منفرداً عن الوضعي، بخلاف الحكم الوضعي، فإن من الممكن إنفراده عن الحكم التكليفي.
فمثلاً: من أمثلة انفراد الحكم الوضعي عن التكليفي أوقات العبادات، وجعل الشارع البلوغ شرطاً في التكليف.
ومن أمثلة اجتماعهما كون الزنا حراماً، وهو في الوقت نفسه سببٌ لوجوب الحدّ على صاحبه.
وكذلك من الفوارق: أن الحكم التكليفي يتعلق بأفعال العباد، دون أفعال الحيوانات وغيرها ممن لا يمكن تكليفهم.
أما الحكم الوضعي فلا، الحكم الوضعي يتعلق بكل هذه الأشياء.
فلو كان عند إنسان دابة وأتلفت شيئاً، فإن صاحبها يضمن، لا يقول هذه الدابة هي التي أتلفت طَالِبْها، أنا ما أسلم لك شيئاً، هذا غير صحيح، فإتلافها سبب في الضمان، ولكنه ليس حكماً تكليفياً، وإنما هو حكم وضعي.
إلى غير ذلك من الفروق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي.
وقد أُفرد للحكم التكليفي والحكم الوضعي بعض الرسائل الخاصة، من أحبّ أن يتوسع فيهما فليرجع إلى الرسائل التي أُفردت في هذا، وقد طبع شيء منها، وكذلك تكلم الأصوليون على الحكم التكليفي والحكم الوضعي بتوسع، ويأتي ما يتعلق بالأحكام التكليفية الخمسة في الدرس القادم.