القارئ:
(والخطأ الإكراه والنسيان أسقطه معبودنا الرحمن)
(لكن مع الإتلاف يثبت البدل وينتفي التأثيم عنه والزلل)
الشيخ:الخطأ يراد به معنيان:
الأول:ضد الصواب كما في قول إخوة يوسف: {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ}، المراد به على خلاف الصواب واسم الفاعل من هذا المعنى (خاطئ).
والمعنى الثاني: عدم القصد للفعل قال: أخطأ فلان بمعنى أنه لم يقصد الفعل، واسم الفاعل منه (مخطئ)، ومراد المؤلف المعنى الثاني وليس المعنى الأول.
و(الخطأ) لا يلحق به الإثم بدلالة عدد من النصوص:
- منها: قوله سبحانه: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال الله: قد فعلت.
- ومنها: قوله جل وعلا: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}.
- ورد في الحديث: ((إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه))، ولا يصح لهذا الحديث إسناد، ولذلك كثير من أهل العلم يضعف هذا الحديث، منهم الإمام أحمد، وبعضهم قَوّاه؛ لأن طرقه متعددة؛ فقالوا: يقوي بعضها بعضا، وفي النفس من صحته شيء.
إذا تقرر ذلك فهل الخطأ يترتب عليه الضمان أو لا يترتب عليه الضمان؟
- إن كان في حقوق المخلوقين؛ فإنه يترتب عليه الضمان؛ من أخطأ فأتلف غيره، أو أتلف مالاً لغيره: وجب عليه الضمان قولاً واحداً، لذلك وجبت الدية على المخطئ، ووجب ضمان الأموال على من أتلفها مخطئاً بالإجماع.
- أما إن كان الخطأ في حق الله عز وجل، فحينئذ هل يجب الضمان؟
نقول: لا يخلو الحال:
- إن لم يوجد إتلاف؛ فإنه لا يجب كفارة ولا ضمان بالإجماع أو لقول أكثر الفقهاء.
مثال ذلك: من غطى رأسه وهو محرم ناسياً أو مخطئاً، فلا كفارة عليه، وكذلك من لبس المخيط خطأً لا كفارة عليه.
- النوع الثاني: مما يتعلق بحق الله إذا كان فيه إتلافمثل: قص الأظافر للمحرم، وحلق الرأس للمحرم، وقتل الصيد للمحرم، وقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
- القول الأول: بأنه لا يجب الضمان ودليل ذلك قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}، فقوله: متعمداً يدل على أن المخطئ لا يجب عليه الضمان ولا يجب عليه المثْل، وهذا بدلاله مفهوم المخالفة.
- والقول الثاني: بأنه يجب على المخطئ في حق الله إذا ترتب على خطئه إتلاف، الضمان والكفارة، ويستدلون على ذلك بعدد من النصوص:
- منها: قوله عز وجل: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} قالوا: أوجب الكفارة مع كونه خطأ.
- ويستدلون على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((في النعامة -وفي رواية- في حمار الوحش: بدنة)).
قالوا: هذا عام يشمل المخطئ ويشمل المتعمد قالوا: وقوله: {مُتَعَمِّدًا} في الآية ليس المراد إعمال المفهوم وإنما المراد التشنيع على الفاعل.
ومن شرط إعمال مفهوم المخالفة ألا يكون له فائدة أخرى غير إعمال المفهوم.
ولعل هذا القول -القائل بوجوب الكفارة والضمان على المخطئ في حقوق الله إذا ترتب على خطئه إتلاف- هو الأرجح، ويدل على ذلك حديث كعب بن عجرة؛ فإنه قد أصابه الضرر حتى أن القمل أصبح يتساقط من شعره، ومع ذلك لما جاز له حلق الشعر لم يسقط ذلك الكفارة، مع كونه مضطراً إلى حلق الشعر، فإذا كان المضطر الذي يلحقه الضرر والأذى وأجاز له الشارع هذا الفعل يلحقه الكفارة، فمن باب أولى المخطئ، نحن لا ترتب الإثم، لكن نرتب الكفارة إذا ترتب على فعله إتلاف.
وأما الإكراه، فالمراد به حمل الإنسان على ما لا يريده ولا يرغبه.
والإكراه على نوعين:
النوع الأول: إكراه يزول معه الاختيار بالكلية مثل من ألقي من شاهق، فهذا يزول معه التكليف ولا يلحق فعله ضمان ولا غيره، إلا إذا لم يوجد متسبب فيقع فيه الخلاف، ويسميه الجمهور (إكراهاً ملجئاً)، ويسمه الحنفية (اضطراراً)وبالإجماع أن التكليف يزول بهذا النوع من أنواع الإكراه.
النوع الثاني: من الإكراه إكراه يبقي معه الاختيار، كمن هُدد بالقتل، أو بقطع عضو، أو بالحبس والضرب، ويسميه الجمهور (إكراه غير ملجئ).
والحنفية يقسمون هذا القسم إلى قسمين:
- إن كان التهديد بالقتل أو بالقطع سموه (إكراهاً ملجئاً).
- وإن كان الإكراه بالحبس أو الضرب سموه (إكراهاً غير ملجئ).
ولهذا النوع من الإكراه شروط:
- منها: أن يكون المُكرِه قادراً على إيقاع ما هدد به.
- ومنها: أن يكون المكَره عاجزاً عن دفع ما أُكره عليه.
- ومنها: أن يغلب على ظن المكْرِه أن المكره سيوقع ما هدد به.
- ومنها: أن يكون التهديد عاجلاً غير آجلٍ.
فهذا النوع من الإكراه هل يزول به التكليف ؟
- جمهور أهل العلم قالوا: لا يزول به التكليف؛ لأن معه اختياراً، فهو يقدر على الفعل ويقدر على عدمه.
- والمعتزلة يقولون: يرتفع التكليف في هذه الحالة.
وثمرة الخلاف بين المعتزلة والجمهور في هذه المسألة: مَنْ أُكره على فعل الصلاة أو أكره على الدخول في الإسلام، فنوى بصلاته أو بدخوله في الإسلام وجه الله تعالى؛ فحينئذ تصح صلاته على مذهب الجمهور، خلافاً للمعتزلة.
إذا تقرر ذلك، فإذا أكره الإنسان على شيء، هل يجوز له أن يفعل ما أكره عليه؟
- بعض الفقهاء يقول: نعم يجوز ذلك مطلقاً.
- وبعضهم يقول: يجوز في الأفعال دون الأقوال.
والصواب في هذه المسألة: أن الإنسان يقارن بين مُوجَب الإكراه وبين الفعل الذي أكره عليه فيفعل أدناهما مفسدة.
مثال ذلك: من قيل له: ادخل بيت غيرك وإلا قتلناك هنا الدخول أقل مفسدة فيدخل البيت، ولو قيل له: اقتل فلاناً وفلاناً وإلا قتلناك، فحينئذ موجبُ الإكراه أقل مفسدة، فلا يقدم على فعل ما أكره عليه هذه هي القاعدة في باب الإكراه.
وأما النسيان المراد به: الغفلة عما كان يستحضره الإنسان.
والنسيان يسقط به الفعل، ويسقط به التأثيم، فلا يأثم الإنسان إذا ترك شيئاً ناسياً، أو فعل شيئاً ناسياً.
- وإن كان النسيان متعلقاً بحقوق الخلق وجب على الإنسان ضمان ما أتلفه.
- وأما إذا كان النسيان في حقوق الله، فحينئذٍ هل يطالب الإنسان بأداء ما نسيه أو يلحقه وجوب تدارك ما نسيه؟
نقول: لا تخلو الأفعال من شيئين:
- أفعال مأمور بها شرعاً، فهذه إذا وقع النسيان فيها؛ فإنها إذا نسيت يجب تداركها وفعلها.
مثال ذلك: من نسي الصلاة؛ فإنه يجب عليه تدارك ما نسي، لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في البخاري: ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك)).
والنوع الثاني: منهيات، فالمنهيات إذا فعل فيها الشيء نسياناً؛ فإنها لا تؤثر على الفعل، ودليل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه الصحيح: ((من أكل أو شرب ناسياً وهو صائم فليتم صومه فإنما أطعمة الله عز وجل وسقاه)).
وهناك أفعال يقع فيها الجانبان، جانب حق المخلوق، وجانب حق الخالق سبحانه، فحينئذ يُرتَب على الفعل الأمور المتعلقة بحق المخلوق، دون حق الخالق، إذا كان في نسيان الفعل في المنهيات.
مثال ذلك: رجل طلق زوجته، ثم خرجت من العدة، ثم وطئها ناسياً كونه قد طلقها، فحينئذ بالنسبة للإثم ساقط، بالنسبة للأمور المترتبة على هذا الفعل في حقوق الله؛ لأنها في منهي فلا تعتبر، فلا يقام عليه حد الزنا، إلى غير ذلك مما يتعلق بحق الله.
وأما ما يتعلق بحق المخلوق حق المرأة ما يجب لها من المال أو إثبات النسب، فهذا ثابت.
وبهذه القاعدة -قاعدة النسيان- نفرق بين الشروط والموانع؛ فإن الشرط إذا ترك نسياناً أثر في العبادة، وأما المانع إذا فعل نسياناً؛ فإنه لا يؤثر في العبادة.