القارئ: (والأصل في الأبضاع واللحوم والنفس والأموال للمعصوم)(تحريمها حتى يجيء الحلُّ فافهم هداك الله ما يُملُّ)
الشيخ:
لعلها ما يَحِلُّ (الأصل في الأبضاع) التحريم البضع: قطعة اللحم في لغة العرب.
وفي الاصطلاح يطلق على ثلاثة معانٍ:
المعنى الأول: الفرج، ولاشك أن الأصل في الفروج التحريم، فلا تستعمل إلا فيما جاء دليلٌ بحِلِّهِ وجوازه.
ودليل ذلك -قول الله عز وجل-: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}.
وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في النساء:
((اتقوا الله في النساء؛فإنكم استحللتم فروجهن بكلمة الله)) فدل ذلك على أن الأصل في النساء تحريم الفروج حتى يأتي أمر يحلها وهو كلمة الله، والمراد بكلمة الله على الصحيح عقد النكاح، إلى غير ذلك من النصوص الواردة في تحريم الأبضاع بمعنى الفروج.
المعنى الثاني من معاني ذلك:الجماع، والجماع لازم للفرج، وإذا قررنا أن الأصل في الفروج التحريم فكذلك في الجماع.
والمعنى الثالث: يُراد به عَقْدُ النكاح، وذهب بعض العلماء إلى أنَّ الأصلَ في عقد النكاح التحريم، كما رأى ذلك السيوطي في (الأشباه والنظائر) وغيره من أهل العلم، وهو ظاهر عبارة المؤلف هنا، وظاهر عبارته في الشرح، وهذا المعنى لا يصح، بل الأصل في عقد النكاح الجواز والحل حتى يأتي دليل يدلنا على التحريم.
ودليل ذلك عدد من النصوص الشرعية:
- منها: قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} ومن ذلك عقد النكاح، فالأصل في العقود الصحة والجواز حتى يأتي دليل يدل على الفساد وعدم الصحة، ويدل على ذلك قوله جل وعلا: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} الآية... فإن الله عز وجل قد حصر المحرمات، فدل ذلك على أن الباقي على الحل، ويدل عليه آخر الآية في قوله عز وجل: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} فدل ذلك على أن الأصل في عقد النكاح الجواز والحل حتى يأتي دليل يغيره.
قال: (والأصل في اللحوم التحريم)وهذا مذهب بعض الفقهاء؛ أن الأصل في اللحوم هو التحريم، ويستدلون على ذلك بحديث عدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أرسلت كلبك المعلَّم فوجدت معه غيره فقتل فلا تأكله، فإنك لا تدري أيَّهما قتل)) ويستدلون على ذلك بأنه إذا اجتمع في نوع اللحم سبب مبيح وسبب حاظر غُلِّب جانب الحظر كما في البغل، وكما في الطير إذا صيد بالسهم فوقع في الماء، وقد ورد في ذلك حديث في (النسائي).
ولعل هذه الأدلة ليست في مسألة الأصل؛لأن هذه الأدلة فيما اجتمع فيه سببان: سبب تحريم وسبب إباحة، كلب صيد وكلب أجنبي، سهم وغرق، ومسائل الأصل كما تقررت سابقاً يراد بها المسائل التي ليس فيها دليل، لا إباحة، ولا دليل تحريم.
ولذلك فإن الأظهر أن الأصل في اللحوم هو الحل،وليس التحريم، كما قلنا في المياه: الأصل فيها الطهارة، ولو اجتمع سبب طهارة وسبب نجاسة في الماء حَرُم، ولا يدل ذلك على أن الأصل في المياه هو النجاسة.
ويدل على أن الأصل في اللحوم هو الجواز والحل:
-قوله سبحانه: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} الآية، فإنه دل على أن الأصل هو الحل والجواز، وأن التحريم مستثنى.
-ويدل على ذلك قوله جل وعلا: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ} فدل أن الأصل هو الحل في اللحوم المأكولة وأن التحريم مستثنى.
- ويدل عليه أيضاً قوله جل وعلا: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ}، فحصر المحرمات بأداة الاستثناء {إنما}، وقوله جل وعلا:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} الآية، فدل ذلك على أن الأصل في اللحوم هو الإباحة.
ويدل عليه أيضاً ما ورد في (السنن) من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن اللحوم التي تُؤتى إليهم ولا يُدرى هل ذكر اسم الله عليها أو لا ؟
فقال: ((اذكروا اسم الله عليها أنتم وكلوا)) لو كان الأصل في اللحوم التحريم لقيل: لا تأكلوا حتى تعلموا قيام سبب الإباحة.
