القارئ:
(وترجع الأحكامُ لليقين فـلا يـُزيل الشكُ لليقين)
الشيخ:
قول المؤلف هنا: (وترجع الأحكام لليقين) معناه: أن الشريعة عوَّلت في أحكامها على اليقين.
ويُراد باليقين في لغة العرب: زوال الشك، وقال بعض الأصوليين: إن اليقين في اللغة مأخوذ من الاستقرار، يقال: يقن الماء بمعنى استقر.
واليقين في الاصطلاح: طمأنينة القلب واستقرار العلم فيه.
والشك في اللغة: يُراد به التداخل؛ وذلك لأن الشاك يتداخل عنده أمران لا يستطيع الترجيح بينهما.
والشك في الاصطلاح: تجويز أمرين فما زاد، ولا مزيَّةَ لأحدها على سائرها، فيرد عنده احتمالان أو أكثر ولا يتمكن من الترجيح بين تلك الاحتمالات.
وقول المؤلف هنا: (وترجع الأحكام لليقين)
يعني أن الشريعة عوَّلت في أحكامها على اليقين، وليس مراد المؤلف هنا عدم إعمال الظن الغالب؛ لأنَّ الشريعةَ جاءتْ بإعمال الظن الغالب في عددٍ من المسائل، ويدلُّ على ذلك قولُ اللهِ جلَّ وعلا: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ}، فعوَّل بالحكم على الظن، والمراد به الاحتمال الراجح.
ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا أظن أن فلاناً وفلانا يعرفان من ديننا شيئاً)) كما في (الصحيح)، فعوّل على حكم الظن، وهذا مذهب جماهير أهل العلم؛ أن الظن الغالب يعمل به مطلقاً.
وقال الظاهرية بأن الظن يعمل به في تحقيق مَنَاطِ المسائل، مثل العمل بشهادة الشهود مع كونها ظنية، لكنْ لا يعمل بالظن في أدلة الشريعة ولذلك أنكروا العملَ بالقياس، والعمل ببعض المفاهيم الظنية، ومذهبُ الجمهور أقوى من جهة الدليل السابق، وهو أن الشريعة قد عولت على الظن في كثير مِن الأحكام الشرعية.
ومراد المؤلف بقوله: (فلا يزيل الشك لليقين) أن الشك إذا ورد على الإنسان وكان عنده يقين وقطع سابق؛ فإنه لا يلتفت إلى الشك، بل المعوِّل عليه اليقين السابق.
والمراد هنا أن الشك لا يزيل اليقين من جهة الحكم، وإلا فلا شك أن اليقين في الزمن اللاحق ينتفي لوجود الشك الطارئ، فاليقين الثابت في الزمان الأول لا يبقى مع ورود الشك.
ودليل القاعدة عدد من النصوص الشرعية:
منها قوله عز وجل: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ}.
وقوله: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}.
- وجاء في الصحيح من حديث عبد الله بن زيد -رضي الله عنه- أنه شُكي للنبي صلى الله عليه وسلم الرجل يجد الشيء في الصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ينصرف حتى يجد ريحاً أو يسمع صوتاً))، وجاء في الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر هل صلى ثلاثاً أو أربعاً فليطَّرح الشك وليبن على اليقين)).
إذا تقرر ذلك، فإن هذه القاعدة قاعدة مهمة، وتدخل في جميع أبواب الفقه، بل إن هناك عدداً من القواعد الفقهية مرتبة على هذه القاعدة.
وقد ذكر المؤلف عدداً من القواعد المنبنية على هذه القاعدة بعدها مباشرة.
والمسائل التي تندرج تحت هذه القاعدة على نوعين:
النوع الأول: مسائل يُتفق على اندراجها في القاعدة، ويتفق على حكمها.
مثال ذلك: من كان محدثاً في الصباح ثم شك
هل توضأ بعد ذلك؟ فاليقين الثابت في الزمان الأول أنه محدث، فلا يلتفت إلى الطهارة المشكوك فيها.
مثال آخر: اليقين أنه لا يجوز وطء الأجنبية، فإذا شك الإنسان هل أجرى عقد النكاح عليها؟ فإن الأصل أن الأجنبية محرمة ولا يجوز وطؤها.
والنوع الثاني: من المسائل: مسائل اتفق على اندراجها في القاعدة واختُلف في الحكم الذي تطبق عليه تلك المسألة.
مثال ذلك: إذا كان الإنسان متطهراً في الصباح، ثم شك هل أحدث بعد ذلك، فإن الأصل أنه متطهر؛ لأن اليقين الثابت في الزمان الأول لا يزول بطروء الشك في الحدث، وهذا مذهب جمهور أهل العلم.
وقال المالكية: لا؛ اليقين أن الصلاة واجبة في ذمة الإنسان، فلا نزيل هذا اليقين بطهارة مشكوك فيها، فلا يجوز له أن يصلي والحال هذه.
مثال آخرإذا طلق الإنسان زوجته وشك هل طلقها ثلاثاً أو واحدة، فالجمهور يقولون: النكاح في الزمان الأول متيقن، فلا نزيله بطلاق مشكوك فيه، فنحكم بأنها طلقة واحدة، وقال المالكية: الأصل تحريم وطء الأجنبية، فلا نزيل هذا الأصل المتيقن بنكاح مشكوك في بقائه، فنحكم بأنها ثلاث طلقات.
إذا تقرر هذا؛فإن هذه القاعدة أُصِّلت في أصل عظيم ودليل من أدلة الشريعة وهو الاستصحاب.
و الاستصحاب على أنواع:
النوع الأول: استصحاب الإباحة الأصلية، فالأصل في الأفعال أنها مباحة.
والنوع الثاني: استصحاب البراءة، فالأصل أن الذمم بريئة، ولا يلحقها شيء من الواجبات حتى يأتي دليلٌ من الشارع.
والنوع الثالث: استصحاب نص الشارع حتى يثبت أنه منسوخ، فلا نحكم على الدليل الشرعي بأنه منسوخ حتى يأتي دليل.
والنوع الرابع: استصحاب العموم حتى يأتي دليل يخصصه.
والنوع الخامس:استصحاب الوصف، مثل: استصحاب الطهارة الثابتة في الصباح، فنستصحب حكمها في الزمان الثاني.
والنوع السادس: استصحاب الإجماع في محل النزاع، وذلك بأن يكون هناك مسألة أجمع العلماءُ عليها ثم تتغير إحدى الصفات ومن ثم يقع الاختلاف.
مثال ذلك: أجمع العلماء على أن من رأى الماء قبل الصلاة بطل تيممه، ثم اختلفوا في ما إذا رآه في أثناء الصلاة، فتغيرت إحدى الصفات، فهل يصح للإنسان أن يقول: إذا رأى الماء قبل الصلاة بطل تيميه بالإجماع، فنستصحب ذلك فيما إذا رآه أثناء الصلاة.
الجمهور يقولون:لا يصح هذا الاستصحاب، قالوا: لأنه لا تصح دعوى الإجماع في محل النزاع.
والقول الثاني في المسألة: بأنه يصح، قالوا: والمستصحب ليس هو الإجماع، وإنما المستصحب: مستند الإجماع، لأنه بالاتفاق لا بد أن يكون للإجماع دليل يستند عليه، قالوا: فنحن حينئذ نستصحب دليل الإجماع، واستصحاب الدليل محل اتفاق.
هذا ما يتعلق بهذه القاعدة، وسنأخذ بعضاً من القواعد المندرجة تحت هذه القاعدة في الأبيات الآتية .