(36) هذَا أًصلٌ كبيرٌ وقاعدةٌ عظيمةٌ، يحصلُ بهِ لمنْ حقَّقَ نفعٌ عظيمٌ، وينفتحُ لهُ بابٌ منْ أبوابِ فهمِ النُّصوصِ المطلقةِ الَّتي طالمَا كَثُرَ فيهَا الاضْطِرَابُ والاشتباهُ .
ومعنى هذَا الأَصْلِ أَنَّ الأَحكامَ لاَ تتمُّ ولاَ يترتَّبُ عليْهَا مقتضاهَا والحكمُ المعلَّقُ بهَا حتَّى تتمَّ شروطُهَا، وتنتفي موانعُهَا، وأَمَّا إذَا عُدِمَتِ الشُّرُوطُ، أَوْ وُجِدَتِ الشُّروطُ ولكنْ قامَ مانعٌ، لمْ يتمَّ الحكمُ، ولمْ يترتَّبْ عليهِ مقتضاهُ، لعدمِ وجودِ الشَّرطِ أَوْ لوجودِ المانعِ، فافْهَمْ هذَا الموضعَ.
ولنمثِّلْ لهذَا الأَصلِ بمثالٍ يستدلُّ بهِ اللَّبيبُ على ما وراءَهُ.
فنقولُ: إِنَّ التَّوْحيدَ مثمرٌ لكلِّ خيرٍ في الدُّنْيَا والآخرةِ، ودافعٌ لكلِّ شرٍّ فيهمَا، ولكنْ لا تحصلُ هذهِ الأُمورُ إلاَّ باجتماعِ شروطِهِ، وانتفاءِ موانعِهِ.
فأَمَّا شروطُهُ فهيَ على:القلبِ، واللِّسانِ، والجوارحِ.
أمَّا الَّذي على اللِّسانِ:فهيَ النُّطْقُ بالتَّوحيدِ، وجميعُ أقوالِ الخيرِ متمِّماتٌ لهُ.
وأَمَّا الَّذي عَلى القَلْبِ:فهيَ إقرارُهُ وتصديقُهُ ومحبَّتُهُ للتَّوحيدِ وأهلِهِ، وبغضُهُ للشِّرْكِ وأَهلِهِ، ومعرفةُ القلبِ لمعناهُ، ويقينُهُ بِهِ.
وأَمَّا الَّذي عَلى الجوارحِ،فهوَ انقيادُهَا للعملِ بالتَّوْحيدِ وأعمالِهِ الظَّاهِرَةِ والباطنةِ، هذهِ شروطُهُ.
وأَمَّا موانعُهُ ومفسداتُهُ، فهيَ ضدُّ هذهِ الشُّروطِ، أَو ضدُّ بعضِهَا، وَجِماعُ الموانعِ أَنَّهَا: إِمَّا شِركٌ، وإِمَّا بدعةٌ، وإِمَّا معصيةٌ.
فالشِّركُ نوعانِ: أكبرُ وأصغرُ.
فالشِّركُ الأَكبرُ يمنعُهُ ويبطلُهُ بالكلِّيَّةِ، والشِّركُ الأَصغرُ، والبدعةُ وسائرُ المعاصي تُنْقِصُهُ بحسبِهَا، ولاَ تُزيلُهُ بالكلِّيَّةِ، فإِذَا فَهِمْتَ هذَا فَهِمْتَ النُّصُوصَ الَّتي فيهَا: أَيْ مَنْ أتَى بالتَّوحيدِ حَصَلَ لهُ كذَا واندفعَ عنهُ كذَا: أَنَّهُ ليسَ مُجَرَّدَ القَوْلِ، وكذلكَ النُّصوصُ الَّتي فيهَا مَنْ قالَ كذَا أَوْ عملَ كذَا: إنَّمَا المرادُ بهِ القولُ التَّامُّ والعملُ التَّامُّ، وهوَ الَّذي اجتمعتْ شُرُوطُهُ وانتفتْ موانعُهُ.
ومنْ أعظمِ شروطِ الأعمالِ كلِّهَا: الإِخلاصُ،وكونُهَا على السُّنَّةِ.
وكذلكَ الوضوءُ لا يتمُّ إلاَّ باجتماعِ شُروطِهِ وفروضِهِ، وانتفاءِ موانعِهِ، وهيَ نواقضُهُ.
وكذلكَ الصَّلاةُ: لا تتمُّ حتَّى تُوْجَدَ أركانُهَا وشروطُها وتنتفِيَ مبطلاتُهَا، وكذَا الزَّكاةُ، والصِّيامُ، والحجُّ، والعمرةُ، وسائرُ الأَعمالِ: لا تتمُّ إلاَّ بوجودِ الشُّرُوطِ، وانتفاءِ الموانعِ.
وكذلكَ الميراثُ: لا يرثُ إلاّ شخصٌ قامَ بهِ شَرْطُ الإِرثِ، وهو سببُهُ، وانتفى عنْهُ مَا مَنَعَهُ.
وكذلكَ النِّكاحُ وسائرُ العقودِ لهَا شروطٌ وموانعُ قدْ فُصِّلَتْ في كتبِ الأَحْكَامِ.
ولْيَكُنْ هذَا الأَصلُ على بالِكَ، وحكمُهُ في كلِّ دقيقٍ وجليلٍ، فَلِلدُّعاءِ شروطٌ وموانعُ، وللمحبَّةِ والخوفِ والرَّجاءِ والتَّوبةِ شروطٌ وموانعُ.
واللهُ المستعانُ على القيامِ بشروطِ الأَعمالِ ودفعِ موانعِهَا، إِنَّهُ جَوادٌ كَريمٌ.