إلى غير ذلك من النصوص الدالة على أن الأصل في اللحوم هو الحل حتى يأتي دليل يغيره.
وقوله هنا:(الأصل في النفس التحريم) هذا يراد به أنه لا يجوز سفك الدماء إلا بدليل من الشارع، فالأصل تحريم [سفك] دماء الخلق حتى يأتي دليل بذلك.
ويدل على هذه القاعدة نصوص شرعية كثيرة:
- منها: قوله جل وعلا: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}.
- ومنها: قوله سبحانه: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ}.
- وقوله:{وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ}.
- وقول النبي صلى الله عليه وسلم:
((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)).
- وقول النبي صلى الله عليه وسلم في المعاهد من الذميين: ((مَنْ قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة)).
فهذا هو الأصل والقاعدة المستمرة؛ تحريم الدماء، إلا ما جاء دليل بجواز سفك الدم فيه، وذلك في غير المعصوم:
مثل: الساحر بالنسبة للإمام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((حدُّ الساحر ضربة بالسيف)) كما في (السنن).
ومثل: المرتد.
ومثل: المحارب من غير المسلمين، لقوله سبحانه: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ}.
وقول المؤلف هنا: (الأصل في الأموال التحريم) هذه أيضاً قاعدة مستمرة في الشريعة، ويدل عليها عدد من النصوص:
- منها: قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ}.
- وقوله سبحانه:{وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ}.
- وقوله عز وجل:{وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}.
- وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام)).
- وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)).
إلى غير ذلك من النصوص.
وقول المؤلف هنا: (إلا للمعصوم) يراد به المحارب، فإنه يجوز الاستيلاء على أموالهم إذا قامتْ الحرب بين المسلمين وغيرهم، ويدل على ذلك عدد من النصوص:
- منها قول الله عز وجل: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا}.
- وقوله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ}.
- وقوله سبحانه: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ} الآية.
- وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قتل قتيلاً فله سلبه)).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يغزو المشركين ويأخذ أموالهم.
والأَولى: عدم ذكر الاستثناء في القاعدة، فيقال: الأصل في الأموال التحريم، ولا يذكر المعصوم؛ لأن المراد هنا تقرير القاعدة والأصل العام، وأما المستثنيات، فلا تؤخذ من صلب القاعدة، ويدل على ذلك أن التصرف في الأموال يجوز في بعض الحالات الأخرى، مثل: التصرف بحق، مثل أخذ البنيان الذي يحتاج إليه الناس في طرقاتهم، ومثل المال الذي يؤذي الناس، مثل الجمل الهائج، فهذه تصرفات بحق، ومع ذلك لم يذكر المؤلف هذا القيد، فلو لم يذكر القيد الأول لكان أضبط على منهج الأصوليين في ذكر القاعدة بدون ذكر مستثنياتها.
ومن القواعد المهمة مثل هذه القواعد قاعدة: الأصل في الأعراض التحريم، بحيث لا يجوز أن يتناول عرض المسلم بفعل ولا بقول، هذا هو الأصل والقاعدة المستمرة، فلا يجوز الحديث في الآخرين، ولا غيبتهم، ولا الكلام في معايبهم، إلا إذا قام دليل على جواز ذلك، ودليل هذا قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} إلى أن قال في الآية الأخرى: {وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}، وجاء في الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا))، ولا يحضرني الآن هل لفظة أعراضكم في (الصحيحين)، أو هي في (مسلم) فقط.
يبقى هنا إشكال على المؤلف، وهو أنه ذكر أن التحريم يضاف إلى الأعيان والذوات، فقال الأصل في الأبضاع التحريم، والأبضاع ذوات، والأصل في اللحوم التحريم، وهي ذوات، والأصل في الأنفس، وهي ذوات، ومن المقرر عند الأصوليين أنه لا يصح إضافة الأحكام التكليفية للذوات، بخلاف الأحكام الوضعية، فيجوز إضافتها للذوات، والصواب أن مثل ذلك لا يعد مجملاً، وللعلماء في تفسيره منهجان:
المنهج الأول:أنه يفسر بحسب العرف، فيقال: الأصل في الأبضاع يعني في وطء الأبضاع، والأصل في اللحوم يعني في أكلها، والأصل في الأنفس يعني في سفكها، والأصل في الأموال يعني في أخذها.
والقول الثاني: بأن الحكم يطلق على جميع الأفعال المناسبة، فالأصل في جميع الأفعال المتعلقة بهذه الأمور هو التحريم